ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة الرجل الذي قال لبنيه:
إنه لم يبتئر خيراً، يعني: لم يعمل خيراً،
وأوصى بنيه أنه إن مات فعليهم أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروه في الريح،
وفي بعض الألفاظ: ثم يذروا بعضه في البر وبعضه في البحر
وقال: (فوالله لئن قدر الله علي وبعثني ليعذبني عذاباً عظيماً)
والحديث له طرق وله روايات.
وجاء في الحديث: (أن الله تعالى يأمر البر فيجمع ما فيه والبحر فيجمع ما فيه،
ثم يقول له: كن، فإذا هو قائم بين يدي الله،
فيقول الله تعالى: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رب! خوفك، قال: فغفر الله له ورحمه)،
فهذا الرجل أنكر قدرة الله على بعثه، لكن ليس عن عناد ولا عن تكذيب، وإنما عن جهل بسبب الخوف العظيم من الله، فغفر الله له ورحمه،
ونلحظ في هذه القصة أموراً:
الأمر الأول: أن هذا الرجل ما أنكر قدرة الله، ولا أنكر البعث،
فهو يرى أن الله قادر على بعثه، ويؤمن بالبعث،
إلا أنه ظن أنه إذا أحرق وسحق وذري في البر والبحر فإنه الله لا يقدر عليه، لكن لو لم يحرق ولم يذر فإن الله سيبعثه ويقدر عليه، فهذا الرجل ما أنكر البعث ولا أنكر قدرة الله،
وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، حيث ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة من الحرق والسحق فإن الله لن يقدر على بعثه
ثانياً: أن هذا من الأمور الدقيقة الخفية وليس من الأمور الجلية الواضحة،
وفرق بين من ينكر أمراً واضحاً جلياً وبين من ينكر أمراً دقيقاً خفياً،
وهذا أمر دقيق خفي بالنسبة له.
ثالثاً: أنه لم يجحد ما جحده عن عناد ولا عن تكذيب، بل هذا الذي قاله مبلغ علمه، فهو عن جهل.
رابعاً: أن الحامل له على ذلك هو الخوف العظيم من الله،
فاجتمع الأمران: الجهل مع الخوف العظيم من الله،
قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: (فمن كان مؤمناً بالله ورسوله باطناً وظاهراً لكنه اجتهد في طلب الحق؛ فأخطأ أو غلط أو جهل أو تأول،
فإن الله تعالى يغفر له خطأه - كائناً من كان - في المسائل النظرية أو العلمية،
ومنشأ الغلط؛ أن هؤلاء لما سمعوا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في بعض أجوبته يقول بعدم تكفير الجاهل والمجتهد المخطىء والمتأول،
ظنوا أن هذا يعم كل خطأ وجهل، واجتهاد وتأويل، وأجملوا ولم يفصلوا،
وهذا خطأ محض، فإنه ليس كل اجتهاد وخطأ وتأويل يغفر لصاحبه وأنه لا يكفر بذلك،
فإن ما علم بالضرورة من دين الإسلام، كالإيمان بالله ورسوله وبما جاء به؛
لا يعذر أحد بالجهل بذلك،
فقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل،
مع أنه لا يشك مسلم بكفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك بكفرهم)
وقال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله - في رده على عثمان بن منصور في احتجاجه بحديث الرجل الذي ذرى نفسه على عدم تكفير من وقع في الشرك حتى تقام عليه الحجة الرسالية، فيما نقله عن شيخ الإسلام كما يدعي -
قال رحمه الله أثناء جوابه:
(ويقال أيضاً: فرض الكلام الذي نقله عن أبي العباس رحمه الله ومحله في أهل البدع، كما هو صريح كلامه، والمشركون وعباد القبور عند أهل السنة والجماعة معدودون من أهل الشرك والردة، فالفقهاء فرقوا بين القسمين في الأبواب والأحكام، فذكروا أهل الشرك والردة، وذكروا أهل الأهواء في باب قتال أهل البغي كالخوارج والقدرية ونحوهم، وهذا يعرفه صغار الطلاب..
إلى أن قال:
(... ويقال أيضاً: قد صرح أبو العباس أن عدم التكفير قد يقال فيما يخفي على بعض الناس، وأما ما يعلم من الدين بالضرورة، كشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يتوقف أحدٌ في كفر من أنكر لفظه أو معناه ولم ينقد لما دلت عليه الشهادتان، وهذا متفق عليه في الجملة، فجعله من المسائل التي خاض فيها أهل البدع والأهواء خروج عن محل النزاع، وخرق لما ثبت وصح من الاتفاق والإجماع)
وقال مفتي الديار النجدية في وقته العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في "مسألة تكفير المعين":
(من الناس من يقول: لا يكفر المعين أبداً! ويستدل هؤلاء بأشياء من كلام ابن تيمية غلطوا في فهمها، وأظنهم لا يكفرون إلا من نص القرآن على كفره، كفرعون، والنصوص لا تجيء بتعيين كل أحد، يدرس باب حكم المرتد ولا يطبق على أحد؟! هذه ضلالة عمياء وجهالة كبرى، بل يطبق بشرط، ثم الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر، سواء فهم أو قال ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد، وأما ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به وخالفه؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف، سواء في الأصول أو الفروع، ما لم يكن حديث عهد بالإسلام)
************
قال ابن عبد البر رحمه الله في كلامه على هذا الحديث:
(روى من حديث أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: "رجل لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد"، وهذه اللفظة إن صحت؛ رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل،
وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى،
والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها، لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار،
لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافراً،
وهذا ما لا مدفع له،
ولا خلاف فيه بين أهل القبلة في هذا الأصل، ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث: "لم يعمل حسنة قط أو لم يعمل خيراً قط"، لم يعمل إلا - ما عدا - التوحيد من الحسنات والخير،
وهذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها؛ أن يُؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، والدليل على أن الرجل كان مؤمناً قوله حين قيل له: لم فعلت هذا؟ قال: "من خشيتك يا رب"، والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد إلا لمؤمن عالم، كما قال الله عز وجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، قالوا؛ كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده..)، واستدل له بحديث الرجل الذي لم يعمل خيراً قط غير تجاوزه عن غرمائه
وأما قول : "لأن قدر الله على"، فقد اختلف العلماء في معناه،
فقال منهم قائلون:
هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل وهي القدرة،
فلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، قالوا: ومن جهل صفة من صفات الله عز وجل وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن بجهله بعض صفات الله عز وجل كافراً، قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله، وهذا قول المتقدمين من العلماء، ومن سلك سبيلهم من المتأخرين)
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله: (وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه؛
كان موحداً ليس من أهل الشرك،
فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة:
"لم يعمل خيراً إلا التوحيد"، فبطل الإحتجاج به عن مسألة النزاع)
ومما يقوي هذا الحديث ويدل على ثبوت هذه اللفظة - "قط إلا التوحيد" -
ما رواه الإمام أحمد رحمه الله فقال: (حدثني يحيى بن إسحاق أخبرنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: "أن رجلا لم يعمل من الخير شيئاً قط إلا التوحيد... الحديث"
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (قال يحيى وقد حدثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله - بعد أن ذكر حديث الرجل الذي ذرى نفسه المروي في الصحيحين -: (فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة بني آدم بعدما أُحرق وذُري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك،
فهذا له أصلان عظيمان
أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير
والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذه
فلما كان مؤمناً بالله بالجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة،
وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت،
وقد عمل صالحاً،
وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه؛
غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح،
وأيضاً فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان"، وفي رواية: "مثقال دينار من خير"، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وفي رواية: "من خير"، و "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، أو "خير"، وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيئاً من الإيمان والخير، وإن كان قليلاً، وأن الإيمان مما يتبعّض ويتجزء،
ومعلوم قطعاً أن كثيراً من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله،
إذ الكلام فيمن يكون كذلك،
وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير في ذلك)
وقال أيضاً رحمه الله:
(فمن شرط الإيمان؛ وجود العلم التام، ولهذا كان الصواب؛ أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا، إذا كان مقراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته، بل العلماء بالله يتفاضلون في العلم به)
ويقول ابن قتيبة رحمه الله في حديث الرجل الذي ذرى نفسه:
(وهذا رجل مؤمن بالله مقر به خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته فظن أنه إذا أحرق وذريَ في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله له بمعرفته ما بنيته وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته) ـ
*************
الايمان بصفة القدرة هو من الاصول الكبار ومن المسائل الظاهرة المعلومة بالضرورة من دين الاسلام ودليلها واضح فى القران كقوله تعالى والله على كل شئ قدير- ولكن تفاصيل الصفة وجزئياتها [وهى ما تسمى بالمسائل الخفية] كما ظن الرجل الذى قال حرقونى هذا ما يسمى بالمسائل الخفية لانها تحتاج الى نظر واستدلال -فتلك الصورة الدقيقة لجمعه هي التي شك فيها ولم يشك في أصل قدرة الله تعالى بدليل أنه أمر أهله بحرق جسده وذرّه في البر والبحر ولو كان جاهلا أو شاكا في قدرة الله مطلقا لما احتاج إلى ذلك، فكون الله على كل شيء قدير من العلم الذي قد لا يتبين لبعض من يؤمن بأصل قدرة الله قال تعالى في {الذي مر عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَافهذا قال الله عنه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }--اما عموم قدرة الله على كل شئ فلا تحتاج الى نظر واستدلال بل هى من العلم الضرورى ولذلك يقول شيخ الاسلام فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح)
ويقول الشيخ سليمان بن سحمان-قال شيخنا رحمه الله:
وهذا هو قولنا بعينه، فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر،وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة، وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه مسائل مخصوصة
الفرق بين الجهل ببعض الصفات او ما يسمى تفاصيل الصفات او ما يسمى بالمسائل الخفية ليس كفعل الشرك الاكبر الناقض لتوحيد العبادة الذي هو أصل دين الرسل وأساس دعوتهم
فما أبعد الفرق بين الأمرين! بين التوحيد الذي هو أصل دين الرسل وأساس دعوتهم، وهو الذي جاهد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكاد القرآن من أوله الى آخره أن يكون في بيان هذا تأصيلا وتفصيلا وتبيانا وتقريرا،وبين الجهل ببعض الصفات او تفاصيل الصفات التي ضل أهلها وأخطئوا في عقائدهم وأعمالهم مع توحيدهم وإيمانهم بالله ورسوله، فالفرق بين الأمرين فرق واضح، والجامع بينهما مخطئ لم يهتد إلى الصواب.
يقول العلامة سليمان بن سحمان
وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة هو من أعظم أصول الإيمان،
فرض الكلام الذي نقلته عن أبي العباس ومحله في أهل البدع، كما هو صريح كلامه، والمشركون وعبَّاد القبور عند أهل السنَّة والجماعة معدودون من أهل الشرك والردة، والفقهاء فرقوا بين القسمين في الأبواب والأحكام، فذكروا أهل الشرك والردة في باب الردة، وذكروا أهل الأهواء في باب قتال أهل البغي كالخوارج والقدرية ونحوهم، وهذا يعرفه صغار الطلاب، وقد خفي على ثور المدار والدولاب، فلبَّس على العامة والجهال، وأدخل أهل الشرك في أهل البدع، وسوّى بينهم في الأحكام، خلافاً لكتاب الله وسنة نبيه وما عليه علماء أهل الإسلام، فسحقاً له سحقاً، وبعداً له بعداً، حيث جادل بالباطل المحال) (فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: «قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها»، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ بل قال: «ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين»، فحكم بردتهم مطلقاً، ولم يتوقف في الجاهل فكلامه ظاهر في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: «أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال»
وقواعد الدين، وإذا كان لابد من إلحاقه – أي المخطئ – بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، وأولئك في الدرك الأسفل من النار.
فتبين بهذا مراد الشيخ، وأن كلامه في طوائف مخصوصة وأن الجهمية غير داخلين فيه، وكذلك المشركون، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة، فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان.
قال شيخنا رحمه الله: وهذا هو قولنا بعينه، فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة، وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه مسائل مخصوصة.
وبين أن الإيمان يزول بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحج يفسد بترك أركانه، وهذا عين قولنا، بل هو أبلغ من مسألة النزاع.
قال: وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحداً، ليس من أهل الشرك، فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة "لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد "فبطل الاحتجاج به على مسألة النزاع.
وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه، والمسألة ليست من محل النزاع فإيراد العراقي لها هنا تكثراً بما ليس له، وتكبيراً لحجم الكتاب بما ليس يغني عنه فتيلاً.
قلت: وإيراد المعترض لكلام شيخ الإسلام ليس هو في محل النزاع أيضاًَ، فإن الإخوان لم ينازعوا في هذه المسائل ولم يكفروا بها أحداً حتى يستدل عليهم بكلام شيخ الإسلام، لأن كلام الشيخ إنما هو في مسائل مخصوصة، وفيما قد يخفى دليله في المسائل النظرية الخفية الاجتهادية، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وأما جحد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه بذاته المقدسة على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه مباين لمخلوقاته، وكذلك نفي صفات كماله، ونعوت جلاله فهذا لا يشك مسلم في كفر من نفى ذلك، لأنه من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، ومما فطر الله عليه جميع خلقه إلا من اجتالته
الشياطين عن فطرته، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة معلومة مشهورة مقررة لا يخفى ذلك إلا على من أخلد إلى الأرض وابتع هواه، وأضله الله على علم، وختم على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله.
ثم قال الشيخ: وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح، والشرك العظيم، والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلا خطأهم في هذه الباب الذي اجتهدوا فيه فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وهل قَتل الحلاج باتفاق أهل الفتوى على قتله إلا بضلال اجتهاده، وهل كفر القرامطة، وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلع ربقة الشريعة إلا اجتهادهم فيما زعموا، وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك وعبادة الأئمة الإثني عشر وغيرهم، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين إلا باجتهادهم فيما زعموا هؤلاء، هؤلاء سلف العراقي في قوله: إن كل خطأ مغفور، وهذا لازم لهم لا محيص عنه، فقف هنا واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي.
والمقصود أن هؤلاء الجهال أوردوا كلام شيخ الإسلام ظناً منهم أن كل اجتهاد وكل خطأ مغفور، وأن الجهمية المنكرين لعلوا الله على خلقه، وعباد القبور المتخذين الأنداد
قال رحمه الله في موضع آخر بعد كلام ذكره: وحقيقة الأمر في ذلك أن القول يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، فهذا كما في نصوص الوعيد أن الله تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] .فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، يعني لا يقال هذا من أهل النار، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وكذلك الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد يكون بلغه ولم يثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق فإن الله تعالى يغفر له خطأه كائناً من كان، سواء كان في المسائل النظرية والعملية، هذا الذي عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة المسلمين من أهل السنة، انتهى كلام شيخ الإسلام باختصار.
والجواب أن يقال أما كلام شيخ الإسلام في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل مخصوصة قي يخفى دليلها على بعض الناس كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله-[كشف الشبهتين]
فتأمل قوله فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة، وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه
وقولنا-الفرق بين الجهل ببعض الصفات او ما يسمى تفاصيل الصفات او ما يسمى بالمسائل الخفية ليس كفعل الشرك الاكبر الناقض لتوحيد العبادة الذي هو أصل دين الرسل وأساس دعوتهم
فما أبعد الفرق بين الأمرين! بين التوحيد الذي هو أصل دين الرسل وأساس دعوتهم، وهو الذي جاهد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكاد القرآن من أوله الى آخره أن يكون في بيان هذا تأصيلا وتفصيلا وتبيانا وتقريرا،وبين الجهل ببعض الصفات او تفاصيل الصفات التي ضل أهلها وأخطئوا في عقائدهم وأعمالهم مع توحيدهم وإيمانهم بالله ورسوله، فالفرق بين الأمرين فرق واضح، والجامع بينهما مخطئ لم يهتد إلى الصواب
*******************