قال ابن القيم رحمه الله:
(ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام،
علم أن الإسلام أمر وراء ذلك،
وأنه ليس هو المعرفة فقط،
ولا المعرفة والإقرار فقط،
بل المعرفة والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا
ويقول رحمه الله ( إن الإيمان لا يكفي في قول اللسان بمجرده ولا معرفة القلب مع ذلك بل لا بد فيه من عمل القلب وهو حبه لله ورسوله وانقياده لدينه والتزامه طاعته ومتابعة رسوله...) ا.هـ
مفتاح دار السعادة ج: 1 ص:94
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله
(( الاعتبار الثالث أن الإيمان قول وعمل والقول قول القلب واللسان والعمل عمل القلب والجوارح
وبيان ذلك
أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمنا كما قال عن قوم فرعون " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم" ........ فهؤلاء حصل قول القلب وهو المعرفة والعلم ولم يكونوا بذلك مؤمنين
وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمنا بل كان من المنافقين
وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه
لم يكن بمجرد ذلك مؤمنا حتى يأتى بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة
فيحب الله ورسوله ويوالى أولياء الله ويعادى أعداءه
ويستسلم بقلبه لله وحده وينقاد لمتابعة رسوله وطاعته والتزام شريعته ظاهرا وباطنا
واذا فعل ذلك لم يكف في كمال ايمانه حتى يفعل ما امر به
فهذه الأركان الأربعة
هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه
وهى ترجع إلى علم وعمل...))
( عدة الصابرين ج: 1 ص: 88)
ويقول ابن القيم رحمه الله
(......فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول بل ويقرون به سرا وجهرا ويقولون ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به
وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب
فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح
ولا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم
كما تقدم تقريره، ‘‘‘
فإنه يلزمه من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح -
(إذ لو اطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت) -
ويلزم من-(عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة )
وقال ابن القيم رحمه الله:
(ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا، لكن إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين.. فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق.
والثاني: محبة القلب، وانقياده)
((الصلاة)) (ص:28).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله
: (الإيمان وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة،
وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط،
فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر،
وكلام الله خبر وأمر،
فالخبر يستوجب تصديق المخبر،
والأمر يستوجب الانقياد له والاستلام،
وهو عملٌ في القلب جِماعُهُ الخضوعُ والانقياد للأمر،
فإذا قوبل الخبر بالتصديق،
والأمر بالانقياد،
فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار،
وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد) ((الإيمان)) (ص: 120).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد والذي يجعل قول القلب، أمر دقيق. وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما. وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق –
إلى أن قال رحمه الله والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق،
وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن الانقياد وغيره من أعمال القلوب بأنه صادق)((الإيمان)) (381).
فالشهادة إذن ليست حجاباً من الكلمات التي يتمتم بها قائلها فترفع عنه السيف في الدنيا ثم تستره من العذاب في الآخرة، دون أن يكون لها أية حقيقة في قلبه وفي ظاهر أمره، من العلم والمعرفة والتصديق بالحق ، ثم الخضوع والانقياد بالطاعة، والاستسلام لله بالتوحيد، ومحبته والالتزام به وتعظيمه، ولوازم ذلك كله، من كراهية الشرك والباطل والانخلاع عنه وتركه والتبرئ منه، والالتزام بالتوحيد ظاهرا وباطنا والالتزام بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم والدخول في طاعته .