الشـــــيـــخ الشـــريـــم: العدل منهج ربانــي بـه قامـــت السمــاوات والأرض




جاءت خطبة الحرم المكي لهذا الأسبوع بتاريخ 9 من جمادى الآخرة 1442هـ - الموافق 22/1/2021م لإمام الحرم الشيخ د. سعود الشريم، عن الأسس والمعايير التي يستوجب على المرء استحضارها في تعامله مع الآخرين، لئلا يقع في الزلل معهم أو الحيف أو الاضطراب في تطبيق تلك المعايير تجاههم إنْ هو أحسن ذلكم، وإلا وقع في وحشة بينه وبينهم، فتَكْبُر عليه نفسه، ويضيق قلبه لما يجب أن يكون متسعا له، فلا يسلم حينئذ من غائلة التنافر والتنابز والشحناء.
تحقيق الإخلاص
حيث أكد الشيخ الشريم أن الإنسان لا يمكن أن يحقق في نفسه القسط والاعتدال مع الآخرين، إلا بأن يهيئ نفسه بمجاهدتها في تصحيح نيّته بينه وبين ربه قبل كل شيء، ثم بينه وبين الناس، وذلك لتحقيق الإخلاص لله -عز وجل- المقرون بمتابعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ ليفوز بمحبة الناس له بعد محبة الله من خلال توفر هذين العنصرين عملاً بقوله -تعالى-: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه، وقال: إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يُقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقبل حتى يكون خالصا صوابا. قال: والخالص إذا كان لله -عز وجل- والصواب إذا كان على السنة.
مكامن الشهرة الخفية
وأكد أنه بهذا المعيار يتم للمرء تصفية إخلاصه من الشوائب التي تُعكر صفوه، كالبحث عن مصلحته على حساب غيره، وكذا مكامن الشهرة الخفية والإعجاب بالنفس واحتكار الصواب له دون غيره، والرغبة في الثناء والذكر والتماس رضا العامة أو الخاصة، التي اصطلح علماء النفس المعاصرون على تسميته اعتبار الذات، ومن أهم ما ينفع في هذا المجال هو الرجوع إلى معيار موضوعي غير ذاتي، ومن استفتى قلبه خَطَمَ هواه، ومن استحضر في فكره معنى الناس لم يستأثر بمعنى نفسه.
إنّ الحسنات يذهبن السيئات
كما أكد أنه ينبغي للمرء أن يُسَلّم بأن الآخرين ليسوا معصومين من الخطأ، ولا من الاجتهاد الخطأ، أو الزلل غير المقصود، بل هم بشر مثله يعتريهم ما يعتريه من خطأ وصواب، وزَيْن وشَيْن وغضب ورضا، فكان لزامًا عليه أن يستحضر في نفسه حقيقة أن الخطأ يذوب في بحر الصواب، وأنّ السيئة تذوب في بحر الحسنات كما قال الله في كتابه العزيز: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.
النظر إلى ماهية الخطأ
ولذا فإن النظر في ماهية الخطأ ومدى فداحته وضرره في مقابل النظر إلى عموم المحاسن التي تستر هذا الخطأ وتُذيبه، لهو سبب دون ريب في تجاوزه واغتفاره؛ فالكمال لله وحده، والعصمة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل الناس خطّاؤون وخير الخطائين التوابون؛ لذا كان من حق الآخرين على المرء المسلم أنه إذا وجّه إليهم لوماً أو نقداً أو خصومة ألّا يكون على صورة تعيير أو تشهير أو شماته أو انتقائية أو إقصاء، لذا وجب سَدُّ الباب أمام نقد الحاقد ولمز الحاسد، فهما ينظران بعين العداوة والتشفي لا بعين العدل والإنصاف، فيجعلان المحاسن مساوئا والمحامد مكارها، ولا حيلة حينئذ فيمن هذه حاله؛ إذ لا ينفع معه البيان ولا يُقنعه إلا الاعتذار عن المحاسن التي يَعُدّها ذنوبًا، وهذا الصنف من الناس يصعُب علاجه، بل إنّ الناس يتقونه، ويسلكون فجًّا غير فجّه الذي يسلك فيظل كالقاصية من الغنم تأكلها ذئاب الفكر المنغلق والعقول المُغَلّفة، عافانا الله وإياكم.
الأفهام والعقول تختلف
وعن تفاوت الأفهام والعقول ودور ذلك في التعامل مع الآخرين قال الشيخ الشريم: إنه لمن المعلوم بداهة أنّ العقلاء جميعًا متفقون على أنه لا يمكن أن تكون أطروحات الناس في شؤون حياتهم محلاً لقبول الآخرين كافة، والتسليم بكل ما يقال فيها؛ إذ الأفهام تختلف، وأساليب التعبير ليست سواء، والأهواء والمشارب ليست على قلب رجل واحد، والممارسات الميدانية متفاوتة والوسائل متنوعة، وأنه لا يمكن في الوقت نفسه أن تتفق جميع الأفهام على قبول عقل واحد في التحكيم؛ إذ العقول تختلف أيضًا.
الموضوعية في الحكم على الآخرين
وعن الحكم على الآخرين قال: ينبغي أن تتجه نظرة المرء في حُكمه على الآخرين وفق عنصرين أساسيين هما: عنصر العلم، وعنصر العدل، بمعنى أن يبذل المرء ما في وسعه حال كونه شخصاً متصفاً بالعقل السليم للوصول إلى الحقيقة، ثم الحكم بموجبها في موضوعية وعلمية صحيحة سليمة مجردة من البواعث الشخصية والعواطف الآنية، ويستحضر في ذلكم عدم التحيز أو الميل دون مراعاة قائمة الأولويات أو المصالح والمفاسد، حتى ولو كانت تلك العاطفة نبيلة خيّرة، فإنّ النبل العاطفي وحده لا يكفي، ويكون باعثه في ذلك هو التماس رضا الله قبل كل شيء حتى لا يزاحمه شيء دونه، عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سَخِطَ الله عليه وأسخط عليه الناس» رواه ابن حبان، وقد ذَكَر بعض أهل العلم أنّ الآيات القرآنية في تقرير عنصري العلم والعدل وتأكيدهما تربو على ثلاثمائة آية، نوّع الله فيها العِظة وفصّلها أمراً ونهيًا، وقَصصًا وضرب أمثال، ما يدل على أهمية هذا المنهج وعلى موقعه بوصفه أساساً كبيراً في التعامل مع الآخرين والحكم على تصرفاتهم، ففي تصور عنصر العلم نجد الأمر ظاهرًا من خلال قاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وذلك لأجل أن يتوفر لدى المرء معرفة حُكم الشيء ومعرفة وقوع هذا الحُكم ليكون باباً إلى الصواب.
العدل منهج رباني
ثم بين أن العدل منهج رباني به قامت السماوات والأرض، قال -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، قال ابن كثير: أي لا يحمِلنّكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًا. وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، ويشهد لهذا التفسير قول الله -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا} قال ابن كثير: أي لا يحمِلَنّكم بُغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا في حكم الله فيهم، فتقتصّوا منهم ظُلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، فالعدل إذًا في المنهج الإسلامي ذو معنى مطلق، لا تحكمه النسبية، فإنّ المرء لا يكون عادلا ظالما في آن واحد، فهو إما عادل وإما ظالم «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون».
عدم التعميم
ثم بين الشيخ الشريم أنَّ من القواعد المهمة في التعامل مع الآخرين أن يكون على ذكر من المنهج المتّبع في القرآن الكريم في عدم التعميم حال النقد أو التخطئة، ملاحظا أنّ التعميم في كثير من الأحيان منافٍ للإنصاف ووضع الأمور مواضعها، والشعار في هذا كله هو العدل والقسط، فلا غلو في الإطراء حال الرضا، ولا إفراط في القدح حال الشنآن والخصومة. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل هَلَكَ الناس فهو أهلكهم» رواه مسلم- والمعنى أي هو أشدهم هلاكا.
الاعتماد على مصادر صحيحة
كذلك بين أن على الإنسان عند تعامله مع الآخرين أن يعتمد على مصادر صحيحة ثابتة لا لَبْس فيها، ليتفادى اتباع الظن، أو الاستناد إلى الإشاعات، أو الانخداع بالإثارة عبر وسائل التواصل بشتى صورها، وما تنشره من أخبار أو تعليقات مبنية في حالات كثيرة على الظن والكذب، والخرص والجذاف، والهوى والتحيز، والتهييج والإثارة، وكسب السبق في الطرح، وجذب القرّاء والمشاهدين والمستمعين.
الموازنة بين المصالح والمفاسد
وبين أن المرء الحصيف يتعامل مع مثل ذلكم بحذر بالغ؛ ليَسْلَم من غوائل تلكم الوسائل، وينجو من مغبتها، ومن المقرر بداهة أنّ السلامة لا يعدلها شيء، بل هي تسعة أعشار العافية، إذا هيأ المرء نفسه لمثل ذلكم، أثمر له تعاملاً حصيفا تجاه نصحه للآخرين وإشفاقه عليهم بأن يستهدف هدايتهم لا إغاظتهم، وتوجيههم لا إثارتهم، ونصحهم لا تعييرهم، والتبيين لهم لا التنفيس عن مشاعره الذاتية، وأن تكون غيرته للصواب لا للانتصار للنفس، وأن يُعْمِل في هذا الأمر ما أرشد الله إليه من الحكمة، وتحري الأسلوب الأجدر بالإقناع والموازنة بين المصالح والمفاسد، استنباطًا مما قرره علماء السلف من أن الأمر بالخير والنهي عن الشر وسيلة لا غاية، شريطة ألا تكون مصلحة الوسيلة مؤدية إلى مفسدة أكبر منها فحينئذ يكون درء المفاسد الراجحة مقدمًا على جلب المصالح اهتداءً بقول الله -جل شأنه- {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.