وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ

وهي تجري بهم في موج يعلو ويرتفع حتى يصير كالجبال في علوها، ونادى نوح ابنه -وكان في مكانٍ عَزَل فيه نفسه عن المؤمنين- فقال له: يا بني اركب معنا في السفينة، ولا تكن مع الكافرين بالله فتغرق
والموج : ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه ، وتشبيهه بالجبال في ضخامته .
وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماءَ السابقَ لها ، فإن حادث الطوفان ما كان إلاّ عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها ،التفسير الميسر

{ وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال ،
إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة .
وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زَوج ثانية لنوح كان اسمها ( وَاعلة ) غرقت ، وأنّها المذكورة في آخر سورة التحريم . قيل كان اسم ابنه ( ياماً ) وقيل اسمه ( كنعان ) وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين . وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزباً .
وجملة { وكان في معزل } حال من { ابنه }. والمعْزل : مكان العزلة أي الانفراد ، أي في معزل عن المؤمنين إمّا لأنه كان لم يؤمن بنوح عليه السلام فلم يصدق بوقوع الطوفان ، وإما لأنّه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول .
وجملة { يا بنيّ اركب معنَا } بيان لجملة { نادى } وهي إرشاد له ورفق به .
وأما جملة { ولا تكن مع الكافرين } فهي معطوفة على جملة { اركب معنا } لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلاّ أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان . فقول نوح عليه السّلام له { اركب معنا } كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير . وقد زاد ابنَه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قولُه متهكماً { سَآوي إلى جبل يعصمني من الماء }.
و ( بنيّ ) تصغير ( ابن ) مضافاً إلى ياء المتكلم . وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة .-التحرير والتنوير - ابن عاشور
********
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، قال . سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } . .
إن الهول هنا هولان . هول ما يحدث من امر الطوفان، وهول في النفس البشرية يلتقيان :
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال } . .
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة ، ويروح يهتف بالولد الشارد :
{ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } . .
ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة ، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل :
{ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } . .
ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير :
{ قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } .
لا جبال ولا مخابئ ولا حام ولا واق . إلا من رحم الله .
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد . فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء :
{ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } .

وإننا بعد آلاف السنين ، لنمسك أنفاسنا ونحن نتابع السياق والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء . وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب!
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية بين الوالد والمولود ، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان . . وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن .
وتهدأ العاصفة ، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن :
{ وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي ، وقيل بعدا للقوم الظالمين } . .
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ، وتكف السماء :
{ وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } .
{ وغيض الماء } . .
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها .
{ وقضي الأمر } . .
ونفذ القضاء
{ واستوت على الجودي } . .
ورست رسو استقرار على جبل الجودي . .
{ وقيل بعدا للقوم الظالمين } . .
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير . . { قيل } على صيغة المجهول فلا يذكر من قال ، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
{ وقيل بعدا للقوم الظالمين } . .
بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ، وبعدا لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا . . وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكرى!
والآن وقد هدأت العاصفة ، وسكن الهول ، واستوت على الجودي . الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع :
{ ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين } .
رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير . .
قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء . .
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل عند الله وفي دينه وميزانه ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد؛ وفيما يشبه والتأنيب والتهديد :
{ قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . .
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة :
{ إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح } . .
فهو منبت منك ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .



)
ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :
{ فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . .
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه ، فيلجأ إليه ، يعوذ به ، ويطلب غفرانه ورحمته :
{ قال : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفرلي وترحمني أكن من الخاسرين } . .
وأدركت رحمة الله نوحا ، تطمئن قلبه ، وتباركه هو والصالح من نسله ، فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم :
{ قيل؛ يا نوح اهبط بسلام منا ، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك . وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } . .
وكانت خاتمة المطاف :
النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم . . ذات البشرى وذات الوعيد ، اللذان مرا في مقدمة السورة . فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود . .
ومن ثم يجيء التعقيب :
{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر إن العاقبة للمتقين } .
فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة :
حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون . فهذا القصص غيب من الغيب ، ما كان يعلمه النبي ، وما كان معلوما لقومه ، ولا متداولا في محيطه . إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير .
وحقيقة ان دعوة الانبياء والرسل كلهم واحدة اعبدوا الله ما لكم من اله غيره من لدن اول رسول الى اخرهم محمد صلى الله عليه وسلم الدعوة واحده وهى عبادة الله وحده لا شريك له وترك ما يعبد من دونه . الدعوة واحده هي هي . والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير اعبدوا الله ما لكم من اله غيرة - وان اختلفت المعبودات والاوثان التى يعبدها هؤلاء المشركين من زمن الى آخر .
وحقيقة تكرارالإعتراضات والإتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل .
وحقيقة تحقق البشرى والوعيد ، كما يبشر النبي وينذر ، وهذا شاهد من التاريخ .
وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد : { والعاقبة للمتقين } . . فهم الناجون وهم المستخلفون .
وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل . . إنها العقيدة الواحدة انها الملة الحنيفية التي تربط المؤمنين كلهم بعبادة الله وحده - يلتقون في الدينونة له بالطاعة والامتثال بما ورد على السنة رسله .
وبعد . . أكان الطوفان عاما في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ اسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح . . وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل .



ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان . وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين . وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة ، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها فيما عدا من ركب سفينة الناجين .


ونخلص من هذه القصة إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم . . وهي في الحقيقة عبر شتى ، لا عبرة واحدة .




إن قوم نوح - عليه السلام هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ، ومدى إصرارهم على باطلهم ، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام التي حملها نوح عليه السلام إليهم ، وخلاصتها : التوحيد الخالص الذي يفرد الله سبحانه بما له بالربوبية والالوهية وبالدينونة والعبودية؛ ولا يجعل لأحد معه صفات الربوبية ولا ما يستحقة الله من العبودية . .
إن قوم نوح هؤلاء . . هم ذرية آدم . . وآدم كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها وهي المهمة التي خلقها الله لها وزوده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها ، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها . وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق هو وزوجه وبنوه أن { يتبع } ما يأتيه من هدى الله ، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين .
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه . . وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل؛ وأن الإسلام هو الدين الذى امر الله به الناس جميعا - ان الدين عند الله الاسلام - ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه -
فإذا نحن رأينا قوم نوح وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وأوثانها وتصوراتها وتقاليدها جميعا . وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات في النفس البشرية . تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس ، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله ، واتباعه وحده ، وعدم اتباع غيره معه . . ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار هو مناط الابتلاء وبهذا القدر مع توفيق الله يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه ، كما يملك أن ينحرف ولو قيد شعرة عن هدى الله إلى تعاليم غيره؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم النبي المسلم بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله .
وهذه الحقيقة . . حقيقة أن أول دعوة عرفت في الأرض هي دعوة نوح عليه السلام الى عبادة الله وحده لا شريك له وهذه هى
سفينة النجاه التى من ركبها نجا - يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ -الظلال بتصرف