****************************** ****************************** ************
مقال بعنوان:
"معنى قولِهِمْ: هذا حَلُّ مَعْنى لا حلُّ إعرابٍ"

للشيخ الليبي: عادل محمّد مختار المغربيّ حفظه الله وبارك فيه
****************************** ****************************** *************
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فكثيرًا ما يمرُّ علينا في الحواشي والشروح والتعليقات والطُّرر قولُهم: "هذا حلُّ معنى لا حلُّ إعرابٍ"، ويَكْثُرُ عند المتقدِّمين خصوصًا في كتب التفسير استعمالُ عبارةِ: "تفسير معنى وتفسير إعراب"، ويَتَوَقَّف في فهم الفرق بينهما بعضُ من تمرُّ به هذه العبارةُ، فأردتُّ أن أكتب هذه الأسطر القليلة أذكِّر بها نفسي، لا على سبيل البحث واستقصاءِ النظر وتفريع المسائل وحَشْرِ النُّصوص وسياق الأدلة، بل هو جمع ما تفرَّق ولمّ شَعَثِ ما تناثر؛ لِأَعُوجَ إليه عند الاحتياج.
فأقول: أقدم من رأيتُه فرَّق بينهما اللُّغوي الفذّ ابن جِنِّي في كتابه "الخصائص" إذ عَقَدَ فصلًا تَرْجَمَهُ بالفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى، سَاقَ فيه كلامًا طويلًا كلُّه فوائد وغُرَرٌ شَوَارِد، نسوق منه هذا النَّص؛ لكفايته في المراد، قال: "فإذا مرَّ بك شيءٌ من هذا عن أصحابنا، فاحفظ نفسك منه، ولا تَسْتَرْسِلْ إليه، فإن أَمْكَنَكَ تقديرُ الإعرابِ عَلى سَمْتِ المعنى، فهو مَا لَا غايةَ وَرَاءَهُ، وإن كان تقديرُ الإعرابِ مخالفًا لتفسير المعنى تقبَّلت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصحَّحتَ طريقَ تقدير الإعراب؛ حتَّى لا يَشُذَّ شيءٌ منها عليك، وإياك أن تَسْتَرْسِلَ، فتُفْسِدَ ما تُؤْثِرُ إصلاحه" انتهى كلامه [راجع: "الخصائص": (1/ 384)، اكتفيت منه بهذا الموضع؛ لأنه طويل الذيل حلو الجنى].
وقد نقل السُّيوطي كلامه في كتابه "الأشباه والنظائر النحوية" طالعةَ الجزء الرابع من طبعة مؤسَّسة الرِّسالة فن الجمع والفرق، ثم قال: "قال ابن أبي الرَّبيع في شرح الإيضاح: قالوا: لا أفعل هذا بذي تَسْلَم، قال يعقوب: المعنى والله يسلِّمك، فهذا تفسير المعنى، وأما تفسير اللفظ ـــ يعني الإعراب ـــ فتقديره: بذي سلامتِك"، ثم قال: "قال ابن مالك في "شرح الكافية" في حديث (يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة و الكذب) أي ليس بعض خلق الخيانة و الكذب، هذا التقدير الذي يقتضيه الإعراب، والتقدير المعنوي: يطبع على كلِّ خُلُقٍ إلا الخيانة و الكذب" انتهى نص الأشباه والنظائر.
وقال ــــ في كتابه "الحاوي للفتاوي" في كلامه على حديث (كما تكونوا يولَّى عليكم) ــــ: "والذي ذكر أنَّه حال منه إنَّما هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، وتفسير المعنى يتسمَّح فيه من غير مراعاة ما تقتضيه الصِّناعة الإعرابيَّة".
قال الزركشي في "البرهان في علوم القرآن": "الإعراب والمعنى قد يتجاذبان الشيء الواحد، فالكلام قد يوجد فيه أنَّ المعنى يدعو إلى شيء والإعراب يمنع منه والمتمسّك به صحة المعنى ويؤول لصحة المعنى الإعراب".
وكلام الزركشي يبيِّن مدى احتفال العرب بالمعاني يقول ابن جِنِّي في "المحتسب": "إنَّ العرب قد تحمل على ألفاظها ومعانيها حتى تفسد الإعراب لصحَّة المعنى"، وشواهد كلام ابن جِنِّي في كلام العرب منتشرة، بل حتَّى العلماء دائمًا يميلون مع المعنى على حساب الإعراب، وفي هذا يقول ابن هشام في "المغني": "إذ جعلوا لكل وجه من أوجه الإعراب معنى"، ويقول العز بن عبد السلام: "وقد يقدِّر بعض النحاة ما يقتضيه علم النحو، لكن يمنع منه أدلة شرعية، فيترك ذلك التقدير، ويقدَّر تقدير آخر يليق بالشرع".
وفي "كلِّيَّات الكَفَوِيّ": "التقدير في الكلام لتصحيح اللفظ والمعنى"، ويعني باللَّفظ الإعرابَ، وقد يكون لتصحيح المعنى كما قال عبد القاهر الجرجاني في اللَّام التي بين المضاف والمضاف إليه.
وهذا الاهتبال بالمعنى وترجيح كِفَّتِهِ جعل النّحاة يرفضون ما قعَّدته الصِّناعة النَّحْوية من أجل مصادمته للمعنى، وهذا تراه بكثرة عند سيبويه في "الكتاب"، وأبي حيَّان في "البحر المحيط"، والسَّمين في "الدر المصون"، وأعظم من قعَّد له و بيَّن قضاياه ومثَّل له ابنُ هشام في كتابه "مغني اللبيب" الَّذي هو نُقَاوة النَّحو وخُلاصة أسرار الصِّنَاعة، وقد توخَّى فيه أن يكون خادما للقرآن الكريم، سُئِلَ لـِمَ لَـمْ تفسِّر القرآن؟ فقال: أغناني الله عزوجل بالمغني.
ولقد نقل عنه السيوطي في "معترك الأقران" قوله: "وأما قول ابن عطيَّة: بئس مَثَلُ القوم، أنَّ التقدير بئس الْمَثَلُ مَثَلُ القومِ، فإن أراد هذا الإعرابَ وأنَّ الفاعل لفظُ الْمَثَلِ ... فمردودٌ وإن أراد تفسير المعنى، وأنَّ في بئس ضمير المثل مستتر فسهْلٌ".
ويقول خالد الأزهري في "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب": "فخرج على قومه في زينته، في زينته: في موضع الحال أي متزيِّنا على تفسير المعنى وكائنًا في زينته على تفسير الإعراب".
ويقول السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن": "كثيرا ما يقول المفسرون: هذا تفسير معنى وهذا تفسير إعراب، يعني هذا من باب بيان المعاني وليس من باب بيان الإعراب، يعني أن المتكلم الآن يبين معنى الكلام ولا يعرب وفق صناعة النحو، والفرق بينهما أن تفسير الإعراب لابدَّ فيه من ملاحظة الصِّناعة النحوية، والبحث عن الفعل والفاعل والمفعول ... وتفسير المعنى لا تضره مخالفة ذلك" انتهى بالمعنى.
جاء عن ابن عباس في تفسير: كنتم خير أمة أخرجت للناس، قال: أنتم، قال أبو حيان: "وهذا من ابن عباس إن صحَّ تفسيرُ معنًى لا تفسير إعراب؛ لأنَّه يؤدِّي إلى زيادة كان الرافعة للاسم الناصبة للخبر، وهذا ما لم يذهب إليه أحد، وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ما نقله النحويون".
قال الشيخ إبراهيم اللَّقَانِـيُّ في "قضاء الوطر في توضيح كلام ابن حجر في شرحه للنخبة": "وهذا يجري على مسألة وهو أنَّ الشَّارح إذا مَزَجَ كلامه بكلام غيره، هل له أن يتصرَّف فيه بالتقرير الصَّحيح المعنى ولو بما يغير تراكيب إعرابه؟ وقد وقع ذلك لبعض الأكابر كالجامي والمحلي، وتوقَّف فيه العلامة ناصر الدين اللَّقَانِيّ وصوَّب جوازه شيخ أستاذنا في آياته". ويقصد به ابن قاسم العبَّادي في "الآيات البينات".
والَّذي قاله اللَّقَاني يكثر في الشروح التي تلتزم طريقة المزج وهي إحدى طرقٍ ثلاثٍ للشَّرح ذكرها حاجِّي خليفة في "كشف الظنون"، والذي يريد معرفة الفروق بينها فليطالعه.
وأعطيك بعض الأمثلة على الكتب التي ألفها أصحابها بطريقة المزج؛ لتتعرَّف على خصائصها ونهجها، فمنها: "إرشاد الساري في صحيح البخاري" للقسطلاني، و"شرح المزج لمغني اللبيب" للدماميني، "تقريب القرآن إلى الأذهان" لمحمد الشيرازي، و"شرح حسن القويسني على سلم الأخضري"، "شرح ابن حجر لنخبته"، و"شرح المحلي لجمع الجوامع"، و"شروح ابن عقيل والدلائي والأزهري"، و"السلسيلي على تسهيل ابن مالك"، و"شرح ابن طولون على الألفية"، و"الرشاد في شرح الإرشاد" لابن الشريف الجرجاني، و"التبيان في البيان" للمغيلي، و"الزاهدي على رسالة القطب في التصور والتصديق والروض المربع" لمنصور البهوتي.
وقال اللَّقَانِي في موضع آخَر: من أنَّه مَزَجَ الشَّرح بالمتن حتى صارا كالشيء الواحد، وخرجت ضمائر أحدهما من عودها إليه إلى عودها على الآخر، وتحوَّلت المعاني، فأجرى المباني، وقال في موضع ثالث: "وقد أكثرت عليك من إيقاظك على ربطه يعني ابن حجر الشرح بالمتن، وعكسه حتى يخرج أحدهما إلى الآخر إعرابا ومعنى، فلا تكن من الغافلين"، وفي موضع رابع: "يحتمل أنه قدَّر هذا لبيان المعنى دون الإعراب، ويحتمل أنه للإعراب"، وفي موضع: "أن ما قدره في في الشرح تقدير معنى لا تقدير إعراب".
وقال الدَّماميني في "شرح المغني": "وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب".
بعد هذه النقول عن الأوائل ظهر لنا: أنَّ الأوائل يستعملون عبارة "تقدير الإعراب وتفسير المعنى"، و"تفسير المعنى وتفسير الإعراب"، و"بيان المعنى وبيان الإعراب"، و"حل المعنى وحل الإعراب"، وأنَّ الاستعمالين الأوَّلين كانا أكثرَ عند المتقدِّمين خصوصًا في كتب التفسير.
وسوف أنقل لك نصوصًا من المتأخِّرين يكثرون فيها من استعمال عبارة: "حلّ الإعراب وحلّ المعنى"، قال في "فيض الإله المالك إلى حل ألفاظ عمدة الناسك": "وتقدير الواو قبل لم بيان للمعنى وحلٌّ له، لا بيان إعراب"، وفي "الصاوي على الجلالين" في قوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين: "إلا أن يقال حلّ معنى لا حلّ إعراب"، وقال عند تفسير أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله: "قوله لا خالق رازق غيره هذا حل معنى لا حل إعراب، وإلا لقال خالق غيره رازقا لكم"، وقال في تفسير وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس بالنفس: "الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن قدره المفسر بقوله تقتل وهو حل معنى لا حل إعراب؛ لأنَّ الخبر يقدر كونا عاما لا خاصا، فالمناسب تقديره تؤخذ ليصلح للجميع".
وفي البجيرمي على الخطيب: "وأجيب بأنه حل معنى لا حل إعراب، وقد ذكر في التقريب قولا بالجواز ولو اختلف المؤلف"، وفي موضع آخر منه: "وسننه أي الغسل فيه تغيير لإعراب المتن؛ لأنه جعل قوله كثيرة الذي قدره خبرا عن قوله وسننه، وجعل خمسة خبرا لمبتدأ محذوف، والشارح يرتكب مثل هذا كثيرا ويجاب بأن هذا حل معنى لا حل إعراب".
وفي الدسوقي على "الشرح الكبير": "وبهذا تعلم أن ما ذكره الشارح حل معنى لا حل إعراب"، وفي البيجوري على "شرح ابن القاسم الغزي": "وقد علمت أنَّ الشارح تصرف في كلام المصنف على سبيل حل المعنى لا حل إعراب وإن لزم منه تغيير الجار والمجرور؛ لكونه مغتفرا؛ لأنه تقديري"، وفي الشبرواي على "شرح الإقناع": "وقول الشارح أي زائدة هكذا أحدهما على الآخر حل معنى لا حل إعراب، فكان الذي يقتضيه حل الإعراب أن يجعل حالًا من الذهب".
وفي الصبان على "شرح الألفية": "قوله: التى مصدرها الرؤيا حل معنى لا حل إعراب، وما يلزمه من تغيير إعراب المتن مُغْتَفَرٌ؛ لأنَّه غير ظاهر يعني المعنى غير ظاهر إلا بهذا التقدير"، وقال في موضع آخر عند قول ابن مالك: فالألف انو فيه غير الجزم: "لا يخفى أنه حل معنى لا حل إعراب، فلا يقال: مقتضى حله أن كان غير شانية وأن معتلا مفعول عرف بمعنى سمى"، وفي موضع ثالث: "وقول الشارح الاضطرار حل معنى بين به وجه الشبه لا حل إعراب".
وفي الدسوقي على "مختصر التفتازاني في البلاغة": "جعل الواو بمعنى مع وهو حل معنى لا حل إعراب وإلا لنافى كونها عاطفة".
هذه بعض النصوص التي تُظهر كثرة استعمال هذا المصطلح، والاعتذار به عن الشراح والمحشين، وقد ظهر من خلالها الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى، وأنَّ تفسير الإعراب لابد فيه من ملاحظة الصِّناعة النَّحوية، وأما تفسير المعنى فلا يضر فيه مخالفة ذلك، فالكلام قد يوجد فيه ما يقتضي هذا التقدير؛ ليتمَّ المعنى ويكون صحيح الدَّلالة، وإن خالف الإعراب فيخرج المقدر بحيث ينساق مع قواعد الإعراب ما أمكن، وصدق الخفاجي إذ قال في "نسيم الرياض": "صحح نحوك بالحديث ولا تصحِّح حديثك بالنَّحو".
هذه لمحة موجزة اقتضتْ كتابتَها مذاكرةٌ جَرَتْ بيني وبين بعض الأحباب عن الفارق بين الاثنين وعسى أن يطَّلع عليها صاحب همة متوقِّدة وقريحة متوهِّجة يوسِّع أطراف البحث ويمدّه مدَّ الأديم العكاظي؛ لتستبين معالمه وتتَّضح ثمرتُه؛ إذ له مَسَاسٌ بدلالة الاقتضاء في الأصول ومسألة المقدَّرات في القرآن الكريم ودلالة المفاهيم مفهوم الموافقة والمخالفة ويستفاد منه في علم آداب المطالعة والبحث والمناظرة وغيرها من فروع المعرفة، والله الهادي إلى الرشاد.
٢٩. ربيع الآخر. ١٤٤٢ ه
14. 12. 2020 م