الإبراهيمية.. وآثارها على المجتمعات العربية


. يوسف أبو حشيش




إن من أخطر التحديات الفكرية التي يواجهها المفكرون والمثقفون والعامة هي المصطلحات التي تحمل أكثر من وجه؛ ذلك أن بريق المصطلح واعتياده يُخْفِي وراءه الوجه القبيح الذي يحمله، ومع كثرة استخدامه تختلط الأوراق، وتُمرَّر المشروعات الهدّامة، ويَغدو المُعارِض للوجه القبيح غريبًا بين الناس.. هذا هو حال مصطلح «الديانة الإبراهيمية» أو وحدة الأديان، أو الديانة العالمية، ففي طياتها معانٍ مقبولة، مثل التعايش والسلام، ولكنَّ استعمال تلك المعاني إنما هو تمرير للمعاني الباطلة، التي تتمثَّل بأهداف مُروّجيها بتمزيق مكوّنات وروابط الهوية الإسلامية والعربية لدول المنطقة، وبالتالي تيسير السيطرة والتحكُّم بها وبشعوبها لصالح «إسرائيل».

و«الديانات الإبراهيمية» مصطلح تم إطلاقه مع مطلع الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة، وجاء طَرْحه ضِمْن مفهوم جديد لحلّ النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية متشابكة، وهو مفهوم «الدبلوماسية الروحية»، لتمثّل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد؛ فقد تم إطلاق لفظ «الإبراهيمية» نسبةً إلى نبي الله إبراهيم -عليه السلام-، ورمزيته في الأديان السماوية الثلاثة؛ ليكون بوتقةً لصَهْر الخلافات وتنحيتها جانبًا، وفي هذا الإطار، يرى «جيمس روزين» المحامي والقاضي الأمريكي أن مستقبل العالم سيرتكز على السلام العالمي الذي سيتحقق عبر الديانات الإبراهيمية والعقائد المتداخلة، كمدخل جديد لحل النزاعات في العلاقات الدولية.

ويأتي هذا الطرح كبديل لنظرية «صامويل هنتنجتون» التي أشار إليها في كتابه «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»؛ حيث يقول: «إن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرّك الرئيس للنزاعات بين البشر في السنوات القادمة».

بالإضافة إلى نظرية «فرانسيس فوكوياما» الذي اشتهر بكتابه «نهاية التاريخ والإنسان»، والذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان.

لذلك يؤكد أنصار فكرة الإبراهيمية أنها جاءت لتعكس نهجًا جديدًا داخل عِلْم العلاقات الدولية، كانت أهمُّ ملامحه ظهورَ مفاهيم جديدة؛ كالتسامح العالمي، والأُخوة الإنسانية، والحب، والوئام، كمفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل.

إن الحقيقة التي لا شك فيها أن ديانة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- هي ديانة التوحيد الذي لا شِرْك فيه، ولذلك سمَّاه الله بالحنيف؛ لأنه حَنِفَ إلى دين الله، قال -تعالى-: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]، كما دعا القرآن الكريم المسلمين في غير موضع إلى أن يُعلنوا أن دينهم هو ذاته دين إبراهيم -عليه السلام-، وأنّ أحقّ الناس بالانتساب إلى إبراهيم هم الذين أحيوا سُنّته واتَّبعوا منهجه، سواء أكانوا في عصره أو في العصور اللاحقة[1].

ولسنا هنا بصدد الحديث حول تأكيد المُؤكَّد، من وحدة المنهج والعقيدة الإسلامية مع ما جاء به إبراهيم -عليه السلام-، غير أن الدعوة «الإبراهيمية» في حقيقتها يُرَاد بها تبديل الإسلام وتغيير عقيدة المسلمين بشكل مطلق، وقد بُذلت في سبيل ذلك جهود كبيرة، من بينها كثير من المؤتمرات التي أُقيمت، والمراكز الإبراهيمية والمعاهد القائمة على اللاديانة، وغيرها من المؤسسات التي عَملت وما زالت تعمل؛ سعيًا وراء الهدف المنشود، وهو تغيير الإسلام.. لكنَّ هذا الدين عَصِيٌّ على ذلك، ولن يُغيَّر ولن يُبدَّل، فقد تولَّى الله -تعالى- حِفْظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

لكنَّ الأمر الذي يَعنينا في هذا المقام، وهو ما يستدعي الاهتمام، هو التأثيرات الناجمة عن الدعوة إلى الديانة الإبراهيمية والمشترك الإبراهيمي، والاتفاقيات التي تَبِعت ذلك، لا سيما الاتفاق بين الإمارات و«إسرائيل»؛ هذه الاتفاقيات التي بدأ حصدُ بعض ثمارها مؤخرًا، فضلاً عما يمكن أن تحمله السنوات القادمة من مخاطر محتملة وتداعيات جمَّة، قد تُلقي بظلالها على الشعوب العربية والإسلامية بأكملها.. وسوف نركّز خلال السطور القادمة على الجوانب الاجتماعية التي ظهرت أو قد تظهر فيها آثار هذا المشروع.

فحقيقة الأمر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أننا أمام مشروع أكبر بكثير من «سلام» بين «إسرائيل» والإمارات والبحرين أو غيرهما؛ فهذه الدول لم تحارب «إسرائيل» يومًا، لكن ما يزيد في خطورة الأمر هو ما يَكتنف هذه الدعوة الخطيرة من تلبيسٍ، واستخدامٍ متعمَّد للعديد من المصطلحات المخادعة كالسَّلام والقِيَم الإنسانية؛ ذلك أن بريق المصطلح واعتياده يُخْفِي وراءَه الوجه القبيح الذي يحمله، ومع كثرة الاستعمال تختلط الأوراق، وتُمرَّر المشروعات الهدَّامة، التي تسعى لتمزيق روابط الهوية العربية والإسلامية لدول المنطقة، وتفكيكها اجتماعيًّا[2].

وتُقدّم الدبلوماسية الروحية نفسها كمدخل لهذا المخطط، وَفْق ما توصَّلت إليه الباحثة المصرية هبة جمال الدين، وسبق استخدام الدبلوماسية الروحية عبر الحوار الخدمي القائم على مبادرات تنموية بين الأديان؛ بهدف بناء مشترك واقعي يتجسّد في مشروعات تنموية تكافح الفقر وترفع معدلات التنمية، وخاصةً في الدول النامية. وفي سبيل تطبيق هذا المفهوم، تم استحداث عدد من الأدوات العالمية التي تُوظَّف على أرض الواقع، منها: المنظمات الأممية، وفي مقدّمتها منظمة اليونيسكو، والمؤتمرات الدولية والقِمَم العالمية، والقوى العظمى والمعسكر الغربي، والسياحة الدينية المشتركة، ومشروعات ريادة الأعمال، والتواصل مع الشباب، والتعاونيات النسائية.

كما تنوعت مؤسسات «الدبلوماسية الروحية» بين برامج أو معاهد أكاديمية، ومؤسسات مجتمع مدني، وجمعيات ودوائر طلابية لبناء الكوادر الجديدة، وجميعها تهتمّ بالتأصيل النظري للفكر الجديد عبر تأويل النصوص بالأديان الثلاثة. ومن أبرز تلك المؤسسات: المركز العالمي للدبلوماسية الروحية، ومنظمة الأديان من أجل السلام، ومشروع الأرض الجديدة، ورؤية إبراهيم، ومركز العلاقات اليهودية الإسلامية، واتحاد تراث إبراهيم، وإعادة اتحاد عائلة إبراهيم، وغيرها، ويتم تمويل هذه المؤسسات ومشاريعها في مختلف مناطق العالم مِن قِبَل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، من خلال التمويل الحكوميّ والتبرعات الخاصة والمِنَح وتمويل الجامعات.

وتستهدف «الدبلوماسية الروحية» حلّ النزاع أو مَنْع حدوثه من أجل بناء سلام ديني عالمي، والتوصل إلى مشترك عبر تقارب الأديان السماوية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، أو ما يسمى الديانات الإبراهيمية أو الدين الإبراهيمي، أو الدين العالمي الواحد، للقضاء على الاختلافات والوصول إلى متَّفق يقبله المجتمع، عبر ترجمته لخدمات ملموسة يشعر بها المواطن (الحوار الخدمي) ليكون ولاؤه للدين الإبراهيمي، ويتم نقله إلى الخريطة السياسية؛ لأن هذا المسار سيكون مركزًا لصنع القرار السياسي في العالم؛ بهدف خَلْق السلام الديني العالمي.

ومن أبرز القوى الفاعلة التي تعمل على انتشار الدبلوماسية الروحية، والتمهيد للقبول بالمشترك الإبراهيمي: هي حركة «الصوفية العالمية»، إلى جانب مراكز البحث الإبراهيمية؛ فعلى الرغم من أن إرهاصات التيارات الصوفية تعود إلى عام 1910م، فإن تطويعها سياسيًّا كحركة على الأرض جاء مع مطلع الألفية، عبر إنشائها أُطُرًا مؤسسيَّة لتطبيق ونَشْر أفكارها في العالم، وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط، واستقطاب أتْبَاع جدد، وبَدْء الحوار مع القيادات الروحية الصوفية الإسلامية في الدول العربية خلال المؤتمرات الدولية والمحافل العالمية تحت إطار الأمم المتحدة.

ويُحذّر كثير من المختصين من أن خطورة التيارات الصوفية ليس فقط في الأفكار التي يروّج لها، ولكن انتقالها من مستوى الفكر إلى الحركة، وانتشارها عبر المجتمعات المحلية، ناشرة مفهوم «دبلوماسية المواطن»، والحديث عن «المواطن العالمي»، الذي لا يؤمن بالحدود، والحشد والتعبئة من أجل التغير السلمي للتشبيك مع المجتمع المحلي؛ حيث تشير بعض الدراسات إلى أن الصوفية العالمية ترفع شعار الماسونية القديمة؛ حيث يُعتقَد أن «جورج سوروس»، أبرز القيادات الصهيونية اليهودية في العالم، يُعدّ من أبرز ممولي «الصوفية العالمية».

كما يُمثّل مشروع «مسار إبراهيم» ترجمةً لمفهوم الدبلوماسية الروحية على الأرض؛ حيث يُستثمر لبناء ذاكرة تاريخية جديدة تتكامل خلالها طرائق الحج المشتركة بشعار «معًا نصلّي»، الذي يأخذ شكلاً تجميعيًّا للبشر عبر مسيرات السير المشترك، ولا يرفع أيّ شعارات سياسية، وإنما دينية وثقافية وسياحية، والمقصود بـ«مسار إبراهيم» هو الطريق الذي سلكه نبي الله إبراهيم وعائلته منذ 4000 عام مضت، الذي بدأ من حرّان في تركيا؛ حيث كلَّف الرُّبّ هذه الأسرة بالخروج، ومِن ثَمَّ قامت بالمرور على العديد من المدن التي تتقاطع مع تسع دول غير تركيا، وفقًا للمسيرة السماوية، وتنتهي بمدينة هبرون (الخليل الآن)؛ حيث دُفِنَ وفقًا لسفر التكوين، وتمر رحلة المسار بسوريا والعراق ومصر والأردن ولبنان والسعودية وفلسطين وإيران.

ويُشار إلى أن الكيان المؤسسي لـ«مبادرة مسار إبراهيم» عبارة عن منظمة غير سياسية وغير طائفية مفتوحة أمام الجميع، ترفع شعار «نحن نعيش ببساطة.. نزيل الغبار عن خطى قديمة»؛ لتؤكّد أن هدفها بالأساس هو إحياء التاريخ المشترك، وبناء الثقافة التاريخية المشتركة لأتباع الأديان الإبراهيمية، وكانت بداية مأسسة المسار عن طريق إنشاء مؤسسة «مبادرة طريق إبراهيم» كمبادرة أهلية تحت مظلة جامعة هارفارد؛ حيث يقع المقر الرئيسي للمؤسسة في بولدر، في ولاية كولورادو الأمريكية، ويديرها «ويليم أوري»، وتتم الأنشطة من خلال جامعة هارفارد التي استطاعت بناء شبكة من الجمعيات الشريكة، التي تم قبول تعاونها وفقًا لميثاق عمل ينظّم أُسُس التعاون، فلا تقبل عضوية أي جمعية إلا بعد التأكد من التزامها بفكر العمل المؤسسي للمبادرة.

إن «الإبراهيمية» تزعم أنها تقوم على قِيَم ومبادئ أخلاقية مشتركة بين الأديان؛ كالعدل والمساواة والحرية والتعايش السلمي، وغيرها، غير أن هذه المفاهيم التي تحمل في طياتها معاني حسنة يدعمها الإسلام، تقف بها الإبراهيمية عند هذا الحد، أما بقية التشريعات الإسلامية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الشريعة، فلا وجود لها في ظل الديانة الإبراهيمية؛ لأنها ليست مما هو مشترك، والمطلوب هو القِيَم المشتركة بين المجتمعات؛ كما زعموا، لذلك فإن الخاسر الأكبر في هذا كله هي المجتمعات الإسلامية.

ومن خلال الدعوات إلى «الإبراهيمية» تسعى «إسرائيل» إلى ضمان اعتراف الشباب العربي بها وبهويتها السياسية تحت غطاء علمي أو إنساني أو ثقافي أو رياضي يشرعن وجودها؛ حيث يراهن المشروع الإسرائيلي تحت غطاء «الإبراهيمية» والتطبيع، من أجل استمراريته، على الإضعاف الممنهج لرابط الانتماء لدى الجيل الجديد من الشباب العربي والمسلم، وذلك من خلال وسائل تطبيعية تدفع الشباب العربي إلى الاعتراف ضمنًا بوجود «دولة إسرائيلية». ولعل أخطر هذه الوسائل هي تلك التي تأخذ شكلاً علميًّا أو ثقافيًّا بعيدًا عن الشكل السياسي المباشر، الأمر الذي يوفر لها مدخلاً للتأثير على بعض الشباب العربي والمسلم.

وقد عملت «إسرائيل» في سبيل ذلك على اتّباع آليات عديدة في التطبيع مع الدول العربية؛ من خلال التبادل السياسي والاقتصادي والثقافي والرياضي والفني؛ حيث يتم التركيز على أن تتضمن بنود اتفاقيات السلام هذه الجوانب كافة، ويُشكّل التطبيع الثقافي والاجتماعي الحلقة الأخطر في سياسة التطبيع؛ وذلك لأن الثقافة مرتبطة بالوعي الجمعي للشعوب، وتشكيل القناعات وتغيير المواقف؛ من خلال الترويج لثقافة السلام التي ترفع شعارها «الإبراهيمية»، وقد شهدت السنوات الأخيرة مؤشرات عديدة للتسلل الإسرائيلي داخل المجتمع العربي والإسلامي، عبر فتح مكاتب تمثيل اقتصادية وثقافية وإعلامية، وفعاليات رياضية، ومشاركة وفود شبابية وطلابية وأكاديمية لندوات ومؤتمرات برعاية «إسرائيلية»[3].

إن ما يجري في المنطقة من تسابق عربي نحو التطبيع، الذي بدأته الإمارات مؤخرًا، ومعها البحرين، ثم إعلان السودان إقامة علاقات اقتصادية وتجارية، وبعدها المغرب، وغيرها من الخطوات العربية باتجاه التطبيع مع «إسرائيل»، ناهيك عن الأزمات السياسية المتلاحقة، والصراعات الداخلية والإقليمية، والمؤامرات المعلنة والخفية، كل ذلك يأتي في سياق تنفيذ المخطط الإبراهيمي، الذي يُمثّل مشروعًا لاستكمال فرض هيمنة وسيطرة وتحكُّم الاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وأداته «إسرائيل»، في مستقبل دول وشعوب المنطقة العربية والإسلامية؛ الأمر الذي يُوجِب علينا نحن المسلمين ألَّا نبقى مكتوفي الأيدي، وأن نقوم بما يلزم من التخطيط المدروس لمواجهة أضرار «الإبراهيمية» ومخاطرها.




[1] ينظر: إبراهيم الخليل -عليه السلام- في الأديان الثلاثة: دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، خالد إبراهيم الحسن، الأردن، جامعة آل البيت، 2000م.

[2] الإبراهيمية بين التعايش والسيطرة، هاني طالب، مركز دراسات الوحدة العربية، 2020م.

[3] تأثير اتفاقيات السلام وسياسات التطبيع على واقع القضية الفلسطينية 1978-2020م، رسالة ماجستير، عبد الكريم عبد الكريم، عمان، جامعة الشرق الأوسط، 2021م، ص75-77.