نُوحٌ هو أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلى أَهْلِ الأَرْضِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ}
وَكَانَ بَنُو آدَمَ قَبْلَهُ عَشْرَةَ قُرُونٍ كلُّهُم عَلَى دِينِ الإِسْلاَمِ.،

فَأَوَّلُ مَا حَدَثَ الشِّرْكُ في قَوْمِ نُوحٍ بِسَبَبِ الغُلُوِّ؛ وهو مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في مَحَبَّةِ الصَالِحِينَ وتَعْظِيمِهِم فَوْقَ مَا شَرَعَهُ اللهُ؛
عَظَّمُوهُم تَعْظِيمًا غَيْرَ سَائِغٍ لَهُم بِأَنْ عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِم، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُم، وإِنْ كَانُوا مَا عَبَدُوهُم وإِنَّما عَبَدُوا الصُّوَرَ؛ لأَِنَّهُم لَمْ يَأْمُرُوهُم بِعِبَادَتِهِم، وإنْ كَانُوا أَيْضًا لَمْ يَعْبُدُوا الصُّوَرَ وإِنَّما عَبَدُوا الشَّيْطَانَ في الحَقِيقَةِ؛ لأَِنَّه الذي أَمَرَهُم.

وبه تُعْرَفُ مَضَرَّةُ الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ فإِنَّهِ الهَلاَكُ كُلُّ الْهَلاَكِ؛
فإِنَّ الشِّرْكَ بِهِم أَقْرَبُ إِلَى النُّفُوسِ مِن الشِّرْكِ بالأَشْجَارِ والأَحْجَارِ، وإِذَا وَقَعَ في القُلُوبِ صَعُبَ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا؛
ولهذا أَتَتِ الشَّرِيعَةُ بقَطْعِ وَسَائِلِهِ وذَرَائِعِهِ المُوصِلَةِ إِلَيْهِ والمُقَرِّبَةِ منه.

والوَسَائِلُ إِمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ،
وهؤلاء غَلَوْا فِعْلاً؛ غَلَوْا بِكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ إِلَى قُبُورِهِم، وهَذَا فيه مَشْرُوعٌ لكن زَادُوا فيه،
وغَلَوْا بالعُكُوفِ وهو نَفْسُهُ عِبَادَةٌ ووَسِيلَةٌ إِلَى عِبَادَةِ أَرْبَابِهَا،
فَلَمَّا رَأَى منهم الشَّيْطَانُ ذَلِكَ، زيَّنَ لَهُم تَصْوِيرَهُم.

وهَاتَانِ الذَّرِيعَتَانِ -التَّصْوِيرُ والعُكُوفُ-
مِن أَعْظَمِ الوَسَائِلِ المُوصِلَةِ إِلَى الشِّرْكِ

ثُمَّ ذَكَرَ المَغْلُوَّ فيهم:
(وَدّ، وَسُوَاع، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْر) وكَانُوا أَهْلَ خَيْرٍ وعِلْمٍ وصَلاَحٍ،
فَمَاتُوا في زَمَنٍ مُتَقَارِبٍ، فأَسِفُوا عَلَيْهِم، وفَقَدُوا مَا مَعَهُم مِن العِلْمِ،
فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ التَّرَدُّدَ إِلَى قُبُورِهِم واللُّبْثَ عِنْدَهَا، ثُمَّ أَوْقَعَهُم فيما هو أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ،
فَقَالَ: أَلاَ أَدُلُّكُم عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ صَارَ أَهْونَ عَلَيْكُمْ مِن التَّرَدُّدِ إِلَى قُبُورِهِم واللُّبْثِ عِنْدَهَا؛ فَدَلَّهُم عَلَى تَصْوِيرِ تَمَاثِيلِهِم
وقَالَ: إِذَا فَعَلْتُم ذَلِكَ كَانَ أَشْوَقَ لَكُمْ إِلَى الإِكْثَارِ مِن العِبَادَةِ، فَكَأَنَّكُم تُشَاهِدُونَهُم في مَجَالِسِهِم وعَلَى حَالاَتِهِم، ولَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا منهم إِلاَّ الأَجْسَامُ فَقَطْ؛ فَفَعَلُوا.

ثُمَّ انْقَرَضَ ذَلِكَ الجِيلُ وأَتَى جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَدْرُوا لِمَ صُوِّرتْ تلك الصُّوَرُ.
فَقَالَ:
إنَّ مَن كَانَ قَبْلَكُم كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِمُ المَطَرَ، يَعْنِي: يَسْأَلُونَهُم ويَزْعُمُونَ أَنَّهُم يَسْأَلُونَ اللهَ لَهُم.


فَوَقَعَ الشِّرْكُ في بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ، فهو البَابُ الأَعْظَمُ المُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ باللهِ.
ولَمَّا أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَاهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَه ولَمْ يُجِبْهُ إِلاَّ القَلِيلُ،
أَمَرَهُ اللهُ بصُنْعِ السَّفِينَةِ فصَنَعَهَا،
وأَرْسَلَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ الطُّوفَانَ وأَغْرَقَ جَمِيعَ مَن عَصَوْهُ.

ورُوِيَ أَنَّ السَّيْلَ أَلْقَى هذه الأَصْنَامَ في جُدَّةَ لَمَّا أُغْرِقَ قَوْمُ نُوحٍ،
ثُ
مَّ بَعْدَ مُضِيِّ سِنِينَ أَتَى إِبْلِيسُ إلى عَمْرِو بنِ لُحَيٍّ الخُزَاعِيِّ -وكَانَ رَئِيسَ قَوْمِهِ تِلْكَ المُدَّةَ-
فَقَالَ لَهُ:
ائْتِ جُدَّة، تَجِدْ بِهَا أَصْنَامًا مُعَدَّه، فَرِّقْهَا في العَرَبِ، وادْعُ إِلَيْهَا تُجَبْ، فإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ مِنْهُم اثْنَانِ،
فَفَعَلَ -لَعَنَهُ اللهُ- فعُبِدَتْ.
[شرح كشف الشبهات للشيخ محمد ابن ابراهيم]