(وهُوَ العَلِيْمُ الحَكِيْمُ )، ( وهُوَ الحَكِيْمُ الخَبِيْرُ )، ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْها )، ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ )، وقوله: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ )، وقَوْلُهُ: ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
الشرح
والعِلمُ صفةٌ للهِ عزَّ وجلَّ، بهَا يدركُ جميعَ المعلوماتِ على ما هيَ بهِ، فلا يخفَى عليهِ منهَا شيءٌ كمَا قدَّمْنا.
وفيهَا إثباتُ اسمِهِ الحكيمِ، وهوَ مأخوذٌ مِن الحكمةِ، ومعناهُ: الذي لا يقولُ ولا يفعلُ إلاَّ الصَّوابَ، فلا يقعُ منهُ عبثٌ ولا باطلٌ، بلْ كلُّ ما يخلقُهُ أو يأمُرُ بهِ فهوَ تابعٌ لحكمتِهِ.
وقيلَ: هوَ مِن فَعِيلٍ بمعنى مُفْعِلٍ، ومعناهُ: المُحْكِمُ للأشياءِ، مِن الإِحكامِ: وهوَ الإِتقانُ، فلا يقعُ في خَلْقِهِ تفاوتٌ ولا فُطورٌ، ولا يقعُ في تدبيرِهِ خللٌ أو اضطرابٌ.
وفيهَا كذلكَ إثباتُ اسمِهِ الخبيرِ، وهوَ مِن الخِبرةِ؛ بمعنى كمَالِ العلمِ، ووثوقِهِ، والإِحاطةِ بالأشياءِ على وجهِ التَّفصيلِ، ووصولِ علمِهِ إلى ما خفِيَ ودقَّ من الحِسِّيَّاتِ والمعنويَّاتِ.
وقَدْ ذكرَ سبحانَهُ في هذهِ الآياتِ بعضَ ما يتعلَّقُ بهِ علمُهُ؛ للدَّلاَلةِ على شمولِهِ وإحاطتِهِ بما لا تبلغُهُ علومُ خلقِهِ:
فذكرَ أَنَّهُ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ }؛ أي: يدخلُ { في الأَرْضِ } مِن حبٍّ وبذرٍ ومياهٍ وحشراتٍ ومعادنَ، { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } مِن زرعٍ وأشجارٍ وعيونٍ جاريةٍ ومعادنَ نافعةٍ كذلكَ، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } مِن ثلجٍ وأمطارٍ وصواعقَ وملائكةٍ، { وَمَا يَعْرُجُ }؛ أي: يصعدُ { فِيهَا } كذلكَ مِن ملائكةٍ وأعمالٍ وطيرٍ صوافَّ … إلى غيرِ ذلكَ مَّما يعلمُهُ جلَّ شأنُهُ.
وذكرَ فيهَا أيضًا أنَّ { عندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }، ومفاتحُ الغيبِ؛ قيلَ: خزائنُهُ. وقيلَ: طُرُقُهُ وأسبابُهُ التَّي يُتوصَّلُ بهَا إليهِ، جمعُ مِفتحٍ؛ بكسرِ الميمِ، أو مِفتاحٍ؛ بحذفِ ياءِ مفاعيلَ.
وقَدْ فسَّرَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ بقولِهِ:
((مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمهُنَّ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ تَلاَ قَوْلَهُ تَعَالى:] إِنَّ اللهَ عندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْري نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ [.
وقَدْ دلَّتْ الآيتانِ الأخيرتانِ على أَنَّهُ سبحانَهُ عالمٌ بعلمٍ هوَ صفةٌ لهُ، قائمٌ بذاتِهِ؛ خلافًا للمعتزلةِ الَّذينَ نفَوا صفاتَهُ، فمِنْهُمْ مَنْ قالَ: إنَّهُ عالمٌ بذاتِهِ، وقادرٌ بذاتِهِ … إلخ، ومِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ أسماءَهُ بمعانٍ سَلبِيَّةٍ، فقالَ: عليمٌ؛ معناهُ: لا يجهلُ. وقادرٌ؛ معناهُ: لا يعجزُ … إلخ.
وهذهِ الآياتُ حُجَّةٌ عليهِمْ، فقَدْ أخبرَ فيهَا سبحانَهُ عن إحاطةِ علمِهِ بِحَمْلِ كلِّ أُنثى ووضعِهَا مِن حيثُ المعنى والكيفُ؛ كمَا أخبرَ عن عمومِ قدْرتِهِ، وتعلُّقِهَا بكلِّ مُمْكِنٍ، وعن إحاطةِ علمِهِ بجميعِ الأشياءِ.
وما أحسنَ ما قالَهُ ُالإمَامُ عبدُ العزيزِ المكيُّ في كتابِهِ (الحيدةِ) لبشرٍ المَرِيْسِيِّ المعتزليِّ وهوَ يناظرُهُ في مسألَةِ العلمِ:
(إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لمْ يمدحْ في كتابِهِ مَلَكًا [ مقرَّبًا ] ولا نبيًّا مرسلاً ولا مؤمنَا تقيًّا بنفيِ الجهلِ عنهُ؛ ليدُلَّ على إثباتِ العلمِ لهُ، وإنَّمَا مَدَحَهُمْ بإثباتِ العِلْمِ لهمْ، فنفَى بذلكَ الجهلَ عِنهُمْ …
[ إلى أنْ قالَ: ] ((فَمَنْ أثبتَ العلمَ نَفَى الجَهْلَ، ومَنْ نَفَى الجَهْلَ لمْ يثُبْتِ العِلْمَ)).
والدَّليلُ العقليُّ على علمِهِ تعالى أَنَّهُ يستحيلُ إيجادُهُ الأشياءَ مَعَ الجهلِ؛ لأنَّ إيجادَهُ الأشياءَ بإرادتِهِ، والإِرادةُ تستلزمُ العلمَ بالمُرادِ، ولهذا قالَ سبحانَهُ: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ }.
ولأنَّ المخلوقاتِ فيهَا منِ الإِحكامِ والإِتقانِ وعجيبِ الصَّنعةِ ودقيقِ الخِلْقَةِ ما يشهدُ بعلمِ الفاعلِ لهَا؛ لامتناعِ صدورِ ذلكَ عن غيرِ علمٍ.
ولأنَّ مِن المخلوقاتِ مَنْ هوَ عالِمٌ، والعلمُ صفةُ كمَالٍ، فلو لمْ يكُنِ اللهُ عالمًا؛ لكانَ في المخلوقاتِ مَنْ هوَ أكملُ منهُ.
وكلُّ علمٍ في المخلوقِ إنَّمَا استفادَهُ مِن خالقِهِ، وواهبُ الكمَالِ أحقُّ بهِ، وفاقدُ الشَّيءِ لا يعطيِهِ.
وأنكرَتِ الفلاسفةُ علمَهُ تعالى بالجُزئِيَّاتِ، وقالَوا: إنَّهُ يعلمُ الأشياءَ على وجهٍ كُلِّيٍّ ثابتٍ. وحقيقةُ قَولِهمُ َاَنَّهُ لا يعلمُ شيئًا؛ فإنَّ كلَّ ما في الخارجِ هوَ جُزئِيٌّ.
كمَا أنْكرَ الغُلاةُ مِن القدَرِيَّةِ علمَهُ تعالى بأفعالِ العبادِ حتَّى يعملُوهَا؛ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أنَّ علمَهُ بهَا يُفْضِي إلى الجَبرِ، وقَولُهمْ مَعْلُومُ البطلانِ بالضَّرورةِِ في جميعِ الأديانِ.
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد خليل هراس