الحياة الزوجية الأصل فيها السكن والمودة والرحمة، فالزوجان يحققان آية الزوجية؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وليس المقصود بالسكن هنا هو سكن الأجسام، ولكن المراد سكن القلوب والعاطفة والروح، والدليل هو التعبير بقولة سبحانه: ﴿ لتسكنوا إليها ﴾، فإنه يقصد السكون القلبي بخلاف ما لو استخدم لفظ [عند]، فإنه يدل على السكن المادي، وهو سكن الأجسام؛ لأن [عند] لظرف المكان بينما كلمة [إلى] جاءت للغاية، وهو بيان العمق الروحي والصلة الخالصة التي تربط بين الزوجيين وتجمع بين قلبيهما[1].
ولكن رغم كل ذلك، فإن النفس البشرية نزاعة للشر أمارة بالسوء، والحياة الزوجية قابلة لأن يتحقق فيها الائتلاف والاختلاف، قابلة للوفاق والشقاق، وكما أن التشريع الإسلامي اهتم اهتمامًا كبيرًا بكيفية تكوين الأسرة، وحرصه على حسن البدايات، حتى تستمر العلاقة الزوجية، وتثبت أمام العواصف، استمر أيضًا هذا الاهتمام إلى ما بعد الزواج، وخاصة عند حدوث الخلافات، بداية من الكره والنشوز، ثم الشقاق والطلاق، والحديث عن الكره بين الزوجين، وهو يمثل البداية للتغيير القلبي، فقد جاء في تعريف الكره: بأنه حالة نفسية تستوجب النفور من شيء لسبب طبيعي أو فكري أو شرعي[2].
أسباب الكره بين الزوجين:
للكره أسباب كثيره ومتنوعه، بعضها يأتي من جانب الزوجة وبعضها يأتي من جانب الزوج.
ومن الاسباب التي تجعل الزوجة تكره زوجها:
1- عدم المعاشرة بالمعرف، فالزوجة التي تفتقد حسن الصحبة في معاشرة زوجها قولًا وفعلًا، يتولد في قلبها التباعد والنفور والكره.
2- الإضرار في النفقه بالإمساك والتقتير والبخل على الزوجة والأولاد.
3- إهانه الزوجة والتحقير من شأنها، وذلك عن طريق السب والشتم والضرب؛ مما يولد في نفس الزوجة إحساسًا بالظلم والقهر؛ مما يولِّد كراهيتها للزوج.
4- وجود العيوب الخلقية والخُلقية المنفرة في الزوج.
5- الخيانة الزوجية فهي سلوك يجرح المشاعر ويشعل القلب بالحقد والكره.
6- عدم التوافق الجنسي سبب أساسي للنفور ويَجلب الكره بين الزوجين.
من الأسباب التي تجعل الزوج يكره زوجته:
1- سوء عشرتها بالقول أو بالفعل، وإرهاق الزوج ماديًّا لكثرة مطالبها.
2- الغيرة الزائدة عن الحد، وهي مذمومة خاصة إذا امتزجت بالشك.
3- وجود العيوب الخلقية والخُلقية المنفرة في الزوجة.
4- انعدام التوافق النفسي، وهو من أدق وأخفى الأسباب، فقد لا تتوافق النفوس والأرواح، وهذا من قدر الله لا دخل للإنسان فيها، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)[3]، وعدم التوافق النفسي مِعول يهدد الأسرة، إذا لم يتداركه الحرص من الزوجين على الاستمرار[4].
كيف عالج التشريع الإسلامي الكره بين الزوجين:
أولًا: علاج التشريع الإسلامي للكره من خلال القرآن:
في البداية نجد أن الله عز وجل شكَّك المرء في وِجدانه عند حصول نفرة وكره، فقد تكون في طباع المرأة ما يكره أو في تصرفاتها ما يعاب، ولكن الشرع يطلب من الرجل أن يصبر على ما يكره منها، وأن يُمسكها على ما بها، فقال سبحانه: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
قال ابن العربي في أحكام القرآن: (إن وجد الرجل في زوجته كراهيةً وعنها رغبةً، ومنها نفرةً، من غير فاحشةٍ ولا نشوز، فليصبر على أذاها وقلة إنصافها، فربما كان ذلك خيرًا له)[5].
وقال الجصاص: (وذلك يدل على أن الرجل مندوب إلى إمساكها مع كراهيته لها، لِما يعلم لنا الله في ذلك من الخير الكثير)[6].
♦ وعلى هذا إذا حصل الكره، فعلى الزوج أن يزن هذا الشعور بميزان الشرع والحكمة والعقل، وعليه أن يفكِّر مليًّا في هدوء ورَويَّة، فربما كانت مصلحتة في الإقامة مع التي يكرهها أو يكره منها شيئًا معينًا، فالتعليل في قوله: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ﴾ [النساء: 19]، فيه إطماعٌ للأزواج بالصبر على نسائهم وحُسن معاشرتهنَّ، حتى في حالة الكراهية لهنَّ، فرُبَّ شيء تكرهه يكون فيه الخير الكثير والعظيم، وقد أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة، بل في جميع الأشياء، وهذا هو الشرط في قوله: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ﴾ ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ﴾ [النساء: 19]، ولم يقل سبحانه: ﴿ وعسى أن تكرهوا امرأة ﴾، مع أن التوجيه في الآية حول الإحسان للنساء[7]، هذا هو المطلوب من جانب الرجل.
♦ وكذلك على المرأة أن تصبر على سوء عشرة زوجها، وكم من امرأة صبرت على زوجها وقد كان فاسقًا وعاصيًا، يسلك الطرق المعوجَّة، فصبرت ودعت له بالخير حتى هداه الله ورزقه التوبة والإنابة، هذا هو منهج التشريع الإسلامي في علاج الكره من خلال القرآن.
ثانيًا: علاج التشريع الإسلامي للكره من خلال السنة:
جاء الإرشاد النبوي يطالب الزوج بالصبر والاتزان في النظر إلا الزوجة التي يجد فيها شيئًا من النفور في نفسه، وطالَبه بألا يستسلم لذلك الشعور في نفسه، بل عليه أن ينظر باتزان لِما لها من الإيجابيات، وفي هذا المعني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَفرَك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضِي منها آخر)[8]، والفرك بمعني البغض، وقد أرشد النبي صلي الله عليه وسلم إلى اعتبار المرأة بمجمل ما هي عليه من الصفات، لا بمجرد ما تكرهه منها، فقد تكون المرأة شرسة الخلق، ولكنها ديِّنة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به، إلى غير ذلك من الصفات الحسنة[9]، وربما فاته بتطليقها خير كثير، وحصل له بإمساكها مع الصبر على شعوره نحوها خير وفير.
♦ ومن صور الخير الكثير التي تسلي الطرف الصابر، وتجعل صبره يثمر له حسن العواقب في الدنيا والآخرة:
1- فقد يكون هذا الخير ولدًا صالحًا تقر به العين، وتسعد به النفس، ويحصل به من الرفعة لوالده في العاجل والآجل ما الله به عليم؛ قال القاسمي: (ولعله يجعل فيهنَّ ذلك بأن يرزقكم منهنَّ ولدًا صالحًا يكون فيه خير كثير)[10].
2- وقد يكون هذا الخير أجرًا جزيلًا يأخذه الزوج لقاء صبره على حسن القيام بمن يكرهه لوجه الله، وعلى خلاف الطبع؛ قال القاسمي: وبأن يُنيلكم الثواب الجزيل في العقبي بالإنفاق عليهنَّ والإحسان إليهنَّ على خلاف الطبع[11].
3- وربما كافأه الله على صبره ومجاهدته نفسه بأن يمنَّ الله عليه بحبها والعطف عليها، وزوال الكراهية بينهما؛ قال البغوي: (.... أو يعطفه الله عليها)[12].
4- وربما صلَح حالها لِما تراه منه من صبر وإحسان؛ قال رشيد رضا: أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته، فتكون أعظم أسباب هنائه في انتظام معيشته، وحسن خدمته، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض أو الفقر والعَوَز، فكثيرًا ما يكره الرجل امرأته لبطَره بصحته وغناه، واعتقاده أنه قادر على أن يتمتع بخيرٍ منها وأجمل، فلا يلبث أن يسلب ما أبطره من النعمة، ويكون له منها إذا صبر عليها في أيام البطر خير سلوى وعون في أيام المرض، فيجب على الرجل الذي يكره زوجه أن يتذكر مثل هذا، ويتذكر أيضًا أنه لا يخلو من عيب تصبر امرأته عليه في الحال[13].
♦ وما يقال عن الرجل ينطبق على المرأة في هذا الباب، فالمرأة إذا وجدت في نفسها نفورًا وكرها لزوجها، ليس لها أن تستسلم للشعور النفسي، فتطلب الطلاق لذلك، بل عليها إعمال الرأي والنظر في حقيقة زوجها، بكلِّ ما فيه من إيجابيات وسلبيات، عسى أن تحملها تلك الموازنة الهادئة والمتأنية على استمرار العلاقة الزوجية والصبر على الشعور النفسي، فيتحصل لها بسبب ذلك خيرٌ كثير: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
-----------------
[1] سعاد صالح، نظام الأسرة في الإسلام، ص 33.
[2] رعاية رابطة الزوجية من خلال القرآن، رشيد بوعافية، ص240.
[3] رواه البخاري.
[4] رعاية رابطة الزوجية من خلال القرآن، مرجع سابق، ص241 وما بعدها.
[5] أحكام القرآن، ابن العربي، ج1، ص 468.
[6] أحكام القرآن، الجصاص، ج2، ص189.
[7] تفسير آيات الأحكام، الصابوني، ج1، ص451.
[8] رواه مسلم عن أبي هريرة.
[9] المنهاج بشرح صحيح مسلم، محيي الدين النووي، ص 1120.
[10] محاسن التأويل، القاسمي، ج3، ص55.
[11] محاسن التأويل، مرجع سابق، ج3، ص55.
[12] معالم التنزيل، البغوي، ج2، ص186.
[13] تفسير المراغي، ج4، ص 214.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/145344/#ixzz6o2DZcu4k