دراسة الاجتهاد الفقهي بين الانقطاع والاستمرار: بحث في حكم تقليد المجتهد الميْت عند الأصوليين
أحمد غاوش
تُعالِج هذه الدراسة حكم تقليد المجتهد بعد موته ممّن جاء بعده، وهي مسألة أصولية تناولها بعض أهل الفقه في مصنّفاتهم الأصولية، فالتعرّض لهذه المسألة بالبحث؛ قديمًا وحديثًا، إمّا قليل نادر، وإمّا مختصر موجز. وللمسألة أبعاد وآثار في الفكر الفقهي المعاصر يلزم بيانها، لتسليط الضوء على الأفكار التي تكبِّل العقل الفقهي المسلِم، وتقعد به عن النهوض بواجب التجديد والاجتهاد؛ واستحداث القول فيما يُستجد على ساحة الأمة من قضايا ومسائل.
وتضمّن البحث عرضاً لمذاهب أهل الأصول والفقه في هذه المسألة؛ وفاقاً وخلافاً، من مختلف المدارس الإسلامية، بما في ذلك: ذكر أدلّة كلّ فريق على ما اختاره ونادى به من المعقول والمنقول، ومناقشة الأدلّة وتقويمها، والموازنة بينها.
مقدمة
كان الإعلان عن سدّ باب الاجتهاد، والإقرار بخلوّ الزمان من المجتهدينَ، وانقراض هذه الفئة من الأمّة؛ مآلاً مؤسِفًا انتهى إليه العقل الفقهي المسلِم بعد مسار طويل من التحوّلات المتتابعة، التي غلب على طابعها العامّ الانحدار بدلاً من الصعود، والانحطاط عوضًا عن الازدهار. ذلك أنّ التوجّهات الفكرية العامّة لأيّة أمّة، لا يُكتَب لها الذيوع والانتشار ثمّ الاستقرار، إلّا بتوافر جملة من الأفكار الصغرى الرافدة لها، التي تمدُّها بأسباب الحياة، وتُكسبُها ألوانًا من التبرير المنطقي، الذي يضمن لها القَبول من الجمهور على مرِّ العصور، واختلافِ البيئات والمجتمعات. وأحسب أنّ مسألة التقليد الفقهي لا تخرج عن هذا القانون الكلّي، فهي ليست توجّهًا فقهيًّا قام في الأمّة على حين غِرَّة من دون مقدّمات؛ إذ ليس من المعقول أن تُتلقّى بالقَبول دعوةٌ إلى التقليد في سياق فكري يطبعه الميل إلى التجديد، ويصبو أهله إلى الاجتهاد.
والحقّ أنّ البحث المدقِّق في ثنايا الفكر الأصولي يوصِل إلى القطع بأنَّ هناك منظومة متكاملة من الأفكار الخادمة للتقليد، القاطعةِ أسبابَ الاجتهاد، الداعمةِ خياراتِ الاتّباع السلبي بلا استدلال.
ولعلّ من بين أهم تلك الأفكار التي يصدق عليها هذا الوصف، ما تبنّاه بعض أهل الأصول والفقه، من قول يقضي بعدم اشتراط الحياة في المجتهد ليصحّ تقليده، وهي فكرة يبدو أنّها لم تظهر في الفكر الأصولي إلّا بعد ترسيم المذاهب الفقهية المتبعة، ووفاة الأئمة المشهورين؛ ذلك أنّ القول بصحة تقليدهم متفرّع على جواز تقليد الميت وصحته شرعًا، فقد نَصّ النووي على أنّ تقليد العوام للأئمة المجتهدينَ، وانتسابهم إليهم متفرّع على جواز تقليد الميْت، قال: “المنسوب إلى مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، ثلاثة أصناف؛ أحدها: العوام، وتقليدهم الشافعي مثلا، مفرع على تقليد الميت….”
فكان من لواحق ذلك أنْ ظهرت في الفكر الأصولي مذاهبُ وآراء تخدم الاتجاه العامّ الهادف إلى تكريس الاتّباع من غير دليل، والتضييق على استحداث الأقوال والمذاهب بعد حصرها في عدد مُحدَّد. وبذا، تتجلّى أهمية هذه الفكرة وخطورتها في تمثيلها العماد الرئيس لمسألة التقليد، فبقبولها يستمر التقليد إلى ما لا نهاية، وبرفضها يُفتح من جديد بابُ الاجتهاد الفقهي واسعًا، وعلى نحوٍ متواصل مستمر؛ لأنّه سيصير -آنئذٍ- ضرورة شرعية لا مندوحة عنها، وتغدو ذمّة الأمّة جمعاء عامرة، لا تبرأ إلّا بإقامة الفريضة بوجود مجتهدينَ كاملينَ في كلّ وقت، يضطلعون بمهام النظر الفقهي المتجدّد في قضايا الناس ونوازلهم.
أولاً: مواقف الأصوليين من تقليد الميْت
ظلّ الاجتهاد منذ زمن النبي إلى نهاية عصر الأئمة الفقهاء، منصبًّا قائمًا في الأمّة، وصفة ملازمة لكثير من علمائها، ولم تكن قد ظهرت بعدُ تلك الشروط المتشدِّدة المطلوبة في المجتهد، ممّا يفسِّر الظهور المتقارب والمتزامن للمجتهدينَ في ذلك العصر. فلم يكن الناس بحاجة إلى إثارة تساؤل تقليد الأموات؛ نظرًا لتوفر الأحياء وقربهم من المجتمع وقضاياه، يُستفتون فيَفتون، ويُسألون فيجيبون؛ ذلك أنّ الحكم الذي كان متعارفًا عليه، هو وجوب الاجتهاد على أهله، وتحريم التقليد عليهم.
ثمّ لم يلبث الوضع أنْ تغيَّر كلّيةً بتأثير عوامل سياسية واجتماعية وثقافية سهَّلت على الجمهور القَبول بفكرة انتهاء عصر الاجتهاد، فلم يبقَ من مسلّم له بالصفة، ومعترَف بأهليته، إلّا مَن مضى مِن الفقهاء وأهل العلم، عندئذٍ، يٌثار السؤال الآتي: ما حكم تقليد هؤلاء وقد انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء؟
اختلف الأصوليون والفقهاء في مسألة جواز تقليد المجتهد الميت على عدد من الأقوال والمذاهب، ترجع كلّها بعد التأمّل إلى مذهبيْنِ رئيسيْنِ، هما:
المذهب الأول: جواز تقليد المجتهد الميْت
وهو مذهب طائفة من أهل الفقه والأصول رأوا جوازَ الأخذ بقول الميْت، وتقليده في اجتهاده حتى بعد موته ممّن جاء بعده، وقد عَدّ ابنُ الصلاح هذا المذهب هو الأرجح؛ لأنّه –بنظره- الصحيح من مذهبيْنِ اثنيْنِ حكاهما، قال: “في جواز تقليد الميت وجهان: أحدهما لا يجوز؛ لأن أهليته زالت لموته فهو كما لو فسق، والصحيح الذي عليه العمل الجواز.”
والوجهان المذكوران يُقصَد بهما القولان المنقولان عن فقهاء الشافعية، ومثلهما عن أصحاب الإمام أحمد، فأولهما: التجويز مطلقًا؛ لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولهذا ذهبوا إلى الاعتداد بآراء المجتهدينَ الأموات في مسائل الإجماع والخلاف الواقعة بعدهم.
وثانيهما: المنع منه، لكنّ في الأمر تفصيلاً خلاصته: تقييد الجواز بكون هذا التقليد واقعًا في الأعصار المتأخرة، وهي الموصوفة بفقدان المجتهدينَ.
ونقل النووي هذا الخلاف في “الروضة”، ثمّ سكت عنه، بل حكاه في “آداب الفتوى”، فصرَّح بأنّه الصحيح من مذهبيْنِ، واستضعف مذهب المنع مُستدِلّاً بحُجَّة انعدام المجتهدينَ في مثل عصره، قال: “وفي جواز تقليد الميت وجهان: الصحيح جوازه؛ (…) والثاني: لا يجوز؛ لفوات أهليته كالفاسق، وهذا ضعيف، لا سيما في هذه الأعصار.”
ونسب بعضهم مذهب تجويز تقليد الموتى من المجتهدينَ إلى جمهور العلماء، بل بالغ بعضهم فحكى الإجماع عليه، وزعم أنّ ثبوته أمر لا خفاء فيه؛ “إذ لم ينقل عن أحد من أهل العلم بعد استقرار المذاهب المفتى بها إنكاره.” وفي ذلك يقول الزركشي: “واحتج الأصوليون عليه بانعقاد الإجماع في زماننا، على جواز العمل بفتاوى الموتى، والإجماع حجة.”
وهي دعوى يدل على بطلانها الواضح ما نقلناه آنفًا من إقرار أهل التجويز بوجود مذهبيْنِ لأهل العلم، وبما سيأتي من عرضٍ لأوجه الخلاف في هذه المسألة، التي أوردها العلماء المعتبرون.
وبالمذهب المذكور جزم الحطاب الرعيني، فقال: “يجوز تقليد الميت على الصحيح، وعليه عمل الناس، ولو وجد مجتهد حي.”
وواضح هنا أنّه يربط أرجحية هذا القول بكونه ما جرى عليه العمل في المذهب، وإلّا فإنّ بعض أعلام المالكية قد قالوا إنّ المشهور من الأقوال، هو عدم جواز تقليد الميْت كما نَصّ عليه البرزلي وابن ناجي في شرح الرسالة، بل حكى هذا الأخير الإجماع على ذلك ولم يعترض عليه.
إلّا أنّ المتتبع أقوالَ علماء المذهب المالكي، ولا سيّما في الأعصار المتأخرة، يلحظ أنّ الاتجاه إلى منع تقليد الميْت، أخذ يتقلّص ويتوارى إلى أنْ شارف على الزوال والاضمحلال، في مقابل ظهور القول المقابل، واشتهاره، ودفاع العلماء عنه، فلا غرو أنْ يدّعي ابن عرفة إجماعًا مقابلاً نسبه إلى أهل زمانه، وعلَّله بفقد المجتهد وانعدامه، قال: “انعقد الإجماع في زماننا على تقليد المجتهد الميت؛ إذ لا مجتهد فيه.”
المذهب الثاني: منع تقليد المجتهدينَ الموتى
أفاد أصحاب هذا المذهب بعدم جواز تقليد الميْت، أو الأخذ بمذاهب الموتى من الفقهاء، وإليه ذهبت طائفة من أكابر أهل الأصول، كما جعله بعضهم مذهب الأكثرينَ…، أشهرهم: الجويني، والباقلاني كما يُفهَم من عبارته: “من قلّد فلا يقلّد إلا الحي، ولا يجوز تقليد الميت،” وأبو حامد الغزالي، والعز بن عبد السلام اللذان قالا: “يجب تقليد مجتهد العصر، ولا يجوز تقليد الميت.” بل يستغنى عنه بالمجتهد الحيّ من أهل عصره.
يُذكَر أنّ الرازي نصر هذا المنحى واحتج له في “المحصول”، وصرَّح بأنّ الميْت لا قول له في ما يستجد بعدَه.
وقد نقل عدد من الأصوليينَ المتقدّمينَ والمتأخرينَ الإجماعَ على هذا الرأي، وفي طليعتهم: الغزالي، ثمّ الصنعاني. ونقل الشوكاني عن ابن الوزير إجماع سائر علماء المسلمين عليه.
فإذا اعتُرِض عليهم في دعوى الإجماع بالقول الأول، وهو مذهب التجويز، قالوا إنّه محمول على عدم مجتهد العصر، فيكون تقليد الميْت على هذا نوعًا من الضرورات التي تقدَّر بقدرها، ويحكَم بارتكابها إذا ترجَّح الظنّ بأنّ مصلحة تقليد الإمام الميْت، والأخذ بما حَكم به، خيرٌ من “ترك الناس هملاً،” وأنّ الوقوع في التقليد، ولا سيّما إذا كان لأهل العلم والفضل، خيرٌ من تضييع الشريعة جملة واحدة.
فيتقيّد الرأي الأول بما إذا لم يكن مِن بين أهل العصر مَن يستحق رتبة الاجتهاد والنظر في النوازل والقضايا، لا في حال وجوده، وتمكّنه من الاستنباط والإعلان عن مقتضى اجتهاده… .
وإلى هذا التوجيه يرجع ما يمكن اعتباره قولاً ثالثًا في المسألة؛ وهو ما اختاره جماعة من العلماء من قول يوهِم ظاهره أنّهم من أصحاب التجويز. ولكن، عند التأمّل والتدقيق يظهر أنّهم إنّما يختارونه في حال عدم وجود المجتهد: “والصحيح أنه يرجع إليه عند الحاجة والعجز عما فوقه؛ فإذا صح نقلٌ كتابيٌّ عمّن سلف من أهل العلم، ورواه عنه ثقة ثم نـزلت به نازلة في بادية وعسر عليه الوصول إلى مواطن الفقهاء وخاف فوات النازلة (…) فإنه يعمل بما يجده في كتاب المصحح، وإن قلّد ميتا فهو أولى من اتباع هواه بغير علم; لأن ما يجده في صحيفته أصل، وما قيل بعلم فهو أولى من اتباع الهوى.”
لذا، فقد قيّدوه بالأعصار المتأخرة على اعتبار أنّها مظنّة عدم توفر المجتهدينَ خلافًا للأعصار المتقدمة.
ونقِل في المسألة قول رابع فيه نوع من التفصيل، حاصله أنّ هذا النوع من التقليد إنّما يجوز لطائفة من الفقهاء الذين يلقَّبون بفقهاء المذاهب؛ وهم النظّار القادرون على إدراك أدلّة أقوال الإمام على نحوٍ يمكنهم به الدفاع عنها في مجالس المناظرة مع المخالفينَ، والجدل مع الخصوم، فإذا كانوا عاجزينَ عن هذا القدر منِعوا من حكاية مذاهب الأموات.
وبتأمّل هذا القول يظهر أنّه آيل بالضرورة إلى مذهب المنع، ألا ترى أنّ هذا الفقيه بالوصف المذكور لم يُعِد حكاية مذهب الإمام، إلّا بعد تجديده النظر في الأدلّة المعتمدة أول الأمر لبناء الفتوى، والفحص المستأنف لأدلّة الخصوم، والإجابة عن الاعتراضات، وإبطال ما يمكن أن يوجَّه إلى القول المفتى به من الإلزامات والإيرادات. فمَن كان هذا شأنه لا يقال فيه إنّه مقلِّد، بل هو مجتهد؛ لخروجه عن دائرة التقليد وتعريفه، وغاية ما هنالك أنّه وافق الإمام في فتواه ورأيه، لا عن تقليد وتسليم، بل عن نظر واستدلال.
وبذا، فقد خلصت الدراسة إلى أنّ القول الأصولي في حكم تقليد الميْت مختلفٌ فيه على مذهبيْنِ، مع بعض التفصيل عند قوم من هؤلاء وأولئك.
حكم تقليد الميْت عند الإمامية
يتسامح بعضهم فيزعم أنّ تحريم تقليد المجتهد الميْت أمر مجمَع عليه عند الشيعة الإمامية، ويضيفون أنّ اعتبار الحياة في حُجّية قول المجتهد هو كالضروري من أصول مذهبهم التي يمتاز بها من غيره، ولا يغفلون أيضًا -في هذا السياق- عن بيان أثر جملة من الآثار الطيبة لهذا الاختيار في الفقه الإمامي، ومن جملة ذلك: “أثره الفاعل في بث الحيوية والروح في الفقه الشيعي ومن ثم نموه وازدهاره، ليبقى في مأمن من التأثر بمجمل التغيرات العالمية، وبالتالي حيازته المكانة اللائقة به في العصر الحديث، بما ينطوي عليه من قوانين تلبي متطلبات الإنسان في الحياة المعاصرة.”
ونحن لا نجادل في الأثر، لكونه صحيحًا، لو ثبت المؤثّر، وكان قول هذه المدرسة فيه متفقًا موحّدًا، إلّا أنّ التحقيق يقضي بأنّ الأمر على خلاف ذلك. فعلى أقلّ الأقوال الحاكية لمواقف أصولييهم في هذه المسألة، هناك خلاف شهير محفوظ بين مدرستين كبيرتين، هما: مدرسة الأصوليين التي ترى المنع منه، ومدرسة الإخباريين التي تذهب إلى تجويز تقليد الأموات، قال محسن الحكيم: “اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي، والمعروف بين الأصحاب الاشتراط، وبين العامة عدمه، وهو خيرة الإخباريين وبعض المجتهدين من أصحابنا.”
وقد رجّح بعض أصوليي الشيعة مذهب الجواز، وبالغ في الاستدلال له عقلاً ونقلاً، وكان ممّا استُدِلّ به أنّ موضوع الحُجّية هو ما كان قولاً لمَن هو من أهل الخبرة ولم يرجع عنه، من غير اشتراط بقاء حياته أو بقاء سلامته، فهذا القول المنقول عنه قد كان مذهبًا له عندما كان حيًّا أو سليمًا، فإذا مات أو مرض وقع الشكّ في بقاء الحُجّية في قوله: هل هي كما كانت أو لا؟ فكان المقتضى تطبيق قاعدة استصحاب بقاء ما كان على ما كان؛ أي استمرار حُجّية قول المجتهد، فيُستنتَج من هذا البناء العقلي أنّ الأصول العملية والأدلّة الاجتهادية دالّة على جواز تقليد الميْت كالحيّ.
وأمّا دعوى الإجماع فينقضها شيئان؛ أولهما: ما ورد من الاختلاف المنبَّه عليه قبلاً. وثانيهما: عدم ذيوع مذهب المنع إلّا عند المتأخرينَ من علماء الإمامية، وذاك ما يُفسِّر سكوت المتقدمينَ عن ذكرها في كتبهم. ويضاف إلى هذا أنّ فقهاءهم ألَّفوا كتبًا ورسائل في الاتجاهيْنِ معًا؛ منها ما انتصر لهذا القول، ومنها ما انتصر للقول المقابل؛ ممّا يُستدَلّ به على أنّ المسألة لم تكن إجماعية قطّ.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن التصريح بأنّ أئمة الشيعة الإمامية يختلفون في تقليد الميْت اختلافًا قريبًا من اختلاف أهل السنّة، وأنّ منهم المجيز والمانع كمثل الجمهور، ولا ينفصلون عنهم إلّا من جهتين، هما:
1. أغلب متأخريهم من العلماء مالوا إلى المنع من تقليد المجتهد بعد موته، وصار هذا القول مستفيضًا بينهم استفاضة منعت ظهور خلاف ظاهر فيه فادُّعِي الإجماع عليه، قال القمي: “إن تقليد الميت ابتداء قد اشتهر المنع عنه في كلام الأصحاب، بل نقل الإجماع على عدم جوازه في كلام جمع كثير من المتأخرين.”
2. أصوليو الإمامية كانوا أكثر اعتناء بهذه المسألة؛ بحثًا وتفريعًا، فدرسوا ضمنها قضايا من قبيل:
– هل يجوز تقليد الميْت ابتداء؟
– هل يتوقّف مقلِّد المجتهد عن تقليد مرجعه بعد وفاته أو يستمر عليه؟
– هل تُعَدّ الحياة أحدَ الشروط المعتبرة في المجتهد؟
إلى غير ذلك من الأسئلة التي أملتها طبيعة الممارسة الفقهية عندهم وخصائصها، وفي مقدمة ذلك إلزامهم عموم المكلّفينَ باتخاذ مرجع في الفقه يُستفتى ويُستشار في النوازل، ويُؤخذ بقوله المعين في مختلف النوازل.
ثانيًا: أدلّة المذهبيْنِ في مسألة تقليد الأموات
حاول كلٌّ من الفريقيْنِ تقوية ما اختاره من رأي في هذه القضية الأصولية بجملة من الأدلّة، تتنوّع بين ما هو من قبيل المعقول، وما هو من جهة المنقول. وسنستعرض فيما يأتي أدلّة كلا الفريقيْنِ، ثمّ نناقشها على ضوء ما التزمه كلّ طرف من طرائق الحِجاج، ووسائل الدفاع عن المذهب.
1. أدلّة مذهب الجواز:
– الأدلّة العقلية:
استدل هذا الفريق بحجج عقلية حاصلها ما يأتي:
أ. وقوعه على مرّ الأعصار بلا إنكار. فالأمّة قد استقرَّ أمرُها من أزمان غابرة على تقليد الأموات من المجتهدينَ، واعتبار آرائهم بعد مماتهم كما كانت معتبرة في حياتهم. وما تقليد أئمة المذاهب إلّا نوع من هذا، وضرب واضح منه، فكيف يُمْنَع والواقع يشهد بأنّ ذلك جائز، فإنّ الوقوع أبلغ في الجواز وأكثر، قال الصنعاني: “واستُدل للجواز بالوقوع، بلا نكير؛ فكان إجماعاً. بيان ذلك أنَّ الأمة في كل قطر عاملة بمذاهب الأئمة كالهادي، والناصر، والفقهاء الأربعة.”
وظاهر عبارته أنّ هذا الوقوع الحاصل من الأمّة يُعَدّ بمثابة الإجماع على الأمر، وادّعاء الإجماع في هذا الموطن مدخول من الناحية المنهجية فلا يسلم، بسبب افتقاده للشروط المطلوبة في الإجماع؛ إذ يقرِّر الأصوليون أنّ الاجتماع على الرأي لا يُعَدّ إجماعًا شرعيًّا، ومنتجًا للحُجّية إلّا إذا كان المجمعون أولاً من أهل الاجتهاد؛ إذ “من شرط الإجماع اتفاق المجتهدين، فمن لم يكن من المجتهدين فهو من المقلدين؛ لأنه لا واسطة بينهما، فعلى هذا لا يعتدُّ بقوله، ولا بخلافه.”
وعملاً بهذا الشرط ألغى أهل الأصول خلاف مَن لم يحصل الرتبة؛ سواء أكان عامّيًّا لا فقه عنده، أم طالب فقه غير محصلٍ لقواعد الاجتهاد، ولا مستقلٍّ بالنظر والاستدلال؛ فكلاهما يشترك في معنى واحد على رأي الجمهور، قال الطوفي: “… وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، فهو إما غير مكلف، كالصبي والمجنون، فلا تعتبر موافقته قطعا، أو يكون مكلفا كالعامة، ويلحق بهم طلبة الفقهاء الذين لم يبلغوا رتبة النظر والاستدلال الاجتهادي، فهؤلاء لا يعتبر قولهم عند الأكثرين من الأصوليين.”
وقد عرَّف ابن الحاجب الإجماع بقوله: “اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر.” ولا ريب أنّ الظاهر من العبارة أنّه -كغيره من المعرّفين- يشترط توفر صفة الاجتهاد في الذين وقع منهم الإجماع؛ لكي يكون إجماعهم معتبراً.
وقد تنبّه السبكي للتناقض الواقع في دعوى الإجماع على الجواز، فقال بعد أن عرض ما استدل به المدافعون عن ذلك: “… ولقائل أن يقول: لا يجامع قولك: ليس في هذا الزمان مجتهد قولك إجماع أهل الزمان حجة؛ لأن الإجماع المعتبر هو إجماع المجتهدين.”
ب. قياس اجتهاد الميْت على خبره وشهادته في عدم اعتبار الحياة، وبقاء حُجّية ما أخبر به، وصدق ما شهد به حتى بعد وفاته. فكما أنّ الشهادة والخبر لا يَبطلان بمجرّد وفاة مؤدّيهما، بل يقع الحكم بالأولى، والاحتجاج بالثانية من غير التفات إلى حياة أو موت، فكذلك الحال في اجتهاد الميْت ورأيه.
ت. الأصل عدم الخطأ، وعدم الرجوع عمّا توصّل إليه المجتهد، وأفتى به؛ ذلك أنّ المجتهد (الأهل للفتوى والنظر) قد بذل من الجهد، واستفرغ من الطاقة وسْعه قبل إصدار الحكم، ما كان سببًا كافيًا لقَبول قوله، ووجوب العمل بما وصل إليه اجتهاده في حقّ نفسه، وفي حقّ مَن رضي بتقليده. ومتى صحّ الأخذ عنه أول مرّة يبقي الحال على ذلك إلى أن يثبت العكس، ولا يسوّغ ترك فتواه لشيء متوقّع غير متحقّق؛ لأنّ المقرّر في القواعد الأصولية هو أنّ “انعقاد الأسباب الشرعية لا يمنع من إعمالها، توقعُ موانعها.”
ث. المذاهب لا تموت بموت أصحابها؛ نُقِل هذا القول في أكثر من مصدر منسوبًا إلى الإمام الشافعي، وعُدَّ من عباراته الرشيقة، وحاصله أنّ مَن قال قولاً، ثمّ مات، فحكمُ قوله باقٍ في الزمن الذي بعده، ورأيه ملحوظ ومُعتبَر عند مَن جاء بعده؛ لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها، بل يُعتَدُّ بأقوالهم واجتهاداتهم بعدهم؛ في الإجماع والخلاف. فكأنّ الفقهاء المنقرضينَ أحياء بعلومهم، ذابّون عن مذاهبهم بما خلَّفوه وراءهم من الفقه المنتشِر بين الناس، والمدوَّن في الكتب والمصنّفات.
ج. اختيار مذهب الأخذ بتقليد الأموات من الفقهاء، هو من باب الترخّص للاضطرار؛ لأنّ الناس لا يكفّون عن الاختلاف فيما بينهم، وعن طلب الحكم الشرعي في ما يَحلّ بهم من النوازل والأقضية، من غير التفات إلى كون مجتهد الوقت موجودًا أو معدومًا، ولا انتظار لتوافر الشروط المقرِّرة لاعتباره وأهليته، ولو لم نجوِّز لهم التقليد لما هو ميسور من اجتهادات الفقهاء الماضينَ، لوقعوا في دائرة الفراغ التشريعي، ولأدّى ذلك إلى فساد أحوال الناس، واضطراب أمورهم.
ح. القول بالمنع؛ أي إنّ منع الأمّة من تقليد الأموات، هو افتراض نظري لا أثر له في الواقع. فالقائلون بذلك يقرِّرون هذا المبدأ في الكتب، ويدافعون عنه في المناظرات، ثمّ يعملون بخلافه في الفروع العملية، ولذلك عَدَّ ابن القيّم مذهبَ مَن قال بالمنع شيئًا من باب النظر الذي يناقضه العمل، ولا يرى له أثر في التطبيق الفقهي، حتى ممّن تزعَّم القول به ونصره، قال: “ومن منع منهم تقليد الميت، فإنما هو شيء يقوله بلسانه، وعملُه في فتاويه وأحكامه بخلافه.”
– الأدلّة النقلية:
وأمّا من جهة المنقول والمأثور فقد احتجوا بمرويات أدلّها على الدعوى، وأخصّها بموضوع النـزاع، ما روي عن ابن مسعود أنّه قال: “ألا لا يقلِّدن رجل رجلا دينه، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كان مقلداً لا محالة، فليقلد الميت ويترك الحي، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة.”
وموضع الاستدلال منه -إن سلّم بصحته وحُجّيته- شطره الأخير الذي يدعو فيه إلى تقليد الميْت، ويحثّ عليه، ويفضِّله على تقليد الحيّ؛ لكون هذا أَأْمن من الفتنة، وأبعد عنها؛ لانقطاعه عن الدنيا، وهي دار التقلّب والتحوّل والتغيّر من حال إلى حال.
واستدلوا أيضًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: “اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.” وبما يروى عنه من حديث، وفيه: “إنما أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم.”
ووجه الاستدلال فيهما أنّ هذا خطاب إلى الأمّة من الزمن النبوي إلى حين قيام الساعة، مفاده التوجيه إلى الاقتداء بالصحابة جميعًا، أو بالخليفتيْنِ الراشديْنِ الأوليْنِ، وذلك يستلزم ضرورة حدوث هذا التقليد بعد موت الصحابة، انطلاقًا من عصر ما بعد التابعينَ، فكان الأمر النبوي مقترنًا بهذا اللازم، دالّاً على جواز تقليد المجتهد الميْت.
2. أدلّة مذهب المنع:
أمّا الفريق الثاني فقد ردّ أدلّة هذا الفريق، وزيف براهينه وحججه، ببيان عدم كفايتها المنطقية في الاستدلال، كما لم يسلِّم بصحة ما أورده من الخبر والأثر؛ روايةً ودرايةً، واستدل -في المقابل- على تدعيم وجهة نظره بعدد من الحجج والدلائل من منقول الشرع ومعقوله، وفي ما يأتي بيانٌ لذلك.
أ. الحجج المعقولة للمانعينَ:
من الحجج المعقولة التي كانت عمدة المانعينَ في إثبات دعواهم ما يأتي:
• لا قول للمجتهد بعد موته: وهذه أول الحجج التي رفعها الرازي في “المحصول”، واستدل بها على كون الإجماع “لا ينعقد مع خلافه حيّاً وينعقد مع موته، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته.” فكيف يجوز تقليده بعد موته، وهو لم يعد لقوله اعتبار في مسائل الإجماع كما كان له في الحياة؟
• الفتوى والاجتهاد يختلفان عن الخبر والشهادة، ومن ثَمّ لا يجوز القياس بينهما لما عُلِم في أوليات مبحث القياس عند أهل الأصول؛ من منع إجراء القياس مع المخالفة وعدم المساواة، فإنّهم يقولون لا قياس مع الفارق، والفارق هنا كبير جدًّا، يتمثَّل في أنّ المخبر والشاهد يخبران عن أشياء ملموسة مدركة بالحواس، لا دور لتغيّر الزمان في اختلافها، بخلاف المجتهد، فإنّه يبني أحكامه على “مقدمات نظرية، وهي تختلف باختلاف خبرة المفتين بأصول الاستنباط، ومقدار ما يملكون من ذكاء وصبر على البحث، بل تختلف باختلاف المراحل العلمية التي يجتازها المفتي الواحد.”
• موت المجتهد مُسقِطٌ لأهليته؛ وحاصل هذه الحُجّة أنّ المجتهد -إبّان حياته- كان مؤهّلاً للنطق عن الشارع بحكم ما يعرض عليه من النوازل والقضايا، عبر استقصاء الأدلّة، وإعمال العقل، وتجديد النظر، وهذه كلّها أمور لم تعد في إمكانه بعد موته قطعًا، فلم يسغ تقليده لفوات أهليته من هذا الوجه، قياسًا على سقوط شهادة الشاهد بعد ثبوت فسقه، وانخرام عدالته، علمًا بأنّها كانت مقبولة من قبل.
• بقاء الوصف بعد زوال الأصل محال؛ أي إنّ قول المجتهد هو وصف مقترن بأصل كان موجودًا، ثمّ انتفى؛ وهو حياة المجتهد. فلولا وجود هذا الأصل لما كان هناك وصف من الأساس. ولأنّ المسبّبات منوطة بأسبابها؛ وجودًا وعدمًا؛ فإنّ الوصف (القول) يَبطل بزوال الأصل (الحياة)؛ تبعًا ولزومًا. قال الزركشي: “… لأن قوله وصفه، وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال.”
• تقليد المجتهد بعد موته إمّا أن يكون وهمًا، وإمّا أن يكون تردُّدًا؛ فإنّه لو كان حيًّا للزمه تجديد النظر لتجدُّد النازلة، وبدهي أنّ تجديده النظرَ والاستدلال قد ينتج منه تغيير لقوله، فإن حصل منه ذلك كان التمسُّك بقوله الأول تمسُّكًا بالوهم والخطأ في أبعد الاحتماليْنِ، أو بالتردُّد والشكّ في أقربهما، وكلّ ذلك غير جائز في دين الله.
ومَن يطالع تاريخ الفقه الإسلامي ومراحل تطوّر المذاهب الفقهية يقف على الكمّ الهائل من الأقوال التي انتقل عنها الأئمة، والآراء التي غيّروها بسبب تغيُّر العوامل المؤثِّرة في الاجتهادات؛ سواء أكانت معرفية أم واقعية. ويكفيك دليلاً على هذا أنّ الإمام الشافعي كان له مذهب قديم في مسائل الأصول والفروع، وله فيه كتب مدوَّنة، وإملاءات مروية، وأصحاب معروفون معيّنون، ثمّ انتقل عن ذلك كلّه إلى مذهب جديد، تخلّى فيه عن مسائله القديمة إلّا نـزرًا يسيرًا جدًّا منها، ينصّ الشافعيون على أنّه لا يتجاوز العشرين مسألة من مجموع الأبواب الفقهية على رأي مَن استكثر منهم، ولا يعدو ثلاثًا فقط على رأي الجويني.
يتبع