السؤال
♦ الملخص:

فتاة تتحدث عن عصرنا المادي الذي نعيش فيه، وتسأل عن طريق لتزكية النفس وخلْعها من ملوِّثات الدنيا، وتسأل: من أين البداية؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أظن أنه لا يخفى عليكم أننا في عصر كثُر فيه تعلُّقُ الإنسان بالماديات، وركن إلى الدنيا، وبعدُ فقد رأيتُ بعض هذا في نفسي - أسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين العافية - فقمتُ ببحث على الإنترنت، فعرفتُ أنه يجب على الإنسان أن يزكِّيَ نفسه، ولذا ساقني الله إلى شبكتم لسؤالكم: كيف يزكي الإنسان نفسه، وكيف يجاهدها؟ وهل أبدأ بقراءة الكتب التي تُعنَى بمعرفة الله أو تلك التي موضوعها تربية النفس وعلاج القلب؟ وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كما ذكرتِ أختنا الكريمة، فإن الناظر في حال الناس اليوم يجد أن أكثرهم رَكَنَ إلى الدنيا، وتعلَّق قلبه بها، وقد بيَّن الله تعالى حقيقة الدنيا، فقال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
ومعنى ﴿ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾؛ أي: هي الحياة الكاملة الحقيقية، وبيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الدنيا، وأنها زائلة ولا تساوي شيئًا؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنكِبي، فقال: كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ، فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضِكَ، ومن حياتك لموتِكَ))[1].
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: ((مَرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أَطِينُ حائطًا لي أنا وأمي، فقال: ما هذا يا عبدالله؟ فقلت: يا رسول الله، شيءٌ أُصلحه، فقال: الأمرُ أسرعُ من ذلك))[2].
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانتِ الدنيا تعدِلُ عند الله جَنَاحَ بعوضة، ما سقى كافرًا منها شَرْبَةَ ماء))[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاثٌ: ما أكل فأفنى، أو لبِسَ فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتاركُهُ للناس))[4].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بالسوق داخلًا من بعض العَالِيَةِ، والناس كَنَفَتَهُ، فمرَّ بِجَدْيٍ أسَكٍّ[5] ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسَكُّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله، لَلدُّنيا أهون على الله من هذا عليكم))[6].
وعن مستورد أخي بني فهر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟))[7].
وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبسَط الدنيا عليكم، كما بُسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهْلِكَكُمْ كما أهلكتهم))[8].
وهكذا كان يعيش أكرم الناس على الله تعالى، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: ((والله يا بن أختي، إن كنا لَنَنْظُرُ إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أَهِلَّةٍ في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ، قال: قلت: يا خالة، فما كان يُعيِّشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيرانٌ من الأنصار، وكانت لهم مَنَائِحُ[9]، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها، فيَسْقِينَاهُ))[10].
وعن عمر رضي الله عنه ((أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وِسَادةٌ من أَدَمٍ، حَشْوُها لِيفٌ، وإن عند رجليه قَرَظًا مَضْبُورًا[11]، وعند رأسه أُهُبًا مُعَلَّقَةً، فرأيت أثرَ الحصير في جَنْبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكيتُ، فقال: ما يُبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا ترضى أن تكون لهما الدنيا، ولك الآخرة؟))، وفي لفظ: ((وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، فنظرت ببصري في خِزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبْضَةٍ من شَعيرٍ نحوَ الصَّاعِ، ومثلِها قَرَظًا في ناحية الغرفة))[12].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كَبِدٍ، إلا شطرُ شَعيرٍ في رفٍّ لي، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ))[13].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِرْعُهُ مرهونةٌ عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير))[14].
وعن عمرو بن الحارث رضي الله عنه، قال: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا عبدًا، ولا أمةً، إلا بَغْلَتَهُ البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقةً))[15].
فهذه هي الدنيا، وهذا حالُ أكرمِ الخلق على الله، ولو كانت الدنيا ذات قيمة، لعاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم مُنعَّمًا بملذاتها، ولكنها لمَّا كانت لا تساوي شيئًا، فإن الله تعالى يعطيها للبَرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر، وأما الآخرة فلا تُعطَى إلا للمؤمنين فقط؛ لأنها هي دار القرار، هي دار الحياة الحقيقية.
وأنتِ أختنا الكريمة عليكِ بقراءة كُتُبٍ في العقيدة والأدب والزهد، ثم قراءة كتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسِيَرِ الصالحين؛ فهذه أفضل ما يزكِّي الإنسان بها نفسه.
وأنصحكِ في هذا بقراءة كتاب "أصول الإيمان" لمجموعة علماء، وكتاب "منهاج المسلم" للشيخ أبي بكر الجزائري، وكتاب "هذا الحبيب يا محب" للشيخ الجزائري أيضًا، وكتاب "الزهد" للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "الداء والدواء" للإمام ابن القيم، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
-------------
[1] أخرجه البخاري (6416).
[2] أخرجه ابن أبي شيبة (34305)، وأحمد (6502)، والبخاري في "الأدب المفرد" (456)، وأبو داود (5235)، وابن ماجه (4160)، وابن حبان (2996)، وصححه الألباني.
[3] أخرجه الترمذي (2320)، وابن ماجه (4110)، وصححه الألباني.
[4] أخرجه مسلم (2959).
[5] (جَدْيٌ أسكٌّ): أي: صغير الأذنين، وهو عيب في الجدي.
[6] أخرجه مسلم (2957).
[7] أخرجه مسلم (2858).
[8] متفق عليه: أخرجه البخاري (3158)، ومسلم (2961).
[9](منائح): جمع منيحة؛ وهي الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلًا يشرب لبنها، ثم يردُّها.
[10] متفق عليه: أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972).
[11] (قَرَظًا): القرظ ورق يُدبَغ به، (مَضْبورًا): مجموعًا.
[12] متفق عليه: أخرجه البخاري (2731) و(4913)، ومسلم (1479).

[13] متفق عليه: أخرجه البخاري (3097)، ومسلم (2973).
[14] أخرجه البخاري (2916).
[15] أخرجه البخاري (4461).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6iqjLAONg