على أنه من المهم التوكيد على قدرة اللغة العربية على استيعاب المصطلحات، بما في ذلك قبول دخول مصطلحات وكلمات "أجنبية" إلى اللغة العربية منذ أقدم العصور، بخلاف من يريد أن ينتصر للغة العربية بصفتها لغة الإسلام ولغة القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث العربي الإسلامي في مجمله، فيسعى إلى نبذ فكرة استعارتها ألفاظًا ومصطلحات "أجنبية"،ويمثل أهل الاختصاص بعدد من الكلمات التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ كالقرطاس والسندس والإستبرق والسلسبيل، مما يفسح المجال لهذا النوع من نقل المصطلحات.
يستدعي هذا الدقة في صياغة المصطلحات التي إن لم تُصغ بعناية، أبهمت المعنى وأضاعت المفهوم، وربما قلبت المفهوم من السلبية إلى الإيجابية، من مثل التعبير عن مصطلح (Colonization) ذي الإيحاء المعبر عن الفعل باللغة الأجنبية، إلى مصطلح الاستعمار، بدلًا من الاستقرار على المصطلح العربي الموحي وهو "الاحتلال" الذي يؤدي المعنى تمامًا، ويتَّفق مع المفهوم - كما يبدو - باللغة الأجنبية، فالمحتلون لم يسموا هذا الفعل استعمارًا بلغتهم، بل سمَّوه احتلالًا، ومع هذا قد يُنتقد من يصرُّ على استخدام مصطلح الاحتلال عوضًا عن مصطلح الاستعمار، فما بالك بمن يُبالغ ويسميه بالاستدمار؟ ! ويصدق هذا في كثير من المجالات، وهو في مجال المصطلحات الشرعية والفكرية أكثر إلحاحًا.
ذلك أنه قد طرأ عبث مقصود عند بعض المغرضين للمصطلح الشرعي والفكري؛ رغبة في الإيهام الذي قد يطال المفهوم الشرعي والفكري للمصطلح[1]،ومن ذلك مفهوم الجهاد مثلًا، الذي تحول في الكتابات الأجنبية بصيغته العربية "جهاد Jihad " إلى مفهوم سلبي أو كاد، وتبعها بعض الكتَّاب العرب، كما جرى حصره وقصره على القتال الذي هو أحد مفهوماته الثلاثة عشر التي أوردها ابن القيم في كتابه زاد المعاد، فقسم الجهاد إلى أربع مراتب، هي: جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين، وداخل هذه المراتب الأربع مراتب فرعيةٌ تسع، هي: جهاد النفس على تعلُّم الهدى، وجهادها على العمل به بعد علمه، وجهادها على الدعوة إليه، وجهادها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وجهاد الشيطان على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، وجهاده على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واللسان والمال والنفس،"وجهاد الكفار أخَصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخَصُّ باللسان"[2].
وليس في هذا محاولة للهروب من المفهوم القتالي للجهاد، كما هي حال فرقة في شبه الجزيرة الهندية سعت إلى نقض مفهوم القتال في الجهاد،كما أنه ليس فيها محاولة لحصر الجهاد على القتال، كما ذهبت إليه بعض الأحزاب التي غلَّبت القتال على المفهوم الأعمِّ،ولو علم الآخرون مفهوم الجهاد بمرتبته القتالية على حقيقته الشرعية وآدابه وأخلاقياته لكان مطلبًا بديلًا منها لِما يسمونه اليوم بالمقاومة، بدلًا من أن يكون الجهاد ذا مدلول سلبي[3].
يؤكد هذا ضرورة التحديد الدقيق للمصطلحات الشرعية "لإزالة الأوهام التي يتوسل بها الخصوم لإثارة كثير من الشبهات،فهم يتعمدون التعمية والتجهيل بالمعاني الدقيقة والمفاهيم الأصيلة للمصطلحات القرآنية؛ لكي يوهموا من لا يعلم بأن هناك تناقضات بين هذه المصطلحات"[4]،ومن ذلك مصطلح الجهاد، يقول آرشي أوغستاين: "إن الغربيين وغيرهم من المنتقصين والمبغضين للإسلام يسعون إلى تقويض التعاليم القرآنية ذاتها، بجعلهم قضية الجهاد موضع جدل،وبدلًا من إزالة ووقف الأسباب المؤدية للسخط في العالم الإسلامي يسمح الغرب بل ويجاهر بسيناريو للنزاع مع الإسلام، ومن ثم يقوم بترسيخ المسلمين على ردة فعلهم ومقاومتهم لهذا التهديد"[5].
ويدخل في هذا مما له علاقة مباشرة بالجهاد مفهوم الاستشهاد من المنطلق الشرعي؛فقد جرى لغط كبير في المحيط الفكري الغربي والعربي حول الإقدام على عمليات يكون المقتول الأول فيها مَن يقوم بها،وقد تكون موجهة إلى المدنيين الذين يمكن أن يُقال عنهم: إنهم أبرياء، لا صلة لهم مباشرة بالصراع القائم في محيطهم،وأقل ما يمكن أن يقال عن هذه العمليات: إنها - في غالبها الأعمِّ - لا تراعي أخلاق الحروب وآدابها،والعراق وفلسطين وأفغانستان ميادين كبيرةٌ تزخر بهذه العمليات،فهل تعدُّ هذه العمليات استشهادية أم أنها انتحارية؟ أخذًا في الحسبان حكم الاستشهاد ومصير الشهيد في الإسلام في مقابل حكم الانتحار ومصير المنتحر.
على أن طلب الشهادة بالمفهوم الإسلامي، مثل الجهاد، ليس مقصورًا على ميادين الحرب فقط، بل إن هناك حالات عديدة يموت فيها المرء شهيدًا - بإذن الله تعالى - وهو أو وهي لم يخُض حربًا قطُّ، وقد زادت عن سبع حالات، كما أنه ليس بالضرورة أن كل من يموت في ساحة القتال يُكتب عند الله تعالى شهيدًا، بل قد يكون عكس ذلك، بحسب نيته وبحسب الظروف التي تحيط بموته، كأن يقتل نفسه جزعًا أو استعجالًا للموت دون صبر على ما لحقه في الحرب من أذًى.
ويبدو أن بعض الكتاب المسلمين قد تبع بعض المفكرين الغربيين في الحكم المسبق الذي يخلط بين الاستشهاد والانتحار، ويعُدُّ ذلك كله ضمن العمليات الانتحارية، دون التفريق بين تفجيرات الميادين الحربية، مثل طياري الكاميكازا اليابانيين، وتفجيرات المدارس والأسواق والمسارح وأماكن التجمعات المدنية التي شاعت في هذه الأيام - مع الأسف الشديد - بحيث ينتهي الأمر إلى كارثة إنسانية مريعة، يختتمها الفاعل أو الفاعلون بقتل أنفسهم، كما حصل في المدرسة الثانوية بكولومبيا[6].
وينقل طلال أسد عن أستاذ العلوم السياسية روبرت بيب، الذي عكف على جمع البيانات عن الأعمال الانتحارية منذ سنة 1400هـ/ 1980م إلى سنة 1422هـ/ 2001م، ليصل إلى أن البيانات تُظهر "أن ليس ثمة أي علاقة قوية بين الإرهاب الانتحاري والأصولية الإسلامية، أو أصولية أي دين آخر"[7]،ويحمل العلمانية مغبة هذه الأفعال، أكثر من أن تحمل "الأصوليات" الدينية.
لا ترقى هذه الوقفة إلى التصدي للأحكام الشرعية في هذا المجال، فلا تملِك العلم الشرعي الذي يمكنها من أن تحلل أو تحرم أو تطلق الأحكام أيًّا كانت، دون أن تُغفل القاعدة الأصولية التي تنص على أن مقاصد الأحكام مصالح الأنام.
إنما المقصود هنا هو إثارة هذا الاضطراب في المصطلحات، مما أدى إلى إهانة مصطلحات شرعية لها قدسيتها، ومن ثم ابتذالها والتأثير في مدلولاتها بأقلام غربية وعربية بتحويلها من مدلولات حسنة وإيجابية إلى سيئة منبوذة، مهما انبرى من يدافع عنها من منطلقات فكرية لا تستند إلى قاعدة علمية شرعية ثابتة، بما في ذلك من خاض في هذه المفهومات من كُتَّاب غربيين[8].
ويقود هذا إلى القول: إن هناك مفهومًا قد يكون جديدًا حول المصطلح يسمِّيه هشام محيي الدين ناظر بإرهاب المصطلح، عندما تُفرض على الأمة مصطلحات غريبة عنها في مفهوماتها؛ لتحل محل مفهومات أصيلة وعملية وتحقق مفهوم المصطلح المجلوب وأكثر، مما قد يدخل في مفهوم احتلال (أو استعمار) المصطلح[9]،ويمكن أن يمثل لذلك بالديموقراطية في مقابل الشورى،والمراد - على أي حال - أن يتكيف المصطلح مع المفهوم، لا أن يُكيف المفهوم للمصطلح.
------------------
[1] انظر: صلاح سالم. إشكاليات الجهاد الإسلامي مع العقل الغربي في تجلياتها القديمة والحديثة - صحيفة الحياة - ع 17109 (22/ 2/ 1431هـ - 6/ 2/ 2010م) - ص 26.
[2] انظر: ابن قيم الجوزية، الإمام المحدث شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي. زاد المعاد في هدي خير العباد/ حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط - 5مج - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1399هـ/ 1978م - 3: 9 - 11.
[3] انظر: أحمد أبو الوفا. أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية: دراسة مقارنة مع القواعد الحالية للقانون الدولي الإنساني - القاهرة: دار النهضة المصرية، 1430هـ/ 2009م - 422ص.
[4] انظر: محمد عمارة. شبهات حول القرآن الكريم - القاهرة: نهضة مصر، 2003م - ص 46 - (سلسلة في التنوير الإسلامي؛ 62).
[5] انظر: آرشي أوغستاني. دفاعًا عن الجهاد، حقيقة الجهاد: وجهة نظر مسيحية/ ترجمة محمد الواكد، مراجعة منذر الحايك - دمشق: صفحات للدراسات والنشر، 2008م - ص 35.
[6] انظر مثلًا: طلال أسد. عن التفجيرات الانتحارية/ ترجمة فاضل جكتر - بيروت: المركز الثقافي العربي، 2008 - ص 987 - 147.
[7] انظر: طلال أسد. عن التفجيرات الانتحارية - المرجع السابق - ص 123.
[8] انظر مثلًا: آرشي أوغستاني. تفجيرات انتحارية أم استشهاد؟: وجهة نظر مسيحية/ ترجمة محمد الواكد، مراجعة منذر الحايك - دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2008م - 111ص، وانظر أيضًا: شاؤول كمحي وصموئيل إيفن. استشهاديون أم انتحاريو إرهاب؟: وجهة نظر يهودية/ تقديم وترجمة منذر الحايك - دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2008م - 120ص - (سلسلة دراسات إسرائيلية معاصرة).
[9] انظر: هشام محيي الدين ناظر. القوة من النوع الثالث: محاولة الغرب استعمار القرية العالمية/ ترجمة خالد باطرفي - جدة: مؤسسة المدينة للطباعة والصحافة والنشر، 1423هـ/ 2002م.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/145519/#ixzz6ohFD3lJb