الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ اللَّه، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر اللَّه، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، وما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى.
وبعد: فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلَّم أصحابه من عبودية المال؛ فقال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ». [البخاري 2886، 2887، 6435].
و« تَعِسَ »: بفتح التاء، وكسر العين المهملة – ويجوز فتحها - ضد سَعِدَ، بمعنى شقِيَ، والمراد هنا هلك. [فتح الباري (7/163 – 164)، و(14/530)].
وقد بوب البخاري في "صحيحه" باب: « ما يُتَّقَى من فتنةِ المَالِ » ذكر فيه حديث أبي هريرة السابق وغيرَه، وصدَّره بقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، قال الحافظ ابن حجر (المتوفى 852هـ) - رحمه الله -: « أي: تشغل البال عن القيام بالطاعة، وكأنه أشار بذلك إلى ما أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه من حديث كعب بن عياض: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال". وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور عن جبير بن نفير مثله وزاد: ولو سِيل لابنِ آدم واديان من مالٍ لتمنَّى إليه ثالثًا... الحديث، وبها تظهر المناسبة جدًّا، وقوله "سِيل" - بكسر المهملة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم لام على البناء للمجهول – يقال: سال الوادي إذا جرَى ماؤُه». [فتح الباري (14/529)].
و« عبد الدينار »: طالبه الحريصُ على جمعِه، القائم على حفظه، فكأنَّه خادمه وعبده.
وجمعُ الدنانير ومِلكها ليس مذمومًا في ذاته حتَّى يصبحَ المالك الجامعُ عبدًا لما جمع مملوكًا لديناره ودرهمه بعد أن كان مالكًا له.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث متى يكون المالك عبدًا مملوكًا للدينار والدرهم؛ فقال: « إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ».
قال العلامة ابن عثيمين (المتوفى 1421هـ) - رحمه الله -: « صار عبدًا لها؛ لأنَّ هذه الأشياء ملكته، يرضى بحصولها، ويغضب بفواتها، فصار عبدًا ذليلًا لها، هذا من وجهٍ.
ومن وجهٍ آخر: أن هذه الأشياء الثلاثة - وقد جاء في لفظ أوسع من هذا أنها أربعة - ملكت قلبه واستولت عليه حتى كانت هي فكره وعقله وإرادته، وهذا هو حقيقة العبودية.
فصارت العبودية من وجهين:
الوجه الأول: أنه قد ذَلَّ لها بحيث يكون رضاه وغضبه تبعًا لحصولها أو عدمه.
الوجه الثاني: أنها ملكت قلبه، بحيث تكون هي فكره وتفكيره وعقله وحركاته، لا يسعى إلا لها ولا يتوقف عن السعي إلا لها.
وليس المعنى: أن الرجل ينصب الدينار ويسجد له، أو يركع له فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُردْ هذا » ["فتح ذي الجلال والإكرام" (15 /162 - 163)].
لا ينبغي أن يكون حصول المال هو مصدر أمن العبد في الدنيا، وأن يكون جزعه وخوفه إذا فقد المال أو زالت عنه الدنيا وأدبرت، وقد قيل:
عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ
وَبِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ
أَحْلامُ ليْلٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ
إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ
فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا
أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أبالكَ تَجْمَعُ
وقال آخر:
خَلِيلِيَّ إِنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِنَافِعٍ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ يُنْفَقُ
وَمَا خَابَ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ عَامِلٌ
لَهُ فِي التُّقَى أَوْفَى الْمَحَامِدِ سُوقُ
وَلا ضَاقَ فَضْلُ اللهِ عَنْ مُتَعَفّفٍ
وَلَكِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان (المتوفى 1422هـ) - رحمه الله -: « نصيحة: إِذَا استغنى النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا، فأفرح أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا أُنسوا بأحبابهم فأجعل أنسك بِاللهِ، وَإِذَا تعرفوا إلى كبرائهم لينالوا بِهُمْ العزة والكرامة فتعرف أَنْتَ إِلَى اللهِ، وتودد إليه تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة والكرامة». [موارد الظمآن لدروس الزمان (2/ 176)].
وقد أوصى أحدُ الدعاةِ إخوانه فقال: « لا تذهب وراء أكذوبة جمع المال وعبادة المال؛ فالمال خادم جيِّد ولكنه سيد سيئ، فاجعل المال يخدمك في جيبك، والتفت لدينك وصحتك وأهلك ولا تصرف الأيام في جمع الحطام فتذهب منك الصحة والاستقرار والهدوء ونعمة العيش مع العائلة، يقول أحدهم: أنفقنا صحتنا في شبابنا لجمع المال، ثم أنفقنا المال للبحث عن صحتنا في شيخوختنا».


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143283/#ixzz6ejrgMMJv