تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 8 من 23 الأولىالأولى 123456789101112131415161718 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 141 إلى 160 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #141
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(127)
    الحلقة (141)
    صــ 286إلى صــ 291

    1440 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وأحاطت به خطيئته ) ، الكبيرة الموجبة .

    [ ص: 286 ] 1441 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أحاطت به خطيئته ) ، فمات ولم يتب .

    1442 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حسان ، عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء : ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال : الشرك ، ثم تلا ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ) [ النمل : 90 ] .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 81 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم ، أصحاب النار هم فيها خالدون .

    ويعني بقوله جل ثناؤه : ( أصحاب النار ) ، أهل النار ، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم - جل ذكره - بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا ، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره ، حتى يعرف به .

    ( هم فيها ) ، يعني : هم في النار خالدون . ويعني بقوله : ( خالدون ) مقيمون كما :

    1443 - حدثني محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( هم فيها خالدون ) ، أي خالدون أبدا .

    1444 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، [ ص: 287 ] عن السدي : ( هم فيها خالدون ) لا يخرجون منها أبدا .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( 82 ) )

    قال أبو جعفر : ويعني بقوله : ( والذين آمنوا ) ، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . ويعني بقوله : ( وعملوا الصالحات ) ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده ، وأدوا فرائضه ، واجتنبوا محارمه . ويعني بقوله : ( فأولئك ) ، فالذين هم كذلك ( أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يعني : أهلها الذين هم أهلها ، هم فيها ( خالدون ) ، مقيمون أبدا .

    وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها ، [ وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها ] ، ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها ، تكذيبا من الله - جل ثناؤه - القائلين من يهود بني إسرائيل : إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة ، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة . فأخبرهم بخلود كفارهم في النار ، وخلود مؤمنيهم في الجنة كما : -

    1445 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، أي من آمن بما كفرتم به ، وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم الجنة خالدين فيها . يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا .

    1446 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال ، [ ص: 288 ] قال ابن زيد : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - "أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله )

    قال أبو جعفر : قد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا - على أن "الميثاق " "مفعال " من "التوثق باليمين " ونحوها من الأمور التي تؤكد القول . فمعنى الكلام إذا : واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل ، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله ، كما : -

    1447 - حدثني به ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) - أي ميثاقكم - ( لا تعبدون إلا الله ) .

    قال أبو جعفر : والقرأة مختلفة في قراءة قوله ( لا تعبدون ) . فبعضهم يقرؤها بالتاء ، وبعضهم يقرؤها بالياء ، والمعنى في ذلك واحد . وإنما جازت القراءة بالياء والتاء ، وأن يقال ( لا تعبدون ) و ( لا يعبدون ) وهم غيب ؛ لأن أخذ الميثاق ، بمعنى الاستحلاف . فكما تقول : "استحلفت أخاك ليقومن " فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك . وتقول : "استحلفته لتقومن " ، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب ؛ لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا .

    [ ص: 289 ] فكذلك قوله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) و ( لا يعبدون ) . من قرأ ذلك "بالتاء " فمعنى الخطاب ، إذ كان الخطاب قد كان بذلك . ومن قرأ " بالياء " فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم .

    وأما رفع "لا تعبدون " ، فبالتاء التي في "تعبدون " ، ولا ينصب ب "أن " التي كانت تصلح أن تدخل مع ( لا تعبدون إلا الله ) . لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل ، كان وجه الكلام فيه الرفع ، كما قال جل ثناؤه : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) [ الزمر : 64 ] ، فرفع "أعبد " ؛ إذ لم تدخل فيها "أن " - بالألف الدالة على معنى الاستقبال ، وكما قال الشاعر :


    ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي


    فرفع "أحضر " وإن كان يصلح دخول "أن " فيها - إذ حذفت ، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال .

    وإنما صلح حذف "أن " من قوله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون ) ؛ لدلالة ما ظهر من الكلام عليها ، فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها منها .

    وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، حكاية ، كأنك قلت : استحلفناهم : لا تعبدون ، أي قلنا لهم : والله لا تعبدون - وقالوا : والله لا يعبدون . والذي قال من ذلك ، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك .

    [ ص: 290 ] وبنحو الذي قلنا في قوله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، تأوله أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    1448 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له ، وأن لا يعبدوا غيره .

    1449 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال : أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره .

    1450 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال : الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا )

    قال أبو جعفر : وقوله جل ثناؤه : ( وبالوالدين إحسانا ) عطف على موضع "أن " المحذوفة في ( لا تعبدون إلا الله ) . فكان معنى الكلام : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا . فرفع ( لا تعبدون ) لما حذف "أن " ، ثم عطف بالوالدين على موضعها ، كما قال الشاعر :


    معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا


    [ ص: 291 ] فنصب "الحديدا " على العطف به على موضع "الجبال " ، لأنها لو لم تكن فيها "باء " خافضة كانت نصبا ، فعطف ب "الحديدا " على معنى "الجبال " ، لا على لفظها . فكذلك ما وصفت من قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) .

    وأما "الإحسان " فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله : ( وبالوالدين ) ، إذ كان مفهوما معناه ، فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف - : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ، بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا ، فاكتفى بقوله : ( وبالوالدين ) من أن يقال : وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا ، إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام .

    وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه : وبالوالدين فأحسنوا إحسانا ، فجعل "الباء " التي في "الوالدين " من صلة الإحسان ، مقدمة عليه .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #142
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(128)
    الحلقة (142)
    صــ 292إلى صــ 297

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن لا تعبدوا إلا الله ، وأحسنوا بالوالدين إحسانا . فزعموا أن "الباء " التي في "الوالدين " من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين . وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك ، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه . فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد ، فلا وجه لصرفه إلى كلامين . وأخرى : أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا ، لقيل : وإلى الوالدين إحسانا ، لأنه إنما يقال : "أحسن [ ص: 292 ] فلان إلى والديه " ولا يقال : أحسن بوالديه ، إلا على استكراه للكلام .

    ولكن القول فيه ما قلنا ، وهو : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا ، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل ، فيكون الإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه ، كما بينا فيما مضى من نظائره .

    فإن قال قائل : وما ذلك "الإحسان " الذي أخذ عليهم بالوالدين الميثاق؟ قيل : نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما ، والقول الجميل ، وخفض جناح الذل رحمة بهما ، والتحنن عليهما ، والرأفة بهما ، والدعاء بالخير لهما ، وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وذي القربى واليتامى والمساكين )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( وذي القربى ) ، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه .

    و "القربى " مصدر على تقدير "فعلى " ، من قولك ، "قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا " ، بمعنى واحد .

    وأما "اليتامى " . فهم جمع " يتيم " ، مثل "أسير وأسارى " . ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث .

    ومعنى ذلك : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد ، وبالوالدين إحسانا ، وبذي القربى : أن تصلوا رحمه ، وتعرفوا حقه ، وباليتامى : أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة ، وبالمساكين : أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم .

    [ ص: 293 ] و "المسكين " ، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة ، وهو "مفعيل " من "المسكنة " . و "المسكنة " هي ذل الحاجة والفاقة .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وقولوا للناس حسنا )

    قال أبو جعفر : إن قال قائل : كيف قيل : ( وقولوا للناس حسنا ) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر ، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل : إن الكلام ، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر ، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي . فلو كان مكان : "لا تعبدون إلا الله " ، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا . وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب . وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به ؛ لأن أخذ الميثاق قول .

    فكان معنى الكلام - لو كان مقروءا كذلك - : وإذ قلنا لبني إسرائيل : لا تعبدوا إلا الله ، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ) [ البقرة : 63 ] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع : ( لا تعبدون إلا الله ) ، عطف بقوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، على موضع ( لا تعبدون ) ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه ؛ لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع "لا تعبدون " . فكأنه قيل : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله ، وقولوا للناس حسنا . وهو نظير ما قدمنا البيان عنه : من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه ، ثم تعود إلى الخبر على [ ص: 294 ] وجه الخطاب; وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب ، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب ، لما في الحكاية من المعنيين ، كما قال الشاعر :


    أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت


    يعني : تقليت .

    وأما "الحسن " فإن القرأة اختلفت في قراءته . فقرأته عامة قرأة الكوفة غير عاصم : ( وقولوا للناس حسنا ) بفتح الحاء والسين . وقرأته عامة قراء المدينة : ( حسنا ) بضم الحاء وتسكين السين . وقد روي عن بعض القرأة أنه كان يقرأ : "وقولوا للناس " حسنى " على مثال "فعلى " .

    واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله : "حسنا " و "حسنا " . فقال بعض البصريين : هو على أحد وجهين : إما أن يكون يراد ب "الحسن " "الحسن " وكلاهما لغة ، كما يقال : "البخل والبخل " ، وإما أن يكون جعل "الحسن " هو "الحسن " في التشبيه . وذلك أن الحسن "مصدر " و "الحسن " هو الشيء الحسن . ويكون ذلك حينئذ كقولك : "إنما أنت أكل وشرب " ، وكما قال الشاعر :


    وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع


    [ ص: 295 ] فجعل "التحية " ضربا .

    وقال آخر : بل "الحسن " هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن . و"الحسن " هو البعض من معاني "الحسن " . قال : ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) [ العنكبوت : 8 ] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن ، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه ، فقال : ( وقولوا للناس حسنا ) ، يعني بذلك بعض معاني الحسن .

    قال أبو جعفر : والذي قاله هذا القائل في معنى "الحسن " بضم الحاء وسكون السين ، غير بعيد من الصواب ، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به . وأما "الحسن " فإنه صفة وقعت لما وصف به ، وذلك يقع بخاص ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالصواب من القراءة في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم : "وقولوا للناس " باستعمال الحسن من القول ، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول . وذلك نعت لخاص من معاني الحسن ، وهو القول . فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين ، على قراءته بضم الحاء وسكون السين .

    وأما الذي قرأ ذلك : ( وقولوا للناس حسنى ) فإنه خالف بقراءته إياه كذلك ، قراءة أهل الإسلام . وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك ، خروجها من قراءة أهل الإسلام ، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره . فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم ب "فعلى " "وأفعل " إلا بالألف واللام أو بالإضافة . لا يقال : "جاءني أحسن " ، حتى يقولوا : "الأحسن " . ولا يقال : "أجمل " ، حتى يقولوا ، "الأجمل " . وذلك أن "الأفعل" والفعلى " ، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف ، كما تقول : بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى " . وغير جائز أن يقال : امرأة حسنى ، ورجل أحسن .

    وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل [ ص: 296 ] في هذه الآية ، أن يقولوه للناس ، فهو ما : -

    1451 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق : أن يقولوا للناس حسنا : أن يأمروا ب "لا إله إلا الله " من لم يقلها ورغب عنها ، حتى يقولوها كما قالوها ، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه . وقال الحسن أيضا : لين القول ، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم ، وهو مما ارتضاه الله وأحبه .

    1452 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : قولوا للناس معروفا .

    1453 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم .

    1454 - وحدثت عن يزيد بن هارون قال ، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر .

    1455 - حدثني هارون بن إدريس الأصم قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال ، سألت عطاء بن أبي رباح ، عن قول الله جل ثناؤه : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول . قال : وسألت أبا جعفر ، فقال مثل ذلك .

    1456 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا القاسم قال : أخبرنا عبد الملك ، [ ص: 297 ] عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال : للناس كلهم .

    1457 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء مثله .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( وأقيموا الصلاة ) ، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها كما : -

    1458 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود قال : ( وأقيموا الصلاة ) هذه وإقامة الصلاة " تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع ، والإقبال عليها فيها .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وآتوا الزكاة )

    قال أبو جعفر : قد بينا فيما مضى قبل ، معنى "الزكاة " وما أصلها .

    وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية ، فهي ما : -




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #143
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(129)
    الحلقة (143)
    صــ 298إلى صــ 303

    1459 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( وآتوا الزكاة ) ، قال : إيتاء الزكاة ، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة ، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم . كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار [ ص: 298 ] فتحملها ، فكان ذلك تقبله . ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل ، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل : من ظلم أو غشم ، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له .

    1460 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وآتوا الزكاة ) ، يعني "بالزكاة " : طاعة الله والإخلاص .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( 83 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل ، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه ، بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له ، بأن لا يعبدوا غيره ، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات ، ويصلوا الأرحام ، ويتعطفوا على الأيتام ، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم ، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته ، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها ، ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله ، وتولوا عنه معرضين ، إلا من عصمه الله منهم ، فوفى لله بعهده وميثاقه ، كما : -

    1461 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني : على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به ، أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية ، وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم ، وهم الذين استثنى الله فقال : ( ثم توليتم ) ، يقول : أعرضتم عن طاعتي ، ( إلا قليلا منكم ) ، قال : القليل الذين اخترتهم [ ص: 299 ] لطاعتي ، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول : تركها استخفافا بها . .

    1462 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، أي تركتم ذلك كله .

    وقال بعضهم : عنى الله جل ثناؤه بقوله : ( وأنتم معرضون ) ، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وعنى بسائر الآية أسلافهم . كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام : ( ثم توليتم إلا قليلا منكم ) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم ، ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم - على ما ذكرناه فيما مضى قبل - ثم قال : وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك ، وتاركوه ترك أوائلكم .

    وقال آخرون : بل قوله : ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة ، وتبديلهم أمر الله ، وركوبهم معاصيه .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم )

    قال أبو جعفر : قوله : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) في المعنى والإعراب نظير قوله : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) . [ ص: 300 ] وأما "سفك الدم " ، فإنه صبه وإراقته .

    فإن قال قائل : وما معنى قوله : ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ؟ وقال : أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها ، فنهوا عن ذلك؟ قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت ، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا . فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه ؛ إذ كانت ملتهما [ واحدة ، فهما ] بمنزلة رجل واحد ، كما قال عليه السلام :

    1463 - "إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .

    وقد يجوز أن يكون معنى قوله : ( لا تسفكون دماءكم ) ، أي : لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم ، فيقاد به قصاصا ، فيكون بذلك قاتلا نفسه ؛ لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل . فأضيف بذلك إليه قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه . كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة ، فيعاقب العقوبة : "أنت جنيت هذا على نفسك " .

    وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    1464 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك .

    [ ص: 301 ] 1465 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، يقول : لا يقتل بعضكم بعضا ، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، يقول : لا يخرج بعضكم بعضا من الديار .

    1466 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة في قوله : ( لا تسفكون دماءكم ) ، يقول : لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق ، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، فتسفك - يا ابن آدم - دماء أهل ملتك ودعوتك .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم أقررتم )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( ثم أقررتم ) ، بالميثاق الذي أخذنا عليكم : لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ، كما : -

    1467 - حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( ثم أقررتم ) ، يقول : أقررتم بهذا الميثاق .

    1468 - وحدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وأنتم تشهدون ( 84 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله : ( وأنتم تشهدون ) . فقال بعضهم : ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه ، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها ، فقال الله تعالى لهم : ( ثم أقررتم ) ، [ ص: 302 ] يعني بذلك ، إقرار أوائلكم وسلفكم ، ( وأنتم تشهدون ) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم ، بأن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم . وممن حكي معنى هذا القول عنه ، ابن عباس .

    1469 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) أن هذا حق من ميثاقي عليكم .

    وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله - جل ثناؤه عن أوائلهم ، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة ، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها ، التي قد بينا تأويلها فيما مضى .

    وتأولوا قوله : ( وأنتم تشهدون ) ، على معنى : وأنتم شهود .

    ذكر من قال ذلك :

    1470 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قوله : ( وأنتم تشهدون ) ، يقول : وأنتم شهود .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي : أن يكون قوله : ( وأنتم تشهدون ) خبرا عن أسلافهم ، وداخلا فيه المخاطبون منهم ، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان قوله : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) خبرا عن أسلافهم ، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة ، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم . ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم [ ص: 303 ] ذلك الميثاق ، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود ، بقوله : ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) . فإذ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم ، فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده ، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة ؛ لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله : ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض ، والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم . فإذا كان ذلك كذلك ، فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض . وكذلك حكم الآية التي بعدها ، أعني قوله : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) الآية . لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان )




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #144
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(130)
    الحلقة (144)
    صــ 304إلى صــ 309

    قال أبو جعفر : ويتجه في قوله : ( ثم أنتم هؤلاء ) وجهان : أحدهما أن يكون أريد به : ثم أنتم يا هؤلاء ، فترك "يا " استغناء بدلالة الكلام عليه ، كما قال : ( يوسف أعرض عن هذا ) [ يوسف : 29 ] ، وتأويله : يا يوسف أعرض عن هذا . فيكون معنى الكلام حينئذ : ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم : لا تسفكون دماءكم ، ولا تخرجون أنفسكم [ ص: 304 ] من دياركم ، ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم ، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، متعاونين عليهم ، في إخراجكم إياهم ، بالإثم والعدوان! .

    والتعاون هو "التظاهر " . وإنما قيل للتعاون "التظاهر " ، لتقوية بعضهم ظهر بعض ؛ فهو "تفاعل " من "الظهر " ، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض .

    والوجه الآخر : أن يكون معناه : ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم ؛ فيرجع إلى الخبر عن "أنتم " . وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم "بهؤلاء " ، كما تقول العرب : "أنا ذا أقوم ، وأنا هذا أجلس " ، وإذا قيل : "أنا هذا أجلس " كان صحيحا جائزا كذلك : أنت ذاك تقوم " .

    وقد زعم بعض البصريين أن قوله : "هؤلاء " في قوله : ( ثم أنتم هؤلاء ) ، تنبيه وتوكيد ل "أنتم " . وزعم أن "أنتم " وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين ، فإنما جاز أن يؤكدوا ب "هؤلاء " و "أولاء " ؛ لأنها كناية عن المخاطبين ، كما قال خفاف بن ندبة :


    أقول له والرمح يأطر متنه : تبين خفافا إنني أنا ذلكا


    يريد : أنا هذا ، وكما قال جل ثناؤه : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [ يونس : 22 ]

    [ ص: 305 ] ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، نحو اختلافهم فيمن عني بقوله : ( وأنتم تشهدون ) ذكر اختلاف المختلفين في ذلك :

    1471 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) إلى أهل الشرك ، حتى تسفكوا دماءهم معهم ، وتخرجوهم من ديارهم معهم . قال : أنبهم الله [ على ذلك ] من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج ، والنضير وقريظة حلفاء الأوس . فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة ، يعرفون منها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، لا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها ، افتدوا أسراهم ؛ تصديقا لما في التوراة ، وأخذا به ، بعضهم من بعض . يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، [ ص: 306 ] وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلون ما أصابوا من الدماء ، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ؛ مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى ذكره ، حين أنبهم بذلك : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل ، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ؛ ابتغاء عرض من عرض الدنيا .

    ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة .

    1472 - وحدثني موسى بن هارون قال : حدثني عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) قال : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة : أن لا يقتل بعضهم بعضا ، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه ، فأعتقوه ، فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فكانوا يقتتلون في حرب سمير . فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها ، النضير وحلفاءها . وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ، فيغلبونهم ، فيخربون بيوتهم ، ويخرجونهم منها ، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما ، جمعوا له حتى [ ص: 307 ] يفدوه ، فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم . قالوا : فلم تقاتلونهم؟ قالوا : إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا . فذلك حين عيرهم - جل وعز - فقال : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) .

    1473 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : كانت قريظة والنضير أخوين ، وكانوا بهذه المثابة ، وكان الكتاب بأيديهم ، وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا ، وافترقت قريظة والنضير ، فكانت النضير مع الخزرج ، وكانت قريظة مع الأوس ، فاقتتلوا ، وكان بعضهم يقتل بعضا ، فقال الله جل ثناؤه : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ) الآية .

    وقال آخرون بما : -

    1474 - حدثني به المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : كان في بني إسرائيل : إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم . وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم .

    قال أبو جعفر : وأما "العدوان " فهو "الفعلان " من "التعدي " ، يقال منه : "عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا ، واعتدى يعتدي اعتداء " ، وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا .

    وقد اختلف القرأة في قراءة : ( تظاهرون ) . فقرأها بعضهم : "تظاهرون " على مثال "تفاعلون " فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة . وقرأها آخرون : [ ص: 308 ] ( تظاهرون ) ، فشدد ، بتأويل : ( تتظاهرون ) ، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء ، لتقارب مخرجيهما ، فصيروهما ظاء مشددة . وهاتان القراءتان ، وإن اختلفت ألفاظهما ، فإنهما متفقتا المعنى ؛ فسواء بأي ذلك قرأ القارئ ؛ لأنهما جميعا لغتان معروفتان ، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد ، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى ، إلا أن يختار مختار "تظاهرون " المشددة طلبا منه تتمة الكلمة .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ) اليهود . يوبخهم بذلك ، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها ، فقال لهم : ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم : أن لا تسفكوا دماءكم ، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم يعني به : يقتل بعضكم بعضا وأنتم - مع قتلكم من تقتلون منكم - إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم ، تفدونه ، ويخرج بعضكم بعضا من دياره! وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم ، حرام عليكم ، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [ حرام عليكم ] ، فكيف تستجيزون قتلهم ، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم ، وتستجيزون قتلهم؟! وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء ؛ لأن الذي حرمت عليكم [ ص: 309 ] من قتلهم وإخراجهم من دورهم ، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم ، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي ، وبينت لكم فيه حدودي ، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به ، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه ، فتجحدونه ، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم ، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما : -

    1475 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، [ أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين ، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين ] ؟ والله إن فداءهم لإيمان ، وإن إخراجهم لكفر . فكانوا يخرجونهم من ديارهم ، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم افتكوهم .

    1476 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ) ، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم ، ( وهو محرم عليكم ) في كتابكم ( إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفرا بذلك .

    1477 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ) يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك!




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #145
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(131)
    الحلقة (145)
    صــ 310إلى صــ 315

    1478 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر قال : قال أبو جعفر : كان قتادة يقول في قوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، فكان إخراجهم كفرا ، وفداؤهم إيمانا .

    1479 - حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) الآية ، قال : كان في بني إسرائيل : إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم ، وقد أخذ عليهم الميثاق : أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، وأخذ عليهم الميثاق : إن أسر بعضهم أن يفادوهم ، فأخرجوهم من ديارهم ، ثم فادوهم ، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض . آمنوا بالفداء ففدوا ، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا .

    1480 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر قال : حدثنا الربيع بن أنس قال ، أخبرني أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ، ولا يفادي من وقع عليه العرب ، فقال له عبد الله بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك : أن فادوهن كلهن .

    1481 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، قال : كفرهم القتل والإخراج ، وإيمانهم الفداء . قال ابن جريج : يقول : إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم ، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث .

    قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ) [ ص: 311 ] فقرأه بعضهم : ( أسرى تفدوهم ) ، وبعضهم : ( أسارى تفادوهم ) ، وبعضهم ( أسارى تفدوهم ) ، وبعضهم : ( أسرى تفادوهم ) .

    قال أبو جعفر : فمن قرأ ذلك : ( وإن يأتوكم أسرى ) ، فإنه أراد جمع "الأسير " ، إذ كان على "فعيل " ، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير "فعيل " ، إذ كان "الأسر " شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات ، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا ، فقيل : أسير وأسرى " ، كما قيل : "مريض ومرضى ، وكسير وكسرى ، وجريح وجرحى " .

    وقال أبو جعفر : وأما الذين قرءوا ذلك : ( أسارى ) ، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع "فعلان " ، إذ كان جمع "فعلان " الذي له "فعلى " قد يشارك جمع "فعيل " كما قالوا : "سكارى وسكرى ، وكسالى وكسلى " ، فشبهوا "أسيرا " - وجمعوه مرة "أسارى " ، وأخرى "أسرى " - بذلك .

    وكان بعضهم يزعم أن معنى "الأسرى " مخالف معنى "الأسارى " ، ويزعم أن معنى "الأسرى " استئسار القوم بغير أسر من المستأسر لهم ، وأن معنى "الأسارى " معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة .

    قال أبو جعفر : وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب . ولكن ذلك على ما وصفت من جمع "الأسير " مرة على "فعلى " لما بينت من العلة ، ومرة على "فعالى " ، لما ذكرت : من تشبيههم جمعه بجمع "سكران وكسلان " وما أشبه ذلك .

    وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ ( وإن يأتوكم أسرى ) ، لأن "فعالى " في جمع "فعيل " غير مستفيض في كلام العرب ، فإذا كان ذلك غير مستفيض في كلامهم ، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى [ ص: 312 ] الآلام والزمانة - وواحده على تقدير "فعيل " ، على "فعلى " ، كالذي وصفنا قبل ، وكان أحد ذلك "الأسير " ، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله ، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها .

    وأما من قرأ : ( تفادوهم ) ، فإنه أراد : أنكم تفدونهم من أسرهم ، ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم .

    وأما من قرأ ذلك ( تفدوهم ) ، فإنه أراد : إنكم يا معشر اليهود ، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم .

    وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني : ( أسرى تفادوهم ) - لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال ، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم .

    وأما قوله : ( وهو محرم عليكم إخراجهم ) ، فإن في قوله : ( وهو ) وجهين من التأويل . أحدهما : أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره . كأنه قال : وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وإخراجهم محرم عليكم ، ثم كرر "الإخراج " الذي بعد "وهو محرم عليكم " تكريرا على "هو " ؛ لما حال بين "الإخراج " و"هو " كلام .

    والتأويل الثاني : أن يكون عمادا ، لما كانت " الواو " التي مع "هو " تقتضي اسما يليها دون الفعل ؛ فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه "الواو " أن يليها - أوليت "هو " ؛ لأنه اسم ، كما تقول : "أتيتك وهو قائم أبوك " ، بمعنى : "وأبوك قائم " ؛ إذ كانت "الواو " تقتضي اسما ، فعمدت ب "هو " ، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام . كما قال الشاعر :

    [ ص: 313 ]
    فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته على العيس في آباطها عرق يبس بأن السلامي الذي بضرية
    أمير الحمى ، قد باع حقي ، بني عبس بثوب ودينار وشاة ودرهم
    فهل هو مرفوع بما ههنا رأس



    فأوليت "هل " "هو " لطلبها الاسم العماد .
    [ ص: 314 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم ) : فليس لمن قتل منكم قتيلا ؛ فكفر بقتله إياه ، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى جزاء - يعني "بالجزاء " : الثواب ، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه - إلا خزي في الحياة الدنيا . و"الخزي " : الذل والصغار ، يقال منه : "خزي الرجل يخزى خزيا " ، ( في الحياة الدنيا ) ، يعني : في عاجل الدنيا قبل الآخرة .

    ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه . فقال بعضهم : ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : من أخذ القاتل بمن قتل ، والقود به قصاصا ، والانتقام للمظلوم من الظالم .

    وقال آخرون : بل ذلك ، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ، ذلة لهم وصغارا .

    وقال آخرون : بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا : إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر ، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم ، فكان ذلك خزيا في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم .
    [ ص: 315 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) : ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه .

    وقد قال بعضهم : معنى ذلك : ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا .

    ولا معنى لقول قائل ذلك . ذلك بأن الله - جل ثناؤه - إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب ، ولذلك أدخل فيه "الألف واللام " ؛ لأنه عنى به جنس العذاب كله ، دون نوع منه .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وما الله بغافل عما تعملون ( 85 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك . فقرأه بعضهم : ( وما الله بغافل عما يعملون ) ب "الياء " ، على وجه الإخبار عنهم ، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى : ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون ) ، يعني : عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا ، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #146
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(132)
    الحلقة (146)
    صــ 316إلى صــ 321

    وقرأه آخرون : ( وما الله بغافل عما تعملون ) ب "التاء " على وجه المخاطبة . [ ص: 316 ] قال : فكأنهم نحوا بقراءتهم : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) . وما الله بغافل ، يا معشر اليهود ، عما تعملون أنتم .

    وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ ب "الياء " ، اتباعا لقوله : ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم ) ، ولقوله : ( ويوم القيامة يردون ) ؛ لأن قوله : ( وما الله بغافل عما يعملون ) إلى ذلك ، أقرب منه إلى قوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، فاتباعه الأقرب إليه ، أولى من إلحاقه بالأبعد منه ، والوجه الآخر غير بعيد من الصواب .

    وتأويل قوله : "وما الله بغافل عما يعملون" ، وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة ، بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة ، ويخزيهم في الدنيا ، فيذلهم ويفضحهم .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ( 86 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ، فيفادون أسراهم من اليهود ، ويكفرون ببعض ، فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم ، ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره ، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم . فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء [ هم ] الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم ، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان ، الذي كان يكون لهم به في الآخرة - لو كانوا أتوا به مكان الكفر - الخلود في الجنان . وإنما وصفهم الله جل ثناؤه [ ص: 317 ] بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها ، عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين . فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ، ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا ، كما : -

    1482 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) ، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة .

    قال أبو جعفر : ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة - بتركهم طاعته ، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه - لا حظ لهم في نعيم الآخرة ، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب ، غير مخفف عنهم فيها العذاب ؛ لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب ، هو الذي له حظ في نعيمها ، ولا حظ لهؤلاء ، لاشترائهم - بالذي كان في الدنيا - دنياهم بآخرتهم .

    وأما قوله : ( ولا هم ينصرون ) فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد ، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله - لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( آتينا موسى الكتاب ) : أنزلناه إليه . وقد بينا أن معنى "الإيتاء " الإعطاء ، فيما مضى قبل .

    [ ص: 318 ] و " الكتاب " الذي آتاه الله موسى عليه السلام ، هو التوراة .

    وأما قوله : ( وقفينا ) ، فإنه يعني : وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض ، كما يقفو الرجل الرجل : إذا سار في أثره من ورائه . وأصله من "القفا " ، يقال منه : "قفوت فلانا : إذا صرت خلف قفاه ، كما يقال : "دبرته " : إذا صرت في دبره .

    ويعني بقوله : ( من بعده ) ، من بعد موسى .

    ويعني ب ( الرسل ) : الأنبياء ، وهم جمع "رسول " . يقال : "هو رسول وهم رسل " ، كما يقال : "هو صبور وهم قوم صبر ، وهو رجل شكور وهم قوم شكر .

    وإنما يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وقفينا من بعده بالرسل ) ، أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة ؛ لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم ، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة ، والعمل بما فيها ، والدعاء إلى ما فيها ؛ فلذلك قيل : ( وقفينا من بعده بالرسل ) ، يعني على منهاجه وشريعته ، والعمل بما كان يعمل به .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) ، أعطينا عيسى ابن مريم .

    ويعني ب " البينات " التي آتاه الله إياها : ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته : من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، ونحو ذلك من الآيات ، التي أبانت منزلته من الله ، ودلت على صدقه وصحة نبوته ، كما : -

    1483 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن [ ص: 319 ] عباس : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) : أي الآيات التي وضع على يديه : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم ، وما رد عليهم من التوراة ، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وأيدناه بروح القدس )

    قال أبو جعفر : أما معنى قوله : ( وأيدناه ) ، فإنه قويناه فأعناه ، كما : -

    1484 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( وأيدناه ) ، يقول : نصرناه . يقال منه : "أيدك الله " ، أي قواك ، "وهو رجل ذو أيد ، وذو آد " ، يراد : ذو قوة . ومنه قول العجاج :


    من أن تبدلت بآدي آدا


    يعني : بشبابي قوة المشيب ، ومنه قول الآخر :


    إن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو جلد وبطش أيد


    [ ص: 320 ] يعني بالأيد : القوي .

    ثم اختلف في تأويل قوله : ( بروح القدس ) . فقال بعضهم : "روح القدس " الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به ، هو جبريل عليه السلام .

    ذكر من قال ذلك :

    1485 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) قال : هو جبريل .

    1486 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال : هو جبريل عليه السلام .

    1487 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال : روح القدس ، جبريل .

    1488 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال : أيد عيسى بجبريل ، وهو روح القدس .

    1489 - وقال ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أخبرنا عن الروح . قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو [ الذي ] [ ص: 321 ] يأتيني؟ قالوا : نعم .

    وقال آخرون : الروح الذي أيد الله به عيسى ، هو الإنجيل .

    ذكر من قال ذلك :

    1490 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا ، كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله ، كما قال الله : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] .

    وقال آخرون : هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى .

    ذكر من قال ذلك :

    1491 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال : هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #147
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(133)
    الحلقة (147)
    صــ 322إلى صــ 327


    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : "الروح " في هذا الموضع جبريل ؛ لأن الله - جل ثناؤه - أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : ( إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق ) [ المائدة : 110 ] ، فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل ، لكان قوله : "إذ أيدتك بروح القدس " ، و "إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " ، تكرير قول لا معنى له . وذلك أنه على تأويل قول من قال : معنى ( إذ أيدتك بروح القدس ) ، إنما هو : إذ أيدتك بالإنجيل - وإذ علمتك الإنجيل ، وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو معلمه ، فذلك تكرير كلام واحد ، من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر . وذلك خلف من الكلام ، والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين فساد قول من زعم أن "الروح " في هذا الموضع ، الإنجيل ، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة ، وتنتعش بها النفوس المولية ، وتهتدي بها الأحلام الضالة .

    وإنما سمى الله تعالى جبريل "روحا " وأضافه إلى "القدس " ، لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده ، من غير ولادة والد ولده ، فسماه بذلك "روحا " ، وأضافه إلى "القدس " - و "القدس " ، هو الطهر - كما سمي عيسى ابن مريم "روحا " لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده .

    وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، أن معنى "التقديس " : التطهير ، و"القدس " - الطهر ، من ذلك . وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه .

    1492 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : القدس ، البركة .

    1493 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : القدس ، وهو الرب تعالى ذكره .

    [ ص: 323 ] 1494 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال : الله ، القدس ، وأيد عيسى بروحه ، قال : نعت الله القدس ، وقرأ قول الله جل ثناؤه : ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس ) [ الحشر : 23 ] ، قال : القدس والقدوس ، واحد .

    1495 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، [ عن هلال ] بن أسامة ، عن عطاء بن يسار قال : قال كعب : الله ، القدس .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ( 87 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم ) ، اليهود من بني إسرائيل .

    1496 - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

    قال أبو جعفر : يقول الله - جل ثناؤه - لهم : يا معشر يهود بني إسرائيل ، لقد آتينا موسى التوراة ، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم ، وآتينا عيسى ابن مريم [ ص: 324 ] البينات والحجج ، إذ بعثناه إليكم ، وقويناه بروح القدس ، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم - تجبرا وبغيا - استكبار إمامكم إبليس ، فكذبتم بعضا منهم ، وقتلتم بعضا! فهذا فعلكم أبدا برسلي .

    وقوله : ( أفكلما ) ، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب ، فهو بمعنى الخبر .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالوا قلوبنا غلف )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه بعضهم : ( وقالوا قلوبنا غلف ) مخففة اللام ساكنة . وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار . وقرأه بعضهم : "وقالوا قلوبنا غلف " مثقلة اللام مضمومة .

    فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها ، فإنهم تأولوها ، أنهم قالوا : قلوبنا في أكنة وأغطية وغلف . و"الغلف " - على قراءة هؤلاء - جمع "أغلف " ، وهو الذي في غلاف وغطاء ، كما يقال للرجل الذي لم يختتن "أغلف " ، والمرأة "غلفاء " . وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه : "سيف أغلف " ، وقوس غلفاء " وجمعهما "غلف " ، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على "أفعل " وأنثاه على "فعلاء " ، يجمع على "فعل " مضمومة الأول ساكنة الثاني ، مثل : " أحمر وحمر ، وأصفر وصفر " ، فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير . ولا يجوز تثقيل عين "فعل " منه ، إلا في ضرورة شعر ، كما قال طرفة بن العبد :


    أيها الفتيان في مجلسنا جردوا منها ورادا وشقر [ ص: 325 ]


    يريد : شقرا ، إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه . ومنه الخبر الذي : -

    1497 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن عمرو بن مرة الجملي ، عن أبي البختري ، عن حذيفة قال : القلوب أربعة - ثم ذكرها - فقال فيما ذكر : وقلب أغلف معصوب عليه ، فذلك قلب الكافر .

    ذكر من قال ذلك ، يعني أنها في أغطية .

    1498 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق [ ص: 326 ] قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، أي في أكنة .

    1499 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( قلوبنا غلف ) ، أي في غطاء .

    1500 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، فهي القلوب المطبوع عليها .

    1501 - حدثني عباس بن محمد قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قوله : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، عليها غشاوة .

    1502 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، عليها غشاوة .

    1503 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك عن الأعمش قوله : ( قلوبنا غلف ) ، قال : هي في غلف .

    1504 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، أي لا تفقه .

    1505 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال : هو كقوله : ( قلوبنا في أكنة ) [ فصلت : 5 ] .

    1506 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( قلوبنا غلف ) قال : عليها طابع ، قال : هو كقوله : ( قلوبنا في أكنة ) .

    1507 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( قلوبنا غلف ) ، أي لا تفقه .

    [ ص: 327 ] 1508 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال : يقولون : عليها غلاف ، وهو الغطاء .

    1509 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( قلوبنا غلف ) ، قال : يقول : قلبي في غلاف ، فلا يخلص إليه مما تقول شيء ، وقرأ : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [ فصلت : 5 ] .

    قال أبو جعفر : وأما الذين قرأوها "غلف " بتحريك اللام وضمها ، فإنهم تأولوها أنهم قالوا : قلوبنا غلف للعلم ، بمعنى أنها أوعية .

    قال : و"الغلف " على تأويل هؤلاء جمع "غلاف " . كما يجمع "الكتاب : كتب ، والحجاب : حجب ، والشهاب : شهب . فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ "غلف " بتحريك اللام وضمها ، وقالت اليهود : قلوبنا غلف للعلم ، وأوعية له ولغيره .

    ذكر من قال ذلك :

    1510 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال : أوعية للذكر .

    1511 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية في قوله : ( قلوبنا غلف ) قال : أوعية للعلم .

    1512 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا فضيل ، عن عطية مثله .

    1513 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال : مملوءة علما ، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #148
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(134)
    الحلقة (148)
    صــ 328إلى صــ 333


    والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله : ( قلوبنا غلف ) ، هي قراءة من قرأ ( غلف ) [ ص: 328 ] بتسكين اللام - بمعنى أنها في أغشية وأغطية ؛ لاجتماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها ، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه ، من قراءة ذلك بضم "اللام " .

    وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه ، حجة على من بلغه . وما جاء به المنفرد ، فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان . .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( بل لعنهم الله بكفرهم )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( بل لعنهم الله ) ، بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم ، وجحودهم آيات الله وبيناته ، وما ابتعث به رسله ، وتكذيبهم أنبياءه . فأخبر - تعالى ذكره - أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك .

    وأصل "اللعن " الطرد والإبعاد والإقصاء يقال : "لعن الله فلانا يلعنه لعنا ، وهو ملعون " . ثم يصرف "مفعول " : فيقال : هو "لعين " . ومنه قول الشماخ بن ضرار :


    ذعرت به القطا ونفيت عنه مكان الذئب كالرجل اللعين


    قال أبو جعفر : في قول الله تعالى ذكره : ( بل لعنهم الله بكفرهم ) تكذيب منه للقائلين من اليهود : ( قلوبنا غلف ) ؛ لأن قوله : ( بل ) دلالة على جحده جل [ ص: 329 ] ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك ؛ إذ كانت "بل " لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود . فإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن معنى الآية : وقالت اليهود : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد ، فقال الله تعالى ذكره : ما ذلك كما زعموا ، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته ، وطردهم عنها ، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله ، فقليلا ما يؤمنون .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( فقليلا ما يؤمنون ( 88 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( فقليلا ما يؤمنون ) . فقال بعضهم ، معناه فقليل منهم من يؤمن ، أي لا يؤمن منهم إلا قليل .

    ذكر من قال ذلك :

    1514 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) ، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب ، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير .

    1515 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( فقليلا ما يؤمنون ) ، قال : لا يؤمن منهم إلا قليل .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم .

    ذكر من قال ذلك :

    1516 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ( فقليلا ما يؤمنون ) ، قال : لا يؤمن منهم إلا قليل . قال معمر : وقال غيره : لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات في قوله : ( فقليلا ما يؤمنون ) بالصواب ، [ ص: 330 ] ما نحن متقنوه إن شاء الله . وهو أن الله - جل ثناؤه - أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية ، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . ولذلك نصب قوله : ( فقليلا ) ، لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره . ومعناه : بل لعنهم الله بكفرهم ، فإيمانا قليلا ما يؤمنون ، فقد تبين إذا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك؛ لأن معنى ذلك ، لو كان على ما روي من أنه يعني به : فلا يؤمن منهم إلا قليل ، أو فقليل منهم من يؤمن ، لكان "القليل " مرفوعا لا منصوبا . لأنه إذا كان ذلك تأويله ، كان "القليل " حينئذ مرافعا "ما " . فإذ نصب "القليل " - و"ما " في معنى "من " أو "الذي " - [ فقد ] بقيت "ما " لا مرافع لها . وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب .

    فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى "ما " التي في قوله : ( فقليلا ما يؤمنون ) . فقال بعضهم : هي زائدة لا معنى لها ، وإنما تأويل الكلام : فقليلا يؤمنون ، كما قال جل ذكره : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) [ آل عمران : 159 ] وما أشبه ذلك ، فزعم أن "ما " في ذلك زائدة ، وأن معنى الكلام : فبرحمة من الله لنت لهم ، وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك - بيت مهلهل :


    لو بأبانين جاء يخطبها خضب ما أنف خاطب بدم


    وزعم أنه يعني : خضب أنف خاطب بدم ، وأن "ما " زائدة .

    وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في "ما " ، في الآية وفي البيت الذي [ ص: 331 ] أنشده ، وقالوا : إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء ، إذ كانت "ما " كلمة تجمع كل الأشياء ، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها .

    وهذا القول عندنا أولى بالصواب؛ لأن زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه .

    ولعل قائلا أن يقول : هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون - من الإيمان قليل أو كثير ، فيقال فيهم : "فقليلا ما يؤمنون "؟

    قيل : إن معنى "الإيمان " هو التصديق ، وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله ، وبالبعث والثواب والعقاب ، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به ، لأنه في كتبهم ، ومما جاءهم به موسى ، فصدقوا ببعض - وذلك هو القليل من إيمانهم - وكذبوا ببعض ، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به .

    وقد قال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قيل : ( فقليلا ما يؤمنون ) ، وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : "قلما رأيت مثل هذا قط " . وقد روي عنها سماعا منها : مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل " يعني : ما تنبت غير الكراث والبصل ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء ب "القلة " ، والمعنى فيه نفي جميعه .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ، [ ص: 332 ] ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف - جل ثناؤه - صفتهم - ( كتاب من عند الله ) يعني ب "الكتاب " القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم ( مصدق لما معهم ) ، يعني مصدق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن ، كما : -

    1518 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ، وهو القرآن الذي أنزل على محمد ، مصدقا لما معهم من التوراة والإنجيل .

    1518 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ، وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، أي : وكان هؤلاء اليهود - الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنزلها الله قبل الفرقان ، كفروا به - يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى "الاستفتاح " ، الاستنصار يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه ، أي من قبل أن يبعث ، كما : -

    1519 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق ، عن [ ص: 333 ] عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم قالوا : فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار ، وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة يعني : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) قالوا : كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية - ونحن أهل الشرك ، وهم أهل الكتاب - فكانوا يقولون : إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه ، يقتلكم قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه ، كفروا به . يقول الله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) .

    1520 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب ، كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه . فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته! فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل الله - جل ثناؤه - في ذلك من قوله : ( ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

    1521 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس مثله .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #149
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(135)
    الحلقة (149)
    صــ 334إلى صــ 339

    1522 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، يقول : يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب - يعني بذلك أهل الكتاب - فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم ، كفروا به وحسدوه .

    1523 - وحدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن علي الأزدي في قول الله : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، قال : اليهود ، كانوا يقولون : اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس ، يستفتحون - يستنصرون - به على الناس .

    1524 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن علي الأزدي - وهو البارقي - في قول الله جل ثناؤه : ( وكانوا من قبل يستفتحون ) ، فذكر مثله .

    1525 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، كانت اليهود [ ص: 335 ] تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب من قبل ، وقالوا : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) .

    1526 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ، يقولون : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا ، ورأوا أنه من غيرهم ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم *! فقال الله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

    1527 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . قال : كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم ، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة ، ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب ، فلما جاءهم محمد كفروا به ، حين لم يكن من بني إسرائيل .

    1528 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء قوله : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، قال : كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرجون أن يكون منهم . فلما خرج ورأوه ليس منهم ، كفروا وقد عرفوا أنه الحق ، وأنه النبي . قال : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

    1529 - قال حدثنا ابن جريج ، وقال مجاهد : يستفتحون بمحمد صلى الله [ ص: 336 ] عليه وسلم تقول : إنه - يخرج . ( فلما جاءهم ما عرفوا ) - وكان من غيرهم - كفروا به .

    1530 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج - وقال ابن عباس : كانوا يستفتحون على كفار العرب .

    1531 - حدثني المثنى قال : حدثني الحماني قال : حدثني شريك ، عن أبي الجحاف ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير قوله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، قال : هم اليهود عرفوا محمدا أنه نبي وكفروا به .

    1532 - حدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، قال : كانوا يستظهرون ، يقولون : نحن نعين محمدا عليهم ، وليسوا كذلك ، يكذبون .

    1533 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، سألت ابن زيد عن قول الله عز وجل : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . قال : كانت يهود يستفتحون على كفار العرب ، يقولون : أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى ، أحمد ، لكان لنا عليكم! وكانوا يظنون أنه منهم ، والعرب حولهم ، وكانوا يستفتحون عليهم به ، ويستنصرون به ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحسدوه ، وقرأ قول الله - جل ثناؤه : ( كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) [ سورة البقرة : 109 ] . قال : قد تبين لهم أنه رسول ، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيا خارج .

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فأين جواب قوله : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ؟

    قيل : قد اختلف أهل العربية في جوابه . فقال بعضهم : هو مما ترك جوابه ، استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه ، وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن . [ ص: 337 ] وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام ، فتأتي بأشياء لها أجوبة ، فتحذف أجوبتها ، لاستغناء سامعيها - بمعرفتهم بمعناها - عن ذكر الأجوبة ، كما قال جل ثناؤه : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ) [ سورة الرعد : 31 ] ، فترك جوابه . والمعنى : "ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن - استغناء بعلم السامعين بمعناه . . قالوا : فكذلك قوله : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) .

    وقال آخرون : جواب قوله : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله ) في "الفاء " التي في قوله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، وجواب الجزاءين في "كفروا به " ، كقولك : "لما قمت ، فلما جئتنا أحسنت " ، بمعنى : لما جئتنا إذ قمت أحسنت .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( فلعنة الله على الكافرين ( 89 ) )

    قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة ، وعلى معنى "الكفر " ، بما فيه الكفاية .

    فمعنى الآية : فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولأنبيائه ، المنكرين لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي إخبار الله عز وجل عن اليهود - بما أخبر الله عنهم بقوله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) - البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، بعد قيام الحجة بنبوته عليهم ، وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم .
    [ ص: 338 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا )

    قال أبو جعفر ومعنى قوله جل ثناؤه : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) : ساء ما اشتروا به أنفسهم .

    وأصل "بئس " "بئس " من "البؤس " ، سكنت همزتها ، ثم نقلت حركتها إلى "الباء " ، كما قيل في "ظللت " " ظلت " ، وكما قيل "للكبد " ، "كبد " - فنقلت حركة "الباء " إلى "الكاف " لما سكنت "الباء " .

    وقد يحتمل أن تكون "بئس" ، وإن كان أصلها "بئس " ، من لغة الذين ينقلون حركة العين من "فعل " إلى الفاء ، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة ، كما قالوا من "لعب " "لعب " ، و من "سئم " "سئم " ، وذلك - فيما يقال - لغة فاشية في تميم .

    ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ ، ووصلت ب "ما " .

    واختلف أهل العربية في معنى "ما " التي مع "بئسما " . فقال بعض نحويي البصرة : هي وحدها اسم ، و"أن يكفروا " تفسير له ، نحو : نعم رجلا زيد ، و"أن ينزل الله " بدل من "أنزل الله " .

    وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف "ما " اسم "بئس " ، و "أن يكفروا " الاسم الثاني ، وزعم أن : "أن يكفروا " إن شئت جعلت "أن " في موضع رفع ، وإن شئت في موضع خفض ، أما الرفع : فبئس الشيء هذا أن يفعلوه ، وأما الخفض : فبئس [ ص: 339 ] الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . قال : وقوله : ( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ) [ سورة المائدة : 80 ] كمثل ذلك ، والعرب تجعل "ما " وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام ، كقوله : ( فنعما هي ) [ سورة البقرة : 271 ] ، و "بئسما أنت " ، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز :


    لا تعجلا في السير وادلوها لبئسما بطء ولا نرعاها


    قال أبو جعفر : والعرب تقول : لبئسما تزويج ولا مهر " ، فيجعلون "ما " وحدها اسما بغير صلة ، وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي "بئس " معرفة موقتة ، وخبره معرفة موقتة ، وقد زعم أن "بئسما " بمنزلة : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم؛ فقد صارت "ما" بصلتها اسما موقتا؛ لأن "اشتروا " فعل ماض من صلة "ما " ، في قول قائل هذه المقالة . وإذا وصلت بماض من الفعل ، كانت معرفة موقتة معلومة ، فيصير تأويل الكلام حينئذ : "بئس شراؤهم كفرهم " . وذلك عنده غير جائز : فقد تبين فساد هذا القول .

    وكان آخر منهم يزعم أن "أن " في موضع خفض إن شئت ، ورفع إن شئت! فأما الخفض : فأن ترده على "الهاء " التي في "به " على التكرير على كلامين : كأنك قلت : اشتروا أنفسهم بالكفر ، وأما الرفع : فأن يكون مكرورا على موضع "ما " التي تلي "بئس " . قال : ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك : "بئس الرجل عبد الله .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #150
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(136)
    الحلقة (150)
    صــ 340إلى صــ 345

    وقال بعضهم : "بئسما " شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب : [ ص: 340 ] " بئسما تزويج ولا مهر " فرافع "تزويج " "بئسما " ، كما يقال : "بئسما زيد ، وبئس ما عمرو " ، فيكون "بئسما " رفعا بما عاد عليها من "الهاء" . كأنك قلت : بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم ، وتكون "أن " مترجمة عن "بئسما " .

    وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من جعل "بئسما " مرفوعا بالراجع من "الهاء " في قوله : ( اشتروا به ) ، كما رفعوا ذلك ب "عبد الله " إذ قالوا : "بئسما عبد الله " ، وجعل "أن يكفروا " مترجمة عن "بئسما " . فيكون معنى الكلام حينئذ : بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم ، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله ، وتكون "أن " التي في قوله : "أن ينزل الله " ، في موضع نصب؛ لأنه يعني به "أن يكفروا بما أنزل الله " من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . موضع "أن " جزاء . وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن "أن " في موضع خفض بنية "الباء " ، وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها ، ولا خافض معها يخفضها . والحرف الخافض لا يخفض مضمرا .

    وأما قوله : ( اشتروا به أنفسهم ) ، فإنه يعني به : باعوا أنفسهم كما : -

    1534 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يقول : باعوا أنفسهم "أن يكفروا بما أنزل الله بغيا " .

    1535 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يهود ، شروا الحق [ ص: 341 ] بالباطل ، وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه .

    قال أبو جعفر : والعرب تقول : "شريته " ، بمعنى بعته ، و"اشتروا " ، في هذا الموضع ، "افتعلوا " من "شريت " . وكلام العرب - فيما بلغنا - أن يقولوا : "شريت " بمعنى : بعت ، و"اشتريت " بمعنى : ابتعت ، وقيل : إنما سمي "الشاري " ، "شاريا " ، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته .

    ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري :


    وشريت بردا ليتني من قبل برد كنت هامه


    ومنه قول المسيب بن علس :


    يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا تشري؟
    [ ص: 342 ]

    يعني به : بعت بردا . وربما استعمل "اشتريت " بمعنى : بعت ، و"شريت " في معنى : "ابتعت " . والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت .

    وأما معنى قوله : ( بغيا ) ، فإنه يعني به : تعديا وحسدا ، كما : -

    1536 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : ( بغيا ) ، قال : أي حسدا ، وهم اليهود .

    1537 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( بغيا ) ، قال : بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه ، وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل؟*! فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .

    1538 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( بغيا ) ، يعني : حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

    1539 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    قال أبو جعفر : فمعنى الآية : بئس الشيء باعوا به أنفسهم ، الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن أنزل الله من فضله وفضله : حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده - يعني به : على محمد صلى الله عليه وسلم - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل ، ولم يكن من بني إسرائيل .

    فإن قال قائل : وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر ، فقيل : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ) ؟ وهل يشترى بالكفر شيء؟

    قيل : إن معنى : "الشراء " و "البيع " عند العرب ، هو إزالة مالك ملكه [ ص: 343 ] إلى غيره ، بعوض يعتاضه منه . ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا ، شرا أو خيرا ، فتقول : " نعم ما باع به فلان نفسه " و"بئس ما باع به فلان نفسه " ، بمعنى : نعم الكسب أكسبها ، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها ، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم ، فقال : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم ، وبئس العوض اعتاضوا ، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا ، إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك .

    وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب ، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل ، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به ، مع علمهم بصدقه ، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل - نظيره الآية الأخرى في سورة النساء ، وذلك قوله ، ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [ سورة النساء : 51 - 54 ] .
    [ ص: 344 ] القول في تأويل قوله ( أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده )

    قال أبو جعفر : قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه ، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه : -

    1540 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم ، قوله : ( بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) ، أي أن الله تعالى جعله في غيرهم . .

    1541 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : هم اليهود . لما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم ، كفروا به - حسدا للعرب - وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة .

    1542 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية مثله .

    1543 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    1544 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل؟

    1545 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن علي الأزدي . قال : نزلت في اليهود .
    [ ص: 345 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فباءوا بغضب على غضب )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به ، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا فباءوا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث ، وجحودهم نبوته ، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم ؛ عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب على غضب سالف ، كان من الله عليهم قبل ذلك ، سابق غضبه الثاني ؛ لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم ، أو لعبادتهم العجل ، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت ، يستحقون بها الغضب من الله ، كما : -

    1546 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال : حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، فيما روى عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، فالغضب على الغضب ، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم .

    1547 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، عن عكرمة : ( فباءوا بغضب على غضب ) قال : كفر بعيسى ، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #151
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(137)
    الحلقة (151)
    صــ 346إلى صــ 351


    1548 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن يمان قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 346 ] عن أبي بكير ، عن عكرمة : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، قال : كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم

    1549 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي بكير ، عن عكرمة مثله .

    1550 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : الناس يوم القيامة على أربعة منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما ، فله أجران . ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فله أجر ، ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد ، فباء بغضب على غضب ، ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب ، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فباء بغضب .

    1551 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى ، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم .

    1552 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فباءوا بغضب ) ، اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، ( على غضب ) : جحودهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفرهم بما جاء به .

    1553 - حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، يقول : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .

    1554 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فباءوا بغضب على غضب ) : أما الغضب الأول ؛ فهو حين غضب الله عليهم في العجل ; وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 347 ] 1555 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، قال : غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم - من تبديلهم وكفرهم - ، ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم - إذ خرج ، فكفروا به .

    قال أبو جعفر : وقد بينا معنى "الغضب " من الله على من غضب عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وللكافرين عذاب مهين ( 90 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وللكافرين عذاب مهين ) ، وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم ، عذاب من الله ، إما في الآخرة ، وإما في الدنيا والآخرة ، ( مهين ) هو المذل صاحبه ، المخزي ، الملبسه هوانا وذلة .

    فإن قال قائل : أي عذاب هو غير مهين صاحبه ، فيكون للكافرين المهين منه؟!

    قيل : إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا ، الذي يخلد فيه صاحبه ، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا ، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله . وأما الذي هو غير مهين صاحبه ، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه . وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام ، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده ، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد ، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها ، وكأهل الكبائر من أهل [ ص: 348 ] الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير جرائمهم التي ارتكبوها ، ليمحصوا من ذنوبهم ، ثم يدخلون الجنة! فإن كل ذلك ، وإن كان عذابا ، فغير مهين من عذب به ؛ إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ، ثم يورده معدن العز والكرامة ، ويخلده في نعيم الجنان .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم ) ، وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم - : ( آمنوا ) ، أي صدقوا ، ( بما أنزل الله ) ، يعني بما أنزل الله من القرآن علىمحمد صلى الله عليه وسلم ، ( قالوا : نؤمن ) ، أي نصدق ، ( بما أنزل علينا ) ، يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ويكفرون بما وراءه )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ويكفرون بما وراءه ) ، ويجحدون ، "بما وراءه " ، يعني : بما وراء التوراة .

    قال أبو جعفر : وتأويل "وراءه " في هذا الموضع : "سوى " ، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن : "ما وراء هذا الكلام شيء " يراد به : ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام . فكذلك معنى قوله : ( ويكفرون بما وراءه ) ، أي [ ص: 349 ] بما سوى التوراة ، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله ، كما : -

    1556 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ويكفرون بما وراءه ) ، يقول : بما بعده .

    1557 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( ويكفرون بما وراءه ) ، أي بما بعده - يعني : بما بعد التوراة .

    1558 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ويكفرون بما وراءه ) ، يقول : بما بعده .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وهو الحق مصدقا لما معهم )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وهو الحق مصدقا ) ، أي : ما وراء الكتاب - الذي أنزل عليهم من الكتب [ ص: 350 ] التي أنزلها الله إلى أنبيائه - الحق : وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -

    1559 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه ) ، وهو القرآن . يقول الله جل ثناؤه : ( وهو الحق مصدقا لما معهم ) . وإنما قال جل ثناؤه : ( مصدقا لما معهم ) ؛ لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا . ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به وبما جاء به ، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام . فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذ أخبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه ، من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه - : إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم ، يعني : أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون .

    قال : وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة ، على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان ، عنادا لله ، وخلافا لأمره ، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ( 91 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله : ( قل فلم تقتلون أنبياء الله ) ، قل يا محمد ، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا - : لم تقتلون - إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم - أنبياءه ، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم : ( نؤمن بما أنزل علينا ) وتعيير لهم ، كما : -

    1560 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني اليهود : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) ؟

    فإن قال قائل : وكيف قيل لهم : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل ، ثم أخبر أنه قد مضى؟

    قيل : إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك . فقال بعض البصريين : معنى [ ص: 351 ] ذلك : فلم قتلتم أنبياء الله من قبل ، كما قال جل ثناؤه : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) [ سورة البقرة : 102 ] ، أي : ما تلت ، وكما قال الشاعر :


    ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت عنه وقلت لا يعنيني


    يريد بقوله : "ولقد أمر " ولقد مررت . واستدل على أن ذلك كذلك ، بقوله : "فمضيت عنه " ، ولم يقل : فأمضي عنه . وزعم أن "فعل " و"يفعل " قد تشترك في معنى واحد ، واستشهد على ذلك بقول الشاعر :


    وإني لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر ، واستيجاب ما كان في غد



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #152
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(138)
    الحلقة (152)
    صــ 352إلى صــ 357



    يعني بذلك : ما يكون في غد ، وبقول الحطيئة :


    شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
    [ ص: 352 ]

    يعني : يشهد . وكما قال الآخر :


    فما أضحي ولا أمسيت إلا أراني منكم في كوفان


    فقال : أضحي ، ثم قال : "ولا أمسيت " .

    وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما قيل : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ، ومعناه الماضي ، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له : ويحك ، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر :

    [ ص: 353 ]
    إذا ما انتسبنا ، لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري به بدا


    فالجزاء للمستقبل ، والولادة كلها قد مضت . وذلك أن المعنى معروف ، فجاز ذلك . قال : ومثله في الكلام : "إذا نظرت في سيرة عمر ، لم تجده يسيء " . المعنى : لم تجده أساء . فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه ، لم يقع في الوهم أنه مستقبل ؛ فلذلك صلحت "من قبل " مع قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) . قال : وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة ، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا ، فتولوهم على ذلك ورضوا به ، فنسب القتل إليهم .

    قال أبو جعفر : والصواب فيه من القول عندنا ، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم ، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه ، وارتكابهم معاصيه ، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه ، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به ، نظير قول العرب بعضها لبعض : فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا ، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا - ، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم ، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم . فكذلك ذلك في قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إذ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن [ ص: 354 ] فعل السالفين منهم - على نحو الذي بينا - جاز أن يقال : "من قبل " ؛ إذ كان معناه : قل : فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل "؟ وكان معلوما بأن قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم .

    وتأويل قوله : ( من قبل ) ، أي : من قبل اليوم .

    وأما قوله : ( إن كنتم مؤمنين ) ، فإنه يعني : إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم . وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم - إن كانوا وكنتم ، كما تزعمون أيها اليهود ، مؤمنين . وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه ، عند قولهم حين قيل لهم : ( آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ) ؛ لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله ، مع قيلهم : نؤمن بما أنزل علينا - متولين ، وبفعلهم راضين . فقال لهم : إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم ، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي : ترضون أفعالهم .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ( 92 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) ، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا ، ويده التي [ ص: 355 ] أخرجها بيضاء للناظرين ، وفلق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا ، والجراد والقمل والضفادع ، وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته .

    وإنما سماها الله "بينات " لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر ، إلا بتسخير الله ذلك له . وإنما هي جمع "بينة " ، مثل "طيبة وطيبات " .

    قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته .

    وقوله : "ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون " يقول جل ثناؤه لهم : ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها . فالهاء التي في قوله : "من بعده " ، من ذكر موسى . وإنما قال : من بعد موسى ، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا .

    وقد يجوز أن تكون "الهاء " التي في "بعده " إلى ذكر المجيء . فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولقد جاءكم موسى بالبينات ، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون . كما تقول : جئتني فكرهته ، يعني كرهت مجيئك .

    وأما قوله : ( وأنتم ظالمون ) ، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم ، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه ؛ لأن العبادة لا تنبغي لغير الله . وهذا توبيخ من الله لليهود ، وتعيير منه لهم ، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال [ ص: 356 ] ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه ، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله ، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه ، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله - فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته ، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة - أسرع ، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، واذكروا إذ أخذنا عهودكم ، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري ، وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط ، فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم ، إذ رفعنا فوقكم الجبل .

    وأما قوله : ( واسمعوا ) ، فإن معناه : واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة ، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر : "سمعت وأطعت " ، يعني بذلك : سمعت قولك ، وأطعت أمرك ، كما قال الراجز :


    السمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميم
    [ ص: 357 ]

    يعني بقوله : "السمع " ، قبول ما يسمع ، و "الطاعة " لما يؤمر . فكذلك معنى قوله : ( واسمعوا ) ، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به .

    قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة ، واعملوا بما سمعتم ، وأطيعوا الله ، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك .

    وأما قوله : ( قالوا سمعنا ) ، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب ، فإن ذلك كما وصفنا ، من أن ابتداء الكلام ، إذا كان حكاية ، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب ، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب ، كما بينا ذلك فيما مضى قبل . فكذلك ذلك في هذه الآية ؛ لأن قوله : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، بمعنى : قلنا لكم ، فأجبتمونا .

    وأما قوله : ( قالوا سمعنا ) ، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة ، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : وأشربوا في قلوبهم حب العجل .

    ذكر من قال ذلك :

    1561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال : أشربوا حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #153
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(139)
    الحلقة (153)
    صــ 358إلى صــ 363


    1562 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال : أشربوا حب العجل بكفرهم .

    1563 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال : أشربوا حب العجل في قلوبهم .

    وقال آخرون : معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل .

    ذكر من قال ذلك :

    1564 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما رجع موسى إلى قومه ، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه ، فذبحه ، ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى : اشربوا منه ، فشربوا منه ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب . فذلك حين يقول الله عز وجل : ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) .

    1565 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : لما سحل فألقي في اليم ، استقبلوا جرية الماء ، فشربوا حتى ملئوا بطونهم ، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه : ( وأشربوا [ ص: 159 ] في قلوبهم العجل ) تأويل من قال : وأشربوا في قلوبهم حب العجل ؛ لأن الماء لا يقال منه : أشرب فلان في قلبه ، وإنما يقال ذلك في حب الشيء ، فيقال منه : "أشرب قلب فلان حب كذا " ، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه ، كما قال زهير :


    فصحوت عنها بعد حب داخل والحب يشربه فؤادك داء


    قال أبو جعفر : ولكنه ترك ذكر "الحب " اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام . إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب ، وأن الذي يشرب القلب منه حبه ، كما قال جل ثناؤه : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) [ سورة الأعراف : 163 ] ، ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) [ يوسف : 82 ] ، وكما قال الشاعر :


    ألا إنني سقيت أسود حالكا ألا بجلي من الشراب ألا بجل


    [ ص: 360 ] يعني بذلك سما أسود ، فاكتفى بذكر "أسود " عن ذكر "السم " لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله : "سقيت أسود " . ويروى :


    ألا إنني سقيت أسود سالخا


    وقد تقول العرب : "إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم ، أو إلى حاتم " ،

    فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله ، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات ، ومنه قول الشاعر :


    يقولون جاهد يا جميل بغزوة وإن جهادا طيئ وقتالها
    القول في تأويل قوله تعالى : ( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ( 93 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل : بئس الشيء يأمركم به إيمانكم; إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله [ ص: 361 ] والتكذيب بكتبه ، وجحود ما جاء من عنده . ومعنى "إيمانهم " : تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله ، إذ قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، فقالوا : نؤمن بما أنزل علينا . وقوله : ( إن كنتم مؤمنين ) ، أي : إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم ، وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهى عن ذلك كله ، وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة ، إن كان يأمرهم بذلك ، فبئس الأمر تأمر به . وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة ، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه - جل ثناؤه - أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( 94 ) )

    قال أبو جعفر : وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ، وذلك أن الله - جل ثناؤه - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم ، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف . كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة . وقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم ، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة [ ص: 362 ] من الله ، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها ، والفوز بجوار الله في جنانه ، إن كان الأمر كما تزعمون : من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا ، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم . فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت ، فذهبت دنياها ، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها . كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى ، إذ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة .

    فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار . ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " .

    1566 - حدثنا بذلك أبو كريب قال : حدثنا زكريا بن عدي قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 363 ] 1567 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن ابن عباس في قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه .

    1568 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة في قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال : قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا .

    1569 - حدثني موسى قال : أخبرنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن ابن عباس مثله .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #154
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(140)
    الحلقة (154)
    صــ 364إلى صــ 369



    1570 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر : فيما أروي : أنبأنا - عن سعيد ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو تمنوه يوم قال ذلك لهم ، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات .

    قال أبو جعفر : فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم ، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل . [ ص: 364 ]

    وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : ( تمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ؛ لأنهم - فيما ذكر لنا - قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] ، وقالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] . فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون ، فتمنوا الموت ؛ فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك ، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت ، وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه . فقال بعضهم : أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما .

    ذكر من قال ذلك :

    1571 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب .

    وقال آخرون بما : -

    1572 - حدثني بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ) ، وذلك أنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] ، وقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] فقيل لهم : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) .

    1573 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن [ ص: 365 ] الربيع ، عن أبي العالية قال : قالت اليهود : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) فقال الله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، فلم يفعلوا .

    1574 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) الآية ، وذلك بأنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . .

    وأما تأويل قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) ، فإنه يقول : قل يا محمد : إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله ، فاكتفى بذكر "الدار " ، من ذكر نعيمها ، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها . وقد بينا معنى "الدار الآخرة " . فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وأما تأويل قوله : ( خالصة ) ، فإنه يعني به : صافية . كما يقال : "خلص لي فلان " بمعنى صار لي وحدي وصفا لي ؛ يقال منه : "خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة ، و"الخالصة " مصدر مثل "العافية " . ويقال للرجل : "هذا خلصاني " ، يعني خالصتي من دون أصحابي .

    وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله : ( خالصة ) : خاصة . وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك .

    1575 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قل إن كانت لكم [ ص: 366 ] الدار الآخرة ) ، قال : "قل " يا محمد لهم - يعني اليهود - : إن كانت لكم الدار الآخرة " - يعني : الجنة - ( عند الله خالصة ) ، يقول : خاصة لكم .

    وأما قوله : ( من دون الناس ) ، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا : لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس ، ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك :

    1576 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( من دون الناس ) ، يقول : من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم ، وزعمتم أن الحق في أيديكم ، وأن الدار الآخرة لكم دونهم .

    وأما قوله : ( فتمنوا الموت ) فإن تأويله : تشهوه وأريدوه ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله : فسلوا الموت ، ولا يعرف "التمني " بمعنى "المسألة " في كلام العرب . ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى "الأمنية " - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة ، إذ كانت المسألة ، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله .

    1577 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : ( فتمنوا الموت ) ، فسلوا الموت ، ( إن كنتم صادقين ) .
    [ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( 95 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - عن اليهود وكراهتهم الموت ، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت ، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل ، والموت بهم حال; ولمعرفتهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه رسول من الله ، إليهم مرسل ، وهم به مكذبون ، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر ، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت ، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب ، كالذي : -

    1578 - حدثني محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة ) الآية ، أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، أي : لعلمهم بما عندهم من العلم بك ، والكفر بذلك .

    1579 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولن يتمنوه أبدا ) ، يقول : يا محمد ، ولن يتمنوه أبدا ؛ لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي ، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم .

    1580 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 368 ] ابن جريج قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت ، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا .

    وأما قوله : ( بما قدمت أيديهم ) ، فإنه يعني به : بما أسلفته أيديهم . وإنما ذلك مثل ، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها ، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها ؛ فيعاقب عليها : "نالك هذا بما جنت يداك ، وبما كسبت يداك ، وبما قدمت يداك " ، فتضيف ذلك إلى "اليد " . ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة ، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد .

    قال أبو جعفر : وإنما قيل ذلك بإضافته إلى "اليد " ، لأن عظم جنايات الناس بأيديهم ، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى "أيديهم " ، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده ، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده .

    فلذلك قاله - جل ثناؤه - للعرب : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، يعني به : ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله ، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، ويعلمون أنه نبي مبعوث . فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم ، وأضمرته أنفسهم ، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم ، والبغي عليه ، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم ، وأنه مما قدمته أيديهم ، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها؛ إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها . وروي عن ابن عباس في ذلك ما : -

    1581 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( بما قدمت أيديهم ) ، يقول : بما أسلفت أيديهم .

    [ ص: 369 ] 1582 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( بما قدمت أيديهم ) ، قال : إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه .

    وأما قوله : ( والله عليم بالظالمين ) ، فإنه يعني جل ثناؤه : والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون .

    وظلم اليهود : كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه ، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم .

    وقد دللنا على معنى "الظلم " فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) - اليهود - . يقول : يا محمد ، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا ، وأشدهم كراهة للموت ، اليهود كما : -

    1583 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر - عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود .

    1584 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع ، عن أبي العالية : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #155
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(141)
    الحلقة (155)
    صــ 370إلى صــ 375




    1585 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن [ ص: 370 ] أبيه ، عن الربيع مثله .

    1586 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    وإنما كراهتهم الموت ؛ لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن الذين أشركوا )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ومن الذين أشركوا ) ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة ، كما يقال : "هو أشجع الناس ومن عنترة " بمعنى : هو أشجع من الناس ومن عنترة ، فكذلك قوله : ( ومن الذين أشركوا ) ؛ لأن معنى الكلام : ولتجدن - يا محمد - اليهود من بني إسرائيل ، أحرص [ من ] الناس على حياة ، ومن الذين أشركوا . فلما أضيف "أحرص " إلى "الناس " وفيه تأويل "من " أظهرت بعد حرف العطف ، ردا - على التأويل الذي ذكرنا .

    وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة ، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك ، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث ؛ لأنهم يؤمنون بالبعث ، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب . والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب ، فاليهود أحرص [ ص: 371 ] منهم على الحياة وأكره للموت .

    وقيل : إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث ذكر من قال هم المجوس :

    1587 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، يعني المجوس .

    1588 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : المجوس .

    1589 - حدثني يونس قال ، أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ومن الذين أشركوا ) ، قال : يهود ، أحرص من هؤلاء على الحياة .

    ذكر من قال : هم الذين ينكرون البعث :

    1590 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر - عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة; وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي ، بما ضيع مما عنده من العلم .
    [ ص: 372 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة )

    قال أبو جعفر : هذا خبر من الله - جل ثناؤه - بقوله عن الذين أشركوا - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة . يقول جل ثناؤه : يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس ، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته ، أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة ، حتى جعل بعضهم تحية بعض : "عشرة آلاف عام" حرصا منهم على الحياة ، كما : -

    1591 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي عليا ، أخبرنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : هو قول الأعاجم : "سال زه نوروز مهرجان حر" . [ ص: 373 ]

    1592 - وحدثت عن نعيم النحوي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس : "زه هزار سال" .

    1593 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن قتادة في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر .

    1594 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : حدثني علي بن معبد ، عن ابن علية ، عن ابن أبي نجيح في قوله : ( يود أحدهم ) ، فذكر مثله .

    1595 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) حتى بلغ : ( لو يعمر ألف سنة ) ، يهود ، أحرص من هؤلاء على الحياة . وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة .

    1596 - وحدثت عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : هو قول أحدهم إذا عطس : "زه هزار سال" ، يقول : عشرة آلاف سنة .
    [ ص: 374 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله .

    وقوله : ( هو ) عماد لطلب "ما" الاسم أكثر من طلبها الفعل ، كما قال الشاعر :


    فهل هو مرفوع بما ههنا رأس


    و"أن" التي في : ( أن يعمر ) ، رفع ، ب "مزحزحه" ، و"هو" الذي مع "ما" تكرير ، عماد للفعل ، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة .

    وقد قال بعضهم : إن "هو" الذي مع "ما" كناية ذكر العمر ، كأنه قال : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب . وجعل "أن يعمر" مترجما عن "هو" يريد ما هو بمزحزحه التعمير .

    وقال بعضهم : قوله : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، نظير قولك : ما زيد بمزحزحه أن يعمر .

    قال أبو جعفر : وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا ، وهو أن يكون "هو" عمادا ، نظير قولك : "ما هو قائم عمرو" . [ ص: 375 ]

    وقد قال قوم من أهل التأويل : إن "أن" التي في قوله : "أن يعمر" بمعنى : وإن عمر ، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف .

    ذكر من قال ذلك :

    1597 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول : وإن عمر .

    1598 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #156
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(142)
    الحلقة (156)
    صــ 376إلى صــ 381



    1599 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "أن يعمر" - ولو عمر .

    وأما تأويل قوله : ( بمزحزحه ) ، فإنه بمبعده ومنحيه ، كما قال الحطيئة :


    وقالوا : تزحزح ما بنا فضل حاجة إليك ، وما منا لوهيك راقع


    يعني بقوله : "تزحزح" ، تباعد ، يقال منه : "زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا ، "وهو عنك متزحزح" ، أي متباعد .

    فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ، ولا منحيه منه؛ لأنه لا بد للعمر من الفناء ، ومصيره إلى الله ، كما : - [ ص: 376 ]

    1600 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد - فيما أروي - عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، أي : ما هو بمنحيه من العذاب .

    1601 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول : وإن عمر ، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه .

    1602 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    1603 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ) ، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام .

    1604 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء . وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب ، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك ، إذ كان كافرا ، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( والله بصير بما يعملون ( 96 ) )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( والله بصير بما يعملون ) ، والله ذو إبصار بما يعملون ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، بل هو بجميعها محيط ، ولها حافظ ذاكر ، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها . [ ص: 377 ]

    وأصل "بصير" "مبصر" - من قول القائل : "أبصرت فأنا مبصر" ، ولكن صرف إلى "فعيل" ، كما صرف "مسمع" إلى "سميع" ، و"عذاب مؤلم" إلى"أليم" ، "ومبدع السماوات" إلى بديع ، وما أشبه ذلك .
    القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )

    قال أبو جعفر : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك . فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته .

    ذكر من قال ذلك :

    1605 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه ، لتتابعني على الإسلام ، فقالوا : ذلك لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوني عما شئتم . فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا ، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا [ ص: 378 ] كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق . فقال : "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه ، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر : فيما أروي : وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد! قال : وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا : اللهم نعم! قال : اللهم اشهد! قالوا : أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نتابعك أو نفارقك ، قال : فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة ، تابعناك وصدقناك . قال : "فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا : إنه عدونا . فأنزل الله عز وجل : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله ( كأنهم لا يعلمون ) ، فعندها باءوا بغضب على غضب . [ ص: 379 ]

    1606 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين - يعني المكي - ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن ، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا : نعم . قال : فاسألوا عما بدا لكم . فقالوا : أخبرنا كيف يشبه الولد أمه ، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ، ونطفة المرأة صفراء رقيقة ، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ قالوا : نعم . قالوا : فأخبرنا كيف نومك؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ [ ص: 380 ] قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد! قالوا : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال : هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها ، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها ، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله ، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا عن الروح . قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني؟ قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله فيهم : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) إلى قوله ( كأنهم لا يعلمون ) .

    1607 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني القاسم بن أبي بزة : أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال : جبريل . قالوا : فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنزل : ( من كان عدوا لجبريل ) الآية . قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا : إنه لنا عدو! فنزل : ( من كان عدوا لجبريل ) الآية .

    وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بين [ ص: 381 ] عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم ، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم .

    ذكر من قال ذلك :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #157
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(143)
    الحلقة (157)
    صــ 382إلى صــ 387




    1608 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها ، فقال : ما هؤلاء؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . فكره ذلك وقال : أيما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه! ثم أنشأ يحدثهم فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك ، قلت : ولم ذلك؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال : فسكتوا ، قال : فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت : ويحكم! إذا هلكتم! قالوا إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذاك ، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ [ ص: 382 ] قالوا : إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه ، والآخر عن يساره . قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو ، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما ، وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل ! قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان ، فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ علي : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر ! [ ص: 383 ]

    1609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : قال عمر : كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم ، ثم ذكر نحو حديث ربعي .

    1610 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحبوا به . فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم ، فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدونا من أهل السماء ، يطلع محمدا على سرنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم ، فقال لهم عمر : أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك ، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .

    1611 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة قال : بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما ، فذكر نحوه .

    1612 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) ، قال : قالت اليهود : [ ص: 384 ] إن جبريل هو عدونا؛ لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدونا . فقال الله جل ثناؤه : ( من كان عدوا لجبريل ) .

    1613 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) ، قال : كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة ، فكان يأتيها ، وكان ممره على طريق مدراس اليهود ، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم . وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا : يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك ، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا ، وتمر بنا فلا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك ، فقال لهم عمر : أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا : الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأسكتوا ، فقال : تكلموا ، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني . فنظر بعضهم إلى بعض ، فقام رجل منهم فقال : أخبروا الرجل ، لتخبرنه أو لأخبرنه ، قالوا : نعم ، إنا نجده مكتوبا عندنا ، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل ، وجبريل عدونا ، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف ، ولو أنه كان وليه ميكائيل ، إذا لآمنا به ، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره . قال عمر : فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه ، عدو للذي هو عن يساره; والذي هو عدو للذي هو عن يساره; عدو للذي هو عن يمينه; وأنه من كان عدوهما ، فإنه عدو لله . ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 385 ] فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ، فقال عمر : والذي بعثك بالحق ، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك !

    1614 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : انطلق عمر إلى يهود فقال : إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة ، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه . قال : فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن جانبه الآخر . فقال : إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله ، وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل . [ فبينما هو عندهم ] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب . فقام إليه ، فأتاه وقد أنزل عليه : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) . [ ص: 386 ]

    1615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) . قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ، وهو لنا عدو ، قال : فنزلت هذه الآية : ( من كان عدوا لجبريل ) .

    1616 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بنحو ذلك .

    قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية - أعني قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) - فهو : أن الله يقول لنبيه : قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل ، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو ، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات ، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة؛ فأبوا اتباعك ، وجحدوا نبوتك ، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي ، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك ، وزعموا أنه عدو لهم - : من يكن من الناس [ ص: 387 ] لجبريل عدوا ، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه ، وصاحب رحمته ، فإني له ولي وخليل ، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله ، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي ، بإذن ربي له بذلك ، يربط به على قلبي ، ويشد فؤادي ، كما : -

    1617 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل ) ، قال : وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة ، فأخبرهم بها على ما هي عندهم - "إلا جبريل " ، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة ، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني : تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة ، فأخبرهم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما سألوه عنه : أن جبريل صاحب وحي الله ، وصاحب نقمته ، وصاحب رحمته ، فقالوا : ليس بصاحب وحي ولا رحمة ، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم : ( قل ) يا محمد : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) ، يقول : فإن جبريل نزله . يقول : نزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك ، ويربط به على قلبك" ، يعني : بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله - وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك .

    1618 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) ، يقول : أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #158
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(144)
    الحلقة (158)
    صــ 388إلى صــ 393







    1619 - وحدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فإنه نزله على قلبك ) ، يقول : نزل الكتاب على قلبك جبريل .

    قال أبو جعفر : وإنما قال جل ثناؤه : ( فإنه نزله على قلبك ) - وهو يعني [ ص: 388 ] بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل : فإنه نزله على قلبي ولو قيل : "على قلبي" كان صوابا من القول؛ لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه ، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه ، إذ كان المخبر عن نفسه; ومرة مضافا إلى اسمه ، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب . فتقول في نظير ذلك : "قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه؛ لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه - : و"قل للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب؛ لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك ، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له . وكذلك : "لا تقل للقوم : إني قائم" ، و"لا تقل لهم : إنك قائم" ، و"الياء" من "إني" اسم المأمور بقول ذلك ، على ما وصفنا . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( قل للذين كفروا سيغلبون ) و ( تغلبون ) [ آل عمران : 12 ] ، بالياء والتاء .

    وأما" جبريل " فإن للعرب فيه لغات . فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون : "جبريل ، وميكال" بغير همز ، بكسر الجيم والراء من" جبريل " وبالتخفيف ، وعلى القراءة بذلك عامة قرأة أهل المدينة والبصرة .

    أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون : "جبرئيل وميكائيل" على مثال "جبرعيل وميكاعيل" ، بفتح الجيم والراء ، وبهمز ، وزيادة ياء بعد الهمزة ، وعلى القراءة بذلك عامة قرأة أهل الكوفة ، كما قال جرير بن عطية :


    عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
    [ ص: 389 ]

    وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن : " جبريل " بفتح الجيم ، وترك الهمز .

    قال أبو جعفر : وهي قراءة غير جائزة القراءة بها؛ لأن "فعليل" في كلام العرب غير موجود . وقد اختار ذلك بعضهم ، وزعم أنه اسم أعجمي ، كما يقال : "سمويل" ، وأنشد في ذلك :


    بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ما وازنت ريشة من ريش سمويلا


    وأما بنو أسد فإنها تقول : "جبرين" بالنون . وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في" جبريل " "ألفا" فتقول : جبراييل وميكاييل .

    وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ : "جبرئل" بفتح الجيم ، والهمز ، وترك المد ، وتشديد اللام .

    فأما "جبر" و"ميك" ، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى : "عبد" ، والآخر بمعنى : "عبيد" . [ ص: 390 ]

    وأما "إيل" فهو الله تعالى ذكره ، كما : -

    1620 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جرير بن نوح الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : " جبريل " و" ميكائيل " ، كقولك : عبد الله .

    1621 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : "جبريل" عبد الله; و"ميكائيل" ، عبيد الله . وكل اسم "إيل" فهو : الله .

    1622 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس : أن "إسرائيل ، وميكائيل وجبريل ، وإسرافيل " كقولك : عبد الله .

    1623 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : "إيل" ، الله ، بالعبرانية .

    1624 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال : حدثنا إسحاق بن منصور قال : حدثنا قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، قال : " جبريل " اسمه : عبد الله; و" ميكائيل " اسمه : عبيد الله ، "إيل" : الله .

    1625 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين قال : اسم" جبريل " عبد الله ، واسم" ميكائيل " عبيد الله ، واسم" إسرافيل " : عبد الرحمن ، وكل معبد : "إيل" ، فهو عبد الله .

    1626 - حدثنا المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، عن [ ص: 391 ] محمد المدني - قال المثنى : قال قبيصة : أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين ، قال : ما تعدون" جبريل " في أسمائكم؟ قال : " جبريل " عبد الله ، و" ميكائيل " عبيد الله ، وكل اسم فيه "إيل" ، فهو معبد لله .

    1627 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين قال : قال لي : هل تدري ما اسم " جبريل " من أسمائكم؟ قلت : لا . قال : عبد الله . قال : فهل تدري ما اسم " ميكائيل " من أسمائكم؟ قلت : لا . قال : عبيد الله . وقد سمى لي "إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته ، إلا أنه قد قال لي : أرأيت ، كل اسم يرجع إلى "إيل" فهو معبد له .

    1628 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله : ( جبريل ) قال : "جبر" عبد ، "إيل" الله ، و"ميكا" قال : عبد ، "إيل" : الله .

    قال أبو جعفر : فهذا تأويل من قرأ" جبرائيل " بالفتح ، والهمز ، والمد . وهو - إن شاء الله - معنى من قرأ بالكسر ، وترك الهمز .

    وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز ، وترك المد ، وتشديد اللام ، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك ، إلى إضافة "جبر" و"ميكا" إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني ، وذلك أن "الإل" بلسان العرب : الله ، كما قال : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) [ التوبة : 10 ] . فقال جماعة من أهل العلم : "الإل" هو الله . ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة ، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول ، فأخبروه - فقال لهم : ويحكم! " [ ص: 392 ] أين ذهب بكم؟ والله ، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر . يعني "من إل" : من الله وقد : -

    1629 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) قال : قول " جبريل " و"ميكائيل" و"إسرافيل" .

    كأنه يقول : حين يضيف "جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى "إيل" يقول : عبد الله . ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) ، كأنه يقول : لا يرقبون الله عز وجل .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( مصدقا لما بين يديه )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( مصدقا لما بين يديه ) ، القرآن ، ونصب "مصدقا" على القطع من "الهاء" التي في قوله : ( نزله على قلبك ) .

    فمعنى الكلام : فإن جبريل نزل القرآن على قلبك يا محمد ، مصدقا لما بين يدي القرآن ، يعني بذلك : مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه ، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه إياها ، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، وهي تصدقه . كما : -

    1630 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس . ( مصدقا لما بين [ ص: 393 ] يديه ) ، يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها الله ، والآيات ، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات ، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح ، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم .

    1631 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( مصدقا لما بين يديه ) ، من التوراة والإنجيل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #159
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(145)
    الحلقة (159)
    صــ 394إلى صــ 399



    1632 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( وهدى وبشرى للمؤمنين ( 97 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وهدى ) ودليل وبرهان . وإنما سماه الله جل ثناؤه "هدى" ، لاهتداء المؤمن به ، و"اهتداؤه به" : اتخاذه إياه هاديا يتبعه ، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه . و"الهادي" من كل شيء : ما تقدم أمامه . ومن ذلك قيل لأوائل الخيل : "هواديها" ، وهو ما تقدم أمامها ، وكذلك قيل للعنق : "الهادي"؛ لتقدمها أمام سائر الجسد .

    وأما "البشرى" فإنها البشارة . أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه ، أن القرآن لهم بشرى منه ، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته ، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه ، وذلك هو "البشرى" التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه؛ لأن البشارة في كلام العرب ، هي : إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر ، قبل أن يسمعه من غيره ، أو يعلمه من قبل غيره .

    وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه : [ ص: 394 ]

    1633 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( هدى وبشرى للمؤمنين ) ، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه ، وانتفع به واطمأن إليه ، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه ، وكان على يقين من ذلك .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ( 98 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله ، من عاداه ، وعادى جميع ملائكته ورسله; وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل ، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته ، ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة ، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته؛ لأن العدو لله عدو لأوليائه ، والعدو لأولياء الله عدو له ، فكذلك قال لليهود - الذين قالوا : إن جبريل عدونا من الملائكة ، وميكائيل ولينا منهم - : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) ، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله ، فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل ، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو ، وكذلك عدو بعض رسل الله ، عدو لله ولكل ولي . وقد : -

    1634 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد الله - يعني العتكي - ، عن رجل من قريش قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود [ ص: 395 ] فقال : أسألكم بكتابكم الذي تقرأون ، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا : اللهم وجدناك في كتابنا ، ولكنا كرهناك؛ لأنك تستحل الأموال وتهريق الدماء . فأنزل الله : ( من كان عدوا لله وملائكته ) الآية .

    1635 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : إن يهوديا لقي عمر فقال له : إن جبريل الذي يذكره صاحبك ، هو عدو لنا . فقال له عمر : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) . قال : فنزلت على لسان عمر .

    وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو ، وأن عدو محمد من الناس كلهم ، لمن الكافرين بالله ، الجاحدين آياته .

    فإن قال قائل : أوليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟

    قيل : بلى .

    فإن قال : فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما ، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟

    قيل : معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما ، أن اليهود لما قالت : " جبريل عدونا ، وميكائيل ولينا" - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن [ ص: 396 ] جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا ، فإن الله له عدو ، وأنه من الكافرين ، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه ، لئلا يقول منهم قائل : إنما قال الله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله ، ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء؛ لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا ، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه . وكذلك قوله : ( ورسله ) ، فلست يا محمد داخلا فيهم ، فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم ، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين .

    وأما إظهار اسم الله في قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال : ( من كان عدوا لله وملائكته ) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية ، فقيل : "فإنه عدو للكافرين" ، على سامعه ، من المعني ب "الهاء" التي في "فإنه" : آلله ، أم رسل الله جل ثناؤه ، أم جبريل ، أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت ، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك؛ لاحتمال الكلام ما وصفت ، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر :


    ليت الغراب غداة ينعب دائما كان الغراب مقطع الأوداج


    وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه . والأمر في ذلك بخلاف ما قال . وذلك أن "الغراب" الثاني لو كان مكنى عنه ، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم "الغراب" الأول ، إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه [ ص: 397 ] غير كناية اسم "الغراب" الأول - وأن قبل قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) أسماء ، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه ، لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم ، إلا بتوقيف من حجة . فلذلك اختلف أمراهما .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات )

    قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات ) ، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه ، من أحكامهم التي كانت في التوراة ، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . فكان ، في ذلك من أمره ، الآيات البينات لمن أنصف نفسه ، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة ، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيء منه عن آدمي ، وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس .

    1636 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولقد أنزلنا إليك [ ص: 398 ] آيات بينات ) يقول : فأنت تتلوه عليهم ، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك ، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه . يقول الله : ففي ذلك لهم عبرة وبيان ، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون .

    1637 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! فأنزل الله عز وجل : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) !

    1638 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .
    [ ص: 399 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ( 99 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ) ، وما يجحد بها . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى "الكفر" الجحود ، بما أغنى عن إعادته هنا . وكذلك بينا معنى "الفسق" ، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره .

    فتأويل الآية : ولقد أنزلنا إليك ، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك ، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم ، ونبي مبعوث ، وما يجحد تلك الآيات الدالات على صدقك ونبوتك ، التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم إلا الخارج منهم من دينه ، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه . فأما المتمسك منهم بدينه ، والمتبع منهم حكم كتابه ، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ( 100 ) )


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #160
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثانى
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(146)
    الحلقة (160)
    صــ 400إلى صــ 405




    قال أبو جعفر : اختلف أهل العربية في حكم "الواو" التي في قوله : ( أوكلما عاهدوا عهدا ) . فقال بعض نحويي البصريين : هي "واو" تجعل مع حروف الاستفهام ، وهي مثل "الفاء" في قوله : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ) [ البقرة : 87 ] ، قال : وهما زائدتان في هذا الوجه ، [ ص: 400 ] وهي مثل "الفاء" التي في قوله : فالله لتصنعن كذا وكذا ، وكقولك للرجل : "أفلا تقوم"؟ وإن شئت جعلت "الفاء" و"الواو" هاهنا حرف عطف .

    وقال بعض نحويي الكوفيين : هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام .

    والصواب في ذلك عندي من القول أنها "واو" عطف ، أدخلت عليها "ألف" الاستفهام ، كأنه قال جل ثناؤه : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا ) ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ، ثم أدخل "ألف" الاستفهام على "وكلما" فقال : ( قالوا سمعنا وعصينا ) ، ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) .

    وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له ، فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن "الواو" و"الفاء" من قوله : ( أوكلما ) و ( أفكلما ) زائدتان لا معنى لهما .

    وأما "العهد" ، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى ، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى ، فوبخهم - جل ذكره - بما كان منهم من ذلك ، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان - جل ذكره - أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته ، فقال تعالى ذكره : أوكلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا ، نبذه فريق منهم ، فتركه ونقضه؟ كما : -

    1639 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال مالك بن الصيف - حين بعث [ ص: 401 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد الله إليهم فيه - : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنزل الله جل ثناؤه : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) .

    1640 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .

    قال أبو جعفر : وأما "النبذ" فإن أصله - في كلام العرب - الطرح ، ولذلك قيل للملقوط : "المنبوذ"؛ لأنه مطروح مرمي به ، ومنه سمي النبيذ "نبيذا" ، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء ، ثم يعالج بالماء . وأصله "مفعول" صرف إلى "فعيل" ، أعني أن "النبيذ" أصله "منبوذ" ثم صرف إلى "فعيل" فقيل : "نبيذ" ، كما قيل : "كف خضيب ، ولحية دهين" - يعني : مخضوبة ومدهونة . يقال منه : "نبذته أنبذه نبذا" ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :


    نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا


    فمعنى قوله جل ذكره : ( نبذه فريق منهم ) ، طرحه فريق منهم ، فتركه ورفضه ونقضه . كما : - [ ص: 402 ]

    1641 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( نبذه فريق منهم ) يقول : نقضه فريق منهم .

    1642 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( نبذه فريق منهم ) ، قال : لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ، ويعاهدون اليوم ، وينقضون غدا . قال : وفي قراءة عبد الله : ( نقضه فريق منهم ) .

    و"الهاء" التي في قوله : ( نبذه ) ، من ذكر العهد ، فمعناه أوكلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم .

    و"الفريق" الجماعة ، لا واحد له من لفظه ، بمنزلة "الجيش" و"الرهط" الذي لا واحد له من لفظه .

    و"الهاء والميم" اللتان في قوله : ( فريق منهم ) : من ذكر اليهود من بني إسرائيل .

    وأما قوله : ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) فإنه يعني جل ثناؤه : بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا ، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون .

    ولذلك وجهان من التأويل : أحدهما : أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله ، على عدد الفريق . فيكون الكلام حينئذ معناه : أوكلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم ، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله ، أكثرهم ، لا القليل منهم . فهذا أحد وجهيه .

    والوجه الآخر : أن يكون معناه : أوكلما عاهدت اليهود ربها عهدا ، نبذ ذلك [ ص: 403 ] العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم ، ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله ، ولا وعده ووعيده . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى "الإيمان" ، وأنه التصديق .
    القول في تأويل قوله تعالى : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ( 101 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولما جاءهم ) ، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - ( رسول ) ، يعني بالرسول : محمدا صلى الله عليه وسلم . كما : -

    1643 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( ولما جاءهم رسول ) ، قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم .

    وأما قوله : ( مصدق لما معهم ) ، فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه .

    وأما تأويل قوله : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ) ، فإنه للذي هو مع اليهود ، وهو التوراة ، فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة ، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله ، ( نبذ فريق ) ، يعني بذلك : أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين؛ حسدا منهم له وبغيا عليه . وقوله : ( من الذين أوتوا الكتاب ) . وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها . ويعني بقوله : ( كتاب الله ) ، التوراة . [ ص: 404 ]

    وقوله : ( وراء ظهورهم ) ، جعلوه وراء ظهورهم . وهذا مثل ، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال : "قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر ، وجعله وراء ظهره" ، يعني به : أعرض عنه وصد وانصرف ، كما : -

    1644 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) ، قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف ، وسحر هاروت وماروت . فذلك قول الله : ( كأنهم لا يعلمون ) .

    ومعنى قوله : ( كأنهم لا يعلمون ) ، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه . وهذا من الله - جل ثناؤه - إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة ، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم ، كما : -

    1645 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) ، يقول : نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب" كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) : أي أن القوم كانوا يعلمون ، ولكنهم أفسدوا علمهم ، وجحدوا وكفروا وكتموا .
    [ ص: 405 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها ، الذين وصفهم الله - جل ثناؤه - بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى ، وراء ظهورهم ، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون ، كأنهم لا يعلمون . فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه ، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه ، وذلك هو الخسار والضلال المبين .

    واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) . فقال بعضهم : عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة ، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة ، تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، بمثل الذي يأمر به القرآن ، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •