تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 30

الموضوع: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 1-30 )

    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    هذه خواطر وتأملات، لآيات مباركات، من كلام رب البريات، نتفكر ونتدبر، ونستخرج الفوائد والدرر، والمواعظ والعبر، من كتاب ربنا الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي كنوزه، لتحيا به القلوب، وتزكو به النفوس.
    سأقف معكم - بعون الله وتيسيره- في كل حلقة مع آية من سورة السجدة، تلك السورة العظيمة ذات المعاني الجليلة، والدِّلالات الإيمانية النافعة، التي كان لها أهمية خاصة في حياته وعبادته عليه الصلاة والسلام، عسى أن نخلُص بثلاثين آية علما وتفكرا وانتفاعا وعملا.
    ما أحوجنا لتلك الوقفات؛ في زمن الفتن والملذات، وهجران القرآن والتعلق بالماديات، فكلام الله سبحانه( لَا يَسْتَقْصِي مَعَانِيَهُ فَهْمُ الْخَلْقِ، وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ذُو اللِّسَانِ الطَّلْقِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ صَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ فِكْرَهُ وَعَزْمَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ وَتَذَكُّرِهِ، فَهُوَ يَرْتَعُ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ، وَيَكْرَعُ مِنْهُ فِي حِيَاضٍ ).[1]
    ومن أعظم مقاصد إنزال القرآن التدبر، الذي لا يحصل إلا بمعرفة المعاني وإمعان النظر والتأمل والتفكر، قال تعالى ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ )[2]، وقد أنزله الله تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر وإمعان، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه.[3]
    يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار.[4]
    كم نحن بحاجة لإعادة النظر، في علاقتنا مع القرآن، من حيث التلاوة ومعرفة المعاني والتفكر والتدبر والتأمل، ثم الانتفاع والتطبيق والعمل!
    قال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآن في خلق ولا عمل.[5]
    سورة السجدة من القرائن، التي كان يقرن بينها عليه الصلاة والسلام، نتذاكر معكم ما يتعلق ببعض المعاني والمقاصد من تلك السورة العظيمة، إذ ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ).
    وصلاة الفجر يوم الجمعة في جماعة، هي أفضل صلاة من بين خمسة وثلاثين صلاة على مدار الأسبوع، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أفضلُ الصلواتِ عند اللهِ صلاةُ الصبحِ يومَ الجمعةِ في جماعةٍ ).[6]
    وثبت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام( كَانَ لا يَنامُ حتى يقرأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ، و تَبارَكَ الذي بيدِهِ الملكُ ).[7]
    قراءتها قبل النوم لأن النوم موت أصغر كما قال سبحانه( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا )، ونحن بحاجة لتذكر هذه الحقيقة، وأنا سائرون إلى الله، وقد تكون هذه آخر لحظات لنا في الدنيا الفانية، فإذا ما استيقظنا لعمل يوم جديد، كانت لنا دافعا لمراقبة الله، وحافزا إيمانيا لطاعة الله والقرب منه.
    وقراءتها قبل النوم لما فيها من العبر والتذكير بالموت وبالبعث يوم القيامة وبالجزاء وبالحساب. ومن المناسب للإنسان عند نومه أن يتذكر ما الذي صنعه في هذا اليوم، ويتذكر أنه راجع إلى الله سبحانه، فينوي نية حسنة إذا أحياه الله عز وجل في اليوم التالي أن يؤدي الحقوق لأصحابها، وأن يعمل الخير ويزيد في صلاح نفسه بما يشاء الله عز وجل له.
    والحكمة من قراءتها فجر الجمعة، لأنه يوم عظيم يحكي قصة الخلق من البداية إلى النهاية، يقول عليه الصلاة والسلام :( خيرُ يومٍ طَلَعتْ فيه الشمسُ يومَ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُهْبِطَ، وفيه تِيبَ عليه، وفيه قُبِضَ، وفيه تقومُ الساعةُ ).[8]
    يقول ابن القيم رحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين- السجدة والإنسان- لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم تذكيرا للأمة بحوادث هذا اليوم.[9]
    سورة السجدة مكية، وآياتها ثلاثون آية، نزلت بعد سورة النحل، وقبل سورة نوح، سميت بسورة السجدة لاشتمالها على آية السجدة، وهي اسم لحالة معينة يكون عليها الإنسان أثناء صلاته لله عز وجل، لكنها كلمة تنقل هذه الهيئة، هيئة الخضوع الكامل حين يضع جبهته وهو أعلى وأشرف مكان فيه يضعه على الأرض، طائعا لله راضيا به ربا وإلها ومعبودا.
    وموضوع هذه السورة ونتيجتها والأثر العملي المترتب عليها وخلاصتها؛ الخضوع لله جل وعلا، لأن السجود أعظم صورة عملية للخضوع والانكسار والافتقار والذل بين يدي الله سبحانه.
    سئل الحسن البصري رحمه الله: أين تجد الراحة؟!
    فقال: سجدة بعد غفلة، وتوبة بعد ذنب.
    ومن أعظم أسباب ومقدمات الوصول إلى الخضوع؛ اليقين الذي لا شك فيه، وهو قوة الإيمان والثبات، حتى كأن الإنسان يرى بعينه ما أخبر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام من شدة يقينه، لذلك يعتبر اليقين مادة هذه السورة التي يؤكد الله عليها بطرق وأساليب متنوعة كما سيأتي معنا.
    واليقين نجاة، يقول عليه الصلاة والسلام( نجا أوَّلُ هذِهِ الأمَّةِ باليقينِ والزهدِ، ويَهْلِكُ آخرُها بالبخلِ والأمَلِ )[10]، وباليقين تتغلب على متاعب الدنيا وصعابها، إذ كان من دعائه عليه الصلاة والسلام (ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ).
    وكان من دعاء أبي بكر رضي الله عنه: اللهم هب لي إيمانا ويقينا ومعافاة ونية.
    وقال خالد بن معدان: تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه.
    وتتجلى أهمية هذه السورة من اسمها" السجدة"، والصلاة هي أعظم صورة عملية للخضوع لله، والسجود سرها ومن أعظم مقاصدها، وأعلى مراتب السجود سجود القلب باليقين بالله سبحانه، ومحبته والذل والعلم الراسخ المستقر في القلب، والسجود بالمعنى العام هو الخضوع لله جل وعلا في كل لحظة.
    المتأمل في هذه السورة يجد أنها ترسخ وتثبت اليقين بحقائق الدين في قلب المسلم، فينتج عنه الخضوع والسجود لله، فترى فيها اليقين والخضوع مترابطان متلازمان متجانسان منسجمان متعانقان.
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    1- رمضان-1435هـ

    --------------------------------------------
    [1]البرهان في علوم القرآن للزركشي، (1/5).
    [2](ص:29).
    [3]التفسير الوسيط للزحيلي.
    [4]التبيان في آداب حملة القرآن للنووي.
    [5]تفسير ابن كثير.
    [6]السلسلة الصحيحة برقم 1566.
    [7]السلسلة الصحيحة برقم 585.
    [8]صحيح الجامع برقم 3334، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    [9]زاد المعاد ( 1/202).
    [10]حديث حسن، ينظر صحيح الجامع برقم 6746.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 2-30 )

    أيمن الشعبان


    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    سورة السجدة آخر سورة من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة( الم )، كأخوات لها من السور كسورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان، وهذه الأحرف تشير إلى إعجاز القرآن العظيم وأنه من عند الله، وليس افتراء من عند النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولا كذبا من عند غيره، ومن عارض في ذلك فليأتنا بحديث مثله أو بسورة أو بحرف من مثله؟!! وهيهات لهم ذلك!
    معنى حروف مقطعة أي أن كل حرف ينطق بمفرده، وفي القرآن تسع وعشرون سورة ابتدأت بهذه الحروف، كلها مكية عدا سورتي البقرة وآل عمران، وعدد الحروف التي جاءت في فواتح السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء.
    اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله، ونقل القرطبي في تفسيره هذا القول عن جمع منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم.
    ومنهم من اجتهد في تفسيرها وذكروا عدة أقوال فاقت العشرين، رجح ابن عاشور في تفسيره أنها لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة.
    قال السعدي في تفسيره: وأما الحروف المقطعة في أوائل السور، فالأسلم فيها، السكوت عن التعرض لمعناها "من غير مستند شرعي"، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.
    حكى الأصمعي قال: سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول:

    أستغفر الله لذنبي كله * قبلت إنسانا بغير حله
    مثل الغزال ناعما في دله * فانتصف الليل ولم أصله

    فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه.. الآية ) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. [1]
    في خمسة مواضع ورد قوله تعالى ( تنزيل الكتاب )، في ثلاثة منها ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )، وواحدة (الكتاب من الله العزيز العليم )، والخامسة التي معنا ( تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ).
    ( تنزيل ) أي أنه منزل من فوق، وإشارة إلى أن الله فوق سماواته العلي الأعلى، إذ نزل القرآن على مرحلتين:
    الأولى: نزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، قال تعالى ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة )[2].
    الثانية: نزل منجما – أي مفرقا- بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى( وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلًا )[3].
    ( الكتاب )أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.
    افتتحت الآية بالجملة الاسمية لدلالتها على الرسوخ والثبوت والدوام.
    يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم، أنه تنزيل من رب العالمين، الذي رباهم بنعمته[4]، وأن بداية نزوله من الله، وهذا فيه تطمين لكافة الناس بأن أحكامه عدل وصدق وحق وحِكم وإنصاف.
    ( تنزيل الكتاب ) ( من رب العالمين ) مبتدأ وخبر، لكن جاءت بينهما جملة قبل ذكر الخبر معترضة بين المبتدأ والخبر ( لا ريب فيه )، لأن هذه الجملة تحمل موضوع ومقصود وخلاصة السورة، وهو الخضوع الذي لا يتحقق إلا بيقين ثابت وإيمان راسخ، فناسب أن تأتي جملة( لا ريب فيه ) فتأمل!
    ( لا ريب فيه ) أي أنه حق لا يتخلله شك ولا تهمة، في هذا التنزيل أنه كتاب رب العالمين.
    والريب: هو أدنى درجات الشك، وكأنه أول درجات الشك.
    وجود جملة ( لا ريب ) في الوسط تعني، أنك لا تجد طاعنا عنده حق، ولا مدعيا له حجة أن القرآن ليس منزل، أو أن القرآن ليس من عند الله، وهذا من جميل السياق البلاغي في الآية.
    فإذا رسخ اليقين في القلوب أن هذا القرآن حق لا ريب فيه؛ في أمره ونهيه.. وعده ووعيده.. مواعظه وأحكامه.. أخباره وقصصه.. سنُقبل عليه بكليتنا، من تلاوة وحفظ وتدبر وتفكر وعمل، حتى نتلذذ ونستأنس بكلام ربنا سبحانه.
    فالحياة الحقيقية هي الحياة مع القرآن، والعيش الهانئ في ظلاله، والسعادة الفعلية بالإقبال عليه.
    تنزيل الكتاب المتلو لا ريب فيه، ولا شك، وأنه منزل من رب العالمين، وأنه ليس بكذب، ولا سحر، ولا كهانة، ولا أساطير الأولين.[5]
    الرب هو المربي لجميع العالمين، بالخلق والإعداد لكل ما ينفعهم ويصلحهم، والإنعام عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدت لفنيت حياتهم.
    وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
    فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
    والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا –المعنى- هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.[6]
    فدل قوله ( رب العالمين ) على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
    كلمة ( رب ): توحي بالعطف والرحمة، وأنه لن يضرنا بما أنزل إلينا، لأن الناس اعتادوا أن يسموا الإنسان الملاحظ للشيء المعتني به المحافظ عليه ويحب له الخير يسمى رب، كرب الأسرة.. وربة منزل.. ورب المال وهكذا.
    وليس ربك فقط بل هو رب العالمين، بمعنى ربوبيته عظيمة!

    فالآية ذكرت أمرين:
    أن الله هو الذي أنزل القرآن، وأنه أنزله من قبيل رحمته لا من قبيل قهره وجبروته، مع أنه الجبار القهار المتكبر القوي المتين المنتقم.
    العالمون جمع عالَم، وقال العلماء: العالم هو كل موجود سوى الله جل في علاه، فعالم البحار والأشجار والسماء والأرض كل هذه عوالم.
    لطيفة: فإن قيل لِمَ جمع" العالمين " جمع قلة مع أن المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة؟ أجيب بأن فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه.[7]
    واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف رب العالمين دون الاسم العلم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزلا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية.
    وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرا منهم حسدا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبىء عن أنه لا يسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.[8]
    المعنى الإجمالي للآية:
    إن الكتاب المتلو عليك يا محمد، لا ريب ولا شك في أنه منزل من رب العالمين، وأنه ليس بكذب، ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    -----------------------------------------
    [1]تفسير القرطبي.
    [2]( الدخان:2).
    [3]( الإسراء:106).
    [4]تفسير السعدي.
    [5]فتح القدير.
    [6]تفسير السعدي، كما قال زكريا ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء )، وقال إبراهيم( رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين )، وقال أيضا ( رب هب لي من الصالحين )، وغيرها من الآيات.
    [7]تفسير السراج المنير للشربيني.
    [8]تفسير ابن عاشور.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 3-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    تبتدئ السورة الكريمةُ بدفع الشك والارتياب عن القرآن العظيم، المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا تحوم حول ساحته الشبهات والأباطيل، ومع وضوح إِعجازه، وسطوع آياته، وإشراقة بيانه، وسموّ أحكامه، اتهم المشركون الرسول بأنه افترى هذا القرآن، واختلقه من تلقاء نفسه، فجاءت السورة الكريمة تردُّ هذا البهتان، بروائع الحجة والبرهان.
    ( أم يقولون افتراه ) أم تسمى الإضرابية المنقطعة، كأنه يقول: أضرب عن هذا وينتقل من حديث إلى آخر.
    أم هنا: بمعنى بل الإضرابية، التي تنتقل من شيء إلى شيء، من كلام إلى غيره.
    فكأن الله سبحانه بعد أن بين صدق القرآن وأنه منزل من رب العالمين، وحصل بذلك اليقين في قلوب المؤمنين، يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: انتظر ننتقل لشيء ومعنى آخر ( بل أيقولون افترى هذا القرآن؟!! ).
    ونظم الكلام: أنه أشار أولاً إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكاراً له وتعجيباً منه، فإن أَمْ منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله، وبين المقصود من تنزيله فقال: ( لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) إذ كانوا أهل الفترة. ( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) بإنذارك إياهم.[1]
    الإنذار: هو الإعلام بما يخوِّف طلبا للحذر.
    مع أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث نذيرا وبشيرا، لكن لا تتناسب مع الجاهلية والشرك وتفشي الظلم والعادات السيئة إلا الإنذار، ويأتي دور البشارة بعد إسلامهم ونصرتهم للدين.
    لذلك ينبغي على الداعية مراعاة أحوال المخاطبين، والانتفاع من هذا الأسلوب القرآني البديع، فمن فرط وقصر في دينه وضيع أوامر الله، لا تناسبه البشارة، بل لابد من التخويف وما يرقق قلبه.
    وكما يقال: لكل مقام مقال، وهذا ينسحب على جميع تعاملاتنا الحياتية اليومية مع الآخرين، فتأمل.
    فقال ( لتنذر ) ولم يقل ( لتبشر ) لعدم وجود مؤمن على وجه الأرض يبشر، وهذا من الحكمة ومناسبة الخطاب للحال والمقام.
    ( لعلهم يهتدون ) فيها أن مصلحة إنذارهم وإرسال الرسل إليهم، عائدة إليهم.
    لذلك يا أيها العاصي المقصر: لو نصحك ناصح أو أراد صديق تقويم اعوجاج فيك، فلا تتكبر وتصم آذانك عن سماع النصيحة، فإنما ينصحك لمصلحتك وهدايتك.
    إذن وظيفة الرسل هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وما فيه صلاحهم، ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور )، ( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[2].
    لعل وعسى في لغة العرب معناها الترجي والتوقع، لكن في لغة الله والأسلوب القرآني معناها التحقيق، فمن أنذرته بهذه الرسالة وهذا التنزيل فتذكر واستجاب سيحصل له الهداية يقينا.
    في الآية تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، فلا تحزن عليهم يا خير البشر وأكمل الرسل، ولا تلتفت لقولهم هذا، بل هو الحق الثابت الذي لا مرية في نزوله من ربك، الذي اصطفاك من بين البرايا بالرسالة.
    كذا المؤمن ينبغي أن لا يكترث من أقوال أهل الباطل، في مسيرته العلمية ودعوته الإصلاحية، الذين يريدون إضعاف عزيمته وكسر إرادته، وتثبيطه عما معه من حق وصدق، كما قال تعالى ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ )[3]، وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف –العقل- خفيفه[4].
    ومن إرشادات الآية: أن الداعية إلى الله، الذي يحمل هم الدين وقضايا الأمة، سيتعرض لأذى وابتلاء ومحن من الناس، فليستعد لذلك وليستمر بطريقته في بيان الحق والخير للناس، عسى أن يكون سببا في هدايتهم واستقامتهم.
    العرب عند بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، أمة فصاحة وبلاغة وبيان، بل وصلوا ذروة وقمة في ذلك، حتى كان لهم قبل الإسلام سوق عكاظ وذي المجاز، مضمار للتباري والمنافسة في الأدب والشعر، فعجيب أن يقابل كلام الله المعجز بهذا الاتهام والافتراء!
    والأعجب أن لا يميزوا بين كلام الله وكلام البشر، وقد تحداهم سبحانه وتحدى فصاحتهم وبلاغتهم، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف، وهذه شهادة لهم بما وصلوا إليه من بلاغة، وتحدي يحسب لهم!
    لكن لما عجزوا عن الإتيان بمثله، راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة تهم؛ فقالوا: شاعر.. ساحر.. مجنون.. كاهن، ومرة يقولون: بل يعلمه أحد الأعاجم! وهذا حال المفلسين برد الحجة بتهم باطلة!
    لذلك إذا رأيت من يرد ما معك من حق وصدق وأدلة وبراهين وخير، بمجرد السب والشتم والتكذيب المجرد ومعارضة الحجج بالأهواء، فاعلم أن مفلس وصاحب باطل!
    ولما لم يجدوا مطعنا في القرآن، اعترفوا بأنه كلام الله لكن كان اعتراضهم أن ينزل على هذا الرجل بالذات ( وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ )[5].
    الحق: هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير، والقرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
    ( لعلهم يهتدون ) إشارة إلى أهمية الحرص على هداية الناس وحب الخير والصلاح لهم، وبذل كل الأسباب المباحة والممكنة في سبيل هدايتهم، كما قال تعالى ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ).
    فيا أيها المسلم: إذا رأيت نقصا أو قصورا أو بعدا عن الله من شخص، فلا تتركه واحرص على هدايته بحكمة وموعظة حسنة.
    الأشياء التي ذكرها الله في هذه الآية والتي قبلها، مناقضة لتكذيبهم له: وإنها تقتضي منهم الإيمان والتصديق التام به، وهو كونه {من رب العالمين} وأنه {الحق} والحق مقبول على كل حال، وأنه {لا ريب فيه} بوجه من الوجوه، فليس فيه، ما يوجب الريبة، لا بخبر لا يطابق للواقع ولا بخفاء واشتباه معانيه، وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة، وأن فيه الهداية لكل خير وإحسان.[6]
    وعلم من قوله( لعلهم يهتدون ) أن المقصود من البعثة تعريف طريق الحق، وكل يهتدي بقدر استعداده، إلا أن لا يكون له استعداد أصلا، كالمصرين، فإنهم لن يقبلوا التربية والتعريف، وكذا من كان على جبلتهم إلى يوم القيامة.[7]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    --------------------------------------------
    [1]تفسير البيضاوي.
    [2] ( المؤمنون: 93).
    [3]( الروم:60 ).
    [4]تفسير السعدي.
    [5]( الزخرف:31 ).
    [6]تفسير السعدي.
    [7]تفسير حدائق الروح والريحان.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 4-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    يقول سبحانه ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ).
    بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة، بيّن ما يجب على الرسول من الدعوة إلى توحيد لله، وإقامة الأدلة على ذلك.
    ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )[1]، لذلك ينبغي أول وأهم ما يبدأ به الداعية ويركز عليه ويستحضره دائما، الدعوة إلى توحيد الله وتحقيق العبودية في المجتمعات.
    قال عليه الصلاة والسلام: يا معاذُ ! تدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ وما حقُّ العبادِ على اللهِ ؟ " قال قلت : اللهُ ورسولُه أعلمُ . قال : " فإن حقَّ اللهِ على العبادِ أن يعبدوا اللهَ ولا يشركوا به شيئًا . وحقُّ العبادِ على اللهِ عزَّ وجلَّ أن لا يعذبَ من لا يشركُ به شيئًا " قال قلت : يا رسولَ اللهِ ! أفلا أبشرُ الناسَ ؟ قال : " لا تُبشرْهم . فيتَّكلوا " .[2]
    هنا يشرع سبحانه بالتعريف برب العالمين في الآية الثانية، استكمالا لما سبق وإن فصل بينهما فاصل لضرورة الكلام.
    حينما أنزل القرآن كان لفظ ( رب العالمين )، من التربية والرحمة والعناية، لكن بعد أن قالوا( افتراه ) لابد من التهديد والتخويف، فقال ( الله الذي خلق .. )، دقة عجيبة في الألفاظ والسياق، فمراعاة هذه الأمور بهذه الدقة في كل القرآن لا تأتي إلا من إله حق عظيم.
    الله: اسم علم على الله وحده لا شريك له، ولم يتسم بها أحد إلا الله.
    الله يعني المعبود وحده والذي يستحق أن يعبد وحده هو الرب الذي خلق السموات والأرض فمقتضى ربوبيته أنه يخلق.
    وفي هذا اللفظ والاسم إعجاز ودليل على أن الله هو الإله الحق الذي يستحق العبادة وحده، فلم يتسم بهذا أي كافر ممن ادعى الألوهية كفرعون والنمرود وذو نواس وغيرهم، قال فرعون ( ما علمت لكم من إله غيري )، لكن لفظ ( أنا الله ) لم يقلها إلا الله جل في علاه ( إنني أنا الله ).
    ثم ذكرت السورة أعظم ما يجب على المسلم أن يوقن به وهو توحيد الله وعظمته، من خلال ذكر أعظم المخلوقات وتكرر هذا في سبع سور منها السجدة، هكذا تبعث اليقين لعظمة الله في قلب المسلم.
    لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب، هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن.[3]
    الله سبحانه خلق مليارات من الكواكب والنجوم والشموس والأقمار، ولكن ذكرت الأرض لأن الإنسان يعيش عليها، فيرى آيات الله عز وجل فيها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان وطير.
    الله عز وجل قادر أن يخلق العوالم جميعا بلحظة، ولكن أراد أن يرينا حكمته وصبره وحلمه، كما أنه خلق آدم بمراحل ليرينا مقتضى أسماءه الحسنى وأنه الحليم الحكيم العليم الصبور سبحانه.
    وتفصيل الخلق أن إيجاد الأرض كأرض في يومين، وإيجادها كأرض وتدبيرها في أربعة أيام، بما فيها الخلق من العدم والإيجاد، وجعل فيها رواسي وبارك فيها أقواتها.
    الأرض هذا الكوكب الصغير، دبر أمره في أربعة أيام وكان قادرا أن يكون في لحظة، والسماوات التي هي أعظم بكثير من الأرض في يومين! ليعيش عليه الإنسان ليبتلى ثم بعدها إما إلى جنة أو إلى نار.
    فخلق الله هذه كلها من كواكب وشموس وأقمار وسبع سموات كل سماء فيها أمرها وتدبيرها وإحكامها وهذا كله في السماء الدنيا وكلما خرجنا خارجها لاتسع الكون الثانية أوسع الثالثة أوسع وهكذا السابعة أوسع ثم سدرة المنتهى، فهذا كون عظيم .
    الكون فيه مليارات المجرات، والأرض ضمن مجرة واحدة تسمى " درب التبانة"، فيها الشمس والقمر والنجوم والكواكب، والأرض بجوار السماوات كحلقة في فلاة!
    الحكمة من خلق السموات والأرض في ستة أيام:
    قال القرطبي: ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، ولتظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء.
    وحكمة أخرى: خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلا.
    وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب، لأن لكل شيء عنده أجلا.
    قال ابن الجوزي: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق .
    ( ثم استوى على العرش ) العرش مخلوق، استواء يليق به من غير تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل نثبت له صفاته كما أثبتها لنفسه.
    ما النتيجة قال(ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ).
    ( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ) الله الذي خلق هذا كله يرينا كمال قدرته وعظيم قوته القوي العزيز، فكيف تلجأ إلى غيره وتطلب النصر من غيره، فلا يملك لكم أحد من دونه شيئا.
    والولي: مشتق من الولاء، بمعنى: العهد والحلف والقرابة. ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولى. وأريد بالولي: المشارك في الربوبية.
    والشفيع: الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضر أو جلب نفع. والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة شركاء لله في الإلهية ثم قالوا: ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله )، وقالوا: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )[4].
    والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليّا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم، إذا هو أراد وقوعه بكم، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.[5]
    لم يقل ( تذكرون ) قال ( تتذكرون ) توكيدا لترسيخ اليقين في القلوب!
    هكذا يتيقن المسلم بربه جل وعلا أنه الخالق المدبر المستحق للعبادة وحده.
    فالذي يشرك بالله ليس عنده يقين، ويطلب من القبور ويسألهم الحاجات ليس عنده يقين.
    كما قال موسى لفرعون ( قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ).
    كيف توقن أن الله هو الخالق الرازق ثم تعبد غيره؟!!
    وهكذا الإنسان إذا تعلق قلبه بأسباب مادية، بطبيب أو دواء بوظيفة، وإذا فصل قال انقطع رزقي وجزع وتسخط!! هذا ليس عنده يقين لأن الأمر لله ( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ).
    فلا ينبغي أن يتعلق قلبه لا بمسؤول ولا واسطة ولا شيء.
    من تيقن بعظمة الله وعرف الله بأسماءه وصفاته أقبل على عبادته وذكره.
    كما قال بعض السلف: من عرف ربه أحبه.
    يقول بعض السلف: ثلاثة من أعلام اليقين:
    النظر إلى الله في كل شيء.
    والرجوع إليه في كل أمر.
    والاستعانة به في كل حال.
    ( أفلا تتذكرون ) التذكر عكس النسيان ويأتي بمعنى التدبر والعظة، فهلا اتعظتم بذلك أن كل إنسان خلق وأتى إلى الكون وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده ويحاسب وحده ويقف وحده أمام الله وفي قبره وحده ويجيب وحده عندما يأتيه الملكان، فهلا اتعظتم بذلك وتذكرتم وعبدتم الله وأخلصتم له دينكم.
    اليقين القوي الراسخ الثابت في عظيم خلق الله؛ يدفعنا للتأمل والتفكر ثم يظهر أثر ذلك من الخضوع بطاعة الله وذكره وسؤاله الجنة والنجاة من النار، قال سبحانه ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ )[6].
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    ----------------------------------
    [1] ( النحل: 36).
    [2] متفق عليه.
    [3]التحرير والتنوير.
    [4]التحرير والتنوير.
    [5] تفسير المراغي.
    [6] ( آل عمران: 19-192).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 5-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    لا زلنا معكم وهذه الخواطر والتأملات مع سورة السجدة، لنتعرف أكثر وأكثر ونزداد يقينا بأن الله تعالى هو المستحق للسجود، ولا يسجد لغيره لأنه لا مثيل له.
    في هذه الآية بين لنا الأمر وتدبير السماوات والأرض، بعد أن بين خلقها، والله سبحانه بين أن له الخلق والأمر ( ألا له الخلق والأمر ).
    فالله خلق وبيده الأمر، فهو الذي يصدر الأمر فلا أمر لسواه سبحانه، فهو خلق وأمره كائن في خلقه قضاء في الخير وقدرا في الشر، والسماوات قامت بأمره والأرض قامت بأمره والبشر قاموا بأمره والملائكة والدنيا والآخرة.
    ( يدبر الأمر ) أي أمر الخلق وهو سبحانه قيوم عليه، وأمر الدنيا وشأنها وحالها، والأمور التي تقع فيها، وهو تمثيل لإظهار عظمته، كما يصدر الملك أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
    الأمر ينزل من الله أوامر، ثم يعرج بالنتائج، ماذا فعل البشر بأوامر الله القضائية والقدرية.
    ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ) الأمر الشرعي والقدري، فيقدر ما يشاء ويشرع ما يشاء، بحكمته ورحمته ولطفه.
    لو أرسل لك صديق رسالة من مكان بعيد، لاشك يكون لها وقع وشأن وعظمة في قلبك، كيف إذا استشعرت أن هذه الأوامر من السماء إلى الأرض! هذا مما يبعث اليقين والتعظيم لأمر الله، وإذا تفكرت بمخلوقات الله وأوامره تزداد يقينا بعظمته جل وعلا وأسماءه وصفاته.
    يقول عليه الصلاة والسلام: ( يتعاقبونَ فيكم، ملائكةٌ بالليلِ، وملائكَةُ النهارِ، ويجتمعونَ في صلاةِ الفجْرِ والعْصرِ، ثُمَّ يعْرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألُهم وهُوَ أعلَمُ بِهم: كيفَ تَرَكْتُمْ عبادي؟ فيقولونَ: تركناهم وهم يصلُّونَ، وأتيْناهم وهم يصلُّونَ ).[1]
    هنا لابد من وقفة تأمل، وينبغي لكل إنسان أن يسأل نفسه، ما هي الحال التي ستخبر بها الملائكة ربها من أعمالك؟!!
    فيأتي هذا الأمر من السماء، فينزل به الملك أو جبريل أو إسرافيل في يوم واحد، ولا نقدر إدراكها ولا في ألف سنة بما آتاكم الله من آلات وقدرات ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) يعني بأمر الله، فلا تقدرون أن تتجاوزوا قدركم ولا ما آتاكم الله من أشياء.
    ( من السماء ) أي جهة العلو، والله مستو على عرشه ومن علياءه يدبر الأمر.
    من هداية الآية وفوائدها:
    أن الله سبحانه عليم حكيم خبير، يدبر شؤون الخلق بعلم وحكمة وقدرة واسعة، مع أنه الغني عن إرسال الملائكة بالأمر ثم العروج بأثر تلك الأوامر.
    نستفيد من ذلك أن رئيس الدولة والخليفة والوزير والمسؤول والمدير، وكل من له منصب وتحته رعية، ينبغي أن يدير ويدبر أمور الناس بعلم ودراية، من خلال خلطتهم ومعرفة ما يصلحهم عن قرب.
    كان عليه الصلاة والسلام يتفقد أحوال المسلمين ويخالطهم، ويتحمل معهم هم الحياة والأعباء، كما قال تعالى ( عزيز عليه ما عنتم بالمؤمنين رؤوف رحيم )، فكان يؤمهم بالصلاة، ويدخل بيوتهم ويأكل معهم، وينصحهم بما يحتاج إلى تعديل وتغيير.
    عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في بيتِنا وأنا صبيٌّ قال: فذهبتُ أخرجُ لألعبَ فقالت أمي: يا عبدَ اللهِ تعالَ أُعطيكَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: وما أردتِ أن تُعطيه؟ قالت: أُعطيه تمرًا قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أما إنك لو لم تُعطِه شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ.[2]
    يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إنْ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخالِطُنا،حتى يقولَ لأخٍ لي صغيرٍ: يا أبا عُمَيْرٍ، ما فعل النُّغَيْرُ؟[3]
    فالله سبحانه رغم علوه في السماء، إلا أنه يراهم ويشرّع لهم ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ).
    ألف سنة هو منتهى العدد عند العرب، وأحيانا يطلق ولا يراد معناه بل كناية عن الكثرة، ويستعمل أحيانا هذا الأسلوب عندما تقول لشخص: أنا قلت لك ألف مرة لا تعمل كذا وكذا! فيعبر عن الكثرة وإن لم يقصد به حقيقة العدد.
    فالمقصود بالمسافة هنا، هي ألف سنة أو ما يزيد عن الألف، بمعنى أنها مسافة طويلة جدا جدا.
    وكان سليمان عليه السلام يتفقد الرعية كما قال تعالى ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ )[4].
    وقول عمر رضي الله عنه: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ.
    أن التدبير الحكيم الناجح لشؤون الرعية، الذي يكون عن علم وخبرة ودراية بأحوالهم، وهذا لا يحصل إلا بالخلطة والقرب منهم ومعرفة أمورهم.
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    ---------------------------------------
    [1]صحيح الجامع برقم 8019.
    [2]السلسلة الصحيحة.
    [3]متفق عليه.
    [4]( النمل: 20 ).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 6-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    من يتفكر بعظيم مخلوقات الله، وجميل تدبيره لأوامره؛ يزداد يقينا بقدرته وقوته وأسماءه وصفاته، لذلك قال ( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ).
    ( ذلك ) اسم إشارة للبعيد وهنا للتعظيم، وهي إشارة إلى عظمة الرب سبحانه، الذي رأيتم من صفاته وقدراته الإله العظيم المقدار، هو عالم الغيب والشهادة.
    ذلك أي المدبر عالم الغيب أي ما غاب عن العباد وما يكون، والشهادة أي ما علمه العباد وما كان، العزيز: أي الغالب على أمره، الرحيم: أي بالعباد في تدبره الذي أحسن كل شيء خلقه أي أحكم خلق كل شيء.[1]
    وفيه إيماء بأنه عزّ وجلّ متفضل فيما يفعل جلّ وعلا.[2]
    لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب، أي: ما غاب عن حواس الخلق، وعالم الشهادة، وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس، فالمراد بالغيب والشهادة: كل غائب وكل مشهود.[3]
    كثير من الناس عند حصولهم على شهادات في الذرة والطب والهندسة وغيرها، يشار لهم بالبنان؛ عالم ذرة وعالم طب، وحتى يعلم كل واحد حجمه ومدى معلوماته قال سبحانه فيهم ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )[4].
    لكن الله يعلم كل شيء فهو الإله، ولا يكون إلها وهو يجهل شيئا، وهذا مؤهل قوي من مؤهلات الألوهية، يجعلنا نسجد لله خضوعا ونحن راضون موقنون مقتنعون قناعة كاملة.
    لقد حظيت صفة العلم في نصوص القرآن مكانة خاصة، لأن الأثر المترتب عليها بالنسبة للإنسان بالغ الأهمية، من خلال مراقبة الله التي تجعل قلب المؤمن مستحضر عظمة الله في قلبه، ما يصرفه عن المعاصي والآثام.
    والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرض، ولذلك عقب بقوله بعده ( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ) وأما عطف والشهادة فهو تكميل واحتراس.[5]
    وتقدم الغيب على الشهادة: لأن علم الغيب أمدح، لأن الغيب عنا أكثر من المشاهدة، ولأنه تعالى يعلمه قبل أن يكون.[6]
    البشر يعلمون ظاهر الأشياء ابتداء، ثم إن تيسر علموا بواطنها ضمن إدراك عقولهم، فلو رأيت نوع من الفاكهة نراه شكلا – ظاهرا- جميلا، لكن ما هو طعمه؟! ننتظر بعد أكله.
    فعلومنا تبدأ بالظاهر وربما تصل لشيء من الباطن، لكن من قدرة الله وعظمته أنه يعلم الغيب والشهادة، وأحيانا يذكر الله فقط الغيب ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) لأنه لو علم الغيب من باب أولى الشهادة.
    فكل ما غاب عنا من أشياء يعلمها الله؛ ما يخفيه بعضنا عن بعض، ما غيبه الإنسان في ضميره، ما سيفعله الإنسان ولم ينوه بعد، ما أسره الإنسان لغيره، كل ذلك يعلمه الله.
    ( أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ )[7].
    ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )[8].
    ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[9].
    ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[10].
    فالله سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلمه محيط بكل شيء ( أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ )[11].

    والعلم الإلهي مراتب:
    الأولى: علمه بالشيء قبل كونه.
    الثانية: علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ.
    الثالثة: علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه.
    الرابعة: علمه بالشيء بعد كونه وإنفاذه.
    العزيز مناسب لما قبله، فالعليم لا يخفى عليه شيء، فمهما أراد الإنسان إخفاء شيء أو المغالبة في إخفاءه، فالله الغالب الذي لا يُغلَب، والله غالب على أمره، القاهر فوق عباده، إذا قضى أمرا لابد أن يكون على ما قضاه.
    ومع ذلك فهو الرحيم اللطيف بعباده جل وعلا، فالرحيم اختصاص بعباده المؤمنين المطيعين المستقيمين على أوامره، والرحمن لكل خلقه.
    اليقين بهذه المعاني، يجعل المسلم يخضع لربه فينقاد إليه طائعا ويستسلم إليه مخبتا، ويزداد خوفا من عذاب الله وعقابه، فيستحضر عظمة الله في كل حركاته وسكناته.
    ومناسبة وصفه تعالى بالعزيز الرحيم عقب ما تقدم، أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين، فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة، وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم، فهو رحيم بهم فيما خلقهم، إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها. فهذا سبب الجمع بين صفتي العزيز والرحيم هنا على خلاف الغالب من ذكر الحكيم مع العزيز.[12]
    قول ربنا ( العزيز الحكيم ) وكذلك ( عزيزا حكيما ) وردت في القرآن في أربع وثلاثين موضعا، أما قوله تعالى ( العزيز الرحيم ) وردت ثلاث عشرة مرة.
    فمن يأخذه التواضع ويرحم من هو أضعف منه وهو قوي؟! لأنها معادلة صعبة في عالمنا، يندر أن تجد قوي ويرحم، فيصعب على العقل استيعاب هذه الحقيقة في ذات الله، أن العزة تصاحبها رحمة.

    هنالك آثار إيمانية وفوائد عملية لتلك الآية العظيمة منها:
    - يقين المؤمن الدائم أن الله مطلع على كل ما يقترفه، يدفعه دائما للطاعات ومجانبة السيئات، حتى يرقى إلى مرتبة الإحسان.
    - الغفلة عن هذا المعنى، تدفع الإنسان إلى بحر مظلم من الذنوب وظلم النفس وضعف الإيمان.
    - يقين المؤمن بأن الله يعلم سره ونجواه، يدفعه لعدم الجرأة على حدود الله، كذلك إتقان الأعمال المكلف بها بما يتعلق بالفرائض أو حتى المهام والوظيفة الدنيوية.
    فمهما تكن عند من امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
    - ينبغي تربية الأبناء على معاني مراقبة الله، وعظيم علمه، كما في وصية لقمان لابنه.
    - أن يقف المؤمن عند حدود ما يدركه عقله، ولا يصدق الكهان والعرافين والمنجمين، أو يذهب عندهم! ومن ذلك معرفة الحظ عن طريق الأبراج وغيرها من الطرق!
    - فضيلة العلم والتعلم، فالله العليم يحب العلماء، وما أوتي الإنسان نعمة بعد الإيمان أعظم من العلم.
    - ينبغي للقوي كلما ازدادت قوته يتواضع أكثر ويتراحم ويتعاطف مع الآخرين، وهذه أخلاق الكبار، ولا يتكبر أو يترفع عندها سيقع في الظلم.
    - الحق سبحانه يُعلِّمنا أن الآمر لا بد أنْ يتابع المأمور.[13]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    -------------------------------------------
    [1]تفسير القاسمي.
    [2]روح المعاني.
    [3]تفسير ابن عاشور.
    [4]( الروم: 6-7 ).
    [5]ابن عاشور.
    [6] ابن جماعة.
    [7]( البقرة:77).
    [8]( البقرة:235).
    [9]( المائدة: 99 ).
    [10]( غافر:19 ).
    [11]( فصلت:54).
    [12]ابن عاشور.
    [13] الشعراوي.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 7-30 )
    أيمن الشعبان


    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    يتجدد اللقاء معكم في واحة القرآن، وعلى مائدة سورة السجدة، التي تدور أبرز مواضيعها على أهمية الخضوع لله سبحانه، من خلال اليقين بأن هذا القرآن حق منزل من عند الله، وأن الله خالق السماوات والأرض المستحق للعبادة، القائم بشؤون العباد يدبر الأمر ويعلم السر وأخفى، ينذر الكافرين بعذاب الله، ويبشر المؤمنين بالنعيم المقيم.
    لما ذكر الله خلق السماوات والأرض شرع في ذكر خلق الإنسان فقال ( الذي أحسن كل شيء خلقه) أي أتقن وأحكم وحسَّن كل المخلوقات وهذا عام، ( وبدأ خلق الإنسان من طين ) بخلق آدم عليه السلام.
    ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف ممتهن. والسلالة الخلاصة.[1]
    في الآية ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ عَلَى النَّاسِ، أَنْ أَحْسَنَ خَلْقَهُمْ فِي جُمْلَةِ إِحْسَانِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ وَبِتَخْصِيصِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ.
    وَالْإِحْسَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَسَنًا، أَيْ مَحْمُودًا غَيْرَ مَعِيبٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْأَشْيَاءَ رَأَيْتَهَا مَصْنُوعَةً عَلَى مَا يَنْبَغِي فَصَلَابَةُ الْأَرْضِ مَثَلًا لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، وَرِقَّةُ الْهَوَاءِ لِيَسْهُلَ انْتِشَاقُهُ لِلتَّنَفُّسِ، وَتَوَجُّهُ لَهِيبِ النَّارِ إِلَى فَوْقُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَلْتَهِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَكَثُرَتِ الْحَرَائِقُ فَأَمَّا الْهَوَاءُ فَلَا يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ.[2]
    ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالاً على البعث: {وبدأ خلق الإنسان} أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن {من طين} أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه.[3]
    الإحسان إلى الخلق وإتقان صنعهم من صفات الخالق كما قال سبحانه ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ )[4].
    في الآية نعم عظيمة جليلة، منها أن خلقنا الله من العدم، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا، وأتقن كل شيء خلقه، بحكم متناهية ودقة عجيبة، وسخر لنا الأرض وما فيها وذللها لنا، لتستقيم حياتنا وتصلح شؤوننا ومعاشنا.
    الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء ونوَّعَه بطريقة وهيئة تليق به، فلا يوجد شيء قبيح مطلقا، فما يضر من جهة ينفع من جهات عديدة، فلولا وجود القبيح ما علم الإنسان الجميل! ولولا وجود المرض ما عرفنا قيمة الصحة، ولولا السواد ما عرفنا قيمة البياض! لذلك يقال: وبضدها تتميز الأشياء.
    وجود الحشرات في الظاهر نراه شرا، لكن لو تأملنا لعرفنا أن العديد من الحشرات تعمل توازن في البيئة، فيستفيد من ذلك الإنسان!
    وترتيب محكم، وما يعقل هذا إلا العالمون، وإنك قد ترى نباتا أو حيوانا أو شيئا في هذا الكون وتخفى عليك حكمته، ويعمى عنك سر وجوده، تكشف لك الأيام عن أسرار وحكم لا يجليها لوقتها إلا خالقها العليم بها البصير بكنهها.[5]
    فسوى كل شيء خلقه جعله سويا مستويا، وهذا الاستواء يعطي لمحة حسن وبصمة جمال وصورة رائعة لمن ينظر ويرى.
    وهكذا كل شيء خلقه الله لحكمة وفائدة ومنفعة ومقصد جليل، علمها من علمها وجهلها من جهلها، حتى لو كانت في الظاهر لنا شيئا قبيحا أو عبثيا أو لا فائدة منه! ينبغي أن نستيقن بأن الله قد أحكم وأتقن وأحسن كل شيء، شكلا ومضمونا وهيئة وصورة.
    عندما سأل الولد أباه: لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها؟! ولا يستخدمها إلا وهي معوجة! أجابه: أن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها! كذلك أضلاع القفص الصدري كيف تحمي الرئتين والقلب بهذا الاعوجاج!
    وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ خَلْقَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَبَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً فِي نَفْسِهَا، فَهِيَ مُتْقَنَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَعْنَى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أَيْ: لَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَلَى خَلْقِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا خَلَقَ الْبَهِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ خُصُوصٌ فِي الْمَعْنَى، أَيْ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ.[6]

    ومن هداية الآية ودلالاتها وفوائدها:
    - كما أنعم الله على خلقه بإحسان كل شيء وإتقانه، ينبغي أن نخضع لله بإحسان العبادة له، التي هي أعلى المراتب " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
    - أن لا نتعالى على أحد ولا نتكبر، ولا نزدري أي مخلوق مهما كان، لأن الله وزع المواهب وأحسن كل شيء خلقه.[7]
    - إتقان الإعمال من صفات الكمال، لذلك ينبغي لكل عامل إتقان عمله في الوظيفة دون تقصير متعمد أو هدر للوقت.[8]
    - من معاني الإحسان شكر النعم لا كفرها، كما حصل من كفر قارون الطاغية المتكبر، إذ قال له المؤمنون من أهل العلم ( وأحسن كما أحسن الله إليك ).
    - أمرنا الله بالإحسان في التعامل إلى الخلق؛ إلى الوالدين.. إلى الزوجة .. إلى الأبناء.. إلى الجار.. بل حتى إلى الحيوانات، كما قال عليه الصلاة والسلام( إنَّ اللهَ تعالى كتب الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُم، فأحْسِنوا القِتْلةَ، و إذا ذبحتُم فأحْسِنوا الذبْحةَ. و لْيُحدَّ أحدُكم شفْرتَه، و لْيُرحْ ذبيحتَه )[9].
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    -------------------------------------
    [1]تفسير القاسمي.
    [2]ابن عاشور.
    [3]نظم الدرر.
    [4]( النمل:88 ).
    [5]التفسير الواضح.
    [6]فتح القدير.
    [7] قال عليه الصلاة والسلام( إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ ). صحيح أبي داود برقم 4895.
    [8] قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ ). صحيح الجامع برقم 1880.
    [9]صحيح الجامع برقم 1795.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 8-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد أن خلق الله سبحانه أبونا آدم من طين، ( ثم جعل نسله ) أي ولده الذي يستخرج وينسل منه، من منيه ونطفته بأمر الله، سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه( من سلالة ) أي شيء مسلول منتزع منه، ( من ماء مهين ) أي حقير ذليل ضعيف قليل ممتهن مسترذل مستقذر مراق مبذول.
    السلالة: الخلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية وهي أجود ما فيه، وهو الشيء الذي يستخرج من شيء، وتطلق على المائع السائل ليس الجامد، فإذا وضعته بيدك انسل من بين أصابعك.
    المسألة دقة تكوين وعظمة خالق، ففي هذه الذرة البسيطة خصائص إنسان كامل، فهي تحمل: لونه، وجنسه، وصفاته. . الخ.[1]
    النبات ينسل أي يخرج من الأرض، وقد بين الله سبحانه أن الناس يخرجون من الأرض يوم القيامة كما يخرج النبات، بقوله سبحانه( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ).
    يطلق على الإنسان بأنه سليل، وهو بمعنى مسلول المأخوذ والخارج من مكان خرج منه خروجا رقيقا.
    والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به. والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان.[2]
    خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، من هذا المني الحقير، يخرج منسابا من ظهره بأمر الله.
    سميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية، لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله من ماء مهين بيان لسلالة.
    ومن بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكون الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضله، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون من في قوله من ماء مهين للتبعيض أو للابتداء.[3]
    كم هي نعمة عظيمة، إذ نقلنا الله من الذلة والخسة والمهانة والقذارة، إلى الرفعة والكرامة!
    أخبرنا الله بحقيقة أصلنا من العدم، ثم بداية خلقنا من نطفة لا قيمة لها، حتى نتيقن أن الله وحده العزيز الجبار ذي الجبروت، ولا يليق الكبرياء إلا به، فعلام تتكبر يا ابن آدم؟!
    يقول ربنا في الحديث القدسي( إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: إنَّ العزَّ إزاري، والكبرياءَ ردائي، فمَن نازعَني فيهِما عذَّبْتُهُ ).[4]
    يقول ابن تيمية: فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرِّداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار.[5]
    يقول عليه الصلاة والسلام( لا يدخلُ الجنَّةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ ).[6]
    يا ابن آدم: بعد أن عرفت حقيقتك ومادتك، هل ستُصر متكبرا وتستمر في عُجُبك؟!
    أما يكفيك ظلم وطغيان وتجبر وتعدي على الآخرين وأكل حقوقهم؟!!
    قال تعالى( قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ . ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ . ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ).[7]
    قَالَ الْأَحْنَفُ: عَجِبْت لِمَنْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ.[8]
    عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير أنّه رأى المهلّب وهو يتبختر في جبّة خزّ فقال: يا عبد الله، هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال له المهلّب: أما تعرفني؟ فقال بلي.
    أعرفك، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلّب وترك مشيته تلك.[9]
    قال محمد بن الحسين بن علي: ما دخل قلب امرئ شيء من الكِبْر قط، إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر.[10]
    ولما كان موضوع السورة الخضوع، ومادتها اليقين، وأبهى صورها السجود لله سبحانه، فهو أقصر طريق لكبح جماح الكبر والترفع والتعالي، فما أروع سياق القرآن وقوة دلالالته.
    قال الحسن: السّجود يذهب بالكبر، والتّوحيد يذهب بالرّياء.[11]
    لذلك تأمل آيات سورة السجدة، فيها نفع عظيم وثمرة عملية كبيرة، تدفع صاحبها لاستشعار عظمة الله وأهمية الخضوع إليه بكثرة السجود، كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابي ( أعني على نفسك بكثرة السجود ).[12]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    -----------------------------------------
    [1]الشعراوي.
    [2]ابن عاشور.
    [3]ابن عاشور.
    [4]صحيح الجامع برقم 1908.
    [5]العبودية ص99.
    [6]صحيح مسلم.
    [7] ( عبس: 17-21).
    [8]أدب الدنيا والدين.
    [9]إحياء علوم الدين.
    [10]إحياء علوم الدين.
    [11]التواضع لابن أبي الدنيا.
    [12]صحيح مسلم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 9-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد أن بين الله سبحانه بداية خلق الإنسان، ينقلنا إلى التفصيل ببعض النعم التي وهبها الله لنا، فقال سبحانه ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ )[1].
    ومن المناسب أن يذكر الحق سبحانه السمع والأبصار والأفئدة بعد الحديث عن مسألة الخَلْق؛ لأن الإنسان يُولَد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وبهذه الأعضاء والحواس يتعلّم ويكتسب المعلومات والخبرات كما قال سبحانه: { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.[2]
    {ثم سواه} بلحمه، وأعضائه، وأعصابه، وعروقه، وأحسن خلقته، ووضع كل عضو منه، بالمحل الذي لا يليق به غيره، {ونفخ فيه من روحه} بأن أرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، فيعود بإذن الله، حيوانا، بعد أن كان جمادا.[3]
    {ثم سواه} يعني: آدم، لما خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما، {ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} ، يعني: العقول، {قليلا ما تشكرون} أي: بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل. فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عز وجل.[4]
    {ثم سواه} أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني {ونفخ فيه من روحه} الروح ما يمتاز به الحي من الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.
    ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً: {وجعل} أي بما ركب في البدن من الأسباب {لكم السمع} أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً {والأبصار} تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.[5]
    وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.[6]
    { والأَفْئِدَةَ } سمي القلب فؤاداً لأنه منبع الحرارة الغريزية من المفتأد وهو موضع النار.[7]
    لماذا اختص الله هذه الأعضاء من دون البقية، قالوا: لأنه بهذه الأعضاء والحواس يحصل العلم والفهم، وهذا هو المقصود، فلا يمكن للإنسان أن يتعلم من غير سمع أو من غير بصر أو من غير تأمل وتدبر وتعقل في القلب.
    جاء في سورة الملك قوله تعالى ( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ )[8]، وفي سورة المؤمنون ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ )[9]، تكرار هذا الأمر للاهتمام بتلك الحواس، وأنها إذا استثمرت بما أعطانا الله من علل لوجودها ستقودنا إلى مرضاة الله.
    هنا التفات في الخطاب، من الغائب إلى المخاطب، من باب التفنن في البيان وتنشيط الأذهان، وأهمية تلك النعم التي سيذكر بها الإنسان!
    في معظم الآيات يأتي السمع مفردا، قيل لأنها مصدر وهو يشمل الجنس فيؤدي القليل والكثير.
    وهنالك التفاتة لطيفة لإفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة؛ قالوا: النظر إلى الأشياء بين الناس متفاوت، فلو نظرت أنا إلى شيء قد أنتفع بفائدة ما، تختلف عن نظر غيري وهكذا، فلما تعددت الأنظار جاء البصر هنا بالجمع " الأبصار".
    القلب كذلك، عندما ننظر أو نسمع لشيء لابد أن نتفكر نتدبر، وهذا يختلف من شخص لآخر فالأمر متنوع متعدد، فتأمل، والسمع جاء مفرد لأنه للجميع واحد.
    ولماذا قدم السمع على البصر؟!
    الجواب: أنك دائما من تسمعه يكون أقرب إليك ممن تبصره، لذلك السمع أهم ومقدم على البصر، والسمع هو شرط من شروط النبوة، لذلك ما بعث الله عز وجل نبيا أصم، لأن الحجة عندها لا تقام!
    ولا يمكن لك أن تنتفع بالمعلومة إلا أن تسمعها قبل أن تراها.
    ولو تأملنا إلى بديع صنع الله في هذه الحواس لوجدنا أمرا مذهلا؛ من الناحية التشريحية فإن مركز السمع يكون في الصدغ الأمامي من الدماغ، ومركز البصر يكون في قفى الدماغ، لذلك قدم السمع على البصر.
    من الناحية الوظيفية: السمع يتنشط ويبدأ يتفعل عند الإنسان وهو في بطن أمه بعمر خمسة أشهر، بخلاف جميع الحيوانات.
    وحاسة البصر تبدأ عند الجنين العمل بعد الشهر الثالث من الولادة، وعند ستة شهور يبدأ التمييز، وتكتمل عند سن العشر سنين.
    القلب وهو مجمع التعقل والتدبر والعاطفة والحفظ والذاكرة، والفؤاد يطلق ويراد به القلب أحيانا، ويراد به العقل عند العرب، لا يبدأ بالتفعل إلا بعد أن يصل الجنين إلى سنتين من العمر!
    ( قليلا ما تشكرون ) ينبغي علينا شكر هذه النعم، وشكر السمع أن يكون هذا المسموع حقا ولا نسمع باطلا، كالغناء والغيبة والنميمة والباطل، ومن شكر السمع أن نستمع لأهل العلم الربانيين الحكماء الفضلاء ما عندهم من الخير، وكذلك من شكر السمع الإصغاء إلى الموعظة.
    ومن شكر البصر أن لا تنظر إلى ما حرم الله، والنظر إلى مخلوقات الله والتأمل والتفكر في عظيم صنعه.
    ومن شكر القلب كثرة خشية الله والإنابة والخوف ومحبة الله والمؤمنين والصالحين والخضوع له.
    ولما لم يدقق الناس أو يستشعروا عظم هذه النعم، وكيفية خلقتها وما فيها من خلايا وأعصاب، ألفوها ولم يكترثوا شكروا أم لم يشكروا! فالأذن الواحدة تحوي 100 ألف خلية سمعية! والعين فيها 130 مليون مستقبلات ضوئية، تكون عند رؤوس الأعصاب ولها وظيفة في عكس الصورة حتى ننظر، ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ).
    وهذا أسلوب يدل على نفي الشكر، كما تقول ( فقليلا ما يؤمنون ) هم ليس لديهم إيمان! كذلك ليس لدى الكفار شكر.
    ( قليلا ما تشكرون ) الشاكرون لله قليل والكافرون كثير، وهذا في كل زمان ومكان.
    والعدول عن أن يقال: وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لأن ذلك أعرق في الفصاحة، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف، ولأن كلمة الأفئدة أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها.
    لذلك كانت حاسة السمع هي المصاحبة للإنسان، ولا تنتهي مهمتها حتى في النوم، وبها يتم الاستدعاء، أما العين فلا تعمل أثناء النوم.[10]
    وتقديم السمع والأبصار على الأفئدة هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل.[11]
    في آية السجدة يتكلم عن مدارك العلم، أما في الطمس والختم جاء على أعظم الأشياء وطالما ختم على الأفئدة فلا قيمة للسمع والبصر.
    ولم يأْتِ البصر مفرداً - في هذا السياق - إلا في موضع واحد هو قوله تعالى: { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ذلك لأن الآية تتكلم عن المسئولية، والمسئولية واحدة ذاتية لا تتعدى، فلا بُدَّ أنْ يكون واحداً.[12]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
    --------------------------------
    [1]( السجدة:9 ).
    [2] الشعراوي.
    [3]السعدي.
    [4]ابن كثير.
    [5]البقاعي.
    [6]ابن عاشور.
    [7]العز بن عبد السلام.
    [8]( الملك:23).
    [9]( المؤمنون:78).
    [10] الشعراوي.
    [11]ابن عاشور.
    [12] الشعراوي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 10-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أصل عظيم وهو الرسالة بقوله ( تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين )، ثم أتبعها بذكر أصل هام آخر وهو الوحدانية بقوله ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون )، أتبعها هنا بذكر الأصل الثالث وهو المعاد والحشر بنقل قول الكفار ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ).
    لما قال: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ بَيَّنَ عَدَمَ شُكْرِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَإِنْكَارُ قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى.[1]
    يقول تعالى ذكره: وقال المشركون بالله، المُكذّبون بالبعث: (أئِذَا ضَلَلْنا في الأرْض) أي: صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض، وغبنا فيها واندثرت ذراتنا، وبلينا وتمزقنا وتفرقنا في المواضع التي لا تعلم.
    وإنما عنى هؤلاء المشركون بقولهم: (أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ) أي: إذا هلكت أجسادنا في الأرض؛ لأن كلّ شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيما غلب، فإنه قد ضلّ فيه.[2]
    وقال تعالى في سورة الإسراء نقلا عن الكفار قولهم ( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا )[3].
    الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ وَاللَّهُ لَيْسَ بِوَاحِدٍ وَقَالُوا الْحَشْرُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ.[4]

    ( أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى إِنْكَارٍ؛ أَيْ: إِنَّا لَا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ.[5]
    ( بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون ) إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ كفرِهم بالبعثِ إلى بيانِ ما هُو أبلغُ وأشنعُ منه وهو كفرُهم بالوصولِ إلى العاقبةِ وما يلقَونه فيها من الأحوالِ والأهوالِ جميعاً.[6]
    يقول ربنا سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام ( بل ) اترك كلامهم وأعرض عنهم صفحا، فهذا كلام لا يقوله عاقل، ولا تسمعه فلا يستحق الاستماع، وهذا حال كلام أهل الباطل.
    ويكفيهم، أنهم معهم علم أنهم قد ابتدئوا من العدم، فالإعادة أسهل من الابتداء، وكذلك الأرض الميتة، ينزل الله عليها المطر، فتحيا بعد موتها، وينبت به متفرق بذورها.[7]
    لَيْسَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِلِاسْتِبْعَاد ِ وَالِاسْتِحَالَ ةِ لِأَنَّ دَلَائِلَ إِمْكَانِهِ وَاضِحَةٌ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ وَلَكِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ كُفْرُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ كُفْرُهُمُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.[8]
    وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ والثبات عَلَيْهِ.[9]
    إذن: تكذيبهم ليس للبعث في حَدِّ ذاته، إنما للقاء الله وللحساب، لكنهم ينكرون البعث؛ لأنه يؤدي إلى لقاء الله، وهم يكرهون لقاء الله، فينكرون المسألة من بدايتها.[10]
    قال عليه الصلاة والسلام( إنَّ في الإنسانِ عظمًا لا تأكلُه الأرضُ أبدًا فيه يُركَّبُ يومَ القيامةِ قالوا أيُّ عظمٍ هوَ؟ يا رسولَ اللهِ ! قال عَجْبُ الذَّنَبِ ).[11]
    عجب الذنب: هي عظمة صغيرة جدا بقدر حبة العدس في آخر السلسلة الفقرية وتسمى" العصعص".
    الطبيب الأمريكي أنطوني جوستين اكتشف، أن الخلايا الجذعية في عظم عجب الذنب فيها ذرات تنتج الهيكل العظمي للجسم كاملا، كما أن في كل عظم خلايا جذعية يمكن أن يتولد منها عظم مشابه له! فصدق الله إذ يقول ( كما بدأكم تعودون ).

    من فوائد وهداية الآية:
    - الكفار عندما أنكروا إمكانية عودتهم خلقا جديدا، كأنهم لم ينظروا إلى أول خلقهم من العدم! فينبغي على الإنسان إذا ما ارتقى في المجتمع واكتسب مكانة مرموقة، أن لا ينسى أصله وأهله وناسه! وأن لا يتعالى ولا يترفع أو يتكبر!
    - الإنسان لما ينسى الحساب يفعل ما يشاء في الدنيا، فيرتكب المحرمات ويظلم الناس ويأكل الأموال بالباطل، فالله سبحانه يذكر الخلق بيوم القيامة ليجازيكم على أعمالكم.
    - اليقين بحقيقة اليوم الآخر تدفع المؤمن إلى الخوف من الله سبحانه، وبذل وسعه لفعل كل خير.
    - الكفار قاسوا إنكارهم إمكانية إعادة الخلق مرة أخرى، بعقولهم المحدودة، وعليه ينبغي أن لا نطلق العنان لعقولنا لتتدخل بكل شيء، إنما لها حدود بحسب الإدراك لا يحسن بها تجاوزه.
    - الحق أبلج والباطل لجلج، لا يستحق الإصغاء ولا الاستماع له، فلا تسمع لأهل الباطل كل ما يقولون وليكن لديك يقين ببطلان ما يعتقدون.
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    ------------------------
    [1] الرازي.
    [2] الطبري.
    [3] ( الإسراء:49 ).
    [4] الرازي.
    [5] ابن أبي زمنين المالكي.
    [6] أبو السعود.
    [7] السعدي.
    [8] ابن عاشور.
    [9] ابن عاشور.
    [10] الشعراوي.
    [11] صحيح مسلم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 11-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد إنكار الكفار البعث وكفرهم بلقاء الله، ومعلوم أن البعث إيجاد حياة جديدة، فإذا بالقرآن يحدثهم عن الوفاة، وهي نقض للحياة، ليذكرهم بهذه الحقيقة.
    قال تعالى ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ )[1].
    ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب. دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق. فقال مستأنفاً: {قل} أي جواباً لهم عن شبهتهم: {يتوفاكم} أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة.[2]
    {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ أي يقبضُ أرواحكم بحيث لايدع فيكم شيئاً أو لا يتركُ منكم أحداً على أشد ما يكون من الوجوهِ وأفظعِها من ضربِ وجوهِكم وأدبارِكم.[3]
    أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُعِيدَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ إِذْ هُوَ مَنَاطُ إِنْكَارِهِمْ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ يَتَوَفَّاهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ فَذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْمَوْتِ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ أَلْهَتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَنِ النَّظَرِ فِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِعْدَا دِ لَهُ فَذُكِّرُوا بِهِ ثُمَّ أُدْمِجَ فِيهِ ذِكْرُ مَلَكِ الْمَوْتِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ مِنَ الْمَوْتِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ فَإِنَّهُ مُوَكَّلٌ بِكُلِّ مَيِّتٍ بِمَا يُنَاسِبُ مُعَامَلَتَهُ عِنْدَ قَبْضِ رُوحِهِ.[4]
    يَعْنِي لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ مِنَ الْحَيَاةِ بَعْدَهُ.
    وَقَوْلُهُ: الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ وَإِذَا جَاءَ أَجَلُكُمْ لَا يُؤَخِّرُكُمْ إِذْ لَا شُغْلَ لَهُ إِلَّا هَذَا.[5]
    ومعنى الآية الإجمالي:
    قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما سمعت قولهم وانكارهم هذا يَتَوَفَّاكُمْ ويستوفى اجلكم أولا ايها المنهمكون في الغفلة والضلال مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بإذن الله لقبض أرواحكم ثُمَّ بعد ما قبضتم في النشأة الاولى وبعثتم من قبوركم احياء في النشأة الاخرى إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ للعرض والجزاء.[6]
    والتوفي أخذ الشيء على تمام, مأخوذ من توفية العدد ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان.[7]
    الله عز وجل الذي خلق الخلق، يتوفى الأنفس حقيقة ويأمر ملك الموت بانتزاع الروح، والذي له أعوان يرتقون بالروح إلى مستقرها في عليين إذا كانت مؤمنة، وفي سجين إذا كانت كافرة.
    قال تعالى( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا )[8]، وقال عز وجل ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ )[9].
    {ثم إلى ربكم} أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم {ترجعون} بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلاًّ بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً.[10]
    وفى هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء.[11]
    فالحق الذي قال أنا خلقتُ الإنسان لم يقُلْ وأنا سأعدمه إنما سأتوفاه، فهو عندي كاملٌ بروحه وبذراته التكوينية، والذي خلق في البَدْء قادر على الإعادة، وجمع الذرات التي تشتتت.[12]
    وفي بعض الأحاديث التي ذكرت ملك الموت منها قوله عليه الصلاة والسلام( إنَّ رجلًا مِمَّن كانَ قبلَكُمْ أتاه ملَكُ الموتِ ليَقبِضَ نَفْسَه، فقال لهُ: هل عمِلتَ مِن خيرٍ؟ قال: ما أَعلَمُ، قال لهُ، انظُرْ، قال: ما أعلَمُ شيئًا غيرَ أنِّي كنتُ أُبايِعُ النَّاسَ وأُحارِفُهمْ، فأُنظِرُ المُعسِرَ، وأتجاوَزُ عن الموسِرِ، فأدخلَه اللهُ الجنَّةَ ).[13]
    ينتشر لدى كثير من الناس أن اسم ملك الموت" عزرائيل!" وهذا غير صحيح، فلم يثبت من الأسماء إلا ملك الموت، وهذه من القضايا الغيبية التي لا يمكن أن تؤخذ بالرأي والاجتهاد أو الروايات الضعيفة والموضوعة، فما ورد في القرآن كما في الآية التي معنا هو " ملك الموت" وكذا في الأحاديث الصحيحة.
    في هذه الآية موعظة عظيمة وتذكرة جليلة، فالموت الفاجعة التي لا تماثلها فاجعة، والكارثة التي لا تدانيها كارثة، والمصيبة التي لا تقاربها مصيبة.
    الموت مفرق الجماعات، ومشتت القرابات، ومُيتّم البنين والبنات، ولولا الموت لتنعم أهل النعيم بنعيمهم، ولكن الموت نغص عليهم هذا النعيم فهلا نعيما لا موت فيه؟!
    فالموت لا مفر منه، قال تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال سبحانه( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ).
    قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أصبح أحد إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة.
    يقول عليه الصلاة والسلام( قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه و اعمل ما شئت فإنك ملاقيه).[14]
    ولنعلم جميعا يقينا، أن كل باكٍ سيُبكى، وكل ناعٍ سينعى، وكل مذكور سيُنسى، وكل مدخور سيفنى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى، وكل من شيع جنازة سيشيع، وكل من غسل ميتا سيُغسل، وكل من مشى في جنازة سيُمشى في جنازته، وكل من حفر قبرا سيُحفر له قبره، فلماذا الغفلة وطول الأمل والتكبر والغرور وربنا سبحانه يقول ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ).
    قال كعب الأخبار رضي الله عنه: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا.
    حينما حضر المأمون الموت قال: " أنزلوني من على السرير". فأنزلوه على الأرض ... فوضع خده على التراب و قال: "يا من لا يزول ملكه ... إرحم من قد زال ملكه".

    لما كان موضوع السورة الخضوع ومادتها اليقين، ذكر الله سبحانه في هذه الآية عدة مخوفات لحصول تلك الثمرة لمن تأمل وتدبر وألقى السمع وهو شهيد، منها:
    - المبلغ لحقيقة المعاد والبعث بعد الموت هو النبي عليه الصلاة والسلام، ( قل ) للكفار ( يتوفاكم ملك الموت )، وهذا فيه تعظيم لتلك الحقيقة حتى يزداد أيضا اليقين بها.
    - ذكر الموت مع أن غاية الآية بالأصل إثبات المعاد والرجوع إلى الله، لكن لأنهم انشغلوا بالملذات وغرتهم الحياة الدنيا غفلوا عن الموت فوقعوا بالتعلق بالدنيا وإنكار لقاء الله، والموت الزائر الذي يأتي بلا استئذان، ولولاه لتنعم أهل الدنيا بدنياهم، وهو حق على كل نفس، وما ذكر في قليل إلا كثّره ولا كثير إلا قلله!
    - ذكر ملك الموت باسمه لزيادة اليقين بهذا الانتقال من الحياة إلى الموت، وهو من الملائكة العظام الذي ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ).
    - ( وكل بكم ): أي: يرقبكم ولا يغفل عنكم، يلازمكم ولا ينصرف عنكم، بحيث لا مهربَ منه ولا فكَاك.[15]
    - في الآية انتقال والتفات من أسلوب الغائب ( وقالوا أإذا ضللنا )، إلى المخاطب ( يتوفاكم ) دليل على أهمية الخضوع والتضرع وشدة التهديد بالموت ثم المعاد.
    - ( ثم إلى ربكم ترجعون ) تفيد أن المعاد والحساب يحصل بعد الأمر الأول وهو الموت، وهنالك فترة زمنية يقضيها الإنسان في القبر!
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    -------------------------------------
    [1]( السجدة:11).
    [2]البقاعي.
    [3]تفسير أبي السعود.
    [4]ابن عاشور.
    [5]مفاتيح الغيب.
    [6]الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
    [7]تفسير الماوردي.
    [8] ( الزمر:42).
    [9] ( الأنعام:61).
    [10]البقاعي.
    [11]المراغي.
    [12]الشعراوي.
    [13]صحيح الجامع برقم 2079.
    [14] صحيح الجامع برقم 4355.
    [15]الشعراوي.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 12-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    في الآية التي معنا ينتقل الله سبحانه وتعالى، لوصف وبيان حال من لم يخضعوا لمقاصد هذه السورة، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بَيَّنَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ[1]فيقول جل وعلا ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ).[2]
    لما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان.[3]
    يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَالِهِمْ حِينَ عَايَنُوا الْبَعْثَ، وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ، نَاكِسِي رُؤُوسِهِمْ.[4]
    أي: لو رأيت يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ناكسوا رؤوسهم عند ربهم[5]، من الغم والذلّ والحياء والندم وشدة الوجل والخزي والخسارة، يقولون: أبصرنا يقينا ما كنا نشك ونكذب به في الدنيا من البعث والحساب يوم القيامة، لم يوقنوا في الدنيا اختيارا فأيقنوا في الآخرة اضطرارا!
    عِنْدَ رَبِّهِمْ لِبَيَانِ شِدَّةِ الْخَجَالَةِ لِأَنَّ الرَّبَّ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ الْمَرْبُوبُ، ثُمَّ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْخَجَالَةِ.[6]
    وفي الأصل هم يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا، لكن حذفت لبيان شدة خجالتهم!
    قَالَ قَتَادَة: أبصروا حِين لم يَنْفَعهُمْ الْبَصَر. وسمعوا حِين لم يَنْفَعهُمْ السّمع.[7]
    نلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى. .} [السجدة: 12] فلم يقل مثلاً: ولو تعلم؛ لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين، فحين يخبرك الله بأمر، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى؛ لأن عينك قد تخدعك، أما إخبار الله لك فهو الحق.[8]
    المجرمون جمع مجرم، وهو الإنسان المخطئ الآثم صاحب الخطيئة الذي أشرك أتى الكبائر وأجرم في حق خلقه وخالقه.
    في معظم الآيات يقدم السمع على البصر إلا في آية قصة الكهف وهذه الآية والسبب، لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولاً، ثم نسمع ما نراه.
    قال تعالى في سورة الكهف (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً {26}) وقال في سورة السجدة (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ {12}) والمعلوم أن الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ لأن فاقد البصر الذي يسمع يمكن تبليغه أما فاقد السمع فيصعب تبليغه ثم إن مدى السمع أقل من مدى البصر فمن نسمعه يكون عادة أقرب ممن نراه، بالإضافة إلى أن السمع ينشأ في الإنسان قبل البصر في التكوين. أما لماذا قدّم البصر على السمع في الآيتين المذكورتين فالسبب يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يراهم أحد، ولجأوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد، لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف، وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم، إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية.
    وكذلك في آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمين الذين كانوا في الدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها ولا يبصرون لكن ما يسمعوه كان يدخل في مجال الشك والظنّ ولو تيقنوا لآمنوا أما في الآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه لأنهم أصبحوا في مجال اليقين وهو ميدان البصر (عين اليقين) والآخرة ميدان الرؤية وليس ميدان السمع وكما يقال ليس الخبر كالمعاينة. فعندما رأوا في الآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولذا اقتضى تقديم البصر على السمع.[9]
    هنا بالذات يقدم البصر على السمع، لأن اليقين أقرب حصوله في البصر من مجرد سماع الخبر كما في درجات اليقين ( علم اليقين ) تسمع بالخبر عن الجنة لكن لو رأيتها تكون عين اليقين، ثم حق اليقين إذا دخلتها.
    في آية أخرى يختصر الكافر المجرم رجوعه إلى الدنيا بعمل واحد هو الصدقة، لما عرف فضلها وعاين حقيقتها وأجرها، يقول ربنا سبحانه واصفا هذا المشهد( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ )[10].

    من هداية الآية:
    - الجزاء من جنس العمل، فكل من خالف أوامر الله في الدنيا سيعاقب بنقيض قصده يوم القيامة.
    - تنكيس رؤوس المجرمين يوم القيامة، إشارة إلى أن من تكبر وترفع ولم يستجب لأوامر الله في الدنيا، نُكِّس رأسه في الآخرة، ومن تواضع رفعت رأسه.

    يصور لنا ربنا في هذه الآية مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وكيف يساق المجرم ذليلا مهانا، ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا . هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ )[11]، كما أن هنالك مشاهد لأهل النار حري بنا الوقوف عليها وتأمل سياقها وما يحصل فيها من خطاب وكلام المجرمين في النار:
    المشهد الأول: قال تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )[12].
    المشهد الثاني: قال تعالى( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )[13].
    المشهد الثالث: قال تعالى(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ).[14]
    المشهد الرابع: قال تعالى(وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ .قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ )[15].
    المشهد الخامس: قال تعالى( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ . لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )[16].
    فلا يستجاب لهم في رجوع أو شراب أو طعام أو تخفيف أو حتى القضاء عليهم بالموت، ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )[17].
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    --------------------------------
    [1]مفاتيح الغيب.
    [2]( السجدة:12).
    [3]البقاعي.
    [4]ابن كثير.
    [5]الهداية إلى بلوغ النهاية.
    [6]مفاتيح الغيب.
    [7]تفسير السمعاني.
    [8]الشعراوي.
    [9]د. فاضل السامرائي.
    [10]( المنافقون:10).
    [11]( الطور:13).
    [12]( المؤمنون: 99-100).
    [13]( فاطر:37 ).
    [14]( الأعراف: 50).
    [15]( غافر: 49-50).
    [16]( الزخرف:77-78).
    [17]( الزخرف:74-75).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 13-30 )
    أيمن الشعبان


    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    يقول ربنا سبحانه جوابا عن قولهم: ( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا )، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي لَوْ أَرْجَعْتُكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَيْتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمَّا لَمْ أَهْدِكُمْ تَبَيَّنَ أَنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا شِئْتُ إِيمَانَكُمْ فَلَا أَرُدُّكُمْ.[1]
    ولما لم يذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.
    ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره: إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها: {ولو شئنا} أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد {لأتينا كل نفس} أي مكلفة لأن الكلام فيها {هداها} أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.[2]
    ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها أي تقواها ولكن حق القول مني أي في القضاء السابق لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي سبق القول حيث قلت لإبليس، عند قوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.[3]
    {من الجنة} أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم.[4]
    (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظم كاملة، كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس فى المرتبة التي هى أهل لها بحسب استعدادها، كما توضع فى الإنسان العين فى موضع لا يصلح له الظفر والإصبع، والمعدة فى موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله:
    (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس الذين هم أهل لها، بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة كما لا يعيش البعوض والذباب، إلا فى الأماكن القذرة، ليخلّص الجو من العفونات، ولو جعلا في القصور النظيفة النقية ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاء ولا منفعة لهما.[5]
    ( ولكن حق القول مني ) أي وقع وثبت وقُطع به.
    وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَجَبَلْنَا كُلَّ نَفْسٍ عَلَى الِانْسِيَاقِ إِلَى الْهُدَى بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا جُبِلَتِ الْعَجْمَاوَاتُ عَلَى مَا أُلْهِمَتْ إِلَيْهِ مِنْ نِظَامِ حَيَاةِ أَنْوَاعِهَا فَلَكَانَتِ النُّفُوسُ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى النَّظَرِ فِي الْهُدَى وَضِدِّهِ، وَلَا إِلَى دَعْوَةٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكِلَ إِلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ تَعْمِيرَ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ عُنْوَانًا لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ الْعَامِرَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَى لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْإِنْسَانِ عَقْلًا يُدْرِكُ بِهِ النَّفْعَ وَالضُّرَّ، وَالْكَمَالَ وَالنَّقْصَ، وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ، وَالتَّعْمِيرَ وَالتَّخْرِيبَ، وَتَنْكَشِفُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ عَوَاقِبُ الْأَعْمَالِ الْمُشْتَبِهَةِ وَالْمُمَوَّهَة ِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَجْنَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ فِي مُكْنَتِهِ بِإِرَادَةٍ تَتَوَجَّهُ إِلَى الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَخَلَقَ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعَمَلِ وَآلَاتِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً فَكَانَ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا لِأَنْ يَعْمَلَ وَأَنْ لَا يَعْمَلَ عَلَى وِفَاقِ مَيْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَكَسْبِهِ.[6]

    الهداية نوعان:
    الأولى: هداية بيان وإرشاد ودلالة، وبها تقام الحجة على الناس.
    الثانية: هداية إذعان وخضوع وانتفاع ومعونة، والتي يوفق لها عباد الله المؤمنين الطائعين.
    قال تعالى( وأما ثمود فهديناهم ) أي دللناهم وأرشدناهم، ( فاستحبوا العمى على الهدى ).
    والحق سبحانه يترك الكافر يكفر باختياره، والعاصي يعصي باختياره ليؤذي الناس بإثم الكافر وبإثم العاصي، وعندها يعودون إلى تشريع الله ويلجئون إلى ساحته سبحانه، ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خَلَلٌ في حياتهم أبداً.
    لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية، ونقول: الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد.[7]
    ومعنى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] عرفنا أن الله تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلاً يملأونها، وخلق النار وخلق لها أهلاً يملأونها، فليس فيهما أزمة أماكن، فالجنة أُعِدَّتْ لتسع جميع الخَلْق إنْ آمنوا، وكذلك النار أُعِدَّتْ لتسع الخَلْق جميعاً إنْ كفروا.
    لذلك حين يذهب أهل الجنة إلى الجنة يرثون أماكن أهل النار فيها، كما قال سبحانه: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].[8]
    ( لأملأن جهنم ) النار تمتلئ دون الجنة، لأن رحمة الله واسعة والجنة واسعة!
    جهنم: اسم من أسماء النار، وهي النار المستعرة المتقدة الحمراء الملتهبة، وتطلق على الشيء المشتعل، وتطلق على عين الأسد أنها جهنمة، لما فيها من غضب.
    وهذا التنوع مؤمن وكافر.. صادق وكاذب.. غني وفقير.. طائع وعاصي.. هو ابتلاء ليفتن بعضنا ببعض كما قال سبحانه ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون )، وربنا قادر أن يجعلنا جميعا مؤمنين كالملائكة!
    فالكافر فتنة للمؤمن والمؤمن فتنة للكافر، والغني فتنة للفقير والفقير فتنة للغني، والصحيح فتنة للمريض والمريض فتنة للصحيح، والقوي فتنة للضعيف والضعيف فتنة للقوي، والجميل فتنة للقبيح والقبيح فتنة للجميع، والرجل فتنة للمرأة والمرأة فتنة للرجل وهكذا.
    الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه قسم الخلق إلى شقي وسعيد، وابتلاهم وامتحنهم ليظهر المطيع المنقاد من العاصي المتمرد، وجعل لهم دارين‏‏: دار الجنة للمتقين المؤمنين ودار العذاب - وهي جهنم - للكفار والمنافقين.
    دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هو الحق الذي يناسب كل إنسان إلى العاقبة التي تجانس عمله، إحقاقا للحق وإبطالا للباطل، وهذا من تمام حكمة الله وعدله بأن لا يساوي بين المختلفين، وقد نص الله على هذه الحقيقة بعدة مواضع منها قوله ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون )، وقوله سبحانه ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار )، وغيرها.
    الله سبحانه وتعالى غني عن عذاب الناس ولكن بشرط الشكر والإيمان كما قال سبحانه ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ).
    رحمة الله تعالى ورأفته وحلمه وعفوه ونحو ذلك من صفاته، لا يصح أن تفصل عن علمه وحكمته وعدله وعزته وجبروته وانتقامه ونحو ذلك من صفاته؛ فإن قضاء الله وقدره يجري بمقتضاها جميعا.[9]
    كثير من الناس عندما يقترف المعاصي يقول: بأن الله قدر علي ذلك! لكن الحقيقة كما تشير الآية لو شاء الله أن يجبر الناس على شيء لأعطى كل نفس هدايتها وصلاحها وتقواها لا العكس فتأمل!
    مع أن الكفار طلبوا من الله إرجاعهم إلى الدنيا، لم يلتفت الله سبحانه إليهم بل أجاب وقرر حقيقة عظيمة تتعلق بقدر الله ومشيئته، فاليقين بقدر الله يجعل القلب خاضعا مطمئنا ساجدا لله تعالى كما قال ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ).
    قال عطاء بن الخفاف: ما لقيت الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً!

    ومن هداية الآية:
    - كل خير واستقامة وصلاح وتقوى هو بتوفيق الله وفضله وكرمه علينا لا بقوتنا أو حنكتنا، وكما قيل: ما نزل شيء إلى الأرض أعظم من التوفيق.
    - ينبغي أن نحمد الله على نعمة الإسلام، ونتأمل ونتفكر بمن حولنا، كيف اصطفانا الله سبحانه من بين هذه الملايين من الناس واختصنا بتلك النعمة العظيمة التي ينبغي أن لا نفتر عن شكرها.
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.




    ----------------------------
    [1]مفاتيح الغيب.
    [2]البقاعي.
    [3]محاسن التأويل.
    [4]البقاعي.
    [5]المراغي.
    [6]ابن عاشور.
    [7]الشعراوي.
    [8]الشعراوي.
    [9]موقع إسلام ويب.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 14-30 )
    أيمن الشعبان


    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    لما بين الله سبحانه للكفار، أنه لا رجوع لهم إلى الدنيا، أنبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي وترك الطاعة له، فقال ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ).
    بعد أن يُلقى بالمجرمين في نار جهنم يقال لهم: على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، وعملكم عمل الناسي له، لذا فإنا سنعاملكم معاملة الناسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شيء، وهذا ما يسمى بأسلوب المقابلة أو المشاكلة.
    {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي: يقال للمجرمين، الذين ملكهم الذل، وسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليستدركوا ما فاتهم، قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب، فذوقوا العذاب الأليم، بما نسيتم لقاء يومكم هذا، وهذا النسيان نسيان ترك، أي: بما أعرضتم عنه، وتركتم العمل له، وكأنكم غير قادمين عليه، ولا ملاقيه.[1]
    وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوما، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم؛ أي: فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة: ذوقوها وجربوها بسبب نسيانكم وترككم الاستعداد للقاء ربكم في يومكم هذا، بترك الإيمان والطاعات.[2]
    {وذوقوا عذاب الخلد} أي: العذاب غير المنقطع، فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية، كان فيه بعض التنفيس والتخفيف، وأما عذاب جهنم - أعاذنا الله منه - فليس فيه روح راحة، ولا انقطاع لعذابهم فيها. {بما كنتم تعملون} من الكفر والفسوق والمعاصي.[3]
    فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا.
    النسيان: الإهمال والإضاعة.
    والباء للسببية: أي بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم.
    والنسيان في قوله نسيناكم مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة.
    { إنا نسيناكم } أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي.[4]
    يومكم هذا: أضيف إلى ضمير المخاطب من باب التهكم، لأنهم أنكروا هذا اليوم في الدنيا، فلما عاينوه أصبح أشد اختصاصا بهم.
    ولأن الجزاء من جنس العمل، فلما نسوا وأهملوا وتكبروا عن أوامر الله وكذبوا بهذا اليوم واستبعدوا وقوعه، تركهم الله في العذاب وسبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالهم التدبر في حلول هذا اليوم.
    ويقال لهم أيضا على سبيل التأكيد: وذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم.[5]
    فكأن الله يقول: إنني عاقبتهم على نسيانهم ذلك اليوم، بأن جعلتهم هملا يوم القيامة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم عظيم مهين!
    فإنْ كنتم قد تمردتم على الله وكفرتم به في دنيا محدودة، وعمرك فيها محدود، فإن العذاب الواقع بكم اليوم خالد باقٍ دائم، فخسارتكم كبيرة، ومصيبتكم فادحة.[6]
    الخلود إما في الجنة أو في النار، وهنا يذكر ربنا حال الكفار وخلودهم في النار، أما الموحد من المسلمين لا يخلد في النار لكن قد يدخلها بحسب ذنوبه ثم يخرج منها.
    هذه آية عظيمة مزلزلة تقشعر لها الأبدان وترتجف لها القلوب وتخشع لها الأبصار، وقد حذرنا الله أن نكون كأولئك الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم!
    يا من نسيت صلاتك وما فرض الله عليك من طاعات، تأمل إلى مآلك ونتيجتك يوم القيامة، هل تقوى على هذا العذاب؟!!
    يا من فرطت في جنب الله، ألا تتفكر وتتأمل للحظات بأن هذه الدنيا فانية زائلة، وأنك ستقف بين يدي الله يحاسبك على ما اقترفت من ذنوب ومعاصي؟!!
    فقد بين الله سبحانه وتعالى وفصّل في مواضع، ما الذي يذوقه الكافر المُعّذَّب في نار جهنم عياذا بالله؛ من الماء المغلي وعصارة أهل النار من القيح والصديد المنتن قال تعالى( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا . إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ).[7]
    كما أنهم لا يجدون طعم الخلاص والراحة حتى فيما يشتهون من الموت، قال تعالى ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ )[8].
    كذلك يذوق الكفار العذاب بأموالهم التي جمعوها وحرموا الفقراء حقوقهم في الدنيا، قال تعالى ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ )[9].
    يبين ربنا سبحانه في موضع آخر أصناف العذاب الذي يتذوقه الكفار في نار جهنم، يقول سبحانه( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الْأَثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ )[10].
    وبالنتيجة يتذوق الكافر المجرم في النار؛ الذل والهوان وانقطاع الأمل متمثلا بالخلود الأبدي في العذاب ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مُسْتَمِرٌّ وَأَنَّ سَبَبَ اسْتِمْرَارِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ تَخْفِيفِهِ أَعْمَالُهُمُ الْخَاطِئَةُ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ نِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يومهم ذَلِك.[11]
    والسبب الرئيس في هذا العذاب الدائم؛ هو كسبكم وعملكم وما اقترفت أيديكم في الدنيا، وهنا لابد الإشارة إلى أهمية العمل الصالح وأنه سبب دخول الجنة لا مجرد العلم فقط أو الأماني، قال تعالى ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )[12].
    لذلك لا ينبغي أن نستزيد من العلم لمجرد العلم، بل لابد من العمل بمقتضى هذا العلم، وإلا سيكون حجة علينا ووبالا يوم القيامة، قال تعالى( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ )[13]، روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره.[14]
    قال عليه الصلاة والسلام( مَثلُ العالِمِ الّذي يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ، وينسَى نفسَهُ، كمَثَلِ السِّراجِ يُضِيءُ للناسِ، ويَحرِقُ نفسَهُ ). صحيح.[15]
    وقال صلى الله عليه وسلم( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلانا ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ). صحيح.[16]
    ويقول عليه الصلاة والسلام( القرآن حجة لك أو عليك ). صحيح[17]، قال ابن عثيمين: لك إن عملت به، وعليك إن لم تعمل به.[18]
    عن مالك بن دينار قال: مكتوب في التوراة: كما تدين تدان وكما تزرع تحصد.[19]
    ويقول علي رضي الله عنه: هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ.[20]
    قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرَّوِايَةِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ.[21]
    يقول أبو الدرداء: إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي : ما عملت فيما علمت؟[22]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    ----------------------------------
    [1]السعدي.
    [2] حدائق الروح والريحان.
    [3]السعدي.
    [4] البقاعي.
    [5]التفسير المنير للزحيلي.
    [6]الشعراوي.
    [7] ( النبأ:24-25).
    [8] ( الزخرف:77).
    [9] ( التوبة:35).
    [10] (الدخان:43-49).
    [11]التحرير والتنوير لابن عاشور.
    [12] ( الزخرف:72).
    [13]( الشعراء:94 ).
    [14]تفسير القرطبي.
    [15]صحيح الجامع برقم 5831.
    [16]صحيح البخاري.
    [17]رواه مسلم.
    [18]كتاب العلم.
    [19]اقتضاء العلم العمل.
    [20]ذم من لا يعمل بعلمه لابن عساكر.
    [21]روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان.
    [22]سير أعلام النبلاء.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 15-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    ولما كان قوله تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون} قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران.[1]
    في هذه الآية انتقال من مشهد المكذبين الذين لا يخضعون، إلى مشهد المؤمنين الموقنين، وجاءت هذه الآية في وسط السورة كاللؤلؤة في وسط العقد، فهي مادتها ونتيجتها وخلاصتها، فمن يوقن بهذه الحقائق لا يملك إلا أن يخضع لله ويسجد له.
    لما ذكر الله تعالى الكافرين بآياته وما أعد لهم من العذاب؛ قال تعالى عن أهل الإيمان ( إنما يؤمن بآياتنا ) يذعن ويصدق ويخضع ويخبت، ( الذين إذا ذكروا بها ) أي تذكيرا فيه بشارة أو نذارة، ( خروا سجدا ) سقطوا متذللين مبادرين ممتثلين ما فيها من أوامر ونواهي وعبر لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم، ومع ذلك ( سبحوا بحمد ربهم ) تنزيها عما لا يليق به من النقائص والعيوب، معترفين بنعم الله عليهم مستمرين على شكرها خاشعين أذلاء، واضعين جباههم على التراب مبتعدين عن الكبر والخيلاء والترفع، وهم بذلك حققوا أعلى مراتب الذل والتواضع والعبودية ( وهم لا يستكبرون ) لا بقلوبهم ولا بأبدانهم، عن طاعة ربهم وخالقهم أو عن الانقياد بأوامره وأحكامه.
    إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآيَاتِ كَالْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا يَنْسَاهُ الْبَعْضُ فَإِذَا ذُكِّرَ بِهَا خَرَّ سَاجِدًا لَهُ، يَعْنِي انْقَادَتْ أَعْضَاؤُهُ لَهُ، وَسَبَّحَ بِحَمْدِهِ، يَعْنِي وَيُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ، يَعْنِي وَكَانَ قَلْبُهُ خَاشِعًا لَا يَتَكَبَّرُ وَمَنْ لَا يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ فهو المؤمن حقا.[2]
    هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنَّهُمْ لِإِلْفِهِمُ الْكُفْرَ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَ، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ الْمُتَدَبِّرُو نَ لَهُ وَالْمُتَّعِظُو نَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ" خَرُّوا سُجَّداً".
    المراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله الذين إذا ذكروا بها بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامعهم.[3]
    {خروا سجداً} أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً.[4]
    أَيْ خَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وُجُوهِهِمْ تَعْظِيمًا لِآيَاتِهِ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَعَذَابِهِ. (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أَيْ خَلَطُوا التَّسْبِيحَ بِالْحَمْدِ، أَيْ نَزَّهُوهُ وَحَمِدُوهُ، فَقَالُوا فِي سُجُودِهِمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ، أَيْ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ.[5]
    هنالك فرق بين ( فقعوا له ساجدين ) ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ) ( خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم ).
    في الأولى: بعد أن نفخ الله بآدم الروح وكان الملائكة مشغولين بالتسبيح والتحميد ولأهمية هذا الحدث من كان مشغولا بشيء ثم انتبه كأنه وقع.
    والثانية: هو السجود الطبيعي الذي نقوم به في الصلاة، وكذلك سجود الملائكة لآدم عليه السلام.
    والثالثة: عندما يقرأ الإمام في الركعة الأولى من فجر الجمعة بسورة السجدة ويصل إلى قوله ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا ) فإنهم ينزلون من قيامهم خاضعين ساجدين متذللين لله عز وجل، كخرير الماء وهو هبوط مصحوبا بصوت، كأنه صوت الخشوع والبكاء، وفرق بين شخص قرأ آية فسجد، وآخر قرأ آية مؤثرة فسجد وهبط إلى الأرض وهو يبكي.
    وأوثرت صيغة المضارع في إنما يؤمن لما تشعر به من أنهم يتجددون في الإيمان ويزدادون يقينا وقتا فوقتا.[6]
    والخرور: الهوي من علو إلى سفل، والسقوط بغير نظام ولا ترتيب.
    والسجود: وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.[7]
    وكل سجود في القرآن يتلو هذه المادة (خرَّ) دليل على أنها أصبحتْ مَلَكة وآلية في المؤمن، بل ويؤكدها الحق سبحانه بقوله: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] لأنه سجود يأخذ الذقن، فهو متمكن في الذلّة، وهو فوق السجود الذي نعرفه في الصلاة على الأعضاء السبعة المعروفة.[8]
    هذه الآية من عزائم السجود، فيسن السجود عند تلاوتها للقارئ والمستمع، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ السورةَ التي فيها السجدةَ، فيَسْجُدُ ونَسْجُدُ، حتى ما يَجِدُ أحدُنا مكانًا لموضعِ جبهتِه.[9]
    ويقول عليه الصلاة والسلام: إذا قرَأ ابنُ آدَمَ السَّجدةَ فسجَد اعتزَل الشَّيطانُ يبكي ويقولُ: يا ويلَه أُمِر ابنُ آدَمَ بالسُّجودِ فسجَد فله الجنَّةُ وأُمِرْتُ بالسُّجودِ فأبَيْتُ فلِيَ النَّارُ.[10]
    والسجود عبادة جليلة لها فضائل عظيمة ومنافع كبيرة وآثار محمودة نذكر منها:
    أثنى الله سبحانه على صحابة نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )[11].
    قال الله لنبيه مثنيا عليه مبينا عظم هذه العبادة( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ )[12]، وتقلبك راكعا وساجدا خصها بالذكر، لفضلها وشرفها[13]، وللأسف شتان من يتقلب في أماكن المعاصي واللهو وضياع الأوقات، ومن يتقلب ساجدا طائعا خاشعا لله!
    قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )[14].
    وقد أثنى الله على عباد الرحمن المؤمنين بقوله( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا )[15].
    قال عليه الصلاة والسلام( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . فأكثروا الدعاء ).[16]
    قال عليه الصلاة والسلام لثوبان رضي الله عنه( عليك بكثرةِ السجودِ للهِ فإنك لا تسجدُ للهِ سجدةً إلا رفعَك اللهُ بها درجةً وحطَّ عنك بها خطيئةً ).[17]
    وقال عليه الصلاة والسلام( وحرَّمَ اللهُ على النارِ أنْ تأكلَ آثارَ السجودِ ).[18]
    فائدة السجود من الناحية العلمية:
    بسبب التطور التقني وكثرة الأجهزة الكهربائية والآلات المتعددة، التي يستخدمها الإنسان وتكون حوله يوميا، يستقبل كميات كبيرة من الأشعة الكهرومغناطيسية ، فيصاب بالصداع والضيق والكسل والخمول.
    باحث غربي غير مسلم اكتشف أن أفضل طريقة لتخلص الجسم من تلك الشحنات الموجبة المؤذية؛ أن يضع جبهته أكثر من مرة على الأرض السالبة، والأفضل أن تضعها على التراب مباشرة! والطريقة الأمثل أن تضع جبهتك وأنت في اتجاه مركز الأرض التي هي الكعبة في مكة المكرمة!
    ومن هداية الآية:
    ( إذا ذكروا بها ) من أي مذكر كان، وهنا فائدة وهي ضرورة الاستجابة والتواضع والانقياد للنصيحة والتذكرة، أيا كان صاحبها، فاتباع الحق لا يتوقف على عين حامله وقائله! فالحق أحق أن يتبع.
    في السجود تضع وجهك وجبهتك، وهي رمز العلو والرِّفْعة تضعها على الأرض خضوعاً لله عَزَّ وَجَلَّ.[19]
    إذا رضي المؤمن أن يضع أعز شيء فيه وهي جبهته، على التراب وهو أذل شيء يطئه الناس، فقد عرف الله حقه.
    الله جل جلاله غني عن سجود جميع الخلق، ولكن ما رزق المؤمن السجود له وأعانهم عليه إلا لأنه يحبهم، وهذا من أعظم التوفيق.
    النفس تمر بحالات من الغفلة والنسيان، فهي بحاجة لتذكير مستمر وتنشيط للأذهان وتجديد للإيمان، فتعاهد قلبك واستثمر الفرص والمواسم كرمضان.
    إياك والتسويف فالمؤمن الحق بمجرد التذكير يتذكر، ويخر ساجدا خاضعا لله.
    سرعة الاستجابة لأوامر الله من أعظم علامات الشكر على النعم.
    جزاء من يستجيب الجنة كما في هذه الآية، وجزاء من يستكبر النار قال تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ).
    في الآية أهمية تأمل وتدبر آيات القرآن لحصول التذكر والتفكر ثم الخضوع والاستجابة.
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    ---------------------------
    [1]البقاعي.
    [2]مفاتيح الغيب.
    [3]ابن عاشور.
    [4]البقاعي.
    [5]القرطبي.
    [6]ابن عاشور.
    [7]ابن عاشور.
    [8]الشعراوي.
    [9]متفق عليه.
    [10]صحيح مسلم.
    [11]( الفتح:29).
    [12]( الشعراء: 217-219).
    [13]السعدي.
    [14]( العلق:19).
    [15]( الفرقان:64).
    [16]صحيح مسلم.
    [17]صحيح مسلم.
    [18]صحيح الجامع برقم 7033.
    [19]الشعراوي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 16-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    في الآية التي معنا يذكر ربنا سبحانه وتعالى بعض أحوال المؤمنين وأعمالهم، من أعظم صور اليقين والخضوع فيقول عز وجل( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ).
    تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم النوافل، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا.[1]
    الجفوة ترك مع كراهية المتروك، لأن مجرد الترك قد يصاحبه شوق وألم للمتروك!
    { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة الله تعالى.[2]
    ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: {تتجافى} أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال: {جنوبهم} بعد النوم {عن المضاجع} أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس.[3]
    قد بعدوا في خلال الليالي عن مواضع رقودهم واستراحتهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حينئذ خَوْفاً من بطشه وأخذه حسب قهره وجلاله وَطَمَعاً لمرضاته وسعة رحمته وجوده ومغفرته حسب لطفه وجماله وَهم لا يقتصرون بمجرد قيام الليل وصلاة التهجد فيه بل مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقناهم نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي يُنْفِقُونَ في سبيلنا على الطالبين المتوجهين إلينا منقطعين عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها سوى سد جوعة وستر عورة وهم بارتكاب هذه المتاعب والمشاق ما يريدون إلا وجه الله وما يطلبون إلا رضاه سبحانه موثرين رضاء الله على أنفسهم مخلصين فيه.[4]
    المضاجع آخر مرحلة في اليقظة، ولم تأْتِ إلا بعد عدة مراحل من التعب، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه يُنسبهم هذه الراحة، ويُزهِّدهم فيها، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله.[5]
    ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} [طه: 132] ، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده: {ومما رزقناهم} أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة {ينفقون } من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم.[6]
    {ومما رزقناهم} من الرزق، قليلا كان أو كثيرا {ينفقون} ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم، فإنه يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقا، سواء وافق غنيا أو فقيرا، قريبا أو بعيدا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت النفع، فهذا عملهم.[7]
    لما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال ومما رزقناهم ينفقون أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم.[8]
    وفي إسناد التجافي إلى الجنوب دون أن يقال: يجافون جنوبهم إشارة إلى أن حال أهل اليقظة والكشف، ليس كحال أهل الغفلة والحجاب، فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة، ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم، كأن الأرض ألفتهم من نفسها، وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك.[9]
    ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) في صلاتهم وجميع أحوالهم هم يكثرون من الدعاء يذكرون الله سبحانه ويدعونه في وقت البلاء والرخاء.
    المؤمن إذا عرف ما عند الله من عظيم الفضل، طمع بما عنده رجاء ثوابه، وبالوقت ذاته يخشى عذاب الله وعقابه ولا يأمن مكر الله، دون أن يدفعه ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمته، فهو بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، وهذه قمة العبادة.
    وصف الله عباده القائمين الليل بوصف آخر إذ يقول (كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ).
    واعلم أن قيام الليل من علو الهمة، وهو وهب من الله تعالى، فمن وهب له هذا فليقم ولا يترك ورد الليل بوجه من الوجوه.[10]
    قال عليه الصلاة والسلام( عليكُم بقيامِ اللَّيلِ، فإنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحينَ قبلَكُم، و قُربةٌ إلى اللهِ تعالى ومَنهاةٌ عن الإثمِ و تَكفيرٌ للسِّيِّئاتِ، ومَطردةٌ للدَّاءِ عن الجسَدِ ).[11]
    وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما( نعم الرجل عبد الله ، لو كان يصلي من الليل. فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا).[12]
    سُئلَ عليه الصلاة والسلام: أيُّ الصلاةِ أفضلُ بعد المكتوبةِ ؟ وأيُّ الصيامِ أفضلُ بعد شهرِ رمضانَ ؟ فقال ( أفضلُ الصلاةِ، بعد الصلاةِ المكتوبةِ، الصلاةُ في جوفِ الليل. وأفضلُ الصيامِ، بعد شهرِ رمضانَ، صيامُ شهرِ اللهِ المُحرَّمِ ).[13]
    يقول عليه الصلاة والسلام( إِنَّ في الجنةِ؛ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها، أَعَدَّها اللهُ تعالى لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وأَفْشَى السلامَ، وصلَّى بِالليلِ والناسُ نِيامٌ ).[14]
    صلاة الليل عبادة جليلة لذلك اعتنى بها السلف الصالح بشكل كبير، وهذه نماذج من اهتمامهم البالغ وحرصهم وتمسكهم بها:
    عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان تحت عينيه خطان أسودان من كثرة البكاء! وكان يقوم الليل ويوقظ أهله.
    وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه اذا هدأت العيون وأرخى الليل سدوله، سمع له دويّ كدوي النحل وهو قائم يصلي!!
    يقول أحد التابعين: كابدت قيام الليل سنة، فاستمتعت به عشرين سنة.
    وهذا سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، وأن ذنوبك الكثيرة قيدتك!!
    وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
    قال ابن المنكدر: ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
    ويقول أحد التابعين: منذ أربعين سنة ما حزنت على شيء كحزني على طلوع الفجر!!
    الآية فيها إشارة لكثرة قيامهم الليل بدليل جمع الكثرة " جنوبهم" بمعنى أن الأصل والغالب الأعم القيام، وليس الاستثناء! وأن تجافي جنوبهم في الليلة الواحدة يتكرر!
    قد يهجر المضجع أناس لغير العبادة، سهرا على معصية أو لهو وضياع وقت، لذلك أكد الله في هذه الآية أن تجافي مضاجع هذا الصنف من المؤمنين للعبادة بقوله ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ).
    من صفات المؤمنين أنهم مشغولون بذكر الله، لا ينامون إذا نام الناس، ولا يلهون أو يلعبون إذا خاض الناس في سفاسف الأمور!
    في الآية تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام.[15]
    الإنفاق في سبيل الله أجره عظيم وفضله جسيم، يكفي أن الله لخص كل الأعمال الصالحة في الدنيا لمن طلب الرجوع في الصدقة! قال تعالى ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ).[16]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    --------------------------------
    [1]التسهيل لعلوم التنزيل.
    [2]السعدي.
    [3]البقاعي.
    [4]الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
    [5] الشعراوي.
    [6]البقاعي.
    [7]السعدي.
    [8]ابن عاشور.
    [9] حدائق الروح والريحان.
    [10]روح البيان.
    [11]صحيح الجامع برقم 4079.
    [12]صحيح البخاري.
    [13]صحيح مسلم.
    [14]تخريج المشكاة برقم 1189.
    [15]ابن عاشور.
    [16] ( المنافقون:10).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 17-30 )
    أيمن الشعبان


    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى صفات المؤمنين في الآيتين السابقتين؛ من سرعة السجود والخضوع والتسبيح والتحميد، وهجران المضاجع قائمين ساجدين مستغفرين بالأسحار، منفقين مما رزقهم الله، شرع في بيان وتعظيم جزاءهم إذ قال(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ).
    يَعْنِي مِمَّا تَقَرُّ الْعَيْنُ عِنْدَهُ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ يُقَالُ إِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي عَيْنِي، يَعْنِي عَيْنِي تَطَلَّعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ تَطَلُّعٌ لِلْعَيْنِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَبْقَ لِلْعَيْنٍ مَسْرَحٌ إِلَى غَيْرِهِ فَتَقَرُّ جَزَاءً بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَهَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ مِنَ الْعَبْدِ شَيْئًا وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنَ اللَّهِ أَشْيَاءُ سَابِقَةٌ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِهِمَا وَأَشْيَاءُ لَاحِقَةٌ مِنَ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِحْسَانٌ، وَأَنَا أَحْسَنْتُ أَوَّلًا وَالْعَبْدُ أَحْسَنَ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَالثَّوَابُ تَفَضُّلٌ وَمِنْحَةٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.[1]
    أَيْ: فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَاللَّذَّاتِ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ، لَمَّا أَخْفَوْا أَعْمَالَهُمْ أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، جَزَاءً وِفَاقًا؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.[2]
    والمراد: لا تعلم نفس ما أخفي لهم علما تفصيليا، وإلا فنحن نعلم ما أعد للمؤمنين من النعيم إجمالا، من حيث إنه غرف في الجنة وقصور وأشجار وأنهار وملابس ومآكل وغير ذلك، ذكره أبو السعود.[3]
    أي نفس لا تعلم مهما بلغ بها الخيال والطموح والتفكير، فلا تقدر أن تعرف شيئا عن نعيمهم وما الذي ينتظرهم.
    العين تشير إلى مظهر ومعالم وتقاسيم الإنسان، فمن خلالها تظهر السعادة أو الحزن، والتعب أو الراحة، كما أنها تعبر عن كثير من المشاعر والهواجس، حتى القناعة من غيرها تظهر على العين!
    أهل الجنة استقرت عيونهم، فلا مطامع ولا مطامح ولا رغبات مكبوتة أو معلنة، فقد نالوا كل فضل وكرامة وشرف وخير، بل كل ما تشتهيه الأعين فاستقرت أعينهم!
    ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال: {من قرة أعين} أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما أقلعوها عن قرارها بالنوم.[4]
    (قرة العين) أي: استقرارها على شيء بحيث لا تتحول عنه إلى غيره، والعين لا تستقر على الشيء إلا إذا أعجبها، ورأتْ فيه كل ما تصبو إليه من متعة.[5]
    قَالَ الْحَسَنُ: أَخْفَى الْقَوْمُ أَعْمَالًا فَأَخْفَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ.[6]
    فَلا تَعْلَمُ ولا تعرف ولا تأمل نَفْسٌ منهم كيفية ما أُخْفِيَ وأعد لَهُمْ من قبل الحق قُرَّةِ أَعْيُنٍ ألا وهي فوزهم بشرف لقائه ورؤية وجهه الكريم.[7]
    {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} يدخل فيه جميع نفوس الخلق، لكونها نكرة في سياق النفي. أي: فلا يعلم أحد {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما قال تعالى على لسان رسوله: "أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".[8]
    قال اللهُ تعالى : أعددتُ لعبادي الصالحينَ ، ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أذنٌ سمعتْ ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ . فاقرؤوا إن شئتم : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) .[9]
    سأل موسى ربه : ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة . فيقول أي رب ! كيف ؟ وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت ، رب ! فيقول : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله . فقال في الخامسة : رضيت ، رب ! فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله . ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك . فيقول : رضيت ، رب ! قال : رب ! فأعلاهم منزلة ؟ قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي . وختمت عليها . فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر . قال ومصداقه في كتاب الله عز وجل : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين).[10]
    قرة عين كل واحد: ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام. قال أبو سليمان: شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفع الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.[11]
    ففي الجنة تقرّ العيون بحيث لم يَعُدْ لها تطلعات، فقد كَمُلَتْ لها المعاني، فلا ينبغي لها أنْ تطمع في شيء آخر إلا الدوام.[12]
    الأعمال ليست ثمنا للجنة بل هي سببا، لأن ثمن الجنة غالي جدا جدا ( ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ).
    فالجنة سلعة الله الغالية لعباده المؤمنين الخاضعين لأوامره، ولا نقدر تتبع أو ذكر كل ما أعده الله في دار كرامته، لكن نذكر على سبيل الأمثلة:
    قال تعالى( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ).
    وقال تعالى( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ).
    وقال تعالى( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين ).
    أما بناء الجنة يقول عليه الصلاة والسلام( الجنةُ بناؤها لَبِنَةٌ من فضةٍ ، ولَبِنَةٌ من ذهبٍ ، ومِلاطُها المسكُ الأذفرُ ، وحصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ ، وتربتُها الزَّعفرانُ ، من يدخلُها ينعَمْ لا يبْأَسُ ، ويخلدْ لا يموتُ ، لا تَبلى ثيابُهم ، ولا يَفنى شبابُهم ).[13]
    ومن هداية الآية أهمية الإخلاص في الأعمال، فلما أخفى القائمون القانتون لله أعمالهم وتواروا عن أنظار الناس، في صلاة الليل، أعظم الله ثوابهم وأخفى جزاءهم، لأن الجزاء من جنس العمل.
    وقد دلت العديد من الآيات على أهمية إخلاص النية لله في الأعمال، قال تعالى( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ )[14].
    وقال سبحانه( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ )[15].
    وقال عليه الصلاة والسلام( إنما الأعمال بالنيات ).[16]
    ولأهمية الإخلاص كان العلماء إذا التقوا يتناصحون بالتالي:
    كَانَتِ الْعُلَمَاءُ إِذَا الْتَقَوْا تَوَاصَوْا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَإِذَا غَابُوا كَتَبَ بِهَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أَنَّهُ: مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنِ اهْتَمَّ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ.[17]
    وقال بلال بن سعد: لَا تَكُنْ وَلِيًّا لِلَّهِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَعَدُوَّهُ فِي السَّرِيرَةِ.[18]
    والإخلاص هو أن يستوي عملك في السر والعلن، وأن لا تبتغي في أعمالك أجرا ولا فضلا ولا ثناء ولا محمدة إلا من الله وحده.
    ونقل عن بعض السلف أقوالهم:
    بالصدق والإخلاص يفتح الله على العبد من الفتوحات العلمية والإيمانية ما الله به عليم.
    لما سُئِلَ عن أهم الأعمال قال: "الإخلاص ولا تستطيعه النفوس إلا بالمجاهدة".
    أعز شيء في الدنيا الإخلاص.
    ينبغي التفرغ لتعليم الناس الإخلاص.
    مَا نزل من السَّمَاء أعز من التَّوْفِيق، وَلَا صعد من الأَرْض أعز من الْإِخْلَاص[19].
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    ------------------------------------
    [1]مفاتيح الغيب.
    [2]ابن كثير.
    [3]حدائق الروح والريحان.
    [4]البقاعي.
    [5]الشعراوي.
    [6]القرطبي.
    [7]الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
    [8]السعدي.
    [9]متفق عليه.
    [10]صحيح مسلم.
    [11]البحر المديد.
    [12]الشعراوي.
    [13]صحيح الجامع برقم 3116.
    [14]( البينة:5).
    [15]( الزمر:11).
    [16]متفق عليه.
    [17]الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا.
    [18]الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا.
    [19]التحبير شرح التحرير.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 18-30 )
    أيمن الشعبان


    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد أن بين الله سبحانه حال المؤمنين في الدنيا وما لهم من نعيم في الآخرة، وحال الكفار الفاسقين وصفاتهم ومآلهم يوم القيامة؛ عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوي الفريقان؟ يقينا لا يستويان، ليبين أحوال كل فريق يوم القيامة.
    ولما كان موضوع السورة الخضوع ومادتها اليقين بحقائق الإيمان؛ قال تعالى ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ).
    ولما كانوا أهل بلاغة ولسن، وبراعة: وجدل، فكان ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان ما تزعمون من أنه لا يبالي بشيء ولا ينقص من خزائنه شيء وهو العزيز الرحيم، لا يسوي بين الكل في إدخال الجنة، والمن بالنعيم فيعمهم بالرحمة الظاهرة كما عمهم بها في الدينا كما هو دأب المحسنين؟[1]
    {مؤمناً} أي راسخاً في التصديق العظيم بجميع ما أخبرت به الرسل.
    {فاسقاً} أي راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان.[2]
    قال قتادة: لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة.[3]
    أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً يعنى أتظنون ايها الظانون المسرفون الجاحدون المنكرون ان من كان مؤمنا موقنا بوحدانية الله متصفا بالأعمال الصالحة المؤيدة لإيمانه كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن ربقة الايمان والإخلاص وعن عموم حدود الشرائع والأديان الواردة لحفظ الايمان كلا وحاشا انهم لا يَسْتَوُونَ في الشرف والكمال والفوز والنوال.[4]
    أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجاً عن الإِيمان لاَّ يَسْتَوُونَ في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح.[5]
    يخبر تعالى عن عدله –وكرمه- أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته متبعا لرسله، بمن كان فاسقا، أي: خارجا عن طاعة ربه مكذبا لرسله إليه.[6]
    أفمن كان في حال الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسى وباله؟
    أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعانى مشقة الكلفة؟
    أفمن هو في روح إقبالنا عليه كمن هو في محنة إعراضنا عنه؟
    أفمن بقي معنا كمن بقي عنّا؟
    أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالى الكفران ووحشة العصيان؟
    أفمن أيّد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان![7]
    ينبه تعالى، العقول على ما تقرر فيها، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين، وأن حكمته تقتضي عدم تساويهما فقال: {أفمن كان مؤمنا} قد عمر قلبه بالإيمان، وانقادت جوارحه لشرائعه، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته، من ترك مساخط الله، التي يضر وجودها بالإيمان.
    {كمن كان فاسقا} قد خرب قلبه، وتعطل من الإيمان، فلم يكن فيه وازع ديني، فأسرعت جوارحه بموجبات الجهل والظلم، من كل إثم ومعصية، وخرج بفسقه عن طاعة الله.
    أفيستوي هذان الشخصان؟.
    {لا يستوون} عقلا وشرعا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة.[8]
    {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه {لاَّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه.[9]
    وكما قال تعالى في وصف مشابه ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ )[10].
    وقال سبحانه( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار )[11].
    وقوله سبحانه( لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ )[12].
    ولم يقل يستويان، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمنا واحدا، وبالفاسق فاسقا واحدا، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين[13]، ولأن " مَنْ " تؤدي عن جمع فحمله على المعنى.. فيكون يستوون على هذا قد جمع في موضع التثنية، لأن التثنية جمع في الأصل.[14]
    لماذا لم يأت الجواب مثلاً: لا يستوي المؤمن والفاسق؟ قالوا: لأن هذا الأسلوب يسمى أسلوب الإقناع التأكيدي، وهو أن تجعل الخصم هو الذي ينطق بالحكم.[15]
    والمعنى: أي فهذا الكافر المكذب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله، المصدق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه، كلا، لا يستوون عند الله، ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.[16]
    هنا قال ( فاسقا ) ولم يقل " كافرا " لتناسبه مع موضوع السورة وهو الخضوع، وعكس الخاضع الفاسق الذي يخرج عن طاعة الله.
    من هداية الآية:
    من باب العدل والإنصاف إعطاء كل ذي حق حقه، وعلى مدراء المؤسسات والمشاريع، التفريق بحسب الكفاءة والتفاني والإخلاص في العمل والبذل والعطاء.
    أحد أسباب تخلف وتأخر الأمة، وانتكاس كثير من الشباب، هو تقديم المحسوبيات على الكفاءة والخبرة، حتى صار السافل عاليا والعالي سافلا!
    المجتمع الآن للأسف ينظر لمن معه مال ومنصب وتجارة وجاه وقوة، أكثر من نظره إلى العالم والخبير وصاحب الفكر والعقل في نفع الأمة!
    المؤسسة التي لا تعامل موظفيها على أساس المهنية والكفاءة والتفاني بغض النظر عن جنسه ولونه وعمره؛ مآلها الفشل ولو بعد حين!
    أخبر عليه الصلاة والسلام أن الموازين ستنقلب، ويوسد الأمر لغير أهله، ويتصدر المشهد من لا خلاق لهم، يقول عليه الصلاة والسلام( لا تقومُ الساعةُ حتى يكونَ أسعدَ الناسِ بالدنيا لُكَعُ ابنُ لُكَعٍ ).[17]
    في اليابان يعطى لقب " سعادة" للمعلم، من باب التقدير المعنوي وتثمينا لدوره الهام في نهضة المجتمع.
    وعندما سُئل إمبراطور اليابان عن أسباب تقدم دولته في وقت قصير، أجاب: بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، ومنحنا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير!
    لا ينبغي أن نساوي في التعامل أو المكانة والتقدير والمكافئة؛ بين المؤمن والفاسق.. العالم والجاهل.. الأمين والخائن.. الصادق والكاذب.. المتقن والمهمل.. الحريص والمغفل.. المجتهد والخامل.. المثابر والكسلان!
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
    -----------------------------------
    [1]البقاعي.
    [2]البقاعي.
    [3]تفسير الماوردي.
    [4]الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
    [5]تفسير البيضاوي.
    [6]ابن كثير.
    [7]تفسير القشيري.
    [8]السعدي.
    [9]تفسير أبي السعود.
    [10]( الزمر:9).
    [11]( ص:28).
    [12]( الحشر:20).
    [13]تفسير الثعلبي.
    [14]الهداية إلى بلوغ النهاية.
    [15]الشعراوي.
    [16]حدائق الروح والريحان.
    [17]صحيح الجامع برقم 7431.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 19-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل:
    ( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا صالح الأعمال، فلهم مساكن فيها البساتين والدور، والغرف العالية، جزاء لهم على جليل أعمالهم، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها فى الدنيا.[1]
    أَخْبَرَ عَنْ مَقَرِّ الْفَرِيقَيْنِ غَدًا، فَلِلْمُؤْمِنِي نَ جنات المأوى أو يَأْوُونَ إِلَى الْجَنَّاتِ فَأَضَافَ الْجَنَّاتِ إِلَى الْمَأْوَى لان ذلك الْمَوْضِعَ يَتَضَمَّنُ جَنَّاتٍ." نُزُلًا" أَيْ ضِيَافَةً. وَالنُّزُلُ: مَا يُهَيَّأُ لِلنَّازِلِ وَالضَّيْفِ.[2]
    ( جنات المأوى )أي الجنات المختصة دون الدنيا التي هي دار ممر، دون النار التي هي دار مفر لا مقر، بتأهلها للمأوى الكامل في هذا الوصف بما أشار إليه ب «ال» ثابتون فيها لا يبغون عنها حولاً، كما تبؤوا الإيمان الذي هو أهل للإقامة فلم يبغوا به بدلاً.[3]
    فإذا كانت هذه الجنات نزلاً فما ظنك بما بعد ذلك![4]
    وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ.[5]
    قُرن لفظ الإيمان بالعمل الصالح في القرآن خمسين مرة، في إشارة ودلالة لأهمية الأعمال لا مجرد فقط الإيمان المجرد بالقلب واللسان، فلابد من أعمال صالحة تصدق حقيقة الإيمان، وكما يقول الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.
    وأصل النزل: ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت، ثم أطلق على كل عطاء.[6]
    والنزُل هو المكان المعَدّ لينزل فيه الضيف الطارئ عليك؛ لذلك يسمون الفندق (نُزُل) ، فإذا كانت الفنادق الفاخرة التي نراها الآن ما أعَدَّه البشر للبشر، فما بالك بما أعدَّهُ ربُّ البشر لعباده الصالحين؟[7]
    أضيفت الجنة إلى المأوى، لأنها المأوى الحقيقي، وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، ولذلك سميت قنطرة، لأنها معبر للآخرة لا مقر.[8]
    {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأعمالهم التي تفضل الله بها عليهم، هي التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية، التي لا يمكن التوصل إليها ببذل الأموال، ولا بالجنود والخدم، ولا بالأولاد، بل ولا بالنفوس والأرواح، ولا يتقرب إليها بشيء أصلا سوى الإيمان والعمل الصالح.[9]
    من هداية الآية:
    الإيمان أصل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وجماعها التقوى، كما قال الحطيئة:


    و لست أرى السعادة جمع مال * و لكن التقي هو السعيد
    فتقوى الله خير الزاد ذخراً * وعند الله للأتقى مزيد
    و ما لا بد أن يأتي قريب * و لكن الذي يمضي بعيد


    أهمية الأعمال الصالحة مع الإيمان، ولا يكفي مجرد ادعاء الإيمان والصلاح دون عمل.
    أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة دار الإقامة الأبدية.
    يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
    قال أحد الزهاد: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، والآخرة خزفا يبقى، لآثر العاقل خزفا يبقى، على ذهب يفنى، فكيف والدنيا أقل من خزف والآخرة أكثر من ذهب!!
    قال عيسى عليه السلام: الدنيا قنطرة اعبروها ولا تعمروها.
    ولله در امرأة فرعون آسيا بنت مزاحم رضي الله عنها ما أعقلها، عندما طلقت الدنيا وما فيها من القصور والدور ومتاع الغرور، والتجأت لله العزيز الغفور، حتى" إن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها و رجليها، فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة، فقالت:( رب ابن لي عندك بيتا في الجنة و نجني من فرعون و عمله و نجني من القوم الظالمين ) فكشف لها عن بيتها في الجنة.[10]
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.


    ---------------------------------------
    [1]تفسير المراغي.
    [2]القرطبي.
    [3]البقاعي.
    [4] البقاعي.
    [5] تفسير أبي السعود.
    [6] المنير للزحيلي.
    [7] الشعراوي.
    [8] حدائق الروح والريحان.
    [9] السعدي.
    [10] السلسلة الصحيحة.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: خواطر قرآنية" سورة السجدة"

    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 20-30 )
    أيمن الشعبان

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
    بعد أن ذكر الله نزل ومقام المؤمنين، أتبعه بيان حال ومآل الكافرين فقال ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )[1].
    {وأما الذين فسقوا} أي خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة {فمأواهم النار} أي التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجهن الوجوه أصلاً.[2]
    مقرهم ومحل خلودهم، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء، ولا يفتر عنهم العقاب ساعة.[3]
    كما قال تعالى واصفا عذاب الكفار المجرمين ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )[4].
    الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَهُ مَعَ الْإِيمَانِ أَثَرٌ أَمَّا الْكُفْرُ إِذَا جَاءَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْأَعْمَالِ، فَلَمْ يَقُلْ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وَعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَسَقُوا كَفَرُوا وَلَوْ جَعَلَ الْعِقَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ، لَظُنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْكُفْرِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ.
    قالوا: المأوى المكان الذي ينزل فيه الإنسان على هواه وعلى (كيفه)، أما هؤلاء فينزلون هنا رغماً عنهم، أو أن الكلام هنا على سَبْق التهكم والسخرية، كما قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.[5]
    وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ (لَهُمْ) بِلَامِ التَّمْلِيكِ زِيَادَةُ إِكْرَامٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اسْكُنْ هَذِهِ الدَّارَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَارِيَةِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَإِذَا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى نِسْبَةِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ جَنَّاتٍ.[6]
    لما كان أهل الحق في الدنيا ينصحون أهل الضلال، بأن يخرجوا من باطلهم وكفرهم من الانحطاط الأخلاقي والروحي والديني، والتمسك بشريعة ربهم وخالقهم والترفع والارتقاء بالإيمان، تكبروا فكان جزائهم يوم القيامة، كلما حاولوا الانتقال من أسفل إلى أعلى أعيدوا ونُكِّل بهم، جزاء وفاقا!
    يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً.
    وكلمةُ " فِي " للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ.[7]
    إن أهل النار إذا ألقوا فيها يكادون يبلغون قعرها، يلقاهم لهبها فيردهم إلي أعلاها،
    حتى إذا كادوا يخرجون تلقتهم الملائكة بمقامع من حديد فيضربونهم بها.
    نحن مع مشهد عظيم مخيف مهول من مشاهد عذاب أهل النار- عياذا بالله-، فالنار سوداء مظلمة قعرها بعيد وحرها شديد وشرابها الحميم والصديد ومقامعها من حديد، وإن الصخرة العظيمة لتلقى فيها فتهوي سبعين سنة حتى تصل إلى قعرها، ولا تزال يلقى فيها حتى تمتلئ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ )[8].
    ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها ) يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها.[9]
    كناية عن دوام عذابهم واستمراره.[10]
    {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.[11]
    هم في النار يذوقون العذاب فلماذا يقال لهم" ذوقوا "؟! لأن العذاب المعنوي أشد وأنكى من العذاب الحسي المادي، فيقال لهم " ذوقوا" على سبيل الإهانة والشماتة والعار والشنار والخزي والذل الذي هم فيه!
    فالإذاقة تعدَّتْ اللسان واستولتْ على كل الأعضاء، فكل ذرة فيه تذوق عذاب النار جزاء ما كانوا يكذبون بها في الدنيا، حيث كذِّبوا بالأصل، وهو الرجوع إلى الله يوم القيامة.[12]
    وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر.[13]
    يقول عليه الصلاة والسلام: ( نارُكم جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ . قيل : يا رسولَ اللهِ ، إن كانتْ لكافيةً ، قال : فُضِّلَتْ عليهنَّ بتسعةٍ وستينَ جزءًا ، كلُّهنَّ مثلُ حَرِّها)[14].
    ويصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهون أهل النار عذابا فيقول(إنَّ أهوَنَ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ لرجلٌ ، تُوضَعُ في أخمَصِ قدمَيْه جَمرةٌ ، يَغلي منها دِماغُه ).[15]
    وتأملوا رعاكم الله بكاء أهل النار إذ يقول عليه الصلاة والسلام( إنَّ أهلَ النَّارِ ليبكونَ حتَّى لَو أُجْرِيَتِ السُّفُنُ في دُموعِهِم جَرَتْ ، و إنهم ليَبكونَ الدَّمَ ).[16]
    وقال تعالى عن حال أهل النار في مشهد تتفطر منه القلوب وتقشعر الأبدان( وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ).[17]
    ومن شدة عذاب أهل النار جعل الله عذابهم تنكيلا لمن لا يزال مصرا على الذنوب والمعاصي، في نار عظيمة حامية وعذاب موجع فظيع لا تقوى عليه الجبال الراسيات! قال سبحانه ( إن لدينا أنكالا وجحيما . وطعاما ذا غصة وعذابا أليما )[18].
    هؤلاء الفاسقون المجرمون الذين أكثروا من الذنوب والخطايا والمعاصي مقيدين ومسلسلين ومصفدين بسلاسل من نار في أذل وأشنع صورة، وثيابهم من نار وتحيط بهم من جميع الجهات النار، في مشهد تقشعر له الأبدان قال تعالى(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ )[19].

    قَالَ الفُضَيل بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ وَالْمَلَائِكَة َ تَقْمَعُهُمْ.[20]
    وخلاصة معنى الآية:
    وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وتركوا الايمان بالله وخرجوا عن مقتضيات الأوامر والنواهي الموردة في كتبه سبحانه وعلى ألسنة رسله، فَمَأْواهُمُ مرجعهم ومثواهم في النشأة الاخرى النَّارُ المعدة لأهل الشقاوة الازلية هم فيها خالدون مخلدون مؤبدون لا نجاة لهم منها أصلا، بل كُلَّما أَرادُوا وأملوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها حيث امهلهم الخزنة الموكلون عليهم الى ان يصلوا الى شفيرها، ثم بعد ذلك أُعِيدُوا فِيها زجرا وقهرا تاما مهانين صاغرين، وَقِيلَ لَهُمْ : اى قال لهم الزبانية الموكلون بالهام الله إياهم: ذُوقُوا ايها المنكرون المصرون عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ حين أخبركم به الرسل والكتب وأنذركم به النبيون المنذرون.[21]
    الآية ترشدنا إلى شيء خطير؛ أن من كان في العذاب ممكن يتأقلم عليه مع مرور الوقت، لو وضعت يدك في ماء ساخن بداية تشعر بصعوبة وألم لكن شيئا فشيئا تتعود ويخف الألم، ولكن أهل النار لا ينطبق عليهم ذلك، فالعذاب متنوع مختلف مستمر دائم له عدة أشكال ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )[22]، ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ )[23]، ( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا )[24].
    يقول ابن القيم مبينا أنواع الفسوق:
    وأما الفسوق: فهو في كتاب الله نوعان: مفرد مطلق، ومقرون بالعصيان.
    والمفرد نوعان أيضا: فسوق كفر، يخرج عن الإسلام، وفسوق لا يخرج عن الإسلام، فالمقرون كقوله تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} [الحجرات: 7] .
    والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله} [البقرة: 26] الآية، وقوله عز وجل {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} [البقرة: 99] وقوله: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] الآية، فهذا كله فسوق كفر.
    وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} [البقرة: 282] الآية، وقوله: {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} [الحجرات: 6] الآية.[25]
    أيها المقصر في طاعة الله، المسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب، أما تخشى الموت يأتيك على حين غفلة، وأنت مصر على تلك الخطايا؟!! أما في تلك الآية معتبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    ----------------------------
    [1]( السجدة: 20).
    [2]البقاعي.
    [3]السعدي.
    [4]( الزخرف:74-75).
    [5]الشعراوي.
    [6]مفاتيح الغيب للرازي.
    [7]تفسير أبي السعود.
    [8]( ق:30).
    [9]البقاعي.
    [10]محاسن التأويل.
    [11]ابن كثير.
    [12]الشعراوي.
    [13]روح المعاني.
    [14]صحيح البخاري.
    [15]متفق عليه.
    [16]حسن، ينظر صحيح الجامع برقم 2032.
    [17]( إبراهيم:15-17).
    [18]( المزمل:12-13).
    [19]( إبراهيم:49-50).
    [20]ابن كثير.
    [21]الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
    [22]( الحج:22).
    [23]( النساء:56).
    [24]( الإسراء:97).
    [25]مدارج السالكين.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •