المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف
ما حكم لعن اليهود والنصارى أفرادا أو جماعات أحياءً كانوا أم أمواتا ؟ .
اللعن في الميزان الشرعي
فاللعن ـ في اللغة ـ: الطردُ والإبعاد(١ وأصلُ اللعنِ ـ إِنْ كان مِنَ الخالق ـ فهو الطردُ والإبعاد مِنْ رحمته، وإِنْ كان مِنَ المخلوق فهو السبُّ بتقبيحِ الفعل وذمِّ فاعِلِه والدعاءِ عليه(٢)، فيقال: «لَعَنَ فلانًا» إذا سبَّه وأخزاه(٣)، قال الراغب الأصفهانيُّ ـ رحمه الله ـ: «اللعن: الطردُ والإبعادُ على سبيل السخط، وذلك مِنَ اللهِ تعالى في الآخرةِ عقوبةٌ، وفي الدنيا انقطاعٌ مِنْ قَبولِ رحمته وتوفيقِه، ومِنَ الإنسانِ دعاءٌ على غيره»(٤).
وأهلُ السُّنَّة يفرِّقون ـ في النوع ـ بين اللعن المطلق واللعن للمعيَّن، واللعنُ المطلقُ ـ سواءٌ كان بالوصف الأعمِّ كقول القائل: «لَعَنَ اللهُ المبتدِعَ أو الكافر أو الفاسق»، أو كان بوصفٍ أخصَّ كلعنِ اليهود والنصارى والمجوس، وكلعنِ فِرَقِ أهل البِدَعِ كقولك: «لَعَنَ اللهُ الجهميةَ أو القدرية أو الرافضة وغيرَها مِنَ الفِرَق المُنْتَسِبة للإسلام» ـ فجائزٌ بالوصفين الأعمِّ والأخصِّ بلا خلافٍ بين أهل السنَّة، قال القاضي عياضٌ ـ رحمه الله ـ: «ولعنُ الجنسِ جائزٌ؛ لأنَّ الله تعالى قد أَوْعَدَهم، ويُنْفِذُ الوعيدَ على مَنْ شاء منهم»(٥).
ومُوجِباتُ اللعنِ ثلاثةٌ وهي: الكفرُ والفسقُ والبدعةُ.
وقد دلَّتِ النصوصُ الشرعية على جوازِ اللعن المطلق منها:
ـ قولُه تعالى في اللعن بالكفر: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٦٤﴾ [الأحزاب]، ومنها قولُه تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ ٨٨﴾ [البقرة].
ـ أمَّا اللَّعن بالفسق فمثلُ قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ المَنَارَ»(٦)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ»(٧)، وحديثِ عبد الله بنِ عمروٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ [العِجَافِ]؛ الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ»(٨)، وحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِين َ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَ اتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»(٩).
ـ أمَّا اللعن بالبدعة فبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في مَعْرِض ذِكْرِ فضلِ المدينة ـ: «... مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا»، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ أَنَسٍ: «أَوْ آوَى مُحْدِثًا»(١٠)، واللعنُ على الإحداث ـ وإِنْ وَرَدَ مقيَّدًا في حديثِ أنسٍ رضي الله عنه بالمدينة ـ إلَّا أنَّ الحكم يعمُّ الإحداثَ في غيرها، وضِمْنَ هذا المعنى يقول ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في تعليلِ إيرادِ البخاريِّ للحديث في «الاعتصام»: «والغرضُ بإيرادِ الحديثِ هنا: لَعْنُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا؛ فإنه ـ وإِنْ قُيِّد في الخبر بالمدينة ـ فالحكمُ عامٌّ فيها وفي غيرها إذا كان مِنْ متعلِّقات الدين»(١١)، ويُؤكِّده قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»(١٢)، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ في شرحِ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: «ومعناه: أنَّ الله تعالى يلعنه وكذا يلعنه الملائكةُ والناسُ أجمعون، وهذا مبالغةً في إبعاده عن رحمة الله تعالى؛ فإنَّ اللعن في اللغةِ هو الطردُ والإبعاد، قالوا: والمرادُ باللعن هنا: العذابُ الذي يستحقُّه على ذَنْبِه والطردُ عن الجنَّةِ أوَّلَ الأمر، وليسَتْ هي كلعنةِ الكُفَّار الذين يُبْعَدون مِنْ رحمة الله تعالى كُلَّ الإبعاد»(١٣).
ـ أمَّا لَعْنُ اليهودِ فنصوصٌ كثيرةٌ تدلُّ عليه منها: قولُه تعالى: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ ﴾ [المائدة: ٧٨]، وقولُه تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُ ﴾ [المائدة: ٦٤]، وفي السُّنَّةِ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ والنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»(١٤).
ـ وثَبَتَ عن السلف أنهم كانوا يلعنون كِبارَ الطوائفِ والفِرَقِ مِنْ أهلِ الضلال والبِدَعِ المُخالِفين للسنَّةِ المُعانِدين لأهلها كالجهمية والقَدَرية والخوارج وغيرهم: فقَدْ لَعَنَ ابنُ عمر رضي الله عنهما القَدَريةَ وتبرَّأ منهم(١٥)، ولَعَنَ عبدُ الله بنُ أبي أوفى رضي الله عنهما الأزارقةَ والخوارجَ كُلَّها(١٦)، كما سبَّ التابعون مَنْ تَكلَّم في القَدَرِ وكذَّب به ولَعَنوهم ونَهَوْا عن مُجالَستهم، وكذلك أئمَّةُ المسلمين على نهجهم سائرون وبمَقالَتهم قائلون، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «ولهذا اهتمَّ كثيرٌ مِنَ الملوك والعلماء بأَمْرِ الإسلام وجهادِ أعدائه، حتَّى صاروا يلعنون الرافضةَ والجهميةَ وغيرَهم على المنابر، حتَّى لعنوا كُلَّ طائفةٍ رأَوْا فيها بدعةً»(١٧).
هذا، وحريٌّ بالتنبيه أنَّ اللعن المطلق لا يستلزم لَعْنَ المعيَّن، أي: أنَّ لَعْنَ جنسِ السارق أو الخمَّار لا يقتضي جوازَ لعنِ خصوص السارق أو الخمَّار أو ما إلى ذلك مِنَ العُصاة؛ لأنَّ المعلوم أنَّ الحكم الذي يترتَّب على العموم مِنْ حيث عمومُه لا يترتَّب على الخاصِّ مِنْ حيث خصوصُه، ويدلُّ عليه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَعَنَ اللهُ الخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا ، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا وَالمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا»(١٨) مع أنه صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن لَعْنِ رجلٍ كان في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم اسمُه عبدُ الله، وكان يُضْحِك رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد جَلَدَه في الشراب، فَأُتِيَ به يومًا فأَمَر به فجُلِد، فقال رجلٌ مِنَ القوم: «اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ!»، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ ـ مَا عَلِمْتُ ـ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ»(١٩)؛ فدلَّ ذلك على أنَّ اللعن المطلق لا يقتضي لَعْنَ المعيَّن؛ لاحتمالِ أَنْ يقوم بالمعيَّن ما يحول بينه وبين لحوق اللعنِ به مِنْ فواتِ شرطٍ أو ثبوتِ مانعٍ، وقد أَفْصَحَ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ عن هذا المعنى مقرِّرًا له بقوله: «ولكنَّ لَعْنَ المطلقِ لا يستلزم لَعْنَ المعيَّن الذي قام به ما يمنع لحوقَ اللعنةِ له، وكذلك «التكفير المطلق» و«الوعيد المطلق»؛ ولهذا كان الوعيدُ المطلق في الكتاب والسنَّةِ مشروطًا بثبوتِ شروطٍ وانتفاءِ موانعَ؛ فلا يلحق التائبَ مِنَ الذنب باتِّفاق المسلمين، ولا يلحق مَنْ له حسناتٌ تمحو سيِّئاته، ولا يلحق المشفوعَ له والمغفور له؛ فإنَّ الذنوب تزول عقوبتُها التي هي جهنَّمُ بأسباب التوبة والحسناتِ الماحية والمصائبِ المكفِّرة»(٢٠).
أمَّا حكمُ لعنِ المعيَّن فهو مَحَلُّ اختلافٍ بين السلف، وسببُ اختلافِهم تعارُضُ النصوصِ الشرعية بين مُبيحةٍ للَّعن بالكفر والفسق والابتداع، وأخرى محرِّمةٍ للَّعن: كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه مسلمٌ: «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»(٢١)، وفي حديثٍ آخَرَ صحيحٍ: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا»(٢٢)، وفي حديثٍ آخَرَ: «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ»(٢٣)، وغيرها مِنَ الأحاديث الثابتة، وفي الجمع بين هذه النصوصِ الشرعية تظهر وجوهُه على الصور التالية:
١ ـ فمَنْ حَمَلَ نصوصَ التحريمِ وما فيها مِنْ وعيدٍ في حقِّ المعيَّن، ونصوصَ الإباحةِ في حقِّ غيرِ المعيَّن؛ قال: لا يجوز ـ بحالٍ ـ لعنُ المعيَّن، سواءٌ كان كافرًا أو فاسقًا، وذَهَبَ إلى هذا القولِ القاضي عياضٌ وابنُ المُنَيِّر والغزَّاليُّ والنوويُّ وغيرُهم(٢٤)، قال القاضي عياضٌ ـ رحمه الله ـ: «ولعنُ الجنسِ جائزٌ؛ لأنَّ الله تعالى قد أَوْعَدَهم، ويُنْفِذُ الوعيدَ على مَنْ شاء منهم، وإنما يُكْرَه ويُنهى عن لعنِ المعيَّن والدعاءِ عليه في الإبعاد مِنْ رحمة الله تعالى، وهو معنى اللعن»(٢٥)، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ في مَعْرِض شرحِ حديثِ: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ..»(٢٦): «هذا دليلٌ لجوازِ لعنِ غيرِ المعيَّن مِنَ العُصاة؛ لأنه لعنٌ للجنس لا لمعيَّنٍ، ولعنُ الجنسِ جائزٌ؛ كما قال اللهُ تعالى: ﴿أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٨﴾ [هود]، وأمَّا المعيَّن فلا يجوز لعنُه»(٢٧).
٢ ـ ومَنْ نَظَرَ إلى معنى اللعنِ الذي هو الطردُ والإبعاد مِنْ رحمة الله فرَّق بين لعنِ الكافر ولعنِ المسلم الفاسق، ورأى أنَّ الكافر يستحقُّ اللعنَ والطرد مِنَ الرحمة فيجوز لعنُ المعيَّن منه، وحَمَلَ النصوصَ المبيحة على جوازِ لعنِ الكافر، وأمَّا المسلم الفاسق فلا يستحقُّ اللعنَ إذ تُرجى له الرحمةُ والمغفرة؛ قال: لا يجوز لعنُ المسلم الفاسق، وحَمَلَ نصوصَ التحريمِ على هذا المعنى، وبهذا قال بعضُ الحنابلة كالقاضي أبي يعلى(٢٨).
٣ ـ ومَنْ فرَّق بين المُسْتحِقِّ للَّعنِ وغيرِ المُسْتحِقِّ له حَمَلَ النصوصَ المُبيحة للَّعن على مُسْتَحِقِّه مطلقًا، سواءٌ كان معيَّنًا أو غيرَ معيَّنٍ، كافرًا كان أو مسلمًا فاسقًا، وحَمَلَ نصوصَ التحريمِ في حقِّ مَنْ لا يستحقُّ اللعنَ، وقال يجوز لعنُ المُسْتحِقِّين مطلقًا دون غيرِ المُسْتحِقِّين مطلقًا، وعلى هذا القولِ جمهورُ علماءِ السلف كمالكِ بنِ أنسٍ ويزيدَ بنِ هارون وغيرِهم على ما نُقِل عنهم مِنْ لعنِ بعضِ المعيَّنين مِنْ أهل البِدَعِ والضلال كبشرٍ المرِّيسيِّ وعمرو بنِ عُبَيْدٍ وجهمِ بنِ صفوانَ وجَعْدِ بنِ درهمٍ وغيرِهم، وذلك إذا تحقَّقَتْ فيه شروطُ اللعنِ وانتفَتْ عنه الموانعُ، ويؤيِّد هذا القولَ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ؛ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ؛ فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ؛ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ»(٢٩)، وفي حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: «...فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»(٣٠)، وما دلَّتْ عليه هذه الأحاديثُ مِنْ أمورِ الأذيَّة والشتمِ واللعن والجَلْدِ لبعضِ المعيَّنين مِنَ المسلمين إنما وقعَتْ باجتهاده صلَّى الله عليه وسلَّم لقوله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»، وقولُه في الروايةِ الأخرى: «لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ» يُفْهَم منها أنَّ اللعنة لا تكون إلَّا بنصٍّ أو بوحيٍ مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى أنه يُفْهَم مِنَ الحديثِ جوازُ اللعنةِ للمُسْتَحِقِّين لها؛ بدليلِ قوله: «لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ»، فيبقى الحكمُ فيها غيرَ منسوخٍ؛ وبذلك يظهر جوازُ لعنِ مَنْ دلَّتِ النصوصُ على لَعْنِه بفعله مِنْ معيَّنٍ مسلمٍ فاسقٍ أو كافرٍ إذا ما تحقَّقَتِ الشروطُ المُوجِبةُ للَّعن، وانتفَتْ فيه الموانعُ مِنْ لَعْنِه، وبخاصَّةٍ إذا كان قصدُ اللاعنِ مِنْ وراءِ لعنِ المبتدِعِ المعيَّن تحذيرَ العامَّةِ مِنْ خَطَرِه وضَرَرِه وتنفيرَهم منه بتقبيحِ فعلِه والدعاءِ عليه بما يحدُّ مِنِ انتشارِ شُبُهاته وضلالاته على غيرِ المتبصِّرين بأمورِ دينهم؛ فاستحقاقُ المُبتدِعِ المُلازِم لبدعته الداعي إليها للَّعن إنما يدخل في ضِمْنِ مبدإِ إنكارِ المنكر وجهادِ المُفْسِدين للدين مِنَ الغُلاة والمُبْطِلين وأضرابهم.
هذا، وإِنْ كان القولُ الأخير هو الأقوى حجَّةً والأصحَّ نظرًا إلَّا أنَّ الأحبَّ إليَّ الإمساكُ عن لعنِ المعيَّن؛ لتوقُّفِ بعضِ السلف عن لعنِ بعضِ المعيَّنين ـ مِنْ جهةٍ ـ وإِنْ كان توقُّفُهم لا يدلُّ على اعتقادهم بحُرْمَته، وخشيةَ أَنْ يُسْتعمَل اللعنُ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ في غيرِ وجهه الصحيح، أو يُباشِرَه مَنْ لا يُعْرَف له قَدْرٌ مِنَ العلم والفقه والتقوى والورع، وبالنظر لغيابِ السلطة الشرعية الزاجرة فالأليقُ ـ عندي ـ الإمساكُ عن لعنِ المعيَّن لئلَّا يتذرَّع المبتدِعُ لاستخدامه على أهل الهدى؛ انتقامًا لنَفْسِه، وجهلًا بشَرَفِ السنَّة ومَقامِها، وطعنًا في أهلها، وحقدًا على رُوَّادها
[اللعن فى الميزان الشرعى للشيخ فركوس].