الإيدز الثقافي
طارق أحمد عبد الله

إن للشعر قواعده كما للبيت قواعده .. و إلا صار النظم ركيكاً في موسيقاه , هشاً في معناه , مفككاً في مبناه . و لا يقال للكلام شعراً إن لم تسحرك موسيقاه و تهزك هزاً .. و من للشعر بهذه الموسيقى سوى الوزن الذي يبعثها صاخبةً تارةً كما في الهزج .. و يبعثها طرباً تارةً كما فى الرمل .. و يبعثها قوية الإنشاد في المجمع تارةً كما فى الطويل .
و من لنا بمعرفة الأجناس من كل نوع سوى الخصائص المميزة لها .. فالزكر يمتاز بخصائص الزكورة كما أن الأنثى تمتاز بخصائص الأنوثة و بينهما يأتي المخنث الذي يأخذ من صفات الزكورة و الأنوثة معاً فلا هو بزكر و لا هو بأنثى.. كذلك الحال في الأجناس ألأدبيه .. فالشعر يمتاز بالوزن في أساسه ثم يتنوع بتنوع ألقافيه في القصيده الواحد ه و القصيده بدون قافيه إلي أن يصل قصيده التفعيلة الواحد ه .. كما أن الشعر ما هو إلا صناعة و لكل صناعة قوالب و مواد و معدات.. و للشعر موازينه التي هي قوالبه, و لغته التي هي مواده و معداته..واجب علينا – هنا – أن نفرق بين الصناعة و التصنع.. فالتصنع ما هو إلا تكاليف النفس ما ليس من طباعها.. بيد أن الصناعة تحفزها موهبة الصانع التي في طبعه . و لو أنصفنا القول لقلنا أن الصناعة ما هي إلا المهارة .. ما دام يتبعها من بعد الموهبة صقلٌ و مران .. و قصيدة النثر ما هي إلا نوع من الكسل الأدبي إذ أن من ينادون بها قعدت بهم هممهم عن تحصيل اللغة و الاجتهاد في ضروبها و النظر في تجارب الغير الصحيحة .. إذ ينادي هؤلاء النفر بنبذ الأوزان و القافية و كل ما يعطي للقصيدة العربية شكلها الطبيعي , و فوق كل هذا ينادون بنبذ كل ما سنه أسلافهم .. و لو أنصفوا الحكم ما دعوا لهذا الأمر الشنيع لان السلف لم يلزموا الغير بالنظم في ذات الأغراض التي تخص عصرهم أو تمت لمكانهم بصله . فالقصيدة العربية بطبعها تحمل بذرة التجديد علي مر الزمان و المكان .. و لا يكون التجديد بنبذ القاعدة فينهار البناء كما حدث في قصيدة النثر.. و لكن يكون التجديد في القصيدة مما تتضمنه من مواضيع و معانٍ تخص زماننا و مكاننا .. ومن العجائب أن من ينادون بهذه الدعوى هم رموز الثقافة و الفن ببلادي .. وإن أنس ما أنس ليلة كنت بالمجمع الثقافي بمدينة ودمدني – قصر الثقافة الآن – مع رهطٍ من أهل الثقافة و رموزها بهذه المدينة .. إذ كنا في إحدى الجلسات الشعرية التي يقيمها منتدى كنار الثقافي و كنت أحد أعضائه آنذاك و كان موضوع الجلسة مناقشة قصائد فتاتين من هواة الشعر .. و بدأ الأمر بقراءات من أشعارهن أو قل ( خواطرهن ) لأن ما قيل منهن لا يمت للشعر بصله من قريب أو بعيد و كان من بين الحضور رمز ثقافي بالمدينة. وكان مضمون تعليقه أن هذا الشعر جميل .. و أعقب عليه رمز ثقافي آخر بالمدينة إذ قال : أنه قد أعجبه هذا الشعر . و بعد أن أكتمل النقاش و جاء دوري فيه .. قلت لهم و بكل صراحة : أن هذا ليس بشعر إذ أن للشعر أسس و قواعد يعرف بها.. و هذا الذي قيل مجرد صوره من صور النثر يمكن تسميتها ( خواطر ) . و ثنى علي كلامي زميلي (أبوبكر عثمان ).. فما كان من الرمز الثقافي إلا أن قال : بأن الوزن مرحلة قد تجاوزها الناس . فقلت له : هل يمكن لنا أن نتجاوز قواعد اللغة العربية ؟؟. إننا يا سيدي لا يمكننا أن نتجاوز الوزن في الشعر بأي حالٍ ؟! و إن فعلنا ما تدعو إليه كيف لنا أن نميز الشعر من النثر و البغام من الزئير!!. و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ قال الرمز الثقافي الأول : من ينظم الشعر الموزون- عندي – كمن يعمل بحرفة ( النجارة ) ..الذي يستخدم مقياساً لنحت الخشب كلما و جد بالخشب زيادة بعد القياس .. أي بمعني أخر إن عملية وزن الشعر ما هي إلا ( نجارة ) . أنظروا هذا الرأي الفطير؟؟!. و في جلسةٍ أخري بذات المكان.. و كان موضوع النقاش أشعار بعض الأفراد من منتدى كنار الثقافي و كنت ضمن هؤلاء النفر .. و قد أثني الكثير من الحضور علي الشعر الحديث و أنصفوه ضاربين بالشكل القديم للقصيدة تجاهلاً .. و الأمر إلي هنا لم يكن مستغرباً لو لا مقالة أحد الرموز الثقافية ببلادي و له مساهمات في أجهزة الإعلام المختلفة و الصحف منها خاصة عن الشعر و القصة و الرواية هذا الناقد الذي بحجم الأمبيا.. قال: إن الشعر العمودي ما هو إلا ملئي فراغات .. يظن أن القصيدة مجموعة جوالات و كل بيتٍ منها عبارة عن جوال يملأ !!. القضية – يا سادتي – ليست قضية الشعر و اللا شعر فحسب،و من خلق هذه الفوضى الثقافية فجعلنا لا نميز بين الشعر و النثر , و الذكر و الأنثى.. جعل الأمر في غير أهله .. لو أنا ألزمنا هؤلاء المدعين مكانهم الطبيعي و لم نتح لهم التصدر في المنابر و القيادة الإعلامية ما وصلنا لهذا النتاج الغث من الثقافة..ولا هذه الأفكار الهدامة من الرموز الثقافية!
فلتسقط هذه الرموز..و لتسقط ثقافة الرموز ما دامت تصيبنا بمرض نقص المناعة المكتسب(الإيدز الثقافي) فندع اللغة الرصينة و نستبدلها باللغة الهجين.. و ندع عذب الشعر لغث القول و فساده .. إن مرض نقص المناعة الثقافي لا يصيب من نهل من المعين الثقافي القديم و أتبعه بتجارب الرواد من جيل النهضة أمثال( البارودي و طه حسين و العقاد و محمد سعيد العباسي و التجاني يوسف بشير و حسن نجيله و عبد الله الطيب وغيرهم و غيرهم من أفذاذ أمتنا العربية ) .