منهج الأنبياء سبيل الإصلاح والتغيير والتمكين


لقد بعث الله الأنبياء والمرسلين لتحقيق المصالح العامّة للخلق، قال -تعالى- على لسان نبيه شعيب -عليه السلام-: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، فبعثة الأنبياء غايتها: تحقيق المصلحة العامّة للبشريّة جمعاء، ومن رحمة الله -تعالى- أنْ جعل شريعتنا الإسلامية مرتبطةً بتحقيق هذه المصالح؛ فحيثما كانت المصلحة فثمّ شرع الله، بل إنّ مقاصد الشـريعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحفظ حقوق الناس المادية والمعنوية، من حفظ الدين والعقل والمال والنفس والعِرْض.
دراسة منهج الأنبياء
ونحن حينما ندرس منهج الأنبياء فإننا ينبغي أن نأخذه جملة بكل تفاصيله ومعالمه، ولا يسوغ أبدًا أن نقتطع أجزاء مما دعا إليه الأنبياء فنحتج بها، ونأخذ منها ما يخدم فكرة نحاول الانتصار لها، ونخاصم من أجلها، وندع ما سواها، ولا يسوغ أن نرسم منهجًا ونقرر ثوابت ثم نبحث بعد ذلك عما يؤيده من منهج الأنبياء، بل ينبغي أن نتجرد من الأهواء والتبعية والتقليد إلا لكتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وحينها نستطيع أن نرسم معالم هذا المنهج واضحًا جليًّا مشرقًا بعيدًا عن الزلل والانحراف، وهنا يأتي السؤال لماذا علينا دراسة منهج الأنبياء والأخذ به دون سواه؟ هذا ما يتبين لنا من خلال النقاط التالية:
أولاً: العصمة
من مزايا منهج الأنبياء أن الله -سبحانه وتعالى- قد عصمهم من الانحراف والخطأ والخلل، وعصمهم -سبحانه وتعالى- من الأهواء والأغراض، ومن ثم فاتباع سبيلهم ضمان -بإذن الله- للاستقامة على الطريق القويم، وقد اتفقت الأمة على أن رسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي، فلا يكذبون، ولا ينسون، ولا يغفلون، وقد تنوعت الدلائل الشرعية على إثبات ذلك في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم -ومثله سائر الأنبياء، من تلك الدلائل ما وعد الله به نبيه من عصمته من النسيان، قال -تعالى-: {سنقرئك فلا تنسى}(الأعلى:6) ومنها تزكية الله له من جهة البلاغ عنه، قال -تعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4).
ثانيًا: الطهارة
الأنبياء والرسل أطهر البشر قلوبًا، وأصدقهم إيماناً، وأقواهم عبادة، وأذكاهم عقولاً، وأحسنهم أخلاقاً، وأكملهم ديناً، وأقواهم صبراً، وأشدهم بأساً، وأعظمهم رحمة، وأكملهم أجساماً، وأحسنهم صورة، وأصدقهم حديثاً، قال الله -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ} (آل عمران:159)، وقال الله -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: 29).
ثالثًا: الأمانة
فالأنبياء أمناء على الوحي، يبلّغون أوامرَ الله ونواهيه إلى عباده، دونَ زيادةٍ أو نقصانٍ، ودون تحريفٍ أو تبديلٍ، امتثالاً لقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الاحزاب: 39)، فالأنبياء جميعاً مُؤتَمَنونَ على الوحي، يبلّغون أوامر الله كما نزلت عليهم، لا يمكن لهم أن يخونوا أو يُخْفُوا ما أمرَهم الله -تعالى- به، لأنّ الخيانة تتنافى مع الأمانة، وهل يليقُ بالنبيِّ أن يخونَ أمانته، فلا ينصحُ الأمة، ولا يبلّغ رسالة الله؟!
رابعًا: الصدق
الصدقُ محورُ النبوةِ، ومدارُ ارتكازها، فكلُّ ما ينطق به الأنبياءُ صدقٌ خالصٌ، ولا يمكن أن يجافي الواقعَ أو الحقيقةَ، وعندما يشرح القرآن الكريم فضائل الأنبياءِ، يشيرُ إلى هذه الصفة عندهم، ولقد وصف الله -تعالى- أنبياءه بالصدق على سبيل التعيين أو الإجمال في غير ما آية من كتابه العزيز، كقوله عن إدريس -عليه السلام-: {إِنَّهُ كَانَ صَدِّيقًا نَبِيًّا} (مريم: 41). وقوله -تعالى- عن إسماعيل -عليه السلام-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} (مريم: 54)، وقوله -تعالى- عن موسى -عليه السلام-: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} (الأعراف: 105)، وقوله -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف:51). وقوله في حقِّ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (الأحزاب: 22). وقوله في حقه أيضاً: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33).
خامسًا: الاتباع
إن من أعظم الأسباب الداعية والموجبة لدراسة منهج الأنبياء -عليهم السلام- أنَّ الله ما تعبدنا إلا باتباع طريقتهم، والتزام منهجهم بحسب ما جاءت به شريعتنا؛ قال الله -تعالى- مخاطباً نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً*ا} (الأنعام:90) فيأمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بمنهج الأنبياء، وأن يقتفي أثرهم، وأن يسير على سنتهم، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب لأمته من بعده إلى قيام الساعة، ولا يكاد يخلو جزء من القرآن الكريم من قصة دعوة نبي من الأنبياء، أو إشارة إليه وإلى ما جرى بينه وبين قومه، وفي هذا دعوة إلى أولئك الذين يقرؤون ذلك الكتاب، ويتعبدون الله بتلاوته، إلى أن يسيروا وفق هذا المنهج، وأن يرتسموا معالمه، ويسلكوا خطاه.
سادسًا: السعادة
ومما يجعل دراسة منهج الأنبياء فرضا لازما، أنه هو وحده الطريق الموصلة إلى عز الإسلام والمسلمين، وأن سعادة العباد في الدارين مدارها على اتباعهم -عليهم السلام- ولزوم ما كانوا عليه، كما أن شقاء الخلق وخسرانهم في الدنيا والآخرة مترتب على مخالفتهم والانحراف عن طريقتهم، ولذا انقطعت الحجج والمعاذير بإرسالهم، قال -تعالى-: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 165).
سابعًا: التمكين
كذلك فإن الله -عز وجل- وعدهم ووعد أتباعهم بالنصر والتمكين، فقال -تعالى-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(غا فر: 51)، فهم منصورون بالحجة والبرهان والسيف والسنان، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، أي قد سبقت كلمة الله التي لا مرد لها، ولا مخالف لها لعباده المرسلين وجنده المفلحين، إنهم الغالبون، المنصورون من ربهم نصرًا عزيزًا، يتمكنون به من إقامة دينهم.
ثامنًا: العبرة
ومن الأدلة على وجوب دراسة منهجهم أنَّ الله قص علينا قصصهم في القرآن، وبين لنا أن ذلك للعبرة والاتعاظ، قال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ...} الآية (يوسف: 111)؛ فقصص الأنبياء فيها أداةُ تربية، ومصدر تَوجيه ووعظٍ يدعم الفردَ والجماعة، ومن قصصهم وسيرتهم -عليهم الصلاة والسلام- نقتبس الأخلاقَ الفاضلة، والسلوكَ الحسَن.
تاسعًا: التفضيل
فالرسل والأنبياء هم أفضل الناس وهم أفضل الأولياء والصالحين، وعلى رأس الأنبياء نبينا محمد بن عبدالله -عليه الصلاة والسلام-، وحبهم في الله والتأسي بهم في الخير وعمل الصالحات أمر مطلوب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله -تعالى- على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم ‏‏أربع مراتب‏ فقال -تعالى-‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً‏}‏‏ ‏(‏النساء‏:‏ 69‏)‏‏.‏
عاشرًا: علو أمرهم
لقد أعلى الله أمر الأنبياء والمرسلين؛ بسبب ما قاموا به من عبادة الله ومحبته والإنابة إليه، والقيام بحقوقه وحقوق العباد، ودعوة الخلق إلى الله، وقد أرسلهم الله برسالة التّوحيد إلى أقوامهم، وكانوا مثالاً في البذل والصبر والتّضحية، حتّى بذل الكثير منهم دماءهم رخيصةً في سبيل الثّبات على دعوة الله -تعالى.
منقول