أن الواقع هو الوعاء الذي تتجمع فيه الفتن والمحن المتعددة من شبهات وشهوات وابتلاءات على اختلاف صنوفها وأشكالها،
في مواجهة أهل الحق، لفتنتهم عن القيام بأمر الله، علماً وعملاً، دعوةً وجهاداً،
ولا شك أن هذه الفتن والمحن لا تُدفع بغير الصبر واليقين والثبات على دين رب العالمين ،
ومن الُمسلّم به أن للواقع القائم على غير قاعدة العبودية لله وحده ضغطاً شديداً على كاهل كل من يريد القيام بأمر الله،
حيث المسافة الشاسعة والهوّة الواسعة بين أمر الله والواقع.
ورحم الله الإمام ابن بطة، حيث قال:
(والناس في زماننا هذا أسراب كالطير، يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدعي النبوة - مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء -
أو من يدّعي الربوبية؛ لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً) انتهى كلامه.
وإذا كان كلامه رحمه الله عن زمانه، فهل يستغرب على أهل عصرنا - إلا من رحم الله - الوقوف في صف الباطل وأشياعه لمحاربة الحق وأتباعه
هكذا يضغط الواقع على الكثيرين ممن يسعون للقيام بأمر الله، حيث يشعر هؤلاء أن كل من حولهم يخالفهم في ما هم عليه، بل وينابذهم على ذلك بكل ما يستطيع، فهم يسيرون في طريق موحشة، لا معين فيها ولا أنيس، والجميع حولهم يدعونهم ليسالموا أو يداهنوا أو يقفوا موقفاً وسطاً ويلتقوا مع الجاهلية في منتصف الطريق، بدعاوى وشعارات معلومة مشهورة.
وتزداد الفتنة وتعظم البلية، عند صبغ هذه الدعاوى بصبغةٍ شرعية، وتخريجها تخريجاً فقهياً، ، فتنهال الاتهامات على من يريد القيام بأمر الله متهمين إياه بكافة الاتهامات، ليجد العبد نفسه محاصرًا بدائرة محكمة من الاتهامات والإدانات، والتي لا ينقصها التدليل الشرعي، تصمُّ مسامعه صيحاتها، من كل حدب وصوب مناديةً عليه ببطلان ما هو عليه، ومروقه عن الطريق القويم، وحيدته عن الصراط المستقيم، وبعده عن الدين، ومخالفته للعالمين أجمعين، والهدف هو الضغط على العبد ليتجنب الانتساب إلى الحق في خاصة نفسه، فضلاً عن دعوة الآخرين إليه، ومن ثم التنازل والتراجع والنكول والنكوص عن أمر الله، ومسايرة الواقع القائم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : (كيف بك إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه أناساً لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفًا وينكرون منكراً) انتهى كلامه.
قال الإمام ابن بطة – معلقاً على قول الفضيل -:
(فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا قد بلغنا ذلك وسمعناه وعلمنا أكثره وشاهدناه، ولو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً، وبصراً نافذاً، فأمعن نظره وردد فكره،
وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد والسبيل الأرشد،
لتبين له أن الأكثر والأعم والأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم،
وارتدوا على أدبارهم،
فحادوا عن المحجة وانقلبوا عن صحيح الحجة،
ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون،
ويستحلون ما كانوا يحرّمون،
ويعرفون ما كانوا يُنكرون) انتهى كلامه.
وهذا اشارة الى ضغط الفتنة ، حيث ينضغط الكثيرون بضغط الفتنة من خلال طوق الجاهلية المحكم والذي يحيط بالعبد من كل مكان
إحاطة السوار بالمعصم،
فيسعون وقد انكسرت قلوبهم وهُزمت نفوسهم وناحت كواهلهم،
تحت مطارق هذا الضغط العنيف لنفي تلك الاتهامات عن أنفسهم،
بل والتبرؤ منها ومن أصحابها وإظهار أنهم أصحاب منهج مغاير،
يقوم على الاعتدال والواقعية والوسطية والمثالية الخيالية،
ويلتقي مع الواقع القائم، فلا يحاربه أو يسعى لاستبداله
وإنما هو الإصلاح الرقيق والتغيير السلمي الذي ينطلق من هذا الواقع ويسايره، ويرجع إليه لا غير،
وهم في سبيل ذلك يتكيفون في كل قالب، ويتطاوعون لكل ضاغط.
ولهذا المنهج الانهزامي التلفيقي سلسلة أليمة من المفردات والمظاهر المتعددات والتي يجمعها كلها كونها إفرازات ضغط الواقع البعيد عن الحق
، فمحاولة الالتقاء والانسجام مع هذا الواقع ومسايرته وعدم الظهور بمظهر الخارج عليه هو مصدر هذه السلسلة من المفردات
، وإن كان ذلك على حساب تطويع المحكمات والقطعيات الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع لهذا الواقع
ومن أخطر نتائج الوقوع في هذه الفتنة؛ هو استمراء المنكر واعتياده،
حتى قد يزول إنكاره بالكلية من القلب نتيجة هذه المسايرة المنهجية للواقع والتي تؤدي إلى استمراء المنكر والرضا به
، بل قد يستقر في القلب استحسانه والإنكار على من أنكره،
إذ كل ما انضغط العبد وتراجع للوراء خطوة بفعل ضغط الواقع،
ازداد استعداده للانضغاط والتراجع خطوات
، وما يزال به هذا النهج، حتى يصبح الانضغاط للواقع والتراجع والتنازل له خلقاً وديناً للعبد،
وتضعف لديه إرادة الثبات بصورة مستمرة حتى تتلاشى تماماً،
وتصير لديه القابلية التامة للتنازل والتراجع عن كل شيء وأي شيء بسهولة ويسر.
قيل:
(الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق،
وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزءٍ منها ولو يسيراً، لا يملك أن يقف عند ما سلّم به أول مرة، لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء) انتهى كلامه.
وقد تتعاظم الفتنة وتستفحل في النفوس ، حتى تكون سبباً للوقوع في الكفر والشرك الصراح، وقد أعلمنا الله سبحانه وتعالى أن هذه الفتنة كانت السبب الرئيس في وقوع الكثيرين في الكفر والشرك، رغم ما قام لديهم من العلم بل واليقين في صحة وصدق ما جاء به الأنبياء والرسل.
قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا رداً عليه: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}،
وحكى الله تعالى عن قوم هود قولهم له: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}،
وقال تعالى عن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}.
ونظائر هذه الآيات في القرآن كثيرة معلومة وكلها مصرحة أن العبد قد يخرج من الحق إلى الباطل بسبب الفتنة و مسايرة للناس لما هم عليه، حيث للجموع والحشود الغفيرة والعادة المتأصلة والإرث المتداول المحفوظ سطوة قوية وهيبة في نفوس الكثيرين
تدفعهم لمخالفة الحق وموافقة الباطل والإذعان له.
وقال حذيفة صاحب السر وخبير الفتن رضي الله عنه : (أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أن يُؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون).
اما اهل الحق .
فهم يدفعون الباطل بالحق ولا يداهنون اهل الباطل، إذ عملهم هو في الأساس والمقام الأول؛ إخضاع الواقع لأمر الله وأطرِه عليه أطراَ وهم يقومون بذلك بفضل الله أولاً ثم بيقينهم وصبرهم ثانياً، إذ الفتنة هي فتنة الغربة بجوانبها المتعددة ومظاهرها المختلفة والتي يعيشها أهل الطائفة المنصورة في سعيهم نحو إقامة دين الله.
وقد كان الحسن رحمه الله يقول: (صدق الله ورسوله، باليقين طلبت الجنة، وباليقين هُرب من النار، وباليقين أُدّيَت الفرائض، وباليقين صُبر على الحق، وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتقربون في العافية فإذا نزل البلاء تفارقوا) انتهى كلامه.
فأهل الحق يصبرون على غربة الطريق ولا يوحشهم قلة السالكين، ولهم في ذلك الأسوة التامة بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء).
وقال الطرطوشي رحمه الله: (ومعنى هذا الحديث:
أنه لمّا جاء الله بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته وحيّه غريباَ فيهم، مستخفياَ بإسلامه، قد جفاه الأهل والعشيرة، فهو بينهم ذليل حقير خائف، يتغصص بجرع الجفاء والأذى، ثم يعود غريباَ لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس، لقلتهم وخوفهم على أنفسهم) انتهى كلامه.
وقال القرطبي رحمه الله: (إن قرنه صلى الله عليه وسلم إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم، لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسّكوا به وصبروا على طاعة ربهم، في حين ظهور الشر والفسق والهرَج والمعاصي والكبائر، كانوا عند ذلك أيضاً غرباء وزكت أعمالهم في ذلك الوقت، كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام؛ "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء") انتهى كلامه.

وأعظم ما تكون غربة الإسلام وأهله القائمين به علماً وعملاً، دعوة وجهاداً،
إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة‏.‏ ففي كثير من الأمكنة يخفي عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد‏،‏ ومع هذا، فطوبي لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله، فإن إظهاره، والأمر به، والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان‏) انتهى كلامه.
وصف الشارع هؤلاء الغرباء بجملة من الأوصاف،
منها؛ أنهم نزاع الناس، أو النزاع من القبائل، والنزاع جمع نزيع ونازع، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته، والنزائع من الإبل الغراب.
وجاء في وصف الغرباء؛ أنهم الفرارون بدينهم، أو الذين يفرون بدينهم من الفتن، وأنهم أناسٌ صالحون قليل في أناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، وأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم الذين يتمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تُطفى، وأنهم الذين يحييون ما أمات الناس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأوصاف المختلفة من النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء، وإن كانت تظهر من جهة عظم الدور الذي يقوم به هؤلاء الغرباء في أزمنة الغربة بالقيام بأمر الله والثبات عليه، فإنها من جهة أخرى تظهر عِظم غربة هؤلاء وشدّتها، وعظم صبرهم عليها.
قال أويس القرني،: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً، نأمرُهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون في ذلك أعواناً من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه).
فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريباً كما بدأ، لأن المؤالف فيه على وصفه الأوّل قليل، فصار المخالف هو الكثير،
فاندرست رسوم السنة حتى مدّت البدع أعناقها فأشكل مرماها على الجمهور فظهر مِصداق الحديث الصحيح - كما بيّن ذلك الشاطبي رحمه الله -
فقد ذكر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن غربة القائمين بأمر الله، الثابتين عليه، قد تشتد وتستحكم إلى أن يصبح حال هؤلاء الغرباء كحال القابض على الجمر.
فعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل القبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)، قالوا يا رسول الله: أجر خمسين منهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أجر خمسين منكم).

أن اشتداد الغربة بالدين وأهله القائمين به إلى الدرجة التي تجعل العبد كالقابض على الجمر، ليس مبرراً للنكول والنكوص عن أمر الله والحيدة عنه، والتفريط فيه، وأنّه ليس هناك غير الاستمرار في القبض على الجمر.
ولما قيل للإمام أحمد أيّام الفتنة: يا أبا عبد الله أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل،
قال: (كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلال، وقلوبنا بعدُ لازمةٌ للحق).
أن الغربة المستحكمة، لا تدفع بغير الصبر، لذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام للصبر، وإنما نُسبت كذلك لأن العبد بدون الصبر، بل والصبر العظيم الذي يضارع صبر القابض على الجمر، هيهات هيهات أن يسلم له دينه، مع هذه المحن والأهوال التي تحيط به من كل جانب.
وقد جاء عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حجرين، فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه:
(هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟)، قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: (والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يُرى من الحق، إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا؛ تركت السنة).
وقال سهل بن عبد الله: (عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قريب زمان، إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذمّوه ونفروا عنه وتبرّأوا منه وأذلوه وأهانوه).
وما أعجب كلمة هشام بن حسان حين قال: (ليأتينّ على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل، فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرِق).
قال ابن القيم: (فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرةً في دينه وفقهاً في سنة رسوله وفهماً في كتابه وأراه مالناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكّبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح في ما هم عليه، فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عيه بخيل كبيرهم ورجله‏) انتهى كلامه.
ومن ثم؛ فمن رغب أن يكون من الغرباء، وسط هذه الغربة الحالكة بحيث يكون
- كما قال ابن القيم رحمه الله - رأساً في ذلك،
يحتاج أن يكون مقداما ، حاكماً على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيّله،
زاهداً في كل ما سوى مطلوبه،
عارفاً بطريق الوصول إليه،
والطرق القواطع عنه،
عالى الهمّة، ثابت الجأش، لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم، ولا عذل عاذل، كثير السكون، دائم الفكر، غير مائلٍ مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته، لا تستفزّه المعارضات، شعاره الصبر وراحته التعب.
مستعليا بالإيمان، يمتلئ صدوره ونفسه بالعزة التي جعلها الله لأهل دينه دون غيرهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، وقال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فالعزة كُلها لله وحده وليس لمن حادّ الله ورسوله ودينه فيها أدنى نصيب،
وقد قال تعالى في صفة أولياءه القائمين بدينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
فالعزة بالإسلام لا بغيره، وفي مقابل وصف أهل الإيمان بالعزة، قال تعالى في حق المحادّين له ولرسوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ}.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلى).
وللحديث قصة ذات دلالة هامّة؛ فعن عائذ بن عمرو أنه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، فقالوا هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يُعلى)، فمجرّد تقديم اسم الكافر على اسم المسلم منافٍ لعلو الإسلام، بل مجرد العلو المكاني لا ينبغي أن يكون لغير أهل الإسلام.
وإن كانت الدولة والجولة لأعدائهم، ففي غزوة أحد وبعد أن دارت الدائرة على المسلمين، علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا)، فقاتل عمر بن الخطاب ورهطُ معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل.
ومن اللطائف ما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ "اللهم ليس لهم أن يعلونا").
فمجرد علو الكفار المكاني على المسلمين، رغم كون الهزيمة من نصيبهم، والدائرة عليهم مما يصيبهم بالهم والغم، فالمسلم الحق تمتلئ نفسه وتفيض بكل معاني العلو المطلق، بما خصه الله تعالى وشرّفه به دون سائر خلقه، وإن كان في أبعد حالاته عن النصر والتمكين، وهذا ما ترسخ في نفوس الصحابة رضي الله عنهم.
، قال عمر بن الخطاب؛ إنّا كنّا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله).
وقد خاطب الله تعالى المؤمنين، عند الحديث عما نزل بهم من البلاء، وما جرى لهم من إدالة عدوهم منهم، فقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
فنهى الله عباده المؤمنين عن الوهن والحزن، رغم ما نزل بهم من البلاء والمحنة،
فأساس العزة هذا الدين الذي أكرمهم الله به، ولا عبرة بعد ذلك بضعفهم المادي، وكون الصولة والجولة لأعدائهم عليهم.
قال السعدي رحمه الله: (يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين ومقوياً لعزائمهم ومنهضاً لهممهم؛ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا}، أي: ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم ولا تحزنوا في قلوبكم عندما أصابتكم المصيبة وابتليتم بهذه البلوى فإن الحزن في القلوب والوهن على الأبدان زيادة مصيبة عليكم وأعون لعدوكم عليكم بل شجعوا قلوبكم وصبروها وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم وقد ذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن وهم الأعلون في الإيمان ورجاء نصر الله وثوابه فالمؤمن المبتغي ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي له ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}) انتهى كلامه.
فمن مقتضيات ولوازم الايمان؛ عدم الوهن والحزن والانكسار امام الأعداء وإن اشتد الضغط على المؤمنين بكون الصولة والجولة والدولة لأعدائهم، فكيف بالتنازل والتراجع استجابةً لهذا الضغط.
وذلك أن ترّسخ هذه الحقيقة في قلب ونفس العبد المؤمن يورثه ثباتاً عظيماً في مواجهة الباطل - وإن اشتد وعظم - حيث يدرك المؤمن أن العزة فى هذا الدين ،، رغم ضعفه المادي وتجرده من أسباب القوة المادية، كما يدرك أن ما يلوح فى هذه الجاهلية من مظاهر العزة والعلو، والتي لها سطوة وهيبة على كثير من النفوس، إنما هي مظاهر كاذبة خادعة، وإنما هذا العلو والعزة وهم وسراب لا حقيقة له.[منقول بتصرف ]