تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 23 الأولىالأولى ... 23456789101112131415161718192021 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 460

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(187)
    الحلقة (201)
    صــ 99إلى صــ 105




    القول في تأويل قوله تعالى ( إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ( 133 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "إذ قال لبنيه" ، إذ قال يعقوب لبنيه" .

    و"إذ" هذه مكررة إبدالا من "إذ" الأولى ، بمعنى : أم كنتم شهداء يعقوب ، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته .

    ويعني بقوله : "ما تعبدون من بعدي" - أي شيء تعبدون "من بعدي" ؟ أي من بعد وفاتي ؟ قالوا : "نعبد إلهك" ، يعني به : قال بنوه له : نعبد معبودك الذي تعبده ، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، "إلها واحدا" أي : [ ص: 99 ] نخلص له العبادة ، ونوحد له الربوبية ، فلا نشرك به شيئا ، ولا نتخذ دونه ربا .

    ويعني بقوله : "ونحن له مسلمون" ، ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة .

    ويحتمل قوله : "ونحن له مسلمون" ، أن تكون بمعنى الحال ، كأنهم قالوا : نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه . ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا ، فيكون بمعنى : نعبد إلهك بعدك ، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون .

    وأحسن هذين الوجهين - في تأويل ذلك - أن يكون بمعنى الحال ، وأن يكون بمعنى : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، مسلمين لعبادته .

    وقيل : إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق ، لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق .

    ذكر من قال ذلك :

    2089 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" قال : يقال : بدأ بإسماعيل لأنه أكبر .

    وقرأ بعض المتقدمين : "وإله أبيك إبراهيم" ، ظنا منه أن إسماعيل ، إذ كان عما ليعقوب ، فلا يجوز أن يكون في من ترجم به عن الآباء ، وداخلا في عدادهم . وذلك من قارئه كذلك ، قلة علم منه بمجاري كلام العرب . والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء ، والأخوال بمعنى الأمهات . فلذلك دخل إسماعيل في من ترجم به عن الآباء . وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ترجمة عن الآباء في موضع جر ، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون .

    [ ص: 100 ] والصواب من القراءة عندنا في ذلك : "وإله آبائك" ، لإجماع القراء على تصويب ذلك ، وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك .

    ونصب قوله : "إلها" ، على الحال من قوله : "إلهك "
    القول في تأويل قوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ( 134 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره . بقوله : "تلك أمة قد خلت " ، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم .

    يقول لليهود والنصارى : يا معشر اليهود والنصارى ، دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله ، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية ، فتضيفونها إليهم ، فإنهم أمة - ويعني : ب "الأمة " في هذا الموضع : الجماعة والقرن من الناس - قد خلت : مضت لسبيلها .

    وإنما قيل للذي قد مات فذهب : "قد خلا " ، لتخليه من الدنيا وانفراده ، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه .

    وأصله من قولهم : "خلا الرجل " ، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه ، وانفرد من الناس . فاستعمل ذلك في الذي يموت ، على ذلك الوجه .

    ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى : إن لمن نحلتموه - ضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه - من أنبيائي ورسلي ، ما كسب . [ ص: 101 ]

    "والهاء والألف " في قوله : "لها " ، عائدة إن شئت على "تلك " ، وإن شئت على "الأمة " .

    ويعني بقوله : "لها ما كسبت " ، أي ما عملت من خير ، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم ، ولا تؤاخذون أنتم - أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون . فيكسبون من خير وشر ، لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت . فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم ، فإن الدعاوى غير مغنيتكم عند الله ، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم ، إن كنتم عملتموها وقدمتموها .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين : كونوا هودا تهتدوا ؛ وقالت النصارى لهم : كونوا نصارى تهتدوا .

    تعني بقولها : "تهتدوا " ، أي تصيبوا طريق الحق . كما : -

    2090 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة - جميعا ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى [ ص: 102 ] زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك . فأنزل الله عز وجل فيهم : "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " .

    قال أبو جعفر : احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها ، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به - فإن دينه كان الحنيفية المسلمة - وندع سائر الملل التي نختلف فيها ، فينكرها بعضنا ، ويقر بها بعضنا . فإن ذلك - على اختلافه - لا سبيل لنا على الاجتماع عليه ، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم .

    وفي نصب قوله : "بل ملة إبراهيم " أوجه ثلاثة . أحدها : أن يوجه معنى قوله : "وقالوا كونوا هودا أو نصارى " ، إلى معنى : وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية . لأنهم إذ قالوا : "كونوا هودا أو نصارى " ، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم ، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة . فيكون معنى الكلام حينئذ : قل يا محمد ، لا نتبع اليهودية والنصرانية ، ولا نتخذها ملة ، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، ثم يحذف "نتبع " الثانية ، ويعطف ب "الملة " على إعراب اليهودية والنصرانية .

    والآخر : أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى "نتبع "

    والثالث : أن يكون أريد : بل نكون أصحاب ملة إبراهيم ، أو أهل ملة [ ص: 103 ] إبراهيم . ثم حذف "الأهل " و "الأصحاب " ، وأقيمت "الملة " مقامهم ، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام ، كما قال الشاعر :


    حسبت بغام راحلتي عناقا! وما هي ، ويب غيرك ، بالعناق


    يعني : صوت عناق ، فتكون "الملة " حينئذ منصوبة ، عطفا في الإعراب على " اليهود والنصارى " .

    وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء ، باتباع ملة إبراهيم .

    وقرأ بعض القراء ذلك رفعا ، فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا : بل الهدى ملة إبراهيم .
    [ ص: 104 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 135 ) )

    قال أبو جعفر : و"الملة " ، الدين

    وأما "الحنيف " ، فإنه المستقيم من كل شيء . وقد قيل : إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى ، إنما قيل له "أحنف " ، نظرا له إلى السلامة ، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة " ، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة ، وكما قيل للديغ : "السليم " ، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك ، وما أشبه ذلك .

    فمعنى الكلام إذا : قل يا محمد ، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما .

    فيكون "الحنيف " حينئذ حالا من " إبراهيم " وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك . فقال بعضهم : "الحنيف" الحاج . وقيل : إنما سمي دين إبراهيم الإسلام "الحنيفية " ، لأنه أول إمام لزم العباد - الذين كانوا في عصره ، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة - اتباعه في مناسك الحج ، والائتمام به فيه . قالوا : فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته ، فهو "حنيف " ، مسلم على دين إبراهيم .

    ذكر من قال ذلك :

    2091 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا القاسم بن الفضل ، عن كثير أبي سهل ، قال : سألت الحسن عن "الحنيفية " ، قال : حج البيت .

    2092 - حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال : حدثنا عبد الله بن موسى [ ص: 105 ] قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية في قوله : "حنيفا " قال الحنيف : الحاج .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(188)
    الحلقة (202)
    صــ 106إلى صــ 112

    2093 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال : حدثنا أبي ، عن الفضيل ، عن عطية مثله . [ ص: 106 ]

    2094 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : الحنيف الحاج .

    2095 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن كثير بن زياد قال : سألت الحسن عن "الحنيفية " ، قال : هو حج هذا البيت .

    قال ابن التيمي : وأخبرني جويبر ، عن الضحاك بن مزاحم ، مثله .

    2096 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن مجاهد : "حنفاء " قال : حجاجا .

    2097 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "حنيفا " قال : حاجا .

    2098 - حدثت عن وكيع ، عن فضيل بن غزوان ، عن عبد الله بن القاسم قال : كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون "حنفاء " ، فأنزل الله تعالى ذكره ( حنفاء لله غير مشركين به ) . [ سورة الحج : 31 ]

    وقال آخرون : " الحنيف " ، المتبع ، كما وصفنا قبل ، من قول الذين قالوا : إن معناه : الاستقامة .

    ذكر من قال ذلك :

    2099 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 107 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "حنفاء " قال : متبعين .

    وقال آخرون : إنما سمي دين إبراهيم "الحنيفية " ، لأنه أول إمام سن للعباد الختان ، فاتبعه من بعده عليه . قالوا : فكل من اختتن على سبيل اختتان إبراهيم ، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام ، فهو "حنيف " على ملة إبراهيم .

    وقال آخرون : "بل ملة إبراهيم حنيفا " ، بل ملة إبراهيم مخلصا . "فالحنيف " على قولهم : المخلص دينه لله وحده .

    ذكر من قال ذلك :

    2100 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " واتبع ملة إبراهيم حنيفا " ، يقول : مخلصا .

    وقال آخرون : بل "الحنيفية " الإسلام . فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها ، فهو "حنيف " .

    قال أبو جعفر : "الحنف " عندي ، هو الاستقامة على دين إبراهيم ، واتباعه على ملته . . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت ، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء . وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله : ( ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) [ سورة آل عمران : 67 ]

    فكذلك القول في الختان . لأن "الحنيفية " لو كانت هي الختان ، لوجب أن يكون اليهود حنفاء . وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) [ سورة آل عمران : 67 ] . [ ص: 108 ]

    فقد صح إذا أن "الحنيفية " ليست الختان وحده ، ولا حج البيت وحده ، ولكنه هو ما وصفنا : من الاستقامة على ملة إبراهيم ، واتباعه عليها ، والائتمام به فيها .

    فإن قال قائل : أوما كان من كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، من الأنبياء وأتباعهم ، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامة إبراهيم وأتباعه ؟

    قيل : بلى .

    فإن قال : فكيف أضيف "الحنيفية " إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة ، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم ؟

    قيل : إن كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفا متبعا طاعة الله ، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة ، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم ، فجعله إماما فيما بينه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، تعبدا به أبدا إلى قيام الساعة . وجعل ما سن من ذلك علما مميزا بين مؤمني عباده وكفارهم ، والمطيع منهم له والعاصي . فسمي الحنيف من الناس "حنيفا " باتباعه ملته ، واستقامته على هديه ومنهاجه ، وسمي الضال من ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : "يهودي ، ونصراني ، ومجوسي " ، وغير ذلك من صنوف الملل

    وأما قوله : "وما كان من المشركين " ، يقول : إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام ، ولا كان من اليهود ولا من النصارى ، بل كان حنيفا مسلما .
    [ ص: 109 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 136 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : "قولوا " - أيها المؤمنون ، لهؤلاء اليهود والنصارى ، الذين قالوا لكم : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : "آمنا " ، أي صدقنا "بالله " .

    وقد دللنا فيما مضى أن معنى "الإيمان " ، التصديق ، بما أغنى عن إعادته .

    "وما أنزل إلينا " ، يقول أيضا : صدقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم ، إذ كانوا متبعيه ، ومأمورين منهيين به . فكان - وإن كان تنزيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمعنى التنزيل إليهم ، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفت

    ويعني بقوله : "وما أنزل إلى إبراهيم " ، صدقنا أيضا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم " وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " ، وهم الأنبياء من ولد يعقوب .

    وقوله : "وما أوتي موسى وعيسى " ، يعني : وآمنا أيضا بالتوراة التي آتاها الله موسى ، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى ، والكتب التي آتى النبيين كلهم ، وأقررنا وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور من عند الله ، وأن جميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى ، يصدق بعضهم بعضا ، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله ، والعمل بطاعته ، "لا نفرق بين أحد منهم " ، يقول : [ ص: 110 ] لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض ، ونتبرأ من بعض ونتولى بعضا ، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرت بغيرهما من الأنبياء ، وكما تبرأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرت بغيره من الأنبياء ، بل نشهد لجميعهم أنهم كانوا رسل الله وأنبياءه ، بعثوا بالحق والهدى .

    وأما قوله : "ونحن له مسلمون " ، فإنه يعني تعالى ذكره : ونحن له خاضعون بالطاعة ، مذعنون له بالعبودية .

    فذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود ، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به ، كما : -

    2101 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من يهود ، فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازر ، وخالد ، وزيد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى ، ولا نؤمن بمن آمن به . فأنزل الله فيهم : ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ) [ سورة المائدة : 59 ] [ ص: 111 ]

    2102 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه - إلا أنه قال : " ونافع بن أبي نافع " مكان " رافع بن أبي رافع " .

    وقال قتادة : أنزلت هذه الآية ، أمرا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رسله كلهم .

    2103 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم " إلى قوله : "ونحن له مسلمون " ، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم ، ولا يفرقوا بين أحد منهم .

    وأما " الأسباط " الذين ذكرهم ، فهم اثنا عشر رجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم . ولد كل رجل منهم أمة من الناس ، فسموا "أسباطا " . كما : -

    2104 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : الأسباط ، يوسف وإخوته ، بنو يعقوب . ولد اثني عشر رجلا فولد كل رجل منهم أمة من الناس ، فسموا : "أسباطا " .

    2105 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الأسباط ، فهم بنو يعقوب : يوسف ، وبنيامين ، وروبيل ، [ ص: 112 ] ويهوذا ، وشمعون ، ولاوي ، ودان ، وقهاث .

    2106 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : "الأسباط " يوسف وإخوته بنو يعقوب ، اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمة من الناس ، فسموا "الأسباط " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(189)
    الحلقة (203)
    صــ 113إلى صــ 119


    2107 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال نكح يعقوب بن إسحاق - وهو إسرائيل - ابنة خاله "ليا " ابنة " ليان بن توبيل بن إلياس " ، فولدت له " روبيل بن يعقوب " ، وكان أكبر ولده ، و"شمعون بن يعقوب " ، و"لاوي بن يعقوب " و"يهوذا بن يعقوب " و"ريالون بن يعقوب " ، و"يشجر بن يعقوب " ، و"دينة بنت يعقوب " ، ثم توفيت " ليا بنت ليان " . فخلف يعقوب على أختها " راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس " فولدت له " يوسف بن يعقوب " و"بنيامين " - وهو بالعربية أسد - وولد له من سريتين له : اسم إحداهما " زلفة " ، واسم الأخرى " بلهية " ، أربعة [ ص: 113 ] نفر : " دان بن يعقوب " ، و "نفثالي بن يعقوب " و "جاد بن يعقوب " ، و "إشرب بن يعقوب " فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا نشر الله منهم اثني عشر سبطا ، لا يحصي عددهم ولا يعلم أنسابهم إلا الله ، يقول الله تعالى : ( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ) . [ سورة الأعراف : 160 ]
    القول في تأويل قوله تعالى ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، فإن صدق اليهود والنصارى بالله ، وما أنزل إليكم ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، وأقروا بذلك ، مثل ما صدقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم ، فقد وفقوا ورشدوا ، ولزموا طريق الحق ، واهتدوا ، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم ، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك .

    فدل تعالى ذكره بهذه الآية ، على أنه لم يقبل من أحد عملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدها قبلها ، كما : -

    2108 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " ونحو هذا ، قال : أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملا إلا به ، ولا تحرم الجنة إلا على من تركه . [ ص: 114 ]

    وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءة ، جاءت مصاحف المسلمين بخلافها ، وأجمعت قرأة القرآن على تركها . وذلك ما : -

    2109 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : قال ابن عباس : لا تقولوا : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " - فإنه ليس لله مثل - ولكن قولوا : "فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا " - أو قال : "فإن آمنوا بما آمنتم به " .

    فكأن ابن عباس - في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه - يوجه تأويل قراءة من قرأ : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، فإن آمنوا بمثل الله ، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل . وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه ، شرك لا شك بالله العظيم . لأنه لا مثل لله تعالى ذكره ، فنؤمن أو نكفر به .

    ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وجه إليه تأويله . وإنما معناه ما وصفنا ، وهو : فإن صدقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به - من جميع ما عددنا عليكم من كتب الله وأنبيائه - فقد اهتدوا . فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء . كقول القائل : "مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به " ، يعني بذلك مر عمرو بأخيك مثل مروري به . والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين ، لا بين عمرو وبين المتكلم . فكذلك قوله : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين ، لا بين المؤمن به .
    [ ص: 115 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وإن تولوا فإنما هم في شقاق )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإن تولوا " ، وإن تولى - هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه : "كونوا هودا أو نصارى " - فأعرضوا ، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيها المؤمنون بالله ، وبما جاءت به الأنبياء ، وابتعثت به الرسل ، وفرقوا بين رسل الله وبين الله ورسله ، فصدقوا ببعض وكفروا ببعض فاعلموا ، أيها المؤمنون ، أنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله ولكم ، كما : -

    2110 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : "وإنما هم في شقاق " ، أي : في فراق

    2111 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "فإنما هم في شقاق " ، يعني فراق .

    2112 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وإن تولوا فإنما هم في شقاق " قال : الشقاق : الفراق والمحاربة . إذا شاق فقد حارب ، وإذا حارب فقد شاق ، وهما واحد في كلام العرب ، وقرأ : (ومن يشاقق الرسول ) [ سورة النساء : 115 ] .

    قال أبو جعفر : وأصل "الشقاق " عندنا ، والله أعلم ، مأخوذ من قول القائل : "شق عليه هذا الأمر " ، إذا كربه وآذاه . ثم قيل : "شاق فلان فلانا " ، بمعنى : نال [ ص: 116 ] كل واحد منهما من صاحبه ما كربه وآذاه ، وأثقلته مساءته . ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وإن خفتم شقاق بينهما ) [ سورة النساء : 35 ] بمعنى : فراق بينهما .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ( 137 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فسيكفيكهم الله " ، فسيكفيك الله يا محمد ، هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، من اليهود والنصارى ، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله ، وبما أنزل إليك ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم ، وفرقوا بين الله ورسله - إما بقتل السيف ، وإما بجلاء عن جوارك ، وغير ذلك من العقوبات ؛ فإن الله هو "السميع " لما يقولون لك بألسنتهم ، ويبدون لك بأفواههم ، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضالة - "العليم " بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء .

    ففعل الله بهم ذلك عاجلا وأنجز وعده ، فكفى نبيه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إياه عليهم ، حتى قتل بعضهم ، وأجلى بعضا ، وأذل بعضا وأخزاه بالجزية والصغار .
    [ ص: 117 ] القول في تأويل قوله تعالى ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ( 138 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ب "الصبغة" : صبغة الإسلام . وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصر أطفالهم ، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس ، بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام ، وأنه صبغة لهم في النصرانية .

    فقال الله تعالى ذكره - إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : قل لهم يا محمد : أيها اليهود والنصارى ، بل اتبعوا ملة إبراهيم ، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ ، فإنها هي الحنيفية المسلمة ، ودعوا الشرك بالله ، والضلال عن محجة هداه .

    ونصب "الصبغة " من قرأها نصبا على الرد على "الملة " . وكذلك رفع "الصبغة " من رفع "الملة " ، على ردها عليها .

    وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه . وذلك على الابتداء ، بمعنى : هي صبغة الله .

    وقد يجوز نصبها على غير وجه الرد على "الملة " ، ولكن على قوله : "قولوا آمنا بالله " إلى قوله "ونحن له مسلمون " ، "صبغة الله " ، بمعنى : آمنا هذا الإيمان ، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغة الله .

    وبمثل الذي قلنا في تأويل "الصبغة " قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    2113 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : [ ص: 118 ] "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " إن اليهود تصبغ أبناءها يهود ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وأن صبغة الله الإسلام ، فلا صبغة أحسن من الإسلام ، ولا أطهر ، وهو دين الله بعث به نوحا والأنبياء بعده .

    2114 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال عطاء : "صبغة الله " صبغت اليهود أبناءهم خالفوا الفطرة .



    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "صبغة الله " . فقال بعضهم : دين الله .

    ذكر من قال ذلك :

    2115 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "صبغة الله " قال : دين الله .

    2116 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : "صبغة الله " قال : دين الله ، " ومن أحسن من الله صبغة " ، ومن أحسن من الله دينا .

    2117 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    2118 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .

    2119 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد مثله .

    2120 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    2121 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية قوله : "صبغة الله " قال : دين الله . [ ص: 119 ]

    2122 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " ، يقول : دين الله ، ومن أحسن من الله دينا .

    2123 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "صبغة الله " قال : دين الله .

    2124 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : "صبغة الله " قال : دين الله .

    2125 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : سألت ابن زيد عن قول الله : "صبغة الله " ، فذكر مثله .

    وقال أخرون : "صبغة الله " فطرة الله .

    ذكر من قال ذلك :

    2126 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "صبغة الله " قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها .

    2127 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا محمد بن حرب قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن مجاهد : "ومن أحسن من الله صبغة " قال : الصبغة ، الفطرة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(190)
    الحلقة (204)
    صــ 120إلى صــ 126



    2128 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : "صبغة الله " ، الإسلام ، فطرة الله التي فطر الناس عليها . قال ابن جريج : قال لي عبد الله بن كثير : "صبغة الله " قال : دين الله ، ومن أحسن من الله دينا . قال : هي فطرة الله . [ ص: 120 ]

    ومن قال هذا القول ، فوجه "الصبغة " إلى الفطرة ، فمعناه : بل نتبع فطرة الله وملته التي خلق عليها خلقه ، وذلك الدين القيم . من قول الله تعالى ذكره : ( فاطر السماوات والأرض ) [ سورة الأنعام : 14 ] . بمعنى خالق السماوات والأرض .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ونحن له عابدون ( 138 ) )

    قال أبو جعفر : وقوله تعالى ذكره : "ونحن له عابدون " ، أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود والنصارى ، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه : "كونوا هودا أو نصارى " . فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، صبغة الله ، ونحن له عابدون . يعني : ملة الخاضعين لله المستكينين له ، في اتباعنا ملة إبراهيم ، ودينونتنا له بذلك ، غير مستكبرين في اتباع أمره ، والإقرار برسالته رسله ، كما استكبرت اليهود والنصارى ، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارا وبغيا وحسدا .
    القول في تأويل قوله تعالى ( قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ( 139 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "قل أتحاجوننا في الله " ، قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى ، الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا [ ص: 121 ] أو نصارى تهتدوا " ، وزعموا أن دينهم خير من دينكم ، وكتابهم خير من كتابكم ، لأنه كان قبل كتابكم ، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم : "أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم " ، بيده الخيرات ، وإليه الثواب والعقاب ، والجزاء على الأعمال - الحسنات منها والسيئات ، فتزعمون أنكم بالله أولى منا ، من أجل أن نبيكم قبل نبينا ، وكتابكم قبل كتابنا ، وربكم وربنا واحد ، وأن لكل فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها ، يجازى [ عليها ] فيثاب أو يعاقب ، - لا على الأنساب وقدم الدين والكتاب .

    ويعني بقوله : "قل أتحاجوننا " ، قل أتخاصموننا وتجادلوننا ؟ كما -

    2129 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "قل أتحاجوننا في الله " ، قل : أتخاصموننا ؟

    2130 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "قل أتحاجوننا " ، أتخاصموننا ؟

    2131 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "أتحاجوننا " ، أتجادلوننا ؟

    فأما قوله : "ونحن له مخلصون " ، فإنه يعني : ونحن لله مخلصو العبادة والطاعة ، لا نشرك به شيئا ، ولا نعبد غيره أحدا ، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثان ، وأصحاب العجل معه العجل .

    وهذا من الله تعالى ذكره توبيخ لليهود ، واحتجاج لأهل الإيمان ، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : قولوا - أيها المؤمنون ، لليهود [ ص: 122 ] والنصارى الذين قالوا لكم : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : "أتحاجوننا في الله " ؟ يعني بقوله : "في الله " ، في دين الله الذي أمرنا أن ندينه به ، وربنا وربكم واحد عدل لا يجور ، وإنما يجازي العباد على ما اكتسبوا . وتزعمون أنكم أولى بالله منا ، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم ، ونحن مخلصون له العبادة ، لم نشرك به شيئا ، وقد أشركتم في عبادتكم إياه ، فعبد بعضكم العجل ، وبعضكم المسيح ، فأنى تكونون خيرا منا ، وأولى بالله منا ؟
    القول في تأويل قوله تعالى ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله )

    قال أبو جعفر : في قراءة ذلك وجهان . أحدهما : "أم تقولون " ب "التاء " . فمن قرأ كذلك ، فتأويله : قل يا محمد - للقائلين لك من اليهود والنصارى : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : أتجادلوننا في الله ، أم تقولون إن إبراهيم ؟ فيكون ذلك معطوفا على قوله : "أتحاجوننا في الله " .

    والوجه الآخر منهما : "أم يقولون " ب "الياء " . ومن قرأ ذلك كذلك وجه قوله : "أم يقولون " إلى أنه استفهام مستأنف ، كقوله : ( أم يقولون افتراه ) [ سورة السجدة : 3 ] ، وكما يقال : "إنها لإبل أم شاء " . وإنما جعله استفهاما مستأنفا ، لمجيء خبر مستأنف ، كما يقال : "أتقوم أم يقوم أخوك ؟ " فيصير قوله : "أم يقوم أخوك " خبرا مستأنفا لجملة ليست من الأول واستفهاما [ ص: 123 ] مبتدأ . ولو كان نسقا على الاستفهام الأول ، لكان خبرا عن الأول ، فقيل : "أتقوم أم تقعد ؟ "

    وقد زعم بعض أهل العربية أن ذلك ، إذا قرئ كذلك ب "الياء " ، فإن كان الذي بعد "أم " جملة تامة ، فهو عطف على الاستفهام الأول . لأن معنى الكلام : قيل : أي هذين الأمرين كائن ؟ هذا أم هذا ؟

    قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك : "أم تقولون " "بالتاء " دون "الياء " عطفا على قوله : "قل أتحاجوننا " ، بمعنى : أي هذين الأمرين تفعلون ؟ أتجادلوننا في دين الله ، فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا - وأمرنا وأمركم ما وصفنا ، على ما قد بيناه آنفا - أم تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ومن سمى الله ، كانوا هودا أو نصارى على ملتكم ، فيصح للناس بهتكم وكذبكم ، لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه . وغير جائزة قراءة ذلك ب "الياء " ، لشذوذها عن قراءة القراء .

    وهذه الآية أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى ، الذين ذكر الله قصصهم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء اليهود والنصارى - : أتحاجوننا في الله ، وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا ، وأنكم على هدى ونحن على ضلالة ، ببرهان من الله تعالى ذكره ، فتدعوننا إلى دينكم ؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه ، أم تقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى على دينكم ؟ فهاتوا - على دعواكم ما ادعيتم من ذلك - برهانا فنصدقكم ، فإن الله قد جعلهم أئمة يقتدى بهم . [ ص: 124 ]

    ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد - إن ادعوا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى : أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان ، أم الله ؟
    القول في تأويل قوله تعالى ( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله )

    قال أبو جعفر : يعني : فإن زعمت يا محمد اليهود والنصارى - الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى " ، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ، فمن أظلم منهم ؟ يقول : وأي امرئ أظلم منهم ؟ وقد كتموا شهادة عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا مسلمين ، فكتموا ذلك ، ونحلوهم اليهودية والنصرانية .

    واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :

    2132 - فحدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال : في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما ، إنهم كانوا يهود أو نصارى . فيقول الله : لا تكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم . وقد علم أنهم كاذبون .

    2133 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما : إنهم كانوا يهود أو نصارى . فقال الله لهم : لا تكتموا مني الشهادة فيهم ، إن كانت عندكم فيهم . وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين . [ ص: 125 ]

    2134 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني إسحاق ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن أنه تلا هذه الآية : "أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل " إلى قوله : "قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، قال الحسن : والله لقد كان عند القوم من الله شهادة أن أنبياءه برآء من اليهودية والنصرانية ، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام ، فبم استحلوها ؟

    2135 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، أهل الكتاب ، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل : أنهم لم يكونوا يهود ولا نصارى ، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان .

    وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارى ، إن ادعوا أن إبراهيم ومن سمي معه في هذه الآية ، كانوا هودا أو نصارى ، تبين لأهل الشرك الذين هم نصراءهم ، كذبهم وادعاءهم على أنبياء الله الباطل لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم ، وإن هم نفوا عنهم اليهودية والنصرانية ، قيل لهم : فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين ، فإنا وأنتم مقرون جميعا بأنهم كانوا على حق ، ونحن مختلفون فيما خالف الدين الذي كانوا عليه .

    وقال آخرون : بل عنى تعالى ذكره بقوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، اليهود في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم . [ ص: 126 ]

    ذكر من قال ذلك :

    2136 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى " ، أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، واتخذوا اليهودية والنصرانية ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

    2137 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال : الشهادة ، النبي صلى الله عليه وسلم ، مكتوب عندهم ، وهو الذي كتموا .

    2138 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحو حديث بشر بن معاذ ، عن يزيد .

    2139 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال : هم يهود ، يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم ، فيكتمون الصفة .

    قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك ، لأن قوله تعالى ذكره : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، في إثر قصة من سمى الله من أنبيائه ، وأمام قصته لهم . فأولى بالذي هو بين ذلك أن يكون من قصصهم دون غيره .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(191)
    الحلقة (205)
    صــ 127إلى صــ 133


    فإن قال قائل : وأية شهادة عند اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ؟ [ ص: 127 ] قيل : الشهادة التي عندهم من الله في أمرهم ، ما أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل ، وأمرهم فيها بالاستنان بسنتهم واتباع ملتهم ، وأنهم كانوا حنفاء مسلمين . وهي الشهادة التي عندهم من الله التي كتموها ، حين دعاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا له : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ سورة البقرة : 111 ] ، وقالوا له ولأصحابه : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات ، في تكذيبهم ، وكتمانهم الحق ، وافترائهم على أنبياء الله الباطل والزور .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وما الله بغافل عما تعملون ( 140 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وقل - لهؤلاء اليهود والنصارى ، الذين يحاجونك يا محمد - : "وما الله بغافل عما تعملون " ، من كتمانكم الحق فيما ألزمكم في كتابه بيانه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط في أمر الإسلام ، وأنهم كانوا مسلمين ، وأن الحنيفية المسلمة دين الله الذي على جميع الخلق الدينونة به ، دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل - ولا هو ساه عن عقابكم على فعلكم ذلك ، بل هو محص عليكم حتى يجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهل في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . فجازاهم عاجلا في الدنيا ، بقتل بعضهم ، وإجلائه عن وطنه وداره ، وهو مجازيهم في الآخرة العذاب المهين .
    [ ص: 128 ] القول في تأويل قوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ( 141 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "تلك أمة " ، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط . كما : -

    2140 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله تعالى : "تلك أمة قد خلت " ، يعني : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط .

    2141 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .

    قال أبو جعفر : وقد بينا فيما مضى أن "الأمة " : الجماعة .

    فمعنى الآية إذا : قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك في الله من اليهود والنصارى ، إن كتموا ما عندهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سمينا معه ، وأنهم كانوا مسلمين ، وزعموا أنهم كانوا هودا أو نصارى ، فكذبوا : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أمة قد خلت - أي مضت لسبيلها - فصارت إلى ربها ، وخلت بأعمالها وآمالها ، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها ، وعليها ما اكتسبت من شر ، لا ينفعها غير صالح أعمالها ، ولا يضرها إلا سيئها . فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك ، فإنكم ، إن كان هؤلاء - وهم الذين [ ص: 129 ] بهم تفتخرون ، وتزعمون أن بهم ترجون النجاة من عذاب ربكم ، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا من صالح الأعمال ، ولا يضرهم غير سيئها ، فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال ، ولا يضركم غير سيئها . فاحذروا على أنفسكم ، وبادروا خروجها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفرية على الله وعلى أنبيائه ورسله ، ودعوا الاتكال على فضائل الآباء والأجداد ، فإنما لكم ما كسبتم ، وعليكم ما اكتسبتم ، ولا تسألون عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعملون من الأعمال ، لأن كل نفس قدمت على الله يوم القيامة ، فإنما تسأل عما كسبت وأسلفت ، دون ما أسلف غيرها .
    القول في تأويل قوله تعالى ( سيقول السفهاء من الناس )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "سيقول السفهاء " ، سيقول الجهال "من الناس " ، وهم اليهود وأهل النفاق .

    وإنما سماهم الله عز وجل "سفهاء " ، لأنهم سفهوا الحق . فتجاهلت أحبار اليهود ، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم ، عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، وتحير المنافقون فتبلدوا .

    وبما قلنا في " السفهاء " - أنهم هم اليهود وأهل النفاق - قال أهل التأويل .

    ذكر من قال : هم اليهود : [ ص: 130 ]

    2142 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم " قال : اليهود تقوله ، حين ترك بيت المقدس .

    2143 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    2144 - حدثت عن أحمد بن يونس ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "سيقول السفهاء من الناس " قال : اليهود .

    2145 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "سيقول السفهاء من الناس " قال : اليهود .

    2146 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : "سيقول السفهاء من الناس " قال : أهل الكتاب

    2147 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : اليهود .

    وقال آخرون : "السفهاء " ، المنافقون .

    ذكر من قال ذلك .

    2148 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نزلت "سيقول السفهاء من الناس " ، في المنافقين .
    [ ص: 131 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ما ولاهم " : أي شيء صرفهم عن قبلتهم ؟ وهو من قول القائل : "ولاني فلان دبره " ، إذا حول وجهه عنه واستدبره ، فكذلك قوله : "ما ولاهم " ؟ أي شيء حول وجوههم ؟

    وأما قوله : "عن قبلتهم " ، فإن قبلة كل شيء : ما قابل وجهه . وإنما هي "فعلة " بمنزلة "الجلسة والقعدة " ، من قول القائل . "قابلت فلانا " ، إذا صرت قبالته أقابله ، فهو لي "قبلة " وأنا له "قبلة " ، إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه .

    قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا - إذ كان ذلك معناه - : سيقول السفهاء من الناس لكم ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، - إذا حولتم وجوهكم عن قبلة اليهود التي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شطر المسجد الحرام - : أي شيء حول وجوه هؤلاء ، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم ؟

    فأعلم الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ، ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام ، وعلمه ما ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب . فقال له : إذا قالوا ذلك لك يا محمد ، فقل لهم : "لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . [ ص: 132 ]

    وكان سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس مدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ثم أراد الله تعالى صرف قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام . فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره ، وما الذي ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب .

    ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، وما كان سبب صلاته نحوه ؟ وما الذي دعا اليهود والمنافقين إلى قيل ما قالوا عند تحويل الله قبلة المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة ؟

    اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة . فقال بعضهم بما : -

    2149 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة - قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد قال : أخبرني سعيد بن جبير ، أو عكرمة - شك محمد - ، عن ابن عباس قال : لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة - وصرفت في رجب ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ونافع بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد ، وقال أبو كريب : ورافع بن أبي رافع - والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن [ أبي ] الحقيق ، وكنانة بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه . فأنزل [ ص: 133 ] الله فيهم : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله : "إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " .

    2150 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال البراء : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، وكان يشتهي أن يصرف إلى الكعبة . قال : فبينا نحن نصلي ذات يوم ، فمر بنا مار فقال : ألا هل علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرف إلى الكعبة ؟ قال : وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا ، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب : فقيل له : فيه أبو إسحاق ؟ فسكت .

    2151 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(192)
    الحلقة (206)
    صــ 134إلى صــ 140


    2152 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو [ ص: 134 ] بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا - شك سفيان - ثم صرفنا إلى الكعبة .

    2153 - حدثني المثنى قال : حدثنا النفيلي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة ، نزل على أجداده - أو أخواله - من الأنصار ، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قوم . فخرج رجل ممن صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم ركوع فقال : أشهد لقد صليت مع رسول الله قبل مكة . فداروا كما هم قبل البيت . وكان يعجبه أن يحول قبل البيت . وكان اليهود أعجبهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك .

    2154 - حدثني عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا ، ثم وجه نحو الكعبة قبل بدر بشهرين . [ ص: 135 ]

    وقال آخرون بما : -

    2155 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال : حدثنا أنس بن مالك قال : صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر . فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس ، انصرف بوجهه إلى الكعبة ، فقال السفهاء : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " . [ ص: 136 ]

    وقال آخرون بما : -

    2156 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا . [ ص: 137 ]

    2157 - حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن الأنصار صلت القبلة الأولى ، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى القبلة الأولى بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا ، أو كما قال . وكلا الحديثين يحدث قتادة عن سعيد .

    ذكر السبب الذي كان من أجله يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ، قبل أن يفرض عليه التوجه شطر الكعبة .

    اختلف أهل العلم في ذلك .

    فقال بعضهم : كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 138 ]

    2158 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن عكرمة - وعن يزيد النحوي ، عن عكرمة - والحسن البصري قالا : أول ما نسخ من القرآن القبلة . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بيت المقدس ، وهي قبلة اليهود ، فاستقبلها النبي صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهرا ، ليؤمنوا به ويتبعوه ، ويدعو بذلك الأميين من العرب . فقال الله عز وجل : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 115 ] .

    2159 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ، يعنون بيت المقدس . قال الربيع . قال أبو العالية : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم خير أن يوجه وجهه حيث شاء ، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتاب ، فكانت قبلته ستة عشر شهرا ، وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء ، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام .

    وقال آخرون : بل كان فعل ذلك - من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - بفرض الله عز ذكره عليهم .

    ذكر من قال ذلك :

    2160 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان [ أكثر ] أهلها اليهود ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام ، وكان يدعو وينظر إلى السماء . فأنزل الله عز وجل : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) [ ص: 139 ] [ سورة البقرة : 144 ] الآية . فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ فأنزل الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب " .

    2161 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ، ثم صرف إلى بيت المقدس . فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه ثلاث حجج : وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة .

    ذكر السبب الذي من أجله قال من قال "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟

    اختلف أهل التأويل في ذلك . فروي عن ابن عباس فيه قولان . أحدهما ما : -

    2162 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال ذلك قوم من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك! يريدون فتنته عن دينه .

    والقول الآخر : ما ذكرت من حديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل .

    2163 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ قال : صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا ، نحو بيت [ ص: 140 ] المقدس ، ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام . فقال في ذلك قائلون من الناس : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده! فقال الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " .

    وقيل : قائل هذه المقالة المنافقون . وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام .

    ذكر من قال ذلك :

    2164 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها فكانوا أصنافا . فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ فأنزل الله في المنافقين : "سيقول السفهاء من الناس " ، الآية كلها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(193)
    الحلقة (207)
    صــ 141إلى صــ 147


    القول في تأويل قوله تعالى ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 142 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك عز وجل : قل يا محمد - لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك : ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس ، التي كنتم على التوجه إليها ، إلى التوجه إلى شطر المسجد الحرام ؟ - : لله ملك المشرق والمغرب يعني بذلك : ملك ما بين قطري مشرق الشمس ، وقطري مغربها ، وما بينهما من العالم يهدي من يشاء من خلقه ، فيسدده ، ويوفقه إلى الطريق القويم ، وهو "الصراط [ ص: 141 ] المستقيم " - ويعني بذلك : إلى قبلة إبراهيم الذي جعله للناس إماما - ويخذل من يشاء منهم ، فيضله عن سبيل الحق .

    وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : "يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، قل يا محمد : إن الله هدانا بالتوجه شطر المسجد الحرام لقبلة إبراهيم ، وأضلكم - أيها اليهود والمنافقون وجماعة الشرك بالله - فخذلكم عما هدانا له من ذلك .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " ، كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه السلام وبما جاءكم به من عند الله ، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته ، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل ، كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان ، بأن جعلناكم أمة وسطا .

    وقد بينا أن "الأمة " ، هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم .

    وأما "الوسط " ، فإنه في كلام العرب الخيار . يقال منه : "فلان وسط الحسب في قومه " ، أي متوسط الحسب ، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه ، و "هو وسط في قومه ، وواسط " ،

    كما يقال : "شاة يابسة اللبن ويبسة اللبن " ، وكما قال جل ثناؤه : [ ص: 142 ] ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) [ سورة طه : 77 ] ، وقال زهير بن أبي سلمى في "الوسط " :


    هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم


    قال أبو جعفر : وأنا أرى أن "الوسط " في هذا الموضع ، هو "الوسط " الذي بمعنى : الجزء الذي هو بين الطرفين ، مثل "وسط الدار " محرك الوسط مثقله ، غير جائز في "سينه " التخفيف .

    وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم "وسط " ، لتوسطهم في الدين ، فلا هم أهل غلو فيه ، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه ، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربهم ، وكفروا به ؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه . فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها .

    وأما التأويل ، فإنه جاء بأن "الوسط " العدل . وذلك معنى الخيار ، لأن الخيار من الناس عدولهم .

    ذكر من قال : "الوسط " العدل .

    2165 - حدثنا سلم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله [ ص: 143 ] عليه وسلم في قوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا .

    2166 - حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا : حدثنا جعفر بن عون ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

    2167 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : "عدولا .

    2168 - حدثني علي بن عيسى قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن حفص بن غياث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا . [ ص: 144 ]

    2169 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا .

    2170 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا .

    2171 - حدثنا المثنى قال : حدثنا حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    2172 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "أمة وسطا " قال : عدولا .

    2173 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "أمة وسطا " قال : عدولا .

    2174 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "أمة وسطا " قال : عدولا . [ ص: 145 ]

    2175 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " ، يقول : جعلكم أمة عدولا .

    2176 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد قال : أخبرنا ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة ، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : الوسط العدل .

    2177 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير : "أمة وسطا " ، قالوا : عدولا . قال مجاهد : عدلا .

    2178 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )

    قال أبو جعفر : "والشهداء " جمع "شهيد " .

    فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولا [ لتكونوا ] [ ص: 146 ] شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ ، أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم ، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي ، كما : -

    2179 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول : نعم . فيقال لقومه : هل بلغكم ؟ فيقول : ما جاءنا من نذير! فيقال له : من يعلم ذاك ؟ فيقول : محمد وأمته . فهو قوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " .

    2180 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا جعفر بن عون قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه - إلا أنه زاد فيه : فيدعون ويشهدون أنه قد بلغ .

    2181 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " - بأن الرسل قد بلغوا - "ويكون الرسول عليكم [ ص: 147 ] شهيدا " . بما عملتم ، أو فعلتم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(194)
    الحلقة (208)
    صــ 148إلى صــ 154




    2182 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس : أن مكاتبا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني وأمتي لعلى كوم يوم القيامة ، مشرفين على الخلائق . ما أحد من الأمم إلا ود أنه منها أيتها الأمة ، وما من نبي كذبه قومه إلا نحن شهداءه يوم القيامة أنه قد بلغ رسالات ربه ونصح لهم . قال : "ويكون الرسول عليكم شهيدا " . [ ص: 148 ]

    2183 - حدثني عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي الفضل ، عن أبي هريرة قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فلما صلى على الميت قال الناس : نعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت! ثم خرجت معه في جنازة أخرى ، فلما صلوا على الميت قال الناس : بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت . فقام إليه أبي بن كعب فقال : يا رسول الله ، ما قولك وجبت ؟ قال : " قول الله عز وجل : "لتكونوا شهداء على الناس " .

    2184 - حدثني علي بن سهل الرملي قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : [ ص: 149 ] حدثني أبو عمرو ، عن يحيى قال : حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال : حدثني أبو هريرة قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة ، فقال الناس : نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصام عن أبيه .

    2185 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا زيد بن حباب قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر عليه بجنازة ، فأثني عليها بثناء حسن ، فقال : وجبت! ومر عليه بجنازة أخرى ، فأثني عليها دون ذلك ، فقال : وجبت! قالوا : يا رسول الله ، ما وجبت ؟ قال : الملائكة شهداء الله في السماء ، وأنتم شهداء الله في الأرض ، فما شهدتم عليه وجب . ثم قرأ : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) الآية [ سورة التوبة : 105 ] . [ ص: 150 ]

    2186 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "لتكونوا شهداء على الناس " ، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس .

    2187 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    2188 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا [ أبو ] عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح قال : يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ناديه ليس معه أحد ، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم .

    2189 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله .

    2190 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني ابن أبي نجيح ، عن أبيه قال : يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فذكر مثله ، ولم يذكر عبيد بن عمير ، مثله .

    2191 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن [ ص: 151 ] قتادة " لتكونوا شهداء على الناس " ، أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها ، " ويكون الرسول عليكم شهيدا " ، على أنه قد بلغ رسالات ربه إلى أمته .

    2192 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن قوم نوح يقولون يوم القيامة : لم يبلغنا نوح ! فيدعى نوح عليه السلام فيسأل : هل بلغتهم ؟ فيقول : نعم . فيقال : من شهودك ؟ فيقول : أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته . فتدعون فتسألون فتقولون : نعم ، قد بلغهم . فتقول قوم نوح عليه السلام : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا ؟ قالوا : قد جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم ، وأنزل عليه أنه قد بلغكم ، فصدقناه . قال : فيصدق نوح عليه السلام ويكذبونهم . قال : " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا

    2193 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "لتكونوا شهداء على الناس " ، لتكون هذه الأمة شهداء على الناس أن الرسل قد بلغتهم ، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدا ، أن قد بلغ ما أرسل به .

    2194 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن الأمم يقولون يوم القيامة : والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلهم! لما يرون الله أعطاهم .

    2195 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، قال أخبرني ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جمع الله عباده يوم القيامة ، كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي ؟ هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم رب ، قد بلغته جبريل عليهما السلام ، فيدعى جبريل ، فيقال له : [ ص: 152 ] هل بلغك إسرافيل عهدي! فيقول : نعم رب ، قد بلغني . فيخلى عن إسرافيل ، ويقال لجبريل : هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل . فتدعى الرسل فيقال لهم : هل بلغكم جبريل عهدي ؟ فيقولون : نعم ربنا . فيخلى عن جبريل ، ثم يقال للرسل : ما فعلتم بعهدي ؟ فيقولون : بلغنا أممنا . فتدعى الأمم ، فيقال : هل بلغكم الرسل عهدي ؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق ، فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك . فيقول : من يشهد لكم ؟ فيقولون : أمة محمد . فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه ؟ فيقولون : نعم ربنا شهدنا أن قد بلغوا . فتقول تلك الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا ؟ فيقول لهم الرب تبارك وتعالى : كيف تشهدون على من لم تدركوا ؟ فيقولون : ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك ، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا ، فشهدنا بما عهدت إلينا . فيقول الرب : صدقوا . فذلك قوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " - والوسط العدل - "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه . [ ص: 153 ]

    2196 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : "لتكونوا شهداء على الناس " ، يعني بذلك . الذين استقاموا على الهدى ، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة ، لتكذيبهم رسل الله وكفرهم بآيات الله . [ ص: 154 ]

    2197 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "لتكونوا شهداء على الناس " ، يقول : لتكونوا شهداء على الأمم الذين خلوا من قبلكم ، بما جاءتهم رسلهم ، وبما كذبوهم ، فقالوا يوم القيامة وعجبوا : إن أمة لم يكونوا في زماننا ، فآمنوا بما جاءت به رسلنا ، وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب . قوله : "ويكون الرسول عليكم شهيدا " ، يعني بإيمانهم به ، وبما أنزل عليه .

    2198 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "لتكونوا شهداء على الناس " ، يعني : أنهم شهدوا على القرون بما سمى الله عز وجل لهم .

    2199 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما قوله : "لتكونوا شهداء على الناس " ؟ قال : أمة محمد ، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمان والهدى ، ممن كان قبلنا . قالها عبد الله بن كثير . قال : وقال عطاء : شهداء على من ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين ، جاء ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، "ويكون الرسول عليكم شهيدا " على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم ، وصدقوا به .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(195)
    الحلقة (209)
    صــ 155إلى صــ 161


    2200 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته ، وهم شهداء على الأمم ، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل : ( ويوم يقوم الأشهاد ) [ سورة غافر : 51 ] الأربعة : الملائكة الذين يحصون أعمالنا ، لنا وعلينا ، وقرأ قوله : ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ سورة ق : 21 ] ، وقال : هذا يوم القيامة . قال : والنبيون شهداء على أممهم . قال : وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الأمم . قال : [ ص: 155 ] [ والأطوار ] الأجساد والجلود .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، ولم نجعل صرفك عن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفناك عنها ، إلا لنعلم من يتبعك ممن لا يتبعك ، ممن ينقلب على عقبيه .

    والقبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، التي عناها الله بقوله : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، هي القبلة التي كنت تتوجه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة ، كما : -

    2201 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، يعني : بيت المقدس .

    2202 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 156 ] ابن جريج قال : قلت لعطاء : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " . قال : القبلة بيت المقدس .

    قال أبو جعفر : وإنما ترك ذكر "الصرف عنها " ، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه ، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نظائره .

    وإنما قلنا : ذلك معناه ، لأن محنة الله أصحاب رسوله في القبلة ، إنما كانت - فيما تظاهرت به الأخبار - عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة ، حتى ارتد - فيما ذكر - رجال ممن كان قد أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون ، في من مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت! وقال المشركون : تحير محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في دينه! فكان ذلك فتنة للناس ، وتمحيصا للمؤمنين .

    فلذلك قال جل ثناؤه : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ، أي : وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها ، وتحويلك إلى غيرها ، كما قال جل ثناؤه : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) [ سورة الإسراء : 60 ] بمعنى : وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التي أريناك . وذلك أنه لو لم يكن أخبر القوم بما كان أري ، لم يكن فيه على أحد فتنة ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس ، لو لم يكن صرف عنها إلى الكعبة ، لم يكن فيها على أحد فتنة ولا محنة .

    ذكر الأخبار التي رويت في ذلك بمعنى ما قلنا : [ ص: 157 ]

    2203 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قال : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص . صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام ، فقال في ذلك قائلون من الناس : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده! قال الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . فقال أناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " . وقد يبتلي الله العباد بما شاء من أمره ، الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، وكل ذلك مقبول ، إذ كان في [ ذلك ] إيمان بالله ، وإخلاص له ، وتسليم لقضائه .

    2204 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فلما وجه قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ! هل تقبل الله منا ومنهم ، أو لا ؟ وقالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال [ ص: 158 ] المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها .

    2205 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : "إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ؟ فقال عطاء : يبتليهم ، ليعلم من يسلم لأمره . قال ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن أسلم رجعوا فقالوا : مرة هاهنا ومرة هاهنا!

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : أوما كان الله عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، إلا بعد اتباع المتبع ، وانقلاب المنقلب على عقبيه ، حتى قال : ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه ؟

    قيل : إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قبل كونها ، وليس قوله : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " يخبر [ عن ] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجوده .

    فإن قال : فما معنى ذلك ؟

    قيل له : أما معناه عندنا ، فإنه : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، فقال جل ثناؤه : "إلا لنعلم " ، ومعناه : ليعلم رسولي وأوليائي . إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 159 ] وأولياءه من حزبه ، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس ، وما فعل بهم إليه ، نحو قولهم : "فتح عمر بن الخطاب سواد العراق ، وجبى خراجها " ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سبب كان منه في ذلك . وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي ، واستقرضته فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني .

    2206 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خالد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني! يقول : وادهراه! وأنا الدهر ، أنا الدهر .

    2207 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .

    فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .

    وقد حكي عن العرب سماعا : "أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير [ ص: 160 ] ظهري " ، بمعنى : جوع أهله وعياله وعري ظهورهم ،

    فكذلك قوله : "إلا لنعلم " ، بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    2208 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ، قال ابن عباس : لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة .

    وقال بعضهم : إنما قيل ذلك ، من أجل أن العرب تضع "العلم " مكان "الرؤية " ، و"الرؤية " مكان "العلم " ، كما قال جل ذكره : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) [ سورة الفيل : 1 ] ، فزعم أن معنى "ألم تر " ، ألم تعلم ؟ وزعم أن معنى قوله : "إلا لنعلم " ، بمعنى : إلا لنرى من يتبع الرسول . وزعم أن قول القائل : "رأيت ، وعلمت ، وشهدت " ، حروف تتعاقب ، فيوضع بعضها موضع بعض ، كما قال جرير بن عطية


    كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا وعمرو بن عمرو إذ دعا يال دارم


    بمعنى : كأنك لم تعلم لقيطا ، لأن بين هلك لقيط وحاجب وزمان جرير ، ما لا يخفى بعده من المدة . وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية ، وجرير كان بعد برهة مضت من مجيء الإسلام . [ ص: 161 ]

    قال أبو جعفر : وهذا تأويل بعيد ، من أجل أن "الرؤية " ، وإن استعملت في موضع "العلم " ، من أجل أنه مستحيل أن يرى أحد شيئا ، فلا توجب رؤيته إياه علما بأنه قد رآه ، إذا كان صحيح الفطرة . فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية ، أن يضاف إليه إثباته إياه علما ، وصح أن يدل بذكر "الرؤية " على معنى "العلم " من أجل ذلك . فليس ذلك ، وإن كان [ جائزا ] في الرؤية - لما وصفنا - بجائز في العلم ، فيدل بذكر الخبر عن "العلم " على "الرؤية " . لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها ، ويستحيل أن يرى شيئا إلا علمه ، كما قد قدمنا البيان [ عنه ] . مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال : "علمت كذا " ، بمعنى رأيته . وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكلام ، إلى ما كان موجودا مثله في كلام العرب ، دون ما لم يكن موجودا في كلامها . فموجود في كلامها "رأيت " بمعنى : علمت ، وغير موجود في كلامها "علمت " بمعنى : رأيت ، فيجوز توجيه : "إلا لنعلم " إلى معنى : إلا لنرى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(196)
    الحلقة (210)
    صــ 162إلى صــ 168




    وقال آخرون : إنما قيل : "إلا لنعلم " ، من أجل أن المنافقين واليهود وأهل الكفر بالله ، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يعلم الشيء قبل كونه . وقالوا - إذ قيل لهم : إن قوما من أهل القبلة سيرتدون على أعقابهم ، إذا حولت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة - : ذلك غير كائن! أو قالوا : ذلك باطل! فلما فعل الله ذلك ، وحول القبلة ، وكفر من أجل ذلك من كفر ، قال الله جل [ ص: 162 ] ثناؤه : ما فعلت إلا لنعلم ما علمه غيركم - أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه - : أني عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد .

    فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله : "إلا لنعلم " : إلا لنبين لكم أنا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وهذا وإن كان وجها له مخرج ، فبعيد من المفهوم .

    وقال آخرون : إنما قيل : "إلا لنعلم " ، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال ، على وجه الترفق بعباده ، واستمالتهم إلى طاعته ، كما قال جل ثناؤه : ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سورة سبأ : 24 ] ، وقد علم أنه على هدى ، وأنهم على ضلال مبين ، ولكنه رفق بهم في الخطاب ، فلم يقل : أنا على هدى ، وأنتم على ضلال . فكذلك قوله : "إلا لنعلم " ، معناه عندهم : إلا لتعلموا أنتم ، إذ كنتم جهالا به قبل أن يكون . فأضاف العلم إلى نفسه ، رفقا بخطابهم .

    وقد بينا القول الذي هو أولى في ذلك بالحق .



    وأما قوله : "من يتبع الرسول " . فإنه يعني : الذي يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به ، فيوجه نحو الوجه الذي يتوجه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 163 ]

    وأما قوله : "ممن ينقلب على عقبيه " ، فإنه يعني : من الذي يرتد عن دينه ، فينافق ، أو يكفر ، أو يخالف محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ممن يظهر اتباعه ، كما : -

    2209 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " قال : من إذا دخلته شبهة رجع عن الله ، وانقلب كافرا على عقبيه .

    وأصل "المرتد على عقبيه " ، هو : "المنقلب على عقبيه " ، الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه ، منصرفا عنه . فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه ، من دين أو خير . ومن ذلك قوله : ( فارتدا على آثارهما قصصا ) [ سورة الكهف : 64 ] ، بمعنى : رجعا في الطريق الذي كانا سلكاه ، وإنما قيل للمرتد : "مرتد " ، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها .

    وإنما قيل : "رجع على عقبيه " ، لرجوعه دبرا على عقبه ، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مرجعه عنه . فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره ، إذا انصرف عما كان فيه ، إلى الذي كان له تاركا فأخذه . فقيل : "ارتد فلان على عقبه ، وانقلب على عقبيه " .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت "كبيرة إلا على الذين هدى الله " . [ ص: 164 ]

    فقال بعضهم : عنى جل ثناؤه ب "الكبيرة " ، التولية من بيت المقدس شطر المسجد الحرام والتحويل . وإنما أنث "الكبيرة " ، لتأنيث "التولية " .

    ذكر من قال ذلك :

    2210 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال الله : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، يعني : تحويلها .

    2211 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : ما أمروا به من التحول إلى الكعبة من بيت المقدس .

    2212 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    2213 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : كبيرة ، حين حولت القبلة إلى المسجد الحرام ، فكانت كبيرة إلا على الذين هدى الله .

    وقال آخرون : بل "الكبيرة " ، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل .

    ذكر من قال ذلك .

    2214 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : "وإن كانت لكبيرة " ، أي : قبلة بيت المقدس - "إلا على الذين هدى الله " . [ ص: 165 ]

    وقال بعضهم : بل "الكبيرة " هي الصلاة التي كانوا يصلونها إلى القبلة الأولى .

    ذكر من قال ذلك .

    2215 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : صلاتكم حتى يهديكم الله عز وجل القبلة .

    2216 - وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وإن كانت لكبيرة " قال : صلاتك هاهنا - يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا - وانحرافك هاهنا

    وقال بعض نحويي البصرة : أنثت "الكبيرة " لتأنيث القبلة ، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله : "وإن كانت لكبيرة " .

    وقال بعض نحويي الكوفة : بل أنثت "الكبيرة " لتأنيث التولية والتحويلة

    فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة : وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنت عليها وتوليتناك عنها ، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وإن كانت تحويلتنا إياك عنها وتوليتناك "لكبيرة إلا على الذين هدى الله " .

    وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب . لأن القوم إنما كبر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى ، لا عين القبلة ، ولا الصلاة . لأن القبلة الأولى والصلاة ، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم . إلا أن يوجه موجه تأنيث "الكبيرة " إلى "القبلة " ، ويقول : اجتزئ بذكر "القبلة " من ذكر "التولية والتحويلة " ، لدلالة الكلام على معنى ذلك ، كما قد وصفنا لك في نظائره . فيكون ذلك وجها صحيحا ، ومذهبا مفهوما . [ ص: 166 ]

    ومعنى قوله : "كبيرة " ، عظيمة ، . كما : -

    2217 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : كبيرة في صدور الناس ، فيما يدخل الشيطان به ابن آدم . قال : ما لهم صلوا إلى هاهنا ستة عشر شهرا ثم انحرفوا! فكبر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين ، فقالوا : أي شيء هذا الدين ؟ وأما الذين آمنوا ، فثبت الله جل ثناؤه ذلك في قلوبهم ، وقرأ قول الله "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : صلاتكم حتى يهديكم إلى القبلة .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : "إلا على الذين هدى الله " ، فإنه يعني به :

    وإن كان تقليبتناك عن القبلة التي كنت عليها ، لعظيمة إلا على من وفقه الله جل ثناؤه ، فهداه لتصديقك والإيمان بك وبذلك ، واتباعك فيه ، وفي ما أنزل الله تعالى ذكره عليك ، كما : -

    2218 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، يقول : إلا على الخاشعين ، يعني المصدقين بما أنزل الله تبارك وتعالى . [ ص: 167 ]
    القول في تأويل قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم )

    قال أبو جعفر : قيل : عنى ب "الإيمان " ، في هذا الموضع : الصلاة .

    ذكر الأخبار التي رويت بذلك ، وذكر قول من قاله :

    2219 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وعبيد الله - وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبيد الله بن موسى - جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ، وهم يصلون نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

    2220 - حدثني إسماعيل بن موسى قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قول الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .

    2221 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء نحوه .

    2222 - وحدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحراني قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : مات على القبلة قبل أن تحول إلى البيت [ ص: 168 ] رجال وقتلوا ، فلم ندر ما نقول فيهم . فأنزل الله تعالى ذكره : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

    2223 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : قال أناس من الناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

    2224 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثني عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، قال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ! هل تقبل الله منا ومنهم أم لا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم قبل بيت المقدس : يقول : إن تلك طاعة وهذه طاعة .

    2225 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال ناس - لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " الآية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد






    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(197)
    الحلقة (211)
    صــ 169إلى صــ 175





    2226 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم قال : لما صرف رسول الله صلى الله [ ص: 169 ] عليه وسلم إلى الكعبة ، قال المسلمون : هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ! فنزلت : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

    2227 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، يقول : صلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة . فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم أن لا تقبل صلاتهم .

    2228 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، صلاتكم .

    2229 - حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال : أخبرنا المؤمل قال : حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .

    قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على أن "الإيمان " التصديق . وأن التصديق قد يكون بالقول وحده ، وبالفعل وحده ، وبهما جميعا .

    فمعنى قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " - على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة - : وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه السلام ، بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره ، لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي ، واتباعا لأمري ، وطاعة منكم لي .

    قال : "وإضاعته إياه " جل ثناؤه - لو أضاعه - : ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه ، فيذهب ضياعا ، ويصير باطلا كهيئة "إضاعة الرجل ماله " ، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل . [ ص: 170 ]

    فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملا وهو له طاعة ، فلا يثيبه عليه ، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله .

    فإن قال قائل : وكيف قال الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين ، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية ؟

    قيل : إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك ، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة ، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم . لأن من شأن العرب - إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب - أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب . فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر : "فعلنا بكما وصنعنا بكما " ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ، ولا يستجيزون أن يقولوا : "فعلنا بهما " ، وهم يخاطبون أحدهما ، فيردوا المخاطب إلى عداد الغيب .

    القول في تأويل قوله تعالى ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 143 ) )

    قال أبو جعفر : ويعني بقوله جل ثناؤه : "إن الله بالناس لرءوف رحيم " : أن الله بجميع عباده ذو رأفة . [ ص: 171 ]

    و"الرأفة " ، أعلى معاني الرحمة ، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ، ولبعضهم في الآخرة .

    وأما " الرحيم " : فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، على ما قد بينا فيما مضى قبل .

    وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عز وجل أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها ، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم - أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس - ، فإني لهم على طاعتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي ؛ ولا تحزنوا عليهم ، فإني غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة ، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم ، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله .

    وفي "الرءوف " لغات . إحداها "رؤف " على مثال "فعل " ، كما قال الوليد بن عقبة :


    وشر الطالبين - ولا تكنه - بقاتل عمه ، الرؤف الرحيم
    [ ص: 172 ]

    وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة . والأخرى "رءوف " على مثال "فعول" ، وهي قراءة عامة قراء المدينة ، و "رئف " ، وهي لغة غطفان ، على مثال "فعل " مثل حذر . و"رأف " على مثال "فعل" بجزم العين ، وهي لغة لبني أسد .

    والقراءة على أحد الوجهين الأولين .
    القول في تأويل قوله تعالى ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء .

    ويعني : ب"التقلب " ، التحول والتصرف .

    ويعني بقوله : "في السماء" ، نحو السماء وقبلها .



    وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة ، كما : -

    2230 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء " قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء ، يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة ، حتى صرفه الله إليها .

    2231 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، يهوى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام ، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها . [ ص: 173 ]

    2232 - حدثنا المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، يقول : نظرك في السماء . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس ، وكان يهوى قبلة البيت الحرام ، فولاه الله قبلة كان يهواها .

    2233 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان الناس يصلون قبل بيت المقدس ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر ، وكان يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي قبل الكعبة ، فأنزل الله جل ثناؤه : "قد نرى تقلب وجهك في السماء " الآية .

    ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة .

    قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس ، من أجل أن اليهود قالوا : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا!

    ذكر من قال ذلك :

    2234 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه ، ويستفرض للقبلة ، فنزلت : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" ، - وانقطع قول يهود : [ ص: 174 ] يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر ، . فجعل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال .

    2235 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته - يعني ابن زيد - يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "فأينما تولوا فثم وجه الله " . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله - لبيت المقدس - ولو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله جل ثناؤه : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" الآية .

    وقال آخرون : بل كان يهوى ذلك ، من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام .

    ذكر من قال ذلك :

    2236 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية . [ ص: 175 ]

    فأما قوله : "فلنولينك قبلة ترضاها " ، فإنه يعني : فلنصرفنك عن بيت المقدس ، إلى قبلة "ترضاها " : تهواها وتحبها .

    وأما قوله : "فول وجهك " ، يعني : اصرف وجهك وحوله .

    وقوله : "شطر المسجد الحرام " ، يعني : ب"الشطر" ، النحو والقصد والتلقاء ، كما قال الهذلي :


    إن العسير بها داء مخامرها فشطرها نظر العينين محسور


    يعني بقوله : "شطرها" ، نحوها . وكما قال ابن أحمر :


    تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة ، قد كارب العقد من إيفادها الحقبا


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(198)
    الحلقة (212)
    صــ 176إلى صــ 183



    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    2237 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية : "شطر المسجد الحرام" ، يعني : تلقاءه .

    2238 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "شطر المسجد الحرام" : نحوه .

    2239 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، نحوه .

    2240 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    2241 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، أي تلقاء المسجد الحرام .

    2242 - حدثنا الحسين بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال : نحو المسجد الحرام . [ ص: 177 ]

    2243 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، أي تلقاءه .

    2244 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قال : "شطره" ، نحوه .

    2245 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "فولوا وجوهكم شطره" قال : قبله .

    2246 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "شطره" ، ناحيته ، جانبه . قال : وجوانبه : "شطوره " .



    ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام .

    فقال بعضهم : القبلة التي حول إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعناها الله تعالى ذكره بقوله فلنولينك قبلة ترضاها ، حيال ميزاب الكعبة .

    ذكر من قال ذلك :

    2247 - حدثني عبد الله بن أبي زياد قال : حدثنا عثمان قال : أخبرنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، عن عبد الله بن عمرو : "فلنولينك قبلة ترضاها" ، حيال ميزاب الكعبة . [ ص: 178 ]

    2248 - وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب ، وتلا هذه الآية : "فلنولينك قبلة ترضاها" قال : هذه القبلة ، هي هذه القبلة .

    2249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم - بإسناده عن عبد الله بن عمرو ، نحوه - إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذه القبلة التي قال الله لنبيه : "فلنولينك قبلة ترضاها " .

    وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 179 ]

    2250 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : البيت كله قبلة ، وهذه قبلة البيت - يعني التي فيها الباب .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : "فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، فالمولي وجهه شطر المسجد الحرام ، هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه ، كما أن على من ائتم بإمام فإنما عليه الائتمام به ، وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه ، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر ، عن يمينه أو عن يساره ، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به ، مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة ، وإن لم يكن يحاذيها كل مصل ومتوجه إليها ببدنه ، غير أنه متوجه إليها . فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها ، فهو مستقبلها ، بعد ما بينه وبينها ، أو قرب ، من عن يمينها أو عن يسارها ، بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه ، كما :

    2251 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عميرة بن زياد الكندي ، عن علي : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " قال : شطره ، قبله . [ ص: 180 ]

    قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه ، كما : -

    2252 - حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصباح قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب ، فقال : هذه القبلة ، هذه القبلة .

    2253 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : حدثني أسامة بن زيد قال : خرج النبي صلى [ ص: 181 ] الله عليه وسلم من البيت ، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة ، فقال : هذه القبلة مرتين .

    2254 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .

    2255 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله . قال : قال : لم يكن ينهى عن دخوله ، ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصل حتى خرج ، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين ، وقال : هذه القبلة . [ ص: 182 ]

    قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة ، وأن قبلة البيت بابه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحولوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه .

    و"الهاء" التي في "شطره" ، عائدة إلى المسجد الحرام .

    فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين ، فرض التوجه نحو المسجد الحرام [ ص: 183 ] في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى .

    وأدخلت "الفاء " في قوله : "فولوا" ، جوابا للجزاء . وذلك أن قوله : "حيثما كنتم " جزاء ، ومعناه : حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم )

    يعني بقوله جل ثناؤه : "وإن الذين أوتوا الكتاب" أحبار اليهود وعلماء النصارى .

    وقد قيل : إنما عنى بذلك اليهود خاصة .

    ذكر من قال ذلك :

    2256 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وإن الذين أوتوا الكتاب " ، أنزل ذلك في اليهود .

    وقوله : "ليعلمون أنه الحق من ربهم" ، يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب ، يعلمون أن التوجه نحو المسجد ، الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده .

    ويعني بقوله : "من ربهم" أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره ، وهو الحق من عند ربهم ، فرضه عليهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(199)
    الحلقة (213)
    صــ 184إلى صــ 191





    [ ص: 184 ] القول في تأويل قوله تعالى "وما الله بغافل عما يعملون" ( 144 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون ، في اتباعكم أمره ، وانتهائكم إلى طاعته ، فيما ألزمكم من فرائضه ، وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام ، ولا هو ساه عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدخره لكم عنده ، حتى يجازيكم به أحسن جزاء ، ويثيبكم عليه أفضل ثواب .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولإن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك تبارك اسمه : ولإن جئت ، يا محمد ، اليهود والنصارى ، بكل برهان وحجة - وهي "الآية" - بأن الحق هو ما جئتهم به ، من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة ، إلى قبلة المسجد الحرام ، ما صدقوا به ، ولا اتبعوا - مع قيام الحجة عليهم بذلك - قبلتك التي حولتك إليها ، وهي التوجه شطر المسجد الحرام .

    قال أبو جعفر : وأجيبت "لإن" بالماضي من الفعل ، وحكمها الجواب بالمستقبل تشبيها لها ب "لو" ، فأجيبت بما تجاب به "لو" ، لتقارب معنييهما . [ ص: 185 ] وقد مضى البيان عن نظير ذلك فيما مضى . وأجيبت "لو" بجواب الأيمان . ولا تفعل العرب ذلك إلا في الجزاء خاصة ، لأن الجزاء مشابه اليمين : في أن كل واحد منهما لا يتم أوله إلا بآخره ، ولا يتم وحده ، ولا يصح إلا بما يؤكد به بعده . فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء ، صارت "اللام" الأولى بمنزلة يمين ، والثانية بمنزلة جواب لها ، كما قيل : "لعمرك لتقومن" إذ كثرت "اللام" من "لعمرك" ، حتى صارت كحرف من حروفه ، فأجيب بما يجاب به الأيمان ، إذ كانت "اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان ، دون سائر الحروف ، غير التي هي أحق به الأيمان . فتدل على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة ، ولا تدل سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان . فشبهت "اللام " التي في جواب الأيمان بالأيمان ، لما وصفنا ، فأجيبت بأجوبتها .

    فكان معنى الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا - : لو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك .

    وأما قوله : "وما أنت بتابع قبلتهم " ، يقول : وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم . وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها ، وأن النصارى تستقبل المشرق ، فأنى يكون لك السبيل إلى إتباع قبلتهم . مع اختلاف وجوهها ؟ يقول : فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها ، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها .

    وأما قوله : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ، فإنه يعني بقوله : وما اليهود بتابعة [ ص: 186 ] قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها ، كما : -

    2257 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ، يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . قال : وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة ، قالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم : "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " إلى قوله : "ليكتمون الحق وهم يعلمون " .

    2258 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" ، مثل ذلك .



    وإنما يعني جل ثناؤه بذلك : أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة ، مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم . فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، فإنه أمر لا سبيل إليه . لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم . من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى ، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود ، فدع ما لا سبيل إليه ، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه ، من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة ، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولإن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ( 145 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولإن اتبعت أهواءهم " ، ولإن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، فاتبعت قبلتهم - يعني : فرجعت إلى قبلتهم . [ ص: 187 ]

    ويعني بقوله : "من بعد ما جاءك من العلم" ، من بعد ما وصل إليك من العلم ، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل ، وعلى عناد منهم للحق ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجه نحوها ، "إنك إذا لمن الظالمين " ، يعني : إنك إذا فعلت ذلك ، من عبادي الظلمة أنفسهم ، المخالفين أمري ، والتاركين طاعتي ، وأحدهم وفي عدادهم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه " ، أحبار اليهود وعلماء النصارى : يقول : يعرف هؤلاء الأحبار من اليهود ، والعلماء من النصارى : أن البيت الحرام قبلتهم وقبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك ، كما يعرفون أبناءهم ، كما : -

    2259 - حدثنا بشر بن معاذ : قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يقول : يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة .

    2260 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قول الله عز وجل الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعني : القبلة . [ ص: 188 ]

    2261 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، عرفوا أن قبلة البيت الحرام هي قبلتهم التي أمروا بها ، كما عرفوا أبناءهم .

    2262 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعني بذلك : الكعبة البيت الحرام .

    2263 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء ، كما يعرفون أبناءهم .

    2264 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " قال : اليهود يعرفون أنها هي القبلة ، مكة .

    2265 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج في قوله : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " قال : القبلة والبيت .
    القول في تأويل قوله تعالى ( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ( 146 ) )

    قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : وإن طائفة من الذين أوتوا الكتاب - وهم اليهود والنصارى . وكان مجاهد يقول : هم أهل الكتاب .

    2266 - حدثني محمد بن عمرو - يعني الباهلي - قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بذلك . [ ص: 189 ]

    2267 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج مثله .

    2268 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح مثله .

    قال أبو جعفر : وقوله : "ليكتمون الحق " ، - وذلك الحق هو القبلة التي وجه الله عز وجل إليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم . يقول : فول وجهك شطر المسجد الحرام التي كانت الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وسلم يتوجهون إليها . فكتمتها اليهود والنصارى ، فتوجه بعضهم شرقا ، وبعضهم نحو بيت المقدس ، ورفضوا ما أمرهم الله به ، وكتموا مع ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . فأطلع الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته على خيانتهم الله تبارك وتعالى ، وخيانتهم عباده ، وكتمانهم ذلك ، وأخبر أنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيره ، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافه ، فقال : "ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، أن ليس لهم كتمانه ، فيتعمدون معصية الله تبارك وتعالى ، كما : -

    2269 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : "وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، فكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم .

    2270 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ليكتمون الحق وهم يعلمون" قال : يكتمون محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . [ ص: 190 ]

    2271 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، يعني القبلة .
    القول في تأويل قوله تعالى ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( 147 ) )

    قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : اعلم يا محمد أن الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى .

    وهذا خبر من الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام : عن أن القبلة التي وجهه نحوها ، هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومن بعده من أنبياء الله عز وجل .

    يقول تعالى ذكره له : فاعمل بالحق الذي أتاك من ربك يا محمد ، ولا تكونن من الممترين .

    يعني بقوله : "فلا تكونن من الممترين " ، أي : فلا تكونن من الشاكين في أن القبلة التي وجهتك نحوها قبلة إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره ، كما :

    2272 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام : "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" ، يقول : لا تكن في شك ، فإنها قبلتك وقبلة الأنبياء من قبلك . [ ص: 191 ]

    2273 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "فلا تكونن من الممترين" قال : من الشاكين قال : لا تشكن في ذلك .

    قال أبو جعفر : وإنما "الممتري " "مفتعل " ، من "المرية" ، و"المرية " هي الشك ، ومنه قول الأعشى :


    تدر على أسوق الممترين ركضا إذا ما السراب ارجحن


    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : أوكان النبي صلى الله عليه وسلم شاكا في أن الحق من ربه ، أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره ، حتى نهي عن الشك في ذلك ، فقيل له : "فلا تكونن من الممترين" ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(200)
    الحلقة (214)
    صــ 192إلى صــ 199





    قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به ، والمراد به غيره ، كما قال جل ثناؤه : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ سورة الأحزاب : 1 ] ، ثم قال : ( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ ص: 192 ] [ سورة الأحزاب : 2 ] . فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له ، والمراد به أصحابه المؤمنون به . وقد بينا نظير ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولكل وجهة هو موليها )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : "ولكل" ، ولكل أهل ملة ، فحذف "أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه ، كما : -

    2274 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "ولكل وجهة" قال : لكل صاحب ملة .

    2275 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "ولكل وجهة هو موليها" ، فلليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمة للقبلة التي هي قبلته .

    2276 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : "ولكل وجهة هو موليها " قال : لكل أهل دين ، اليهود والنصارى . قال ابن جريج ، قال مجاهد : لكل صاحب ملة .

    2277 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولكل وجهة هو موليها " قال : لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، ولكم قبلة . يريد المسلمين .

    2278 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 193 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولكل وجهة هو موليها " ، يعني بذلك أهل الأديان : يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجه الله تبارك وتعالى اسمه حيث توجه المؤمنون . وذلك أن الله تعالى ذكره قال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 115 ]

    2279 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ولكل وجهة هو موليها " ، يقول : لكل قوم قبلة قد ولوها .

    فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية : ولكل أهل ملة قبلة هو مستقبلها ، ومول وجهه إليها .

    وقال آخرون بما : -

    2280 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "ولكل وجهة هو موليها" قال : هي صلاتهم إلى بيت المقدس ، وصلاتهم إلى الكعبة .

    وتأويل قائل هذه المقالة : ولكل ناحية وجهك إليها ربك يا محمد قبلة ، الله عز وجل موليها عباده .

    وأما "الوجهة" ، فإنها مصدر مثل "القعدة " و"المشية " ، من "التوجه " . وتأويلها : متوجه ، يتوجه إليه بوجهه في صلاته ، كما : -

    2281 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وجهة " قبلة . [ ص: 194 ]

    2282 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    2283 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "ولكل وجهة " قال : وجه .

    2284 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وجهة " ، قبلة .

    2285 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : قلت لمنصور : " ولكل وجهة هو موليها " قال : نحن نقرأها ( ولكل جعلنا قبلة يرضونها ) .

    وأما قوله : "هو موليها" ، فإنه يعني هو مول وجهه إليها ومستقبلها ، كما : -

    2286 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "هو موليها " قال : هو مستقبلها .

    2287 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    ومعنى "التولية" هاهنا الإقبال ، كما يقول القائل لغيره : "انصرف إلي" بمعنى : أقبل إلي . "والانصراف" المستعمل ، إنما هو الانصراف عن الشيء ، ثم يقال : "انصرف إلى الشيء" ، بمعنى : أقبل إليه منصرفا عن غيره . وكذلك يقال : "وليت عنه " ، إذا أدبرت عنه . ثم يقال : "وليت إليه" ، بمعنى أقبلت إليه موليا عن غيره . [ ص: 195 ]

    والفعل - أعني "التولية" - في قوله : "هو موليها " لل "كل" . و"هو " التي مع "موليها" ، هو "الكل" ، وحدت للفظ "الكل" .

    فمعنى الكلام إذا : ولكل أهل ملة وجهة ، الكل منهم مولوها وجوههم .

    وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها : "هو مولاها " ، بمعنى أنه موجه نحوها . ويكون "الكل " حينئذ غير مسمى فاعله ، ولو سمي فاعله ، لكان الكلام : ولكل ذي ملة وجهة ، الله موليه إياها ، بمعنى : موجهه إليها .

    وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك : "ولكل وجهة" بترك التنوين والإضافة . وذلك لحن ، ولا تجوز القراءة به . لأن ذلك - إذا قرئ كذلك - كان الخبر غير تام ، وكان كلاما لا معنى له . وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه .

    والصواب عندنا من القراءة في ذلك : " ولكل وجهة هو موليها " ، بمعنى : ولكل وجهة وقبلة ، ذلك الكل مول وجهه نحوها . لإجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك ، وتصويبها إياها ، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره . وما جاء به النقل مستفيضا فحجة ، وما انفرد به من كان جائزا عليه السهو والغلط ، فغير جائز الاعتراض به على الحجة .
    [ ص: 196 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فاستبقوا الخيرات )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فاستبقوا" ، فبادروا وسارعوا ، من "الاستباق" ، وهو المبادرة والإسراع ، كما : -

    2288 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "فاستبقوا الخيرات " ، يقول : فسارعوا في الخيرات .

    وإنما يعني بقوله : "فاستبقوا الخيرات " ، أي : قد بينت لكم أيها المؤمنون الحق ، وهديتكم للقبلة التي ضلت عنها اليهود والنصارى وسائر أهل الملل غيركم ، فبادروا بالأعمال الصالحة ، شكرا لربكم ، وتزودوا في دنياكم لآخرتكم ، فإني قد بينت لكم سبل النجاة ، فلا عذر لكم في التفريط ، وحافظوا على قبلتكم ، فلا تضيعوها كما ضيعتها الأمم قبلكم ، فتضلوا كما ضلت ؛ كالذي : -

    2289 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "فاستبقوا الخيرات" ، يقول : لا تغلبن على قبلتكم .

    2290 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "فاستبقوا الخيرات " قال : الأعمال الصالحة . [ ص: 197 ]
    القول في تأويل قوله تعالى ( أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ( 148 ) )

    قال أبو جعفر : ومعنى قوله : "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " ، في أي مكان وبقعة تهلكون فيه ، يأت بكم الله جميعا يوم القيامة ، إن الله على كل شيء قدير ، كما : -

    2291 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا" ، يقول : أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة .

    2291 م - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " ، يعني : يوم القيامة .

    قال أبو جعفر : وإنما حض الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزود في الدنيا للآخرة ، فقال جل ثناؤه لهم : استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم ، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه ، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالف قبلتكم ودينكم وشريعتكم جميعا يوم القيامة ، من حيث كنتم من بقاع الأرض ، حتى يوفي المحسن منكم جزاءه بإحسانه ، والمسيء عقابه بإساءته ، أو يتفضل فيصفح .

    وأما قوله : "إن الله على كل شيء قدير" ، فإنه تعالى ذكره يعني : إن الله تعالى على جمعكم - بعد مماتكم - من قبوركم إليه ، من حيث كنتم وكانت قبوركم وعلى غير ذلك مما يشاء ، قدير . فبادروا خروج أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليوم بعثكم وحشركم .
    [ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ( 149 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "ومن حيث خرجت " ، ومن أي موضع خرجت إلى أي موضع وجهت ، فول يا محمد وجهك - يقول : حول وجهك . وقد دللنا على أن "التولية " في هذا الموضع شطر المسجد الحرام ، إنما هي : الإقبال بالوجه نحوه . وقد بينا معنى "الشطر" فيما مضى .

    وأما قوله : "وإنه للحق من ربك" ، فإنه يعني تعالى ذكره : وإن التوجه شطره للحق الذي لا شك فيه من عند ربك ، فحافظوا عليه ، وأطيعوا الله في توجهكم قبله .

    وأما قوله : "وما الله بغافل عما تعملون " ، فإنه يقول : فإن الله تعالى ذكره ليس بساه عن أعمالكم ، ولا بغافل عنها ، ولكنه محصيها لكم ، حتى يجازيكم بها يوم القيامة .
    [ ص: 199 ]

    القول في تأويل قوله تعالى ذكره ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام من أي مكان وبقعة شخصت فخرجت يا محمد ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وهو شطره .

    ويعني بقوله : "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم " ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله ، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه وقبله وقصده .
    القول في تأويل قوله تعالى ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني )

    قال أبو جعفر : فقال جماعة من أهل التأويل : عنى الله تعالى ب "الناس" في قوله : "لئلا يكون للناس" ، أهل الكتاب .

    ذكر من قال ذلك :

    2292 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة" ، يعني بذلك أهل الكتاب . قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(201)
    الحلقة (215)
    صــ 200إلى صــ 207





    2293 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 200 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

    فإن قال قائل : فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟

    قيل : قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك . قيل : إنهم كانوا يقولون : ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، على وجه الخصومة منهم لهم ، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل الغباء من المشركين .

    وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه ، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه ، إنما هي الخصومات والجدال . فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم ، وحسمه بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام . وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني ب "الناس " ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت .

    وأما قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، فإنهم مشركو العرب من قريش ، فيما تأوله أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    2294 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 201 ]

    2295 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هم المشركون من أهل مكة .

    2296 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "إلا الذين ظلموا منهم " ، يعني مشركي قريش .

    2297 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " قال : هم مشركو العرب .

    2298 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش .

    2299 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : هم مشركو قريش - قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء .

    فإن قال قائل : وأية حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة ؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين - فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه - حجة ؟

    قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه . وإنما "الحجة " في هذا الموضع ، الخصومة والجدال . ومعنى الكلام : لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطل غير مشركي قريش ، فإن لهم عليكم دعوى باطلا وخصومة بغير حق ، بقيلهم لكم : "رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى [ ص: 202 ] ديننا " . فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة ، هي "الحجة " التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره "الذين ظلموا " من قريش من سائر الناس غيرهم ، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة .

    وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    2300 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد صلى الله عليه وسلم . قال مجاهد : يقول : حجتهم ، قولهم : قد راجعت قبلتنا!

    2301 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال : قولهم : قد رجعت إلى قبلتنا!

    2302 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قالا : هم مشركو العرب ، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة : قد رجع إلى قبلتكم ، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل : "فلا تخشوهم واخشوني " .

    2303 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش . يقول : إنهم سيحتجون عليكم بذلك ، فكانت حجتهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله [ ص: 203 ] تعالى ذكره في ذلك كله .

    2304 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

    2305 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما يذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة ، بعد صلاته إلى بيت المقدس ، قال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه! فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني " .

    2306 - حدثنا القاسم قال : حدثني الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " قال : قالت قريش - لما رجع إلى الكعبة وأمر بها : - ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حجتهم ، وهم "الذين ظلموا" - قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء ، فقال مجاهد : حجتهم ، قولهم : رجعت إلى قبلتنا! [ ص: 204 ]

    فقد أبان تأويل من ذكرنا تأويله من أهل التأويل قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، عن صحة ما قلنا في تأويله ، وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف ، الذي ثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيا عما قبله . كما قول القائل "ما سار من الناس أحد إلا أخوك " ، إثبات للأخ من السير ما هو منفي عن كل أحد من الناس . فكذلك قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، نفى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطل عليه وعلى أصحابه ، بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش ، فإن لهم قبلهم خصومة ودعوى باطلا بأن يقولوا : إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا ، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل .

    وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل ، فبين خطأ قول من زعم أن معنى قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " : ولا الذين ظلموا منهم ، وأن "إلا " بمعنى "الواو " . لأن ذلك لو كان معناه ، لكان النفي الأول عن جميع الناس - أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحولهم نحو الكعبة بوجوههم - مبينا عن المعنى المراد ، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك : "إلا الذين ظلموا منهم " إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه أو يوصف به .

    هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت "إلا " إلى معنى "الواو " ، ومعنى [ ص: 205 ] العطف من كلام العرب . وذلك أنه غير موجودة "إلا " في شيء من كلامها بمعنى "الواو " ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها . كقول القائل : "سار القوم إلا عمرا إلا أخاك " ، بمعنى : إلا عمرا وأخاك ، فتكون "إلا " حينئذ مؤدية عما تؤدي عنه "الواو " ، لتعلق "إلا " الثانية ب "إلا " الأولى . ويجمع فيها أيضا بين "إلا " و"الواو " فيقال : "سار القوم إلا عمرا وإلا أخاك " ، فتحذف إحداهما ، فتنوب الأخرى عنها ، فيقال : "سار القوم إلا عمرا وأخاك - أو إلا عمرا إلا أخاك " ، لما وصفنا قبل .

    وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لمدع من الناس أن يدعي أن "إلا " في هذا الموضع بمعنى "الواو " التي تأتي بمعنى العطف .

    وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك : إلا الذين ظلموا منهم ، فإنهم لا حجة لهم ، فلا تخشوهم . كقول القائل في الكلام : "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [ لك ] المعتدي عليك " ، فإن ذلك لا يعتد بعداونه ولا بتركه الحمد ، لموضع العداوة . وكذلك الظالم لا حجة له ، وقد سمي ظالما لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادعى من التأويل في ذلك . وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها .

    وظاهر بطول قول من زعم : أن "الذين ظلموا " هاهنا ، ناس من العرب [ ص: 206 ] كانوا يهودا ونصارى ، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما سائر العرب ، فلم تكن لهم حجة ، وكانت حجة من يحتج منكسرة . لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته : "إن لك علي حجة ولكنها منكسرة ، وإنك لتحتج بلا حجة ، وحجتك ضعيفة " . ووجه معنى : "إلا الذين ظلموا منهم " إلى معنى : إلا الذين ظلموا منهم ، من أهل الكتاب ، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة .

    ووهي قول من قال : "إلا " في هذا الموضع بمعنى "لكن " .

    وضعف قول من زعم أنه ابتداء بمعنى : إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم .

    لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم : أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا ، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوة - وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة - وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا ، ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة .

    2307 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : قال الربيع : إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال : إن موسى عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس . فقال أبو العالية : كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام . قال : قال : فبيني وبينك مسجد صالح ، فإنه نحته من الجبل . قال أبو العالية : قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام . قال الربيع : وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذي القرنين ، وقبلته إلى الكعبة .

    وأما قوله : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يعني : فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون في أن محمدا صلى [ ص: 207 ] الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يقدروا لكم على ضر في دينكم أو صدكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق ، ولكن اخشوني ، فخافوا عقابي ، في خلافكم أمري إن خالفتموه .

    وذلك من الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين ، بالحض على لزوم قبلتهم والصلاة إليها ، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها . يقول جل ثناؤه : واخشوني أيها المؤمنون ، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام .

    وقد حكي عن السدي في ذلك ما : -

    2308 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يقول : لا تخشوا أن أردكم في دينهم


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(202)
    الحلقة (216)
    صــ 208إلى صــ 215




    القول في تأويل قوله تعالى ( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ( 150 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولأتم نعمتي عليكم " ، ومن حيث خرجت من البلاد والأرض ، وإلى أي بقعة شخصت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث كنت ، يا محمد والمؤمنون ، فولوا وجوهكم في صلاتكم شطره ، [ ص: 208 ] واتخذوه قبلة لكم ، كيلا يكون لأحد من الناس - سوى مشركي قريش - حجة ، ولأتم بذلك - من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام ، الذي جعلته إماما للناس - نعمتي ، فأكمل لكم به فضلي عليكم ، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيت بها نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم . وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه .

    وقوله : "ولعلكم تهتدون " ، يعني : وكي ترشدوا للصواب من القبلة . و "لعلكم " عطف على قوله : "ولأتم نعمتي عليكم " ، "ولأتم نعمتي عليكم " عطف على قوله : "لئلا يكون " .
    القول في تأويل قوله تعالى ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( 151 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "كما أرسلنا فيكم رسولا " ، ولأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية ، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام ، فأجعل لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها فقال : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 128 ] ، كما جعلت لكم دعوته التي دعاني بها ، ومسألته التي سألنيها فقال : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) [ ص: 209 ] [ سورة البقرة : 129 ] ، فابتعثت منكم رسولي الذي سألني إبراهيم خليلي وابنه إسماعيل ، أن أبعثه من ذريتهما .

    ف "كما " - إذ كان ذلك معنى الكلام - صلة لقول الله عز وجل : "ولأتم نعمتي عليكم " . ولا يكون قوله : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، متعلقا بقوله : "فاذكروني أذكركم " .

    وقد قال قوم : إن معنى ذلك : فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم . وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ، فأغرقوا النزع ، وبعدوا من الإصابة ، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف ، وسوى وجهه المفهوم .

    وذلك أن الجاري من الكلام على ألسن العرب ، المفهوم في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض : "كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن " - أن لا يشترطوا للآخر ، لأن "الكاف " في "كما " شرط معناه : افعل كما فعلت . ففي مجيء جواب : "اذكروني " بعده ، وهو قوله : "أذكركم " ، أوضح دليل على أن قوله : "كما أرسلنا " من صلة الفعل الذي قبله ، وأن قوله : "اذكروني أذكركم " خبر مبتدأ منقطع عن الأول ، وأنه من سبب قوله : "كما أرسلنا فيكم " بمعزل .

    وقد زعم بعض النحويين أن قوله : "فاذكروني " - إذا جعل قوله : "كما أرسلنا فيكم " جوابا له ، مع قوله : " أذكركم " - نظير الجزاء الذي يجاب بجوابين ، كقول القائل : إذا أتاك فلان فأته ترضه " ، فيصير قوله : "فأته " و "ترضه " جوابين لقوله : "إذا أتاك " ، وكقوله : "إن تأتني أحسن إليك أكرمك " . [ ص: 210 ]

    وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب ، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب . والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجه إليه من اللغات ، الأفصح الأعرف من كلام العرب ، دون الأنكر الأجهل من منطقها . هذا ، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل .

    ذكر من قال : إن قوله : "كما أرسلنا " ، جواب قوله : "فاذكروني " .

    2309 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى قال : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، كما فعلت فاذكروني .

    2310 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    قوله : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، فإنه يعني بذلك العرب ، قال لهم جل ثناؤه : الزموا أيها العرب طاعتي ، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها ، لتنقطع حجة اليهود عنكم ، فلا تكون لهم عليكم حجة ، ولأتم نعمتي عليكم ، وتهتدوا ، كما ابتدأتكم بنعمتي ، فأرسلت فيكم رسولا منكم . وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم : محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -

    2311 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .

    وأما قوله : "يتلو عليكم آياتنا " ، فإنه يعني آيات القرآن ، وبقوله : "ويزكيكم " ويطهركم من دنس الذنوب ، و "يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان ، يعني : أنه [ ص: 211 ] يعلمهم أحكامه . ويعني : ب "الحكمة " السنن والفقه في الدين . وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده .

    وأما قوله : "ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " ، فإنه يعني : ويعلمكم من أخبار الأنبياء ، وقصص الأمم الخالية ، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها ، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فاذكروني أذكركم )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفي ما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم ، كما : -

    2312 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير : "فاذكروني أذكركم " قال : اذكروني بطاعتي ، أذكركم بمغفرتي .

    وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح .

    ذكر من قال ذلك :

    1313 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " ، إن الله ذاكر من ذكره ، وزائد من شكره ، ومعذب من كفره . [ ص: 212 ]

    2314 - حدثني موسى قال : حدثني عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "اذكروني أذكركم " قال : ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله . لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب .
    القول في تأويل قوله تعالى ( واشكروا لي ولا تكفرون ( 152 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام ، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي ، "ولا تكفرون " ، يقول : ولا تجحدوا إحساني إليكم ، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم ، ولكن اشكروا لي عليها ، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم ، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي ، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته ، ومن كفرني حرمته وسلبته ما أعطيته .

    والعرب تقول : "نصحت لك وشكرت لك " ، ولا تكاد تقول : "نصحتك " ، وربما قالت : "شكرتك ونصحتك " ، من ذلك قول الشاعر :


    هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل


    وقال النابغة في "نصحتك " :


    نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
    [ ص: 213 ]

    وقد دللنا على أن معنى "الشكر " ، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة ، وأن معنى "الكفر" تغطية الشيء ، فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .
    القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( 153 ) )

    قال أبو جعفر : وهذه الآية حض من الله تعالى ذكره على طاعته ، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " على القيام بطاعتي ، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي ، والانصراف عما أنسخه منها إلى الذي أحدثه لكم من فرائضي ، وأنقلكم إليه من أحكامي ، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه ، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه - وإن لحقكم في ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل ، أو مشقة على أبدانكم في قيامكم به ، أو نقص في أموالكم - وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي ، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومشقته عليكم ، واحتمال عنائه وثقله ، ثم بالفزع منكم فيما ينوبكم من مفظعات الأمور إلى الصلاة لي ، فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي ، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبلي ، وتدركون حاجاتكم عندي ، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصي ، أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم ، حتى يظفروا بما طلبوا وأملوا قبلي . [ ص: 214 ]

    وقد بينت معنى "الصبر " و "الصلاة " فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادته ، كما :

    2315 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : "واستعينوا بالصبر والصلاة " ، يقول : استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله ، واعلموا أنهما من طاعة الله .

    2316 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " ، اعلموا أنهما عون على طاعة الله .

    وأما قوله : "إن الله مع الصابرين " ، فإن تأويله : فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله ، كقول القائل : "افعل يا فلان كذا وأنا معك " ، يعني : إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ( 154 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوكم ، وترك معاصي ، وأداء سائر فرائضي عليكم ، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : هو ميت ، فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه ، فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيما ، فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي ، أحياء عندي ، في حياة ونعيم ، وعيش هني ، ورزق سني ، فرحين [ ص: 215 ] بما آتيتهم من فضلي ، وحبوتهم به من كرامتي ، كما : -

    2317 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "بل أحياء " عند ربهم ، يرزقون من ثمر الجنة ، ويجدون ريحها ، وليسوا فيها .

    2318 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    2319 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " ، كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم سدرة المنتهى ، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير : من قتل في سبيل الله منهم صار حيا مرزوقا ، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا .

    2320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " قال : أرواح الشهداء في صور طير بيض .

    2321 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، في صور طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها ، يأكلون من حيث شاءوا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(203)
    الحلقة (217)
    صــ 216إلى صــ 223



    2322 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عثمان بن غياث . قال : سمعت عكرمة يقول في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " قال : أرواح الشهداء في طير خضر في الجنة . [ ص: 216 ]

    قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره ؟ وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم ، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى الجنة يشمون منها روحها ، ويستعجلون الله قيام الساعة ، ليصيروا إلى مساكنهم منها ، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها ، وعن الكافرين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار ينظرون إليها ، ويصيبهم من نتنها ومكروهها ، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يقمعهم فيها ، ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة ، حذارا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها ، مع أشباه ذلك من الأخبار . وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما الذي خص به القتيل في سبيل الله ، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة ، وسائر الكفار والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك ، وأما المؤمنون فمنعمون بالروح والريحان ونسيم الجنان ؟

    قيل : إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك ، وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره ، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم ، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر ، من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه . فذلك هو الفضيلة التي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم ، والفائدة التي أفاد المؤمنين بالخبر عنهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) [ سورة آل عمران : 169 - 170 ] ، وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    2323 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة [ ص: 217 ] بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشهداء على بارق ، نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء - وقال عبدة : في روضة خضراء - يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا .

    2324 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي ، عن ابن بشار السلمي - أو أبي بشار ، شك أبو جعفر - قال : أرواح الشهداء في [ ص: 218 ] قباب بيض من قباب الجنة ، في كل قبة زوجتان ، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثور وحوت ، فأما الثور ، ففيه طعم كل ثمرة في الجنة ، وأما الحوت ففيه طعم كل شراب في الجنة .

    قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غير موجود في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، وإنما فيه الخبر عن حالهم ، أموات هم أم أحياء .

    قيل : إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم ، إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة ، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما خص به الشهداء في قوله : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ سورة آل عمران : 169 ] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك ، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، نهي خلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى ترك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم .

    وأما قوله : "ولكن لا تشعرون" ، فإنه يعني به : ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به .

    وإنما رفع قوله : "أموات " بإضمار مكني عن أسماء "من يقتل في سبيل الله " ، ومعنى ذلك : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات . ولا يجوز النصب في [ ص: 219 ] "الأموات " ، لأن القول لا يعمل فيهم ، وكذلك قوله : "بل أحياء " ، رفع ، بمعنى : هم أحياء .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( 155 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وكما امتحن أصفياءه قبلهم . ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ سورة البقرة : 214 ] ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيره يقول .

    2325 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " ، ونحو هذا ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال : "وبشر الصابرين " ، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته ، لتطيب أنفسهم فقال : ( مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) . [ ص: 220 ]

    ومعنى قوله : "ولنبلونكم " ، ولنختبرنكم . وقد أتينا على البيان عن أن معنى "الابتلاء " الاختبار ، فيما مضى قبل .

    وقوله : "بشيء من الخوف " ، يعني من الخوف من العدو ، وبالجوع - وهو القحط - يقول : لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسنة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة ، وتتعذر المطالب عليكم ، فتنقص لذلك أموالكم ، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار ، فينقص لها عددكم ، وموت ذراريكم وأولادكم ، وجدوب تحدث ، فتنقص لها ثماركم . كل ذلك امتحان مني لكم ، واختبار مني لكم ، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه ، ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم ، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب .

    كل ذلك خطاب منه لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما :

    2326 - حدثني هارون بن إدريس الكوفي الأصم قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

    وإنما قال تعالى ذكره : "بشيء من الخوف " ولم يقل بأشياء ، لاختلاف أنواع ما أعلم عباده أنه ممتحنهم به . فلما كان ذلك مختلفا - وكانت "من " تدل على أن كل نوع منها مضمر "شيء " ، فإن معنى ذلك : ولنبلونكم بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع ، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر "الشيء " في أوله ، من إعادته مع كل نوع منها .

    ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم ، وامتحنهم بضروب المحن ، كما : -

    2327 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 221 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات قال : قد كان ذلك ، وسيكون ما هو أشد من ذلك .

    قال الله عند ذلك : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .

    ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، بشر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به ، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نهيي عما أنهاهم عنه ، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي ، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به ، القائلين إذا أصابتهم مصيبة : "إنا لله وإنا إليه راجعون " . فأمره الله تعالى ذكره بأن يخص - بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد - أهل الصبر ، الذين وصف الله صفتهم .

    وأصل "التبشير " : إخبار الرجل الرجل الخبر ، يسره أو يسوءه ، لم يسبقه به إلى غيره
    القول في تأويل قوله تعالى ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( 156 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وبشر ، يا محمد ، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني ، فيقرون بعبوديتي ، ويوحدونني بالربوبية ، [ ص: 222 ] ويصدقون بالمعاد والرجوع إلي فيستسلمون لقضائي ، ويرجون ثوابي ، ويخافون عقابي ، ويقولون - عند امتحاني إياهم ببعض محني ، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها - إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون - تسليما لقضائي ورضا بأحكامي .
    القول في تأويل قوله تعالى ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( 157 ) )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الصابرون ، الذين وصفهم ونعتهم - "عليهم " ، يعني : لهم ، "صلوات " ، يعني : مغفرة . "وصلوات الله " على عباده ، غفرانه لعباده ، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

    2328 - "اللهم صل على آل أبي أوفى " .

    يعني : اغفر لهم . وقد بينا "الصلاة " وما أصلها في غير هذا الموضع .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(204)
    الحلقة (218)
    صــ 224إلى صــ 231






    وقوله : "ورحمة " ، يعني : ولهم مع المغفرة ، التي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها ، رحمة من الله ورأفة . [ ص: 223 ]

    ثم أخبر تعالى ذكره - مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه ، تسليما منهم لقضائه ، من المغفرة والرحمة - أنهم هم المهتدون ، المصيبون طريق الحق ، والقائلون ما يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب .

    وقد بينا معنى "الاهتداء " ، فيما مضى ، فإنه بمعنى الرشد للصواب .

    وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    2329 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " قال : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ، ورجع واسترجع عند المصيبة ، كتب له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه .

    2330 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 224 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، يقول : الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا .

    2331 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير قال : ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ، ألم تسمع إلى قوله : ( يا أسفى على يوسف ) [ سورة يوسف : 84 ] .
    القول في تأويل قوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله )

    قال أبو جعفر : "والصفا " جمع "صفاة " ، وهي الصخرة الملساء ، ومنه قول الطرماح :


    أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي
    [ ص: 225 ]

    وقد قالوا إن "الصفا " واحد ، وأنه يثنى "صفوان " ، ويجمع "أصفاء " و"صفيا ، وصفيا " ، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز


    كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي


    وقالوا : هو نظير "عصا وعصي [ وعصي ، وأعصاء ] ، ورحا ورحي [ ورحي ] وأرحاء " .

    وأما "المروة " ، فإنها الحصاة الصغيرة ، يجمع قليلها "مروات " ، وكثيرها "المرو " ، مثل "تمرة وتمرات وتمر " ، قال الأعشى ميمون بن قيس : [ ص: 226 ]


    وترى بالأرض خفا زائلا فإذا ما صادف المرو رضح


    يعني ب "المرو " : الصخر الصغار ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :


    حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع


    ويقال " المشقر " .

    وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : "إن الصفا والمروة " ، في هذا الموضع : الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه ، دون سائر الصفا والمرو . ولذلك أدخل فيهما "الألف واللام " ، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين ، دون سائر الأصفاء والمرو .

    وأما قوله : "من شعائر الله " ، فإنه يعني : من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها ، إما بالدعاء ، وإما بالذكر ، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها . ومنه قول الكميت :


    نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
    [ ص: 227 ]

    وكان مجاهد يقول في الشعائر بما : -

    2332 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : من الخبر الذي أخبركم عنه .

    2333 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    فكأن مجاهدا كان يرى أن الشعائر ، إنما هو جمع "شعيرة " ، من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة ، وما عليهم في الطواف بهما . فمعناه : إعلامهم ذلك .

    وذلك تأويل من المفهوم بعيد . وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم ، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، إذ سأله أن يريه مناسك الحج . وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، فإنه مراد به الأمر . لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام ، فقال له : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ سورة النحل : 123 ] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده . فإذ كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج ، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله [ ص: 228 ] عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده ، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه ، فعليهم العمل بذلك ، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    القول في تأويل قوله تعالى ( فمن حج البيت أو اعتمر )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "فمن حج البيت " ، فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء . وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو "حاج إليه " ، ومنه قول الشاعر :


    لأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
    [ ص: 229 ]

    يعني بقوله : "يحجون " ، يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته . وإنما قيل للحاج "حاج " ، لأنه يأتي البيت قبل التعريف ، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف ، ثم ينصرف عنه إلى منى ، ثم يعود إليه لطواف الصدر . فلتكراره العود إليه مرة بعد أخرى قيل له : "حاج " .

    وأما "المعتمر " ، فإنما قيل له : "معتمر " ، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه . وإنما يعني تعالى ذكره بقوله : "أو اعتمر " ، أو اعتمر البيت ، ويعني ب "الاعتمار " الزيارة . فكل قاصد لشيء فهو له "معتمر " ، ومنه قول العجاج :


    لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر


    يعني بقوله : "حين اعتمر " ، حين قصده وأمه .
    [ ص: 230 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )

    قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما .

    فإن قال قائل : وما وجه هذا الكلام ، وقد قلت لنا ، إن قوله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر ، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما ؟ فكيف يكون أمرا بالطواف ، ثم يقال : لا جناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما ؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج ؟ والأمر بالطواف بهما ، والترخيص في الطواف بهما ، غير جائز اجتماعهما في حال واحدة ؟

    قيل : إن ذلك بخلاف ما إليه ذهبت . وإنما معنى ذلك عند أقوام : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية ، تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما ، فقالوا : وكيف نطوف بهما ، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله ، شرك ؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحرج ذلك ، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما ، وقد جاء الله بالإسلام اليوم ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد




    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(205)
    الحلقة (219)
    صــ 232إلى صــ 239





    فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، [ ص: 231 ] يعني : إن الطواف بهما ، فترك ذكر "الطواف بهما " ، اكتفاء بذكرهما عنه . وإذ كان معلوما عند المخاطبين به أن معناه : من معالم الله التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما ، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر ، "فمن حج البيت أو اعتمر " فلا يتخوفن الطواف بهما ، من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما ، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا ، وأنتم تطوفون بهما إيمانا ، وتصديقا لرسولي ، وطاعة لأمري ، فلا جناح عليكم في الطواف بهما .

    و"الجناح " ، الإثم ، كما : -

    2334 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : ليس عليه إثم ، ولكن له أجر .

    وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين .

    ذكر الأخبار التي رويت بذلك :

    2335 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود ، عن الشعبي : أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى "إسافا " ، ووثنا على المروة يسمى "نائلة " ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين . فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان ، قال المسلمون : إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال : فأنزل الله : إنهما من الشعائر ، "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .

    2336 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عامر قال : كان صنم بالصفا يدعى "إسافا " ، ووثن بالمروة يدعى "نائلة " ، [ ص: 232 ] ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه ، قال : فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأنث المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا .

    2337 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد ، وزاد فيه - قال : فجعله الله تطوع خير .

    2338 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرني عاصم الأحول قال : قلت لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية ؟ فقال : نعم كنا نكره الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية ، حتى نزلت هذه الآية إن الصفا والمروة من شعائر الله

    2339 - حدثني علي بن سهل الرملي قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم قال : سألت أنسا عن الصفا والمروة ، فقال : كانتا من مشاعر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما ، فنزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " . [ ص: 233 ]

    2340 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني أبو الحسين المعلم قال : حدثنا شيبان أبو معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عمرو بن حبشي قال : قلت لابن عمر : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : انطلق إلى ابن عباس فاسأله ، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . فأتيته فسألته ، فقال : إنه كان عندهما أصنام ، فلما حرمن أمسكوا عن الطواف بينهما ، حتى أنزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . [ ص: 234 ]

    2341 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وذلك أن ناسا كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فأخبر الله أنهما من شعائره ، والطواف بينهما أحب إليه ، فمضت السنة بالطواف بينهما .

    2342 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : زعم أبو مالك ، عن ابن عباس : أنه كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة ، وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام وظهر ، قال المسلمون : يا رسول الله ، لا نطوف بين الصفا والمروة ، فإنه شرك كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . [ ص: 235 ]

    2343 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : قالت الأنصار : إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره : " إن الصفا والمروة من شعائر الله "

    2344 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    2345 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما قال : كان أهل الجاهلية قد وضعوا على كل واحد منهما صنما يعظمونهما ، فلما أسلم المسلمون كرهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين ، فقال الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، وقرأ : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ سورة الحج : 32 ] ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما .

    2346 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم قال : قلت لأنس : الصفا والمروة ، أكنتم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نهيتم عنها ؟ قال : نعم ، حتى نزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

    2347 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : أخبرنا عاصم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إن الصفا والمروة من مشاعر قريش في الجاهلية ، [ ص: 236 ] فلما كان الإسلام تركناهما .

    وقال آخرون : بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية ، في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما ، فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوفونه في الجاهلية .

    ذكر من قال ذلك :

    2348 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية ، فكان حي من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما ، فأخبرهم الله أن الصفا والمروة من شعائر الله ، وكان من سنة إبراهيم وإسماعيل الطواف بينهما .

    2349 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

    2350 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير قال : سألت عائشة فقلت لها : أرأيت قول الله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ؟ وقلت لعائشة : والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ؟ فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إن هذه الآية لو كانت كما أولتها كانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار : كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة ، الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلل ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين [ ص: 237 ] الصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما . [ ص: 238 ]

    2351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجال من الأنصار ممن يهل لمناة في الجاهلية - و "مناة " صنم بين مكة والمدينة - قالوا : يا نبي الله ، إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" . قال عروة : فقلت لعائشة : ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة ! قال الله : "فلا جناح عليه " . قالت : يا ابن أختي ، ألا ترى أنه يقول : "إن الصفا والمروة من شعائر الله "! قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال : هذا العلم! قال أبو بكر : ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة ، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة ، وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة ، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية كلها ، قال أبو بكر : فأسمع أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما ، في من طاف وفي من لم يطف . [ ص: 239 ]

    2352 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الثالث
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(206)
    الحلقة (220)
    صــ 240إلى صــ 247



    فأما قوله : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي ، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية ، على ما روي عن عائشة . [ ص: 240 ]

    وأي الأمرين كان من ذلك ، فليس في قول الله تعالى ذكره : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، الآية ، دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما ، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ، ثم جعل الطواف بهما رخصة ، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظر ذلك في وقت ، ثم رخص فيه بقوله : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .

    وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه . فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه ، كما لا يجزي تارك الطواف - الذي هو طواف الإفاضة - إلا قضاؤه بعينه . وقالوا : هما طوافان : أمر الله بأحدهما بالبيت ، والآخر بين الصفا والمروة .

    ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية ، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الصدر وما أشبه ذلك ، مما يجزي تاركه من تركه فدية ، ولا يلزمه العود لقضائه بعينه .

    ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوع ، إن فعله صاحبه كان محسنا ، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء .

    ذكر من قال : إن السعي بين الصفا والمروة واجب ولا يجزي منه فدية ، ومن تركه فعليه العود . [ ص: 241 ]

    2353 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لعمري ما حج من لم يسع بين الصفا والمروة ، لأن الله قال : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " .

    2353 م - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال مالك بن أنس : من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة ، فليرجع فليسع ، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرة والهدي .

    وكان الشافعي يقول : على من ترك السعي بين الصفا والمروة حتى رجع إلى بلده ، العود إلى مكة حتى يطوف بينهما ، لا يجزيه غير ذلك .

    2354 - حدثنا بذلك عنه الربيع .

    ذكر من قال : يجزي منه دم ، وليس عليه عود لقضائه .

    قال الثوري بما : -

    2355 - حدثني به علي بن سهل ، عن زيد بن أبي الزرقاء ، عنه ، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن ، وإن لم يعد فعليه دم .

    ذكر من قال : الطواف بينهما تطوع ، ولا شيء على من تركه ، ومن كان يقرأ : ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) .

    2356 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا ابن جريج قال : قال عطاء : لو أن حاجا أفاض بعدما رمى جمرة العقبة ، فطاف بالبيت ولم يسع ، فأصابها - يعني : امرأته - لم يكن عليه شيء ، لا حج ولا عمرة ، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود : "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " . فعاودته بعد ذلك فقلت : إنه قد ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ألا تسمعه يقول : "فمن تطوع خيرا " ، فأبى أن يجعل عليه شيئا ؟

    2357 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، [ ص: 242 ] عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " .

    2358 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم قال : سمعت أنسا يقول : الطواف بينهما تطوع .

    2359 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا عاصم الأحول قال : قال أنس بن مالك : هما تطوع .

    2360 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    2361 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : فلم يحرج من لم يطف بهما .

    2362 - حدثنا المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا أحمد ، عن عيسى بن قيس ، عن عطاء ، عن عبد الله بن الزبير قال : هما تطوع . [ ص: 243 ]

    2364 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم قال : قلت لأنس بن مالك : السعي بين الصفا والمروة تطوع ؟ قال : تطوع .

    والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب ، وأن على من تركه العود لقضائه ، ناسيا كان ، أو عامدا . لأنه لا يجزيه غير ذلك ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس ، فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما .

    ذكر الرواية عنه بذلك :

    2365 - حدثني يوسف بن سلمان قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، ابدأوا بما بدأ الله بذكره . فبدأ بالصفا فرقي عليه .

    2366 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ابن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، فأتى الصفا فبدأ بها ، فقام عليها ، ثم أتى المروة فقام عليها ، وطاف وسعى . [ ص: 244 ]

    فإذ كان صحيحا بإجماع الجميع من الأمة - أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم ، وعمله في حجه وعمرته وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نص الله في كتابه ، وفرضه في تنزيله ، وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه ، لازما العمل به أمته ، كما قد بينا في كتابنا "كتاب البيان عن أصول الأحكام " - إذا اختلفت الأمة في وجوبه ، ثم كان مختلفا في الطواف بينهما : هل هو واجب أو غير واجب كان بينا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر ، لما وصفنا .

    وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلفا فيما على من تركه ، مع إجماع جميعهم على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم ، إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل ، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بالصفا والمروة ، ولا تجزي منه فدية ولا جزاء ، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه ، إذ كانا كلاهما طوافين : أحدهما بالبيت ، والآخر بالصفا والمروة . [ ص: 245 ]

    ومن فرق بين حكمهما عكس عليه القول فيه ، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما .

    فإن اعتل بقراءة من قرأ : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " .

    قيل : ذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين ، غير جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها . وسواء قرأ ذلك كذلك قارئ ، أو قرأ قارئ : ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) [ سورة الحج : 29 ] ، "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا به " . فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف ، كانت الأخرى نظيرتها ، وإلا كان مجيز إحداهما - إذا منع الأخرى - متحكما ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .

    وقد روي إنكار هذه القراءة ، وأن يكون التنزيل بها ، عن عائشة .

    2367 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله عز وجل : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما! فقالت عائشة : كلا! لو كانت كما تقول ، كانت : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة - وكانت مناة حذو قديد - ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة . فلما جاء الإسلام ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج [ ص: 246 ] البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .

    قال أبو جعفر : وقد يحتمل قراءة من قرأ : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، أن تكون "لا " التي مع "أن " ، صلة في الكلام ، إذ كان قد تقدمها جحد في الكلام قبلها ، وهو قوله : ( فلا جناح عليه ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره : ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ سورة الأعراف : 12 ] ، بمعنى ما منعك أن تسجد ، وكما قال الشاعر :


    ما كان يرضى رسول الله فعلهما والطيبان أبو بكر ولا عمر


    ولو كان رسم المصحف كذلك ، لم يكن فيه لمحتج حجة ، مع احتمال الكلام ما وصفنا . لما بينا أن ذلك مما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم ، على ما ذكرنا ، ولدلالة القياس على صحته ، فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف المسلمين ، ومما لو قرأه اليوم قارئ كان مستحقا العقوبة لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه ؟
    [ ص: 247 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ( 158 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : "ومن تطوع خيرا " على لفظ المضي ب "التاء " وفتح "العين " . وقرأته عامة قراء الكوفيين : "ومن يطوع خيرا " ب "الياء " وجزم "العين " وتشديد "الطاء " ، بمعنى : ومن يتطوع . وذكر أنها في قراءة عبد الله : "ومن يتطوع " ، فقرأ ذلك قراء أهل الكوفة ، على ما وصفنا ، اعتبارا بالذي ذكرنا من قراءة عبد الله - سوى عاصم ، فإنه وافق المدنيين - فشددوا "الطاء " طلبا لإدغام "التاء " في "الطاء " . وكلتا القراءتين معروفة صحيحة ، متفق معنياهما غير مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل . فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيب .

    [ والصواب عندنا في ذلك ، أن ] معنى ذلك : ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه ، فإن الله شاكر له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه ، فمجازيه به ، عليم بما قصد وأراد بتطوعه بما تطوع به .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •