"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (10)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

قال الله تعالى عن نبي الله داود: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)
القول الأقرب أن المراد بفصل الخطاب بيان الكلام والقدرة على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات, وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين.
اختلف المفسرون في المراد بقوله: (وفصل الخطاب) على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد: علم القضاء والفهم به. (رجحه الماتريدي*) (وضعفه الرازي*, وابن عاشور*) (وذكره ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*)
قال ابن عاشور: هذا بعيد إذ لا وجه لإضافتة إلى الخطاب.

والزمخشري يرى أن المراد أعم من القضاء, فهو الفصل الصحيح والجزم والحزم في كل قضايا القضاء والملك والسلطان.
قال الزمخشري: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات.

ورجح ابن جرير* وابن كثير* أن المراد يعم ويشمل فصل الخطاب في القضاء والفصل بقول: (أما بعد) في الكلام.
والقول بأنه الفصل بأما بعد قول ضعيف كما سيأتي.
القول الثاني: أن المراد: بيان الكلام والقدرة على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات. (ذكره البغوي*, والزمخشري*, والقرطبي*) (ورجحه ابن عطية*, والرازي*, وابن عاشور*)

وهذا القول هو الأقرب والله تعالى أعلم, لأن إضافة الفصل إلى الخطاب يقوي القول بأنه يتعلق بالبيان والخطاب, بخلاف القول بأنه علم القضاء, أو كل ما يتعلق بأمر الملك والسلطان كما هو قول الزمخشري.

خاصة أن قوله قبلها: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) يؤدي المعنى, وهو السداد والإصابة والكمال في أمر الملك والسلطان.

قالت عائشة رضي الله عنها في وصف كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (كان كلام رسول الله كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه).
قال الزمخشري: "البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه".

وقال ابن عطية: "والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، ... ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم»".

وقال ابن عاشور: {فَصْلَ الْخِطَابِ} بلاغه الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان... والمعنى: أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلم جاء بكلام فاصل بين الحق والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء".

قال الرازي: "ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير.
فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول.
ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه.
ومنهم من يكون قادراً على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات".

القول الثالث: أن المراد بفصل الخطاب هو قول: أما بعد. (ضعفه الماتريدي*, والرازي*, وابن عاشور*) (وذكره ابن جرير*, والبغوي*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*)
وهذا القول ضعيف وبعيد جداً.
قال الماتريدي: "هذا القول ليس بشيء".

وقال الرازي: "من المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه: أما بعد، وأقول حقاً إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما والله أعلم".


والزمخشري جعل هذا القول داخلاً في القول الذي قبله, فقال: "ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله «أما بعد» لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه: فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/