"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (61)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "يوسف": (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء)

القول الأقرب والله أعلم أن الذين ظنوا هم الرسل أنفسهم, والمعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد أخلفوا فيما وعدوا من النصر.
(وهذا أحد القولين لابن عباس, وابن مسعود, وسعيد بن جبير كما سيأتي)

وهذا القول لا بأس به, فهو الظاهر والمتبادر من الآية, وليس المراد بالظن الظن المستحكم أو الشك, وإنما يعتريهم هذا الشعور قهراً من غير أن يتحققوه في نفوسهم لشدة استبطائهم للنصر وهم في أشد حالات الضعف والشدة والعسرة.


والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في هذه الآية على قولين:

القول الأول: أن المعنى حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم, وظن القوم المرسل إليهم أن الرسل كذبوا عليهم فيما وعدوا من النصر والظفر عليهم أو في وعيدهم بوقوع العذاب, أو فيما ادعوه من النبوة. (فالذين ظنوا على هذا القول هم المرسل إليهم)

(رجح هذا القول ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*, وابن عاشور*)

تنبيه:
في هذا القول قيل كما سبق: (استيأس الرسل من إيمان قومهم)
وقيل: استيأسوا من النصر.
قال ابن عطية: "من إيمان قومهم أو من النصر على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك".

تنبيه آخر:
في هذا القول قيل كما سبق: (وظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من الظفر عليهم أو في وعيدهم بوقوع العذاب)
فالذين ظنوا هم الكفار.
وقيل: الذين ظنوا هم الذين آمنوا بهم حين تأخر النصر ظنوا أن الرسل كذبتهم في وعدهم بالنصر.
وهذا أقرب على هذا القول.

قال القرطبي: "وقيل: المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم".
وقال ابن كثير: "بعضهم يعيد الضمير في قوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} إلى أتباع الرسل من المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم".

تنبيه ثالث:
نقل ابن عطية عن أبي علي الفارسي قوله: "إن رد الضمير في (ظنوا) وفي (كذبوا) على المرسل إليهم- وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح- جائز لوجهين:
أحدهما: أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه.
والآخر: أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله: عاقبة الذين".

وكذلك قال الرازي: "فإن قيل: لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم؟
قلنا : ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم.
وإن شئت قلت: أن ذكرهم جرى في قوله: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) فيكون الضمير عائداً إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل".

القول الثاني: أن الذين ظنوا هم الرسل أنفسهم.
والمعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا أي: أخلفوا فيما وعدوا من النصر.
(ضعفه ابن جرير*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (وذكره البغوي*, وابن كثير*)

(وهذا أحد القولين لابن عباس, وابن مسعود, وسعيد بن جبير, ولهم قول آخر يوافق القول الأول)
قال ابن عباس: إنما كانوا بشراً, وقال سعيد بن جبير: ألم يكونوا بشراً.

والمراد أنه ضعُفوا في أشد لحظات الشدة والكرب فظنوا أنهم أخلفوا ما وعدوا من النصر.

وهذا القول لا بأس به, فهو الظاهر والمتبادر من الآية, وليس المراد بالظن الظن المستحكم أو الشك, وإنما المراد بيان أنهم من شدة استبطائهم للنصر وهم في أشد حالات الضعف والشدة والعسرة, فيعتريهم هذا الشعور قهراً, ويخطر بقلوبهم من غير أن يتحققوه في نفوسهم, وهم لا ينفكون عن الصفة البشرية.

وليس الخبر كالمعاينة.
انظر إلى قول إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)

ومما يوضح أن هذا هو المراد والله أعلم قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ الله).

وقال تعالى في حال المؤمنين يوم الأحزاب: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)
قال ابن عطية: " أي تكادون تضطربون وتقولون: ما هذا الخلف للموعد، وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها".

قال الزمخشري: "إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية".

وقال القشيري أبو نصر كما في تفسير القرطبي: "ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم، وفي الخبر (إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به).
وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال: كانوا بشراً فضعفوا من طول البلاء، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا، ثم تلا: (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)"

وقال السعدي في تفسيره: "حتى إن الرسل على كمال يقينهم وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)اهـ

فإن لم يكن هذا القول صواباً فالأقرب أن المعنى والله أعلم أن الرسل طال عليهم البلاء واستيأسوا من إيمان قومهم, وظن قومهم الذين آمنوا بهم حين تأخر النصر أن الرسل كذبتهم في وعدهم بالنصر.

فالذين ظنوا هم من آمن بهم (وهو تفسير عائشة للآية على قراءة التشديد كما سيأتي إلا أنه هناك الرسل هم الذين ظنوا أن أتباعهم كذبوهم.

وهنا الأتباع هم الذين ظنوا أن الرسل لم يصدقوا بوعدهم).

والعلماء الذي ضعفوا هذا القول كما سأنقل أقوالهم ربما ضعفوه بناء على ظاهر اللفظة, وأن الرسل شكوا أنه قد يكونون كذب عليهم, ولا يلزم أن يكون المراد باللفظة كذلك.
وليس المراد ذلك البتة.

قالت عائشة منكرة لهذا القول: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها.
وضعف هذا القول كما أشرت قبل قليل ابن جرير, وابن عطية, والزمخشري, والقرطبي, والرازي, وهذه أقوالهم:

قال ابن جرير: "خلاف هذا التأويل أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر. وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره".

وقال ابن عطية: "ردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا .
وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل .
قال ابن عطية: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم".

وقال الزمخشري: "أما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح".

وقال الرازي: "هذا بعيد، لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل".

وقال القرطبي: "وقيل: لم تصح هذه الرواية، لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر، فكيف قال: (جاءهم نصرنا)؟!".

تنبيه:
الزمخشري ذكر رأياً آخر في الآية حيث يقول: "كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو رجاؤهم لقولهم: رجاء صادق، ورجاء كاذب.
والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب".

وقوله: (كذبتهم أنفسهم) ( في كلام جميل سأذكره بعد قليل)

وقرئت: (كذِّبوا) بالتشديد.
واختلف في المراد بقراءة التشديد هذه على قولين أيضاً:
القول الأول: أن الظن هنا بمعنى اليقين، أي: استيأس الرسل من إيمان قومهم, وأيقن الرسل أن القوم المرسل إليهم كذبوهم (ذكره ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, القرطبي*)
وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن.

لكن ابن جرير ضعف القول بأن الظن هنا بمعنى اليقين.
فقال: "وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة، لأنه لم يوجه (الظن) في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين، مع أن (الظن) إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهده والمعاينة. فأما ما كان من علم أدرك من وجه المشاهدة والمعاينة فإنها لا تستعمل فيه (الظن)، لا تكاد تقول: أظنني حياً، وأظنني إنساناً، بمعنى: أعلمني إنساناً، وأعلمني حياً. والرسل الذين كذبتهم أممهم لا شك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة، فيقال فيها: ظنت بأممها أنها كذبتها".

القول الثاني: أن الظن هنا بمعنى الحسبان والمعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم لشدة البلاء وتواصله)
(ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*, وابن عاشور*) (ورجحه الرازي* فقال: هو أحسن الوجوه المذكورة في الآية)

(والفرق بين هذا القول والذي قبله أنه على القول السابق الرسل أيقنوا أن قومهم من المشركين كذبوهم, وعلى القول الثاني الرسل ظنوا أن أتباعهم كذبوهم)

وهذا القول الثاني هو الراجح على هذه القراءة, وهو قول عائشة رضي الله عنها.
ففي البخاري عن عروة بن الزبير قال: (قلت لعائشة: أكذبوا أم كذِّبوا؟ قالت: كذِّبوا, قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن؟ قالت أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك, فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها, قلت فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء وأستأخر عنهم النصر, حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك).
قال الرازي: "وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة".

قال ابن عاشور: وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون {كُذِبُوا} مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعين، ولم تكن عائشة قد بلغتها رواية {كُذِبُوا} بالتخفيف.

خلاصة معنى الآية على القراءتين والله أعلم: (أن الرسل حين طال البلاء خطر في قلوبهم أنهم أخلفوا فيما وعدوا من النصر, وظن قومهم الذين آمنوا بهم حين تأخر النصر أن الرسل كذبتهم في وعدهم بالنصر).

قال : "(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء)
إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس .. تراهم كذبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ الله؟ ...» ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة...
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة .. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً «جاءَهُمْ نَصْرُنا ، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» ..
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس...
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيّ بدعوة لا تكلفه شيئاً...
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس .. ثم كانت العاقبة خيراً للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/