موقف الشيخ أبي الحسن المأربي من هيئة الفضيلة و الرد على شبهات المعترضين
قال السائل :
ما موقفكم حفظكم الله تعالى من إنشاء هيئة الفضيلة ومحاربة الرذيلة التي نادى بها عدد من علماء اليمن، وما هو ردكم على المانعين والمعترضين على إنشائها؟؟!
فأجاب شيخنا أبو الحسن المأربي قائلا :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، أما بعد :
فقد كثر الكلام حول " هيئة الفضيلة " التي نادى بها عدد من علماء اليمن، وطالبوا الأخ رئيس الجمهورية باعتمادها، فحصل بسبب ذلك انفجار كلامي هائل في الصحف، وسالت أقلام وصرخت أفواه بالتحذير منها، وائتدموا بالنيل من العلماء، والتدخل في النيات، وقابل ذلك ردود بعض طلبة العلم، وفي بعضها تجاوزات في الحكم على المعين، ومن خلال وقوفي على أقوال المانعين ظهرت لي منهم عدة اتجاهات، سأذكرها ـ إن شاء الله تعالى ـ وأبيِّن وجه الحق في ذلك ، إلا أنه قبل الخوض في هذا الأمر أذكر عدة أمور، هي من الثوابت في هذا المقام:
الأول: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول ديننا الحنيف، وشعيرة من شعائر الله، وهو قوام الدين ، وعروته الوثقى التي يُحَافَظُ بها على بقاء الإسلام وقوته ، والتي تحفظ المجتمع المسلم من الأمراض الداخلية: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والفكرية، وبإجماع الفقهاء المعتد بهم فإنه من واجبات الدين العظمى، فمجتمع لا يقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يقوم على النصيحة بالتي هي أحسن بين أفراده؛ مجتمع معرَّض لغضب الله ولعنته ، كما قال تعالى : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} المائدة78ـ79، وقد صح من حديث ابن مسعود مرفوعًا ـ خلافًا لمن ضعّفه ـ في تفسير هذه الآية: أن الرجل من بني إسرائيل كان يلقى أخاه وهو على المعصية، فيأمره وينهاه، ثم يلقاه من الغد وهو باق على معصيته، فلا يمنعه ذلك من أن يكون جليسه، وأكيله، وشريبه، فلُعنوا من أجل ذلك وغيره، فتأمل هذه اللعنة التي على لسان الأنبياء الذين لا ينطقون إلا بوحي من عند الله عز وجل، فماذا ينتظر من يصرخ بالتحذير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد هذا التهديد السماوي؟.
وقد جعل الله عز و جل خيرية هذه الأمة منوطة بهذا الأمر ، فقال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}آ عمران110، فإذا تركت الأمة سبب خيريتها كانت أمة ملعونة، شريرة، مغضوبًا عليها.
ولم يقتصر هذا التكليف على الأفراد فيما بينهم فقط ، بل جعل الله عز و جل هذا الأمر من مهمة الدولة المهيمنة المتمكنة في الأرض أيضاً؛ لأن حاجتها إلى الأمر والنهي بعد التمكين أعظم، للحفاظ على أمنها واستقرارها وهيبتها، وإلا تصدّعت، واستحكمت بها الأهواء، وذهب ريحها، فقال تعالى:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج4 1،ولعظمة هذا الأمر وكريم آثاره ومآله فقد جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعار المؤمنين ، كما جعل عكسه من شعار المنافقين ، فقال تعالى في حق المنافقين:{الْمُ نَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }التوبة67، وقال تعالى في حق المؤمنين:{وَالْم ُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}التوبة71 وهكذا النصيحة التي هي من أعظم أمور الدين ـ كما في حديث "الدين النصيحة.." ـ هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأيضًا فمهمة الأنبياء جميعاً ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ هي أمر ونهي ، فالآمر والناهي اليوم متبع وليس بمبتدع ، ووجود هذا الصنف في الناس جالب لأمنهم وسلامتهم ـ وإن أبغضهم من لا يعرف مصلحته الدينية والدنيوية ـ ورافع لسخط الله وغضبه بقدر ما يحققه من مراد الله عز و جل، فما لهؤلاء القوم المثيرين لهذا الضجيج بدون رحمة لا يراجعون أنفسهم؟!.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد حذّر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحذر من التهاون في الأخذ على أيدي المفسدين، وإن كان فاعل المنكر حسن القصد، فكيف إذا كان هناك من يفعل المنكر جرأة على الله؟ واستهتارًا بالذنوب؟ فكيف إذا كانت بعض المنكرات من ورائها مؤسسات ومنظمات تنظم هذه المنكرات، وتطورها، حتى تستحكم الرذيلة في المجتمعات؟!
جاء في "صحيح البخاري" من حديث النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها: كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا؟! فإن يتركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم؛ نجوا ونجوا جميعًا" فهؤلاء أرادوا أن يخرقوا في نصيبهم خرقًا حتى لا يؤذوا إخوانهم، فتأمل نيتهم الحسنة في ذلك، ومع ذلك لم يتهاون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمرهم، وعدّ نجاة الجميع بالأمر والنهي، وهلكتهم بالمجاملة في ترك الأمر والنهي، أو الإعراض عن ذلك، فماذا نقول عما في زماننا من منكرات وجرأة، بل يصحب ذلك التشنيع والتجديع لكل من يسعى في علاجها؟! ألا يعلم هؤلاء أن كثرة الخبث سبب في الهلكة؟ كما في الحديث المتفق عليه من حديث زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم إذا كثر الخَبَث"، ومعلوم أن الأمر والنهي يقلِّل الخبث، ويُسلم الناس من الهلكة، فلماذا هذه الحملة الشعواء؟!
الثاني: الأصل أن الأمر والنهي عام للمكلفين، كل في سلطانه، وحسب قدرته، وصلاحياته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" أخرجه مسلم.
ولكل طائفة قدرة على صورة من صور التغيير هذه أو أكثر، فولي الأمر يستطيع التغيير بيده وبلسانه ـ في الجملة ـ والوالد مع ولده ، والزوج مع زوجته ، والمدرس في مدرسته , .... وهكذا، فكل منهم يستطيع التغيير باليد واللسان ـ في الجملة ـ وإن كان ولي الأمر صلاحياته أوسع من غيره في التغيير باليد، وأما من كان عاجزاً عن التغيير باليد ، أو اللسان ـ وهو حال كثير من الناس عند شيوع المنكرات وقوة أهلها ـ فيجزئ في حقه أن يغير بقلبه ، وهو أن يكره ما يرى أو يسمع من المنكرات، ويفارق المكان ـ إلا إذا ترجحت المفسدة ـ فالواجب على الأمة جميعها أن تحمل هذا الحمل على عاتقها ـ كل بحسبه ـ إن أرادت عزة وأمانا في الدنيا ، ورفعة ونجاة في الآخرة ، ولا محيص لها عن ذلك ،وإلا كان الذل والصغار على من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والتاريخ خير دليل وشاهد على ذلك، فما قوي أهل الحسبة والأمر والنهي في زمن إلا عز فيه المسلمون، وهابهم عدوهم وهم في عقر دارهم، وعكسه عكسه، وهل أطاح بالأمم والدول إلا معاصي الليل والنهار، ومنكرات الشوارع والأسواق، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}الإس اء16، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}الن ل112، فتأمل آثار الأمر والنهي وآثار المعرضين عن ذلك لتعرف مصير كل طائفة وأثرها على الأمة، فالواجب على الجميع الحذر من الدعوات المضلّة، وصدق الله القائل: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً}النساء2 7، والقائل سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ }البروج10.
الثالث: أن الآمر والناهي لا بد أن يتحلى بأمور وآداب، منها:
*أ- العلم بالحكم الشرعي فيما يأمر وينهى ، حتى لا يأمر بمنكر ، أو ينهى عن معروف، وهو يظن أنه يحسن صُنعًا.
*ب- الحلم والرفق في الأمر والنهي ، وإلا كان فظًّا غليظ القلب ، وآل به الأمر إلى عكس المقصود .
*ج- الأمر والنهي ليس وصاية ولا هيمنة على الخلق ، ولا انتقاماً منهم ، ولا تصفية للحسابات الشخصية أو الحزبية معهم ، إنما هو شفقة ورحمة بهم ، وحرص على الخير للمأمور والمنهي ، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك، فقال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة128، فمن تجرد من هذه الصفات في الأمر والنهي فليس بمقتد برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومن تأمل قول الله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} آل عمران110، وتأمل السر في ذكر الإيمان بالله بعد ذكر الأمر والنهي؛ علم أن الأمر والنهي حتى يكونا شرعيين ويثاب عليهما فاعلهما لا بد أن يكونا صادرين عن إيمان بالله، فلا حظَّ فيهما للنفس ، ولا مجال فيهما لتصفية حسابات شخصية أو حزبية،وهذا السياق يدل أيضًا على أن الأمر والنهي سبب في بقاء الإيمان وثباته، إذ ذُكر الإيمان بعد الأمر والنهي.
*د- أن يأمر وينهى في حدود المتفق عليه، أما المختلف فيه اختلافاً سائغاً أو شائعاً بين العلماء والمذاهب، فلا يفرض المرء فيه رأيه ويصادر رأي أو اجتهاد الآخرين ، إلا إذا صدر اجتهاد من ولي الأمر ـ إن كان أهلا لذلك، أو بواسطة لجنة علمية موثوق بها مختارة من قِبله ـ باعتماد رأي دون غيره؛ فلا بأس بالأخذ بذلك في الفتوى العامة توحيداً للكلمة.
*هـ- ألا ينطلق الآمر والناهي في أمره ونهيه من مجرد الشبهات أو الأخبار الخاطئة، بل لا بد من التيقن أو العمل بالراجح ـ على تفاصيل في ذلك ليس هذا موضعها ـ .
*و- ألا يعتدي على الحريات المكفولة شرعًا للآخرين ، أو يهجم على حرمتهم وأسرارهم إلا بما يوجب ذلك ، وإلا كان مخالفًا لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}الح رات12، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند مسلم: "من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" وفي قصة عمر في دخوله على من كان يشرب الخمر في بيته ما يدل على ذلك، وألا يقدم على ذلك إلا عند الضرورة التي يخشى معها استفحال الشر وتعديه على الآخرين، وأن يكون مأذونا له في ذلك من الجهات المختصة، حتى لا يكون الأمر فوضى، ولا يحصل افتئات على ولي الأمر.
*ز- ألا يفضي أمره ونهيه إلى ما هو أشد ضررا،كأن يفوّت بأمره معروفًا أكبر، أو يجلب بنهيه منكرًا أكبر، فإن هذا مصادم لمقاصد الشريعة.
الرابع: إذا تم اعتماد الهيئة ـ وإن كان في ذلك صعوبة بالغة إلا أن يشاء ربي ـ فهذا من فضل الله، ونسأل الله أن تكون مفتاح خير، مغلاق شر، ويجزي من سعى فيها واعتمدها خيرًا، وإذا لم يتم اعتماد الهيئة؛ فلا يسقط ذلك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة، ومراعاة الآداب السابقة،والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}ا تغابن16، وحسب العلماء أن قاموا بما أوجبه الله عليهم: من النصيحة لولي الأمر في ذلك، ومن الحرص على خير الأمة في العاجل والآجل، والعباد محشورون إلى ربهم فـ{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}فص ت46.
وبعد ذكر هذه الأمور، أشرع في الجواب عما يثار في هذا الوقت حول هذه الهيئة،فأقول مستعيناً بالله تعالى:
لقد تأملت وجهات نظر المانعين، فرأيتها مختلفة الطرق، مجتمعة الغاية والهدف، مما يدل على أن كلاً منهم صاح بما عنده، ومع اختلافهم الواسع فيما بينهم؛ إلا أنهم اجتمعوا على المطالبة بالمنع من وجود هيئة الفضيلة، يستوي في ذلك من ينادي بالعلمانية، أو من يرفع الشعارات الإسلامية، فيا لله العجب!!
وقد كان بودِّي أن يتأنى المانعون قليلاً، وأن يتمهلوا في استنكارهم هذا الأمر، وأن تجري لقاءات بين عقلائهم وكبارهم، وأهل الخبرة والرأي فيهم مع أهل العلم المطالبين بالهيئة للتشارور في المصلحة العامة، وليبدي كل منهم للآخر ما يظن أنه قد غاب عن الآخر، أما هذه الثورة الكلامية، كأنّك هيّجت "عش الدبابير أو الزنانير" فما كان الظن بمثقفي وساسة وإعلامي اليمن أن يصل بهم الأمر إلى هذا الحد، لاسيما وقد نشرت بعض الصحف كلامًا قد يظهر منه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأراد صاحب هذا الكلام أن يمنع من هيئة الفضيلة، فنال قلمه من صاحب الأخلاق النبيلة ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فكسر الله هذا القلم، وأصلح قلب صاحبه، ويا أسفاه، أن ينشر هذا الكلام في بلد الإيمان والحكمة، بلد الشهامة والأصالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
ولاشك عندي بأن هذه الهيئة التي يطالب بها أهل العلم ـ إن اعتمدت، وأعطي لها صلاحيات تناسب حال المجتمع، ووضع لها قيود شرعية ـ فإنها من العمل الصالح الذي إن لم يكن خيرا خالصاً، فهو خير راجح، لما سبق من أدلة وبراهين، ولما يشهد به التاريخ الغابر والمعاصر، وإن وجدت أخطاء ومخالفات في سبيل ذلك ـ وهذا أمر مردود ـ فالواجب أن يتعاون الجميع في علاجها وتقويمها، بدلا من إنكار الشيء كله: خيره وشره ، حلوه ومرِّه!! وليس هناك أحد منا معصومًا، ويكفينا أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "سدِّدوا وقاربوا".
وخلاصة ما وقفت عليه من حجج المانعين أمور، منها:
1- أن اعتماد هيئة الفضيلة يلزم منه أنه لا فضيلة في اليمن!!
والجواب: الهيئة لحماية الفضيلة، وحماية الشيء تدل في الأصل على وجوده لا على عدمه، والمراد الحفاظ عليه من الضياع أو النقص، كحارس البستان ـ مثلاً ـ لا يكون حارساً للبستان إلا بوجود بستان ابتداءً، وكيف يقال: يلزم من ذلك أن المجتمع ليس فيه فضيلة؟ فإنه لو كان كذلك لانتظرنا الساعة صباحاً أو مساءً، ومعاذ الله من ذلك، لاسيما في المجتمع اليمني الذي فيه من بقايا المكارم والشيم والمعادن ما لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، لكن كثرة الطَّرْق على الحديد تغير من شكله وقوته وصلابته، ومعلوم أن اليمن كغيره من البلدان يتعرض لكثير من المؤامرات الداخلية والخارجية، حتى يتغير من شكله الحسن إلى شكل آخر قبيح، وليس أهله معصومين، والشيطان حريص على إفساد من بقي فيه خير أكثر ممن لانَتْ قناته، وضعفت همّته، فقيام طائفة متخصصة بهذا الواجب لا يخلو من خير كثير.
ونحن عندما نطالب بوزارة أوقاف ووعظ وإرشاد وشؤون إسلامية ـ مثلاً ـ هل يدل هذا على أن المجتمع ليس فيه وعظ ولا إرشاد ولا اهتمام بالشؤون الإسلامية؟ لا، ولكن من المعلوم أن التخصص نافع ومفيد، لاسيما مع كثرة الأعمال، وتزاحم الأشغال، فلو لم يخصص أناس لكل جهة من الأمور التي يحتاج إليها المجتمع: وزارة، أو إدارة، أو هيئة، أو مؤسسة... الخ، لأدى ذلك إلى فساد عريض، وقُلْ مثل ذلك في وزارة التربية والتعليم ، والثقافة ، ورعاية الشباب، ...الخ، فالقول بأن طلب هذه الهيئة يدل على عدم وجود الفضيلة في المجتمع قول فيه تحامل وإسراف، آمل أن يراجع صاحبه نفسه.
2- وهناك من يرى أن هذه الهيئة ستتدخل في حريات الناس، وستوقف الرجل وهو ماش مع زوجته، وتطلب منه ما يثبت أنها زوجته، وستهجم عليهم في بيوتهم وهم نائمون أو هم قائلون، وربما أدى ذلك إلى فتح باب المشاكل .
والجواب: أن هذا ليس من اختصاص رجل الهيئة ابتداءً، ولا يقدم على ذلك إلا إذا توافرت معلومات يقينية أو راجحة عنده على أن هذا الرجل يسير مع امرأة ليست من محارمه ولا تحل له ، وأن ذلك سيفضي إلى شر عظيم، فيرفع رجل الهيئة هذه المعلومات إلى الجهات الأمنية المختصة بذلك، فإما أن تقوم بإنكار المنكر، أو تخول الهيئة بذلك، ولا شك أن مثل هذا المقام قد يحصل فيه خطأ في تجميع المعلومات ، ومن ثم في التعامل مع هذا الموقف ، لكن هذا الخطأ أقل ضررا بكثير مما لو تُرك الحبل على الغارب ، فيفضي ذلك إلى الزنا والفواحش، وتعدِّي بعض الرجال والنساء حدود الله عز وجل.
وقد سبق في آداب الآمر والناهي ما يدل على المنع من التجسس ـ في الجملة ـ وقد قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}: خذ ما ظهر لك، ودع ما غاب عنك.
ثم إن جهاز الأمن، والشرطة، والنجدة، والمرور ـ مثلاً ـ كل ذلك معرَّض للخطأ في التعامل مع موقف من المواقف، فهل يسوّغ هذا أن ننادي بهدم هذه المؤسسات التي لا غنى للمجتمع عنها؟!
ولنبتعد قليلاًً عن هذا التوتر النفسي ونتساءل: ما موقفنا جميعًا إذا كان هذا الرجل يمشي مع إحدى بناتنا أو أخواتنا أو نسائنا، سواءً كان ذلك بعد اختطاف أو تغرير أو إغراء أو غيره؟ أفلا سنفزع إلى الجهات المختصة لتحفظ لنا عرضنا وشرفنا من ذئاب البشر؟ فما المانع أن تكون الهيئة هي هذه الجهة المخولة من ولي الأمر بحفظ هذه الأعراض؟! ولنفترض أن بجوار بيت أحدنا فندقًا فيه صالة خمور، وبعض أبنائنا يذهب إليه لذلك، ألا يسرنا أن تكون هناك هيئة لها هيبتها حتى يسلم أبناؤنا من هذا البلاء؟ وكذا لو كان فيه صالة أو غرفة أو أكثر للفواحش الأخرى، فمن منا جميعًا ـ المانعين والمطالبين ـ يرضى بأن تذهب إحدى بناته أو أخواته لذلك؟ ثم أليس وجود الهيئة يوجد نوع هيبة من تعدّي حدود الله عند أبنائنا وبناتنا، فيتركون الحوم حول مواطن الشبهات رهبة، ثم يكون ذلك منهم عادة وسجية، ثم يصير ديانة وطاعة لله عز وجل؟ نعم، لا يجوز لنا أن ننكر احتمال وقوع خطأ في تصرف الهيئة أو بعض رجالها، لكن العاقل ينظر للأمور من جميع جوانبها ، وينظر خير الخيرين فيتبعه ، وشر الشرين فيجتنبه .
3- وهناك من يقول : ستكون هذه الهيئة مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية!!
ولا أدري ما وجه العيب بذلك؟! وهذا من الجهل المركب؛ فإن المصالح التي جرت على أيدي الهيئة في السعودية لا ينكرها منصف ، والأخطاء التي وقعت من بعض رجالها ؛ لم ينكر وقوعها أهل العلم ولا المسؤولون المنصفون هناك، ويسعى الصادقون في علاجها ما أمكن، لكن الحكم على الشيء كله من خلال بعض الشواذ أو الأخطاء ليس عمل المنصفين، إنما هو بضاعة المفلسين أهل التشويه والتنفير فقط، والواجب على المرء قبل أن يحسِّن أويقبِّح أن ينظر إلى جوابه إذا وقف بين يدي ربه، لا مجرد أن المرء ينافح بقضه وقضيضه عن رأيه وإن جانب العقل الصحيح !!
وأكثر من يتبرم من الهيئة في السعودية إما أقوام تلوثت مشاربهم وعقولهم، أو آخرون غرقوا في الشهوات، وقد يشكو منها رجل صالح تعرّض لجفاء أو أسلوب مشين، لكن "الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث"، وقد قيل:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلاً أن تُعد معايبه
4- وهناك من يقول: الهيئة ستفتح باب البطالة ، وتزيد الطين بلة!!.
والجواب: خلاصة عمل الهيئة: أن ترفع ما تلخص إليها من معلومات إلى من هو فوقها من الجهات المختصة ، ثم هي التي تقوم بإبطال المنكر ، أو تخوِّل الهيئة في ذلك ، وإذا كان هناك من يأكل ويطعم أهله من عمل حرام متفق على حرمته ؛ فلا يجوز أن يبقى على ذلك، ولا يجوز أن نتظاهر برحمته والعطف عليه، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وغُذِي بالحرام، فالله أرحم به منا، وهو الذي حرم عليه أكل الحرام والسحت، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجًا إذا صدق مع الله، كما قال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}الطل ق2-3، وقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ابن حبان والحاكم :"إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل، إلا بدّلك الله به ما هو خير لك منه" صححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ وقوله صلى الله عليه وسلم : "إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته" صحيح أخرجه أحمد، ولو أننا أصلحنا ما في المجتمع من الفساد و المفسدين، لفاضت الأموال حتى لا يبقى في الناس عاطل عن العمل ، فلو نادى أصحاب هذا العذر بإصلاح الأوضاع وإنهاء الفساد والمفسدين، وكانوا جادين في ذلك، وأصلحوا من أنفسهم وذويهم، وكل منا أصلح من نفسه وذويه؛ لكان خيرًا لنا ولهم في محاربة البطالة، بدل أن يقفوا بهذا العذر أمام من ينادي بهيئة لها لوائحها، وضوابطها، وصلاحياتها من ولي الأمر، بزعم أن هذا سيزيد من البطالة !!
5- وهناك من يقول : الهيئة ستكون عصا في يد حزب الإصلاح ليضرب بها بقية الأحزاب، ويصفِّي خصومه السياسيين.
والجواب: أن الواجب على ولي الأمر أن يجعلها هيئة دينية غير خاضعة للعمل الحزبي ، إنما يكون فيها المخلصون من جميع الطوائف ، أو يجتمع فيها العقلاء الذين يجتمعون على هذا الأمر دون مزايدات حزبية، حتى يبارك الله في أثرها، وتجتمع عليها القلوب ، ولو سلمنا بأنها ستكون تابعة لحزب الإصلاح، فنحن لا ندعي أن جميع من في الإصلاح يقدمون مصلحة الحزب على الدين والوطن، ولا يبالون بمراد الله عز وجل، فهناك في الحزب عقلاء ومخلصون همهم الدين والمصلحة العامة لا مجرد المصلحة الحزبية الضيقة ، فننصحهم بتقوى الله والعمل من أجل المصالح العامة، لا للحزب فقط، وعليهم أن يراعوا آداب وشروط الآمر والناهي، فإذا استخدمها الحزب في غير مسارها ومقصودها فلكل حادثة حديث، أقول هذا مع اختلافي مع الحزب في عدة نقاط، وهذا أمر مشهور، لكن الحق أحق أن يُتَّبع، والخلاف في شيء ما لا يلزم منه الخلاف فيما هو حق ورضى لله عز وجل، فإن هذا من الحمية الجاهلية، التي يقبل بها المرء كل ما قاله صاحب له بعجره وبجره، ويرد ما قاله مخالفه!! فلا حاجة لأن نجمع جرامزنا وننادي بالمنع من اعتماد الهيئة لأمر ظني أو وهمي، لأن هذا فيه ما فيه، والمؤمن هو الذي تسره الحسنة وإن كانت من غيره، لأنها ترضي الله تعالى، فيرضى بما رضي الله به، كما أن المؤمن تسوؤه السيئة ولو كانت منه أو من أقرب الناس إليه، لأن المؤمن يجب عليه أن يحب ما يحبه الله، وإن كان قد صدر من عدوه ـ فضلاً عن رجل من أهل السنة وإن خالف في بعض الأمور ـ ويبغض ما يبغضه الله وإن صدر من صديقه، أو ممن هو في حزبه أو مذهبه، وإلا كان الحب في غير الله، وهذا وبالٌ على أهله في الدارين.
وهؤلاء المخالفون لحزب الإصلاح لم يمتنعوا من الاجتماع معه في المعارضة، إذ جمعهم هدف مشترك ـ وسواء أصابوا في ذلك أم لا، هذا أمر آخر، ليس هذا موضع تفصيله ـ ولم يقولوا: حزب الإصلاح أقوى أحزاب المعارضة، ونخشى أن يتخذنا وسيلة لمآربه، ثم ينقض علينا!! فلماذا خافوا من حزب الإصلاح في الهيئة ـ لو سلمنا بأن الهيئة كذلك ـ ولم يخافوا منه فيما هو أعظم؟!
وأيضًا فالموقف الرسمي الظاهر من حزب الإصلاح المنع من الهيئة، كما في بيان اللقاء المشترك، بل بعضهم يرى أن الهيئة دسيسة مؤتمرية لإحراج حزب الإصلاح، ووضعه بين أمرين كليهما مُرّ!! فليس الأمر على إطلاق صاحب هذا الدليل في المنع من الهيئة، والله أعلم.
6- وهناك من لا يرى فكرة الهيئة لأنه لا يرى أصلاً فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يريد الانفلات والضياع!!.
والجواب: إن كان هذا صادرًا من مسلم يؤمن بالقرآن والسنة ، فيكفيه التأمل في الأدلة السابقة، ففيها الكفاية والهداية، والله تعالى يقول: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}الج ثية6، وإن صدر هذا من غير مسلم أصلاً، فقدوة المسلمين في نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعزهم في التمسك بدينهم، لا في التبعية للشرق أو الغرب ، والله أعلم بمصلحتنا من أنفسنا ومن الآخرين، ونعوذ بالله أن نكون ببغاوات نردد ما يقال دون تدبر للحال والمآل ، ونحن أمة غنية بقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقبيح بالغني أن يمد يده إلى غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، وجوابنا على غير المسلمين هو قول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}آل عمران64.
7- وهناك من يقول: الهيئة ضد المرأة وعفتها، وتقلل من حريتها في جسدها !!
والجواب: أن الهيئة يُفترض فيها أنها أُنشئت للحفاظ على المرأة وطهرها وعفتها وغير ذلك من أمور ترضي الله عز وجل،كما سبق بيانه، فكيف تُقلب الحقائق إلى هذا الحد؟! وليس إنشاء الهيئة دالاً على أن النساء لم يعد عندهن طهر أو عفاف ـ كما يدعي بعض النساء ـ بل معناه الحفاظ على هذا الطهر والعفاف الحاصليْن ممن ضعفت نفوسهم من الجنسين، وإذا كان مجرد الخضوع في القول يثير طمع مرضى القلوب، كما قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}الأ زاب32، فما ظنكم بالتي تسير وهي كاسية عارية؟ وهل أطلق الشرع أو العرف أو العقل للمرأة الحرية في جسدها إلا حيث أحل الله لها ذلك؟ ولتعتبر المرأة المسلمة في اليمن بما جرى لنساء مسلمات في بلاد أخرى مسلمة وغير مسلمة لمَّا سلكن مسلك التمرد على حدود الله عز و جل، ونظرن إلى الحجاب على أنه رجعية وتخلف، وأنه لا بد من التحرر من قيوده وأغلاله، أين رست السفينة بهن وبمن اتبعهن من بنات جنسهن، والسعيد من وُعظ بغيره، وإن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر.
والواجب على النساء اللاتي يطالبن بفتح الباب لحرياتهن أن يُذكِّرن أنفسهن بقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "من سن سنة حسنة؛، فله أجرها وأجر من علم بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم، فرُّبَّ امرأة تنادي بعدم التقيد بالشريعة في هذا الباب، وما بقي من عمرها إلا القليل، فتلقى الله على سوء الخاتمة، وتتحمل أوزار من ضللن بسببها، وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، ومعلوم أن كثيرًا من النساء لا يعرفن الحكم الشرعي من جميع جوانبه، ولا يعرفن المؤامرات عليهن، فعليهن أن يسألن العلماء لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}الن ل43، والواجب عليهن أن ينظرن للعلماء على أنهم آباء لهن وليسوا بأعداء !!
8- وهناك من يقول: هذا الأمر راجع إلى الدولة، أو إلى المجتمع بجميع منظماته، لا إلى هيئة معينة.
والجواب: نعم، هذا راجع إلى الدولة، والعلماء يصرحون بأنهم راجعون في ذلك إلى السلطة الحاكمة للبلاد، ولذلك يطلبون اعتماد الهيئة من قبل ولي الأمر، ولم يفتئتوا على الدولة، بل صرح العلماء بأن عملهم قائم على النصيحة بالتي هي أحسن، وأما التغيير باليد فراجع إلى الدولة، وهذا الضجيج الإعلامي ضد العلماء والهيئة لمجرد لقاء العلماء بولي الأمر، وطلبهم الترخيص للهيئة، وقبل أن يعرف كثير من الناس لوائح الهيئة مفصلة، فشنوا عليها وعلى العلماء الغارات التي تنبئ عن أمر خطير ـ والله المستعان ـ ووضع كل منهم تصورًا للهيئة من عند نفسه، ثم أخذ يهاجمه، دون وجود عدو حقيقي، بل هو عدو وهمي، فكان كمن يضارب الجن، كما قال بعض أهل العلم ـ حفظه الله ـ.
وكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر راجعًا إلى جميع طوائف المجتمع؛ أمر صحيح، للأدلة الدالة على عموم صلاحية التغيير لمن رأى منكرًا، وهو متأهل لذلك، لكن لا يلزم من ذلك عدم اتخاذ هيئة مخصصة لذلك، كما سبق في اتخاذ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ووزارة التربية والتعليم، والثقافة، والشباب، وغير ذلك، فلا مانع إذًا من تخصيص فئة لهذا الأمر، كما قال تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ل عمران104، وهذا للتبعيض كما هو ظاهر، مع أن الأمة بعمومها مخاطبة بذلك، لحديث: "من رأى منكم منكرًا فليغيره ...." الحديث.
9- وهناك من يقول: هذا الأمر مخالف للدستور والقانون.
والجواب: أن هذا ليس مخالفًا للدستور والقانون، لأن الدستور اليمني ينص على أن جميع القوانين مرجعها الشريعة الإسلامية، وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم شعائر الدين، ولو سلمنا بأن القانون يخالف الشريعة السمحة في كثير أو قليل؛ فالشريعة هي المقدمة عليه وعلى غيره، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}الأحز ب36، ويقول سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}النس ء65.
10- وهناك من يقول: إن اعتماد الهيئة انتزاع لأعظم موهبة وهبها الله للإنسان ذكرًا كان أو أنثى، وهي الحرية.
والجواب: أن أعظم هبة وهبها الله للإنسان هي العقل الصحيح، والهداية، وتقوى الله، وإلا فلا يضر العبدَ التقيَّ أنه ليس حرًّا، ولا تنفع الحريةُ حرًّا فاجرًا غافلاً عن الله عز وجل، وإن كانت الحرية نعمة عظيمة جدًّا، إلا أنه لا بد من وضع كل شيء في موضعه، بل إن الحرية الحقيقية هي تمام العبودية لله عز وجل، وإلا فكما قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
هربوا من الرق الذي خُلقوا له *** فبُلُوا برق النفس والشيطان!!
ثم إنه قد سبق بأن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تنافي الحريات المكفولة بالشرع، لأن الحرية للشخص ليست حرية بلا حدود، فكل ما يفضي إلى انتهاك حقوق الآخرين فهو ممنوع شرعًا، ثم إن الذي وهب الحرية لنا هو الذي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا تعارض ولا تناقض عند المنصفين الذين يبحثون عن الحق، وينطلقون من قناعات شريفة لا من تعبئة مريبة، والله أعلم.
11- وهناك من يرفض إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أن هذا نكوص وعودة إلى الوراء، وأن هذا يشبه الحركة الدينية في أوربا قبل عصر النهضة في محاربتها للعلوم الدنيوية النافعة!!.
والجواب: أن هذا مبالغة في التشاؤم تجاه الهيئة، وهو قياس مع الفارق أيضًا، فالرهبان في العصور الوسطى كانوا يحكمون الناس في أوربا بصكوك الغفران، والخرافات التي لم ينزل الله بها من سلطان، ويقفون ضد أي جديد وإن كان نافعًا، وكانوا يحكمون على العلماء وأهل الاختراعات والاكتشافات النافعة بالقتل والحرق، حتى يبقى الناس عبيدًا للرهبان، ويستمروا في جهالاتهم التي تمكن لتسلط الرهبان، أما علماء الإسلام فبريئون من ذلك، وماضيهم وحاضرهم يدل على أنهم لا يأمرون ولا ينهون إلا ببرهان من عند الله، وأنهم يشجعون كل جديد نافع يفضي إلى عمارة الدين والدنيا، فكيف يقيس منصف هذا بذاك؟! أم أن المراد أن يرمي المرء مخالفه بكل حَجَرٍ ومَدَرٍ وبَعْرٍ وبدون معرفة لما يخرج من رأسه؟!
12- ومنهم من يرفض الهيئة، لأنها تؤدي إلى تدخل الدين في الدولة!!
والجواب: الدين هو الذي يحكم كل شيء في حياة المسلم ـ سواء كان فردًا أو دولة ـ ولا يجوز لمسلم أن يعتقد أن دينه لا يمثل في حياته إلا جزءًا يسيرًا من تصرفاته، ودقائق معلومات من أوقاته، فإن هذا ظلم للدين، واتهام له بالنقص والقصور وعدم الشمولية، والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}المائدة3، فكيف يمتنُّ الله علينا بكمال الدين وتمام النعمة وهو لا يمثّل في حياتنا إلا شيئًا يسيرا، وبقية أعمارنا تحكمنا فيها آراء الرجال؟!.
ونحن نقرأ كثيرًا لبعض الإعلاميين إذا أراد أن يرد على فتوى أحد العلماء أو طلاب العلم، وقد ضيقت ـ في نظره ـ واسعًا، فنجده يقول: هذا تضييق لواسع، والدين الإسلامي دين واسع بسعة الكون والإنسان والزمان والمكان، ودين شامل لجميع نواحي الحياة، وهذه كلمة حق، ثم نرى بعض الناس ينكصون ويرجعون القهقرى، فيقولون: الدين لا يتدخل في الدولة، ولا يُسمح له بذلك!!.
فلا أدري هل نسي هؤلاء أن الدولة الإسلامية فيما مضى لما كان الدين يحكمها حقًا قد فتح المسلمون بها الفتوحات ومصّروا الأمصار، ودان لهم العرب والعجم عن طواعية ورغبة وقناعة بما يدعو إليه الإسلام؟ وأسألهم: هل انتشر الإسلام إلى أقصى الشرق والغرب بالديمقراطية، أو بالقومية، أو الرأسمالية أو غيرها من الأنظمة؟ أم بالدولة التي يحكمها الدين؟ هل زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم كان الدين لا يتدخل في الدولة، أم أنه كان الموجِّه الوحيد لها؟!! وهل عزَّ المسلمون وأمنوا تحت ظلال الدين أم لا؟
أليس الله عز وجل يقول في القرآن الكريم: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج4 1، أليس هذا إخبارًا عن حال أهل التمكين، ومنهم الدول الممكنة المهيمنة؟!
أيها المانعون: أنتم الآن بعملكم هذا تجعلون الدين الإسلامي الشامل الكامل ـ علمتم أم جهلتم ـ كخرافات وشهوات رهبان أوربا في القرون الوسطى، حيث استقر الأمر في أوربا ـ وحُقّ لهم ذلك ـ على فصل الدين المخترع المبتدع عند الرهبان الجهلة عن الدولة، وتريدون أن يكون الإسلام كذلك!! فهل تساوون في الإقصاء عن الدولة دين الإسلام الذي قال الله فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}المائدة3 وبين خرافات وضلالات رهبان أوربا؟! {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }الصافات154؟! وما هو جوابكم إذا وقفتم بين يدي الله عز وجل ليس بينكم وبينه ترجمان، وسألكم: هل ديني الذي رضيته لخلقى أجمعين لم يكن صالحًا في زمنكم، ولا قادرًا على حل مشاكلكم العامة والخاصة؟ وهل أنتم أعلم أم الله؟{وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}الب رة216.
ثم إن دستور الدولة يصرِّح ـ ولله الحمد ـ بأن جميع القوانين مرجعها الشريعة الإسلامية، فجعل الدين حاكمًا للفرد والدولة، فمن الذي خالف الشرع والدستور والقانون؟! يا أخا الإسلام، أنت رجل مسلم لا يمكن أن تتخلى عن توجيهات دينك سواء كنت فردًا، أو هيئة، أو مؤسسة، أو دولة، فلا تغتر بالزخارف، ولا تلهث وراء السراب، ولا تكن ريشة في مهب الريح!!
وقد رأينا كثيرًا من غير المسلمين ممن ينادون بفصل الدين عن الدولة، ويرفعون شعار عدم التأثر بالأديان في القضايا الدولية والسياسية، رأيناهم ينصرون ما يعتقدونه دينا، فيتصلبون في مواقفهم العدوانية في فلسطين وغيرها، ويوالي بعضهم بعضًا ضد كثير من حقوق المسلمين دولاً وشعوبًا، فلماذا يكون المسلمون فقط هم الضحية لهذه الأفكار المحدثة، وأما سدنتها فيتخلون عنها، ويتمسكون بعقائدهم؟!
13- ومنهم من يرفض الهيئة لأنها تخالف النظام الديمقراطي القائم على التعددية، والرأي والرأي الآخر، قائلاً: إذا قامت الهيئة فعلى الديمقراطية السلام، لأن الهيئة ستمارس الوصاية الفكرية الدينية، وإطلاق التهم على الآخرين الذين يخالفونها في الرأي!!.
والجواب: أن العلماء صرحوا بأن عملهم ـ حسب اللوائح ـ لا يعدو عن كونه نصيحة بالتي هي أحسن، أو إخبار الجهات المختصة بأمور تخل بالمجتمع وتغضب الله، لتتخذ هذه الجهات تجاهها اللازم شرعًا، إذ أن الهيئة ليست جهة قضائية أو تنفيذية خارج الدستور المعمول به في البلاد، فلماذا هذا التهويل؟!
ثم إن دستور البلاد ينص على عدم مخالفة الشريعة في شيء من القوانين، والشريعة حاكمة للديمقراطية وليس العكس.
وأقول للديمقراطيين: هل الديمقراطية في نظركم تفتح مجال الحريات للناس بلا قيود ولا حدود؟ أليست هناك قضايا لا يجوز المساس بها حتى في النظام الديمقراطي؟: كأمن البلاد، ووحدتها، وثوابتها، وغير ذلك؟ ألا تعلمون أن للديمقراطية مخالب قد تكون أشد ضراوة من مخالب الديكتاتورية في بعض الحالات؟ فلماذا تخافون من الهيئة وهي تحافظ على أمن البلاد وثوابتها ووحدتها؟ إذ أن رجال الهيئة يتعاونون مع الجهات المختصة في منع تجارات الهروين والمخدرات، وفي منع حالات السطو واختطاف الأعراض، وفي إغلاق المحلات المشبوهة بما يخل بشرف البلاد وأصالتها، فهل هذا كله مما يحقق الأمن أم لا؟ وهل الديمقراطية عند أهلها تمنع من الأمن والاستقرار؟ وهل إذا كانت كذلك ننافح عنها وإن أودت بأمننا وسلامتنا؟! أم أننا نأخذ من كل مذهب ـ على ما فيه ـ أردأه؟.
14- ومنهم من يرفض الهيئة لأن اليمن مليء بالمشاكل والمآسي: مثل الخلافات الطائفية، والفساد المالي والإداري، والمنكرات السياسية الكبرى، وتجارة الأطفال، والثأر، والحروب، والفقر، وليس اليمن ـ في نظره ـ مهددًا بنقص الفضيلة والوازع الديني والأخلاقي، إنما هو مهدد بضعف التنمية والفقر، ونحو ذلك، فلا حاجة إلى طلب إنشاء هيئة الفضيلة، ولكن اليمن بحاجة إلى علاج هذه المزمنات!!
والجواب: نحن لا ننكر حاجة اليمن إلى علاج الأزمات المذكورة وغيرها، وعندها سنكون من جملة من يسعدون بالرخاء والاستقرار، لكن لا يلزم من الحاجة إلى علاج هذه الأمراض إهمال العلاج الديني لجميع هذه الأزمات والمنكرات الأخرى، وإلا فهذا كلام من لا يدرك سُنَّة الله عز وجل في آثار المنكرات والذنوب وغوائلها وعواقبها على الأمم والشعوب، ولو تدبرنا ما في القرآن الكريم من عَرْضٍ للأمم التي أصابها العذاب؛ نجد أن الله عز وجل قد ذكر عن كل أمة ذنبًا اشتهرت به، وحَمَلَتْها شهواتها على معارضة أنبيائهم ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فأرسل الله عليهم عذابه، فالذنوب والمنكرات هي ميراث الأمم الهالكة، والشيطان حريص على أن يظل بالمرء المسلم أو المجتمع المسلم حتى تستحكم به الشهوات والغفلات فيقع في الإعراض عن الله، وفي الصد عن سبيل الله، فينزل عليه عذاب الله وعقابه.
فسنة الله في أهل الذنوب: الفقر، والذل، والصغار، ونزع الهيبة من قلوب الأعداء، وتفشي الأمراض الخطيرة، ومحق البركة، ووقوع البأس الشديد بين الناس، وغير ذلك، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}فاطر4 3، فإذا أردنا علاج الفقر، وضعف التنمية، والفساد الإداري والمالي، والمنكرات السياسية وغيرها، فعلينا بطاعة الله والإنابة إليه، وتعظيم شعائره، ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جملة الأسباب العظيمة لعز الدنيا والآخرة، كما سبق من أدلة وبراهين، فمن كان يؤمن بها ففيها الكفاية والهداية، ومن أعرض عنها، فالله الموعد.
يتبــــــع
رابط الجواب
http://www.sulaymani.net/play.php?catsmktba=676