بدأت السورة الكريمة بالثناء على القرآن ﴿ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1]؛ أي: ذي الشرف وذي الشأن وذي المكانة العالية القدسية، ثم بيان حال الكافرين المحايدين وأنهم في "عزة"؛ أي: حميَّة جاهلية، و"شقاق"؛ أي: خلاف، فقلوبهم مختلفة؛ لأنه لا تأتلف القلوب إلا على التوحيد، فالذي يجمع القلوب ويؤلف بينها هو الله عز وجل، ومن مقتضيات الإيمان بالله وتوحيده المودة والألفة بين المؤمنين.
كما بيَّنت السورة أيضًا في مطلعها سنة من سنن الله في إهلاك المكذبين للرسل: ﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ص: 3]، وأنهم حينما جاءهم الهلاك حاولوا الفرار فلم ينجحوا، "ونادوا"؛ أي: استغاثوا وطلبوا المناص؛ أي: النجاة "حين لا مناص"، وبعد فوات الأوان، وكانت جريمتهم التي استحقوا بها الهلاك أنهم رفضوا دعوة التوحيد، واتهموا أصحابها بالسحر والكذب، واستكثروا أن يكون لهذا الكون إله واحد، واستنكفوا أن يعبدوا معبودًا واحدًا هو الأحق بالخضوع وبالطاعة.
♦ كانت دعوة الرسل السابقين حتى شعيب عليه السلام هي الدعوة إلى التوحيد وتصديق الرسل، مع بعض الوصايا بالاستغفار والتوبة، وذكر أنعم الله مع الأمر بالتحلي بالصدق والتخلي عن الكذب والكبر، وترك الفواحش، ثم أرسل الله تعالى شعيبًا ليزيد على ذلك الوصية بالعدل، والتخلي عن بخس أشياء الناس والتطفيف في الميزان، وكانت سنة الاستئصال هي الفاعلة في هؤلاء الأقوام، حتى أهلك الله تعالى فرعون وجنوده، ثم أنزلت التوراة على موسى عليه السلام لتقر أمرين:
الأول: تكليف المؤمنين بقتال الوثنيين المشركين لإقرار التوحيد، وإعلاء رايته في الأرض، وتحقيق العبودية لله تعالى وحده، وهي سنة المدافعة؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [الحج: 40]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ﴾ [التوبة: 111]، ففرض هذا التكليف على المؤمنين بموسى عليه السلام حتى جاء عيسى عليه السلام، وعلى المؤمنين بعيسى حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين بمحمد حتى تقوم الساعة حسب قوله تعالى في سورة محمد: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُ مْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4]، قال ابن كثير (وقوله: "حتى تضع الحرب أوزارها"، قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وكأنه أخذه من قول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال"؛ رواه أبو داود في السنن (2484) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال بعضهم: (حتى تضع الحرب أوزارها)؛ أي: أوزار المحاربين، وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عز وجل.. ).
الثاني: إقامة دولة التوحيد، ولا يكون ذلك إلا بالاستخلاف في الأرض؛ أي: تنصيب إمام أو خليفة يقيم الدين، ويحكم بالعدل وهو شرع الله عز وجل؛ قال تعالى في السورة الكريمة: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، يقول ابن كثير: (هذه وصية من الله عز وجل لوُلاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزَّل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا.. )، ويقوا القرطبي: (قوله: "إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ": أي ملَّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان مثلك من الأنبياء والأئمة الصالحين، وقد مضى مستوفي في قوله تعالى: (إن جاعل ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وفيها يقول رحمه الله: (هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يُسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة، وتُنفَّذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة.. ودليلنا على ذلك قول الله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النور: 55]، وأجمع الصحابة على تقديم الصديق رضي الله عنه، ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهِد إلى عمر في الإمامة؛ فدل ذلك على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين)، ثم يقول رحمه الله في المسألة الخامسة: إذا كانت الإمامة واجبة، فهل وجوبها من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الأئمة فيه، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه؟ والجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب؛ فذهبت الإمامية (الشيعة) وغيرها إلى أن الطريق هو النص من الرسول، وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الإمام، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضًا. والطريق الثاني لاختيار الإمام: نص المستخلف على جماعة ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه، الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد.... الطريق الرابع: يقول القرطبي رحمه الله في المسألة التاسعة: (فإن تغلَّب من له أهلية الإمامة، وأخذها بالقهر والغلبة، فقد قيل: إن ذلك يكون طريقًا رابعًا..)، قال ابن خويز منداد: ولو وثب على الأمر مَن يصلح له من غير مشورة ولا اختيار، وبايع له الناس تمت له البيعة والله أعلم، ثم ذكر رحمه الله شرائط الإمام وهي إحدى عشرة:
1- أن يكون من قريش؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، وقد اختلف في هذا.
2- أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيًا مجتهدًا، لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه.
3- أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش، وسد الثغور وحماية البيضة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم.
4- أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود.
7،6،5- أن يكون حرًّا، مسلمًا، ذكرًا، سليم الأعضاء، وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إمامًا، وإن اختلفوا في جواز أن تكون قاضية فيما تجوز شهادتها فيه.
10،9- أن يكون غالبًا عاقلًا، ولا خلاف في ذلك.
11- أن يكون عدلًا؛ لأن الإمامة لا تنعقد لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، ففي التنزيل في وصف طالوت: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ [البقرة: 247]، فبدأ بالعلم، ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء.
وفي المسألة الثالثة عشرة: الإمام إذا نصِّب ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم.. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة، أو الترك إلى دعائها، أو شيء من الشريعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: (وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)، وفي حديث عوف بن مالك: (لا ما أقاموا فيكم الصلاة)، وفيما قاله القرطبي رحمه الله كفاية، ولا شك أن الصلاة بشروطها وأركانها وسننها وهيئاتها شيء، وإقام الصلاة شيء آخر؛ فإقام الصلاة إنما هو الأمر بها ومعاقبة من يتركها بإقامة الحد المقرر في الشريعة حسب أقوال العلماء في حكم تارك الصلاة، مع التنبيه على أنه لا يقيم الحد إلا الإمام، وبما أن الحدود معطَّلة، فوجب تنصيب إمام ليقيم الحدود.
ومن هنا فإن إقامة دولة التوحيد التي ينعم الناس فيها بالعدل، هو الواجب الأساس والهدف الأسمى، ولا يتم ذلك إلا بتنصيب إمام يقيم في الناس الصلاة؛ أي: يأمرهم بها ويعاقب؛ أي: يقيم الحد على تاركها بعد استتابتْه، ويرفع المظالم، ويحكم بما أنزل الله تعالى في القليل والكثير، وإذا فعل ذلك وجب على الرعية (الأمة) السمع والطاعة.
لقد كان داود عليه السلام نبيًّا ملكًا، مكَّن الله تعالى له في الأرض، ففي معنى قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ﴾ [ص: 17]، يقول الإمام الطبري: ويعني بقوله: (ذا الأيد): ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله، والصبر على طاعته؛ وقوله تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ [ص: 20]؛ أي: شدد وثبت ملكه بالرجال والجنود، وهيبة الناس له؛ كما ذكر الطبري، وإنما يتثبت المُلك ويدوم بالعدل مع القوة، والقوة في الحق، فالحق لا يكون حقًّا إلا أن يحقه أهل الحق بالقوة، وإلا اندثر الحق وعلا فوقه الباطلُ؛ كما قال تعالى: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ﴾ [الرعد: 17]، وكما قال تعالى: ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 7، 8]؛ يقول القرطبي: (بكلماته)؛ أي: بأمره إياكم أن تجاهدوهم، (ويقطع دابر الكافرين)؛ أي: يستأصلهم بالهلاك، وفي كتابي "مرحلة الدفاع عن الدعوة "، ذكرت: (.. والمراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل: إظهار كون ذلك الحق حقًّا، وإظهار كون ذلك الباطل باطلًا، وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبيِّنات، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل..)؛ انظر: كتاب: "منهج الدعوة الإسلامية في ضوء سورة الأنفال" الكتاب الأول (1) دار الفكر العربي القاهرة ط1 /1432هـ 2011م، ص 107.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143342/#ixzz6f55oqzLE