من سمات القرآن الكريم أنه دستور الأمة ويدعو للوسطية والاعتدال
الفرقان
تكفَّل الله -سبحانه- بحفظ القرآن الكريم بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، قال ابن كثير: «قرر -تعالى- أنه هو الذي أنزل الذكر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل»، والله -سبحانه- جعله معجزةً باقية على امتداد الأزمان، واتساع الأوطان، والقرآنُ الكريم لم يترك جانبًا من جوانب الحياة المتعلقة بالإنسان إلا أتى عليه، ورسم له المنهج الصحيح؛ ليسير على هديه، ويستضيء بنوره، لقد رسم القرآن الكريم لبني آدم ما يصلحهم في الحياة الدنيا، وما يجلب لهم المثوبة في الآخرة، والقرآن الكريم منهج متكامل، متفرع الجوانب، رَسَمَ محاورَ كثيرةً لإصلاح المجتمع، وتميز بصفات عدة، وهي: أنه كتاب هداية للناس، وأنه يدعو إلى العلم، وأنه دستور هذه الأمة، وأنه يدعو للوسطية والاعتدال.
الصفة الأولى: القرآن كتاب هداية للناس
أنزل الله -تعالى- القرآنَ الكريم هدًى للناس، وفرقانًا بين الحق والباطل، وتبيانًا لكل شيء في حياة الإنسان، وجعله الله -سبحانه- تشريعًا خالدًا إلى يوم القيامة، فَمَنْ تَبِع هُداه فاز ونجا، قال -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء: 9). قال ابن كثير: «يمدح -تعالى- كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن، بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل {ويبشرُ المؤمنين} به {الذين يعملون الصالحات} على مقتضاه {أنَّ لهم أجرًا كبيرًا} أي: يوم القيامة»، قال الله -سبحانه-: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 45). قال قتادة: «اللهم اجعلنا ممن يخافُ وعيدَك، ويرجو موعودك»، وقال ابن كثير: «يقول -تعالى مخبرًا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (الإسراء: 82)، أي: يُذْهِبُ ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ وميل؛ فالقرآن يَشْفي من ذلك كله، وهو أيضًا رحمةٌ يحصل بها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به، وصدقه واتَّبعه؛ فإنه يكون شفاءً في حقّه ورحمةً». الصفة الثانية: القرآن يدعو إلى العلم
جاءت دعوةُ القرآن إلى العلم في أول سورة أُنزلت، وهي سورة العلق؛ فنوّه بشرف التعليم والعلم فقال -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1 - 5)، قال ابن القيم -رحمه الله-: «والتعليم بالقلم من أعظم نعمه على عباده؛ إذ به تخلد العلومُ، وتثبت الحقوق، وتُعلم الوصايا، وتُحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس؛ فنعمة الله -سبحانه وتعالى- بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم..»، وبين فضل آدم بالعلم، ليكون مؤهَّلا للاستخلاف في الأرض في تنفيذ أوامر الله -تعالى- فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} (البقرة: 31)، وامتَنَّ اللهُ -سبحانه- على عباده بالعلم، الذي من أعظمه القرآنُ فيسر حفظَه وفهمَه على من رحمه فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 1 - 4).
ورَفَعَ شأن العلماء فقرن شهادته -تعالى- بشهادة الملائكة وأهل العلم على أجل مشهود عليه، وهو توحيدُه -تعالى- وقيامُه بالعدل فقال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18)، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. ونوَّه -تعالى- بمكانة العلماء، وفضلِهم، ورفعِ درجاتهم فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11)، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28)، وعن ابن مسعود أنه قال: «ليس العلمُ عن كثرة الحديث، ولكن العلمَ عن كثرة الخشية»، وقال مالك: «إن العلمَ ليس بكثرة الرواية، وإنما العلمُ نورٌ يجعله الله في القلب». وأمَرَ الله -سبحانه- نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الاستزادة من العلم فقال: {وقل ربِّ زدني علماً} (طه: 114)، وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم انفعْني بما عَلَّمتني، وعَلِّمني ما ينفعني، وزِدْني علماً، والحمد لله على كل حالٍ، وأعوذُ بالله من حالِ أهلِ النار».
الصفة الثالثة: القرآن دستور هذه الأمة
من اتبع هديَ القرآنِ الكريم، وترسَّم خطاه، فاز في الدنيا، وأفلح في الآخرة، ومن أعرض عنه، خسر خسرانًا كبيرًا، وكانت حياته همًّا وغمًّا، قال ابن كثير: «قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي: خالف أمري، وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حَرَج لضلاله، وإن تَنَعَّم ظاهرُه، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبه يتردد {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: الشقاء، كما قال ابن عباس. {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} أي: لا حجة له، ويحتمل أن يكون المراد: أنه يحشرُ أو يبعث إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه: 125 - 126) أي: لما أعرضت عن آيات الله، وعامَلْتها معاملةَ من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها، وأعرضت عنها وأغفلتها، كذلك نعاملك اليوم معاملة من ينساك».
الحكمُ بالقرآن الكريم سعادةٌ
والحكمُ بالقرآن الكريم سعادةٌ، قال الله -تعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (النساء: 105) وعِلْمُ اللهِ -تعالى- لا يحتمل الخطأ، فكلُّ ما جعله الله حقا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس، وأن الله أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالة على وصف الأحوال التي يتحقق بها العدل، فيحكم بين الناس على حسب ذلك، بأن تندرج جزئياتُ أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبينة في الكتاب، قال ابن القيم: «أخبر -سبحانه- أن كل حكم خالف حكمَه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى، لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية، لا من حكم الله والهدى»، قال -سبحانه-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 49، 50)، قال ابن القيم: «قد أقسم الله -سبحانه- بنفسه أنا لا نؤمن حتى نُحكّم رسولَه في جميع ما شَجَرَ بيننا، وتتسع صدورُنا بحكمه، فلا يبقى منها حرجٌ، ونسلم لحكمه تسليمًا، فلا نعارض بعقل ولا رأي، ولا هوى ولا غيره». قال -تعالى-: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال أيضًا: «ويجب ردّ موارد النِّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله، لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله، ومن دعا عند النِّزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يَرُدَّ كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله».قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59). الصفة الرابعة: القرآن يدعو إلى الوسطية والاعتدال
وقد وصف الله -تعالى- هذه الأمة بأنها أمةٌ وسط، أي: خيار. قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143) قال ابن كثير: «ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال -تعالى-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)» قال ابن القيم: «أخبر الله -تعالى- أنه جعلهم أمةً وسطاً، أي: خياراً عدولاً. هذه حقيقة الوسط؛ فهم خيرُ الأمم وأعدلُها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة»، وسمة هذه الشريعة بأنها شريعة السماحة ورفع الحرج، قال -سبحانه-: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة:6)، قال الشاطبي: «إن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات، فلا تجد كلية شرعية مكلفاً بها وفيها حرج كليٌّ أو أكثري البتة. مقتضى قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)»، ومن نتائج الوسطية العدل في الحكم، فلا إفراط ولا غلو ولا إكفار ولا جفاء، وكذلك لا تفريط ولا جور ولا تساهل.