مقفراتْ.. مغلقاتٌ محكماتْ
كلُّ أبواب الدكاكين على كل الجهاتْ
تركوها.. أهملوها
يوم عيد عيَّدوه ومَضُوا في الخلواتْ
البدارْ!.. ما لنا اليومَ قرار
أيُّ صوتٍ ذاك يدعو الناسَ من خلفِ الجدار؟
أَدْركُوها.. أَطْلقوها
ذاك صوتُ السلع المحـ ـبوس في الظلمة ثار
في الرفوفِ.. تحتَ أطباقِ السقوف
المدى طال بنا بيـ ـن قعود ووقوف
أطلقونا.. أرسلونا
بين أشتاتٍ من الشا رين نسعى ونطوف
سوف نَبْلى.. يوم أن نبذل بذلا
أي نعم لم نَسْهُ عن ذا ك ولم نجهلْه جهلا
غير أنَّا.. قد وددنا
أن نرى العيش وإن لم.. يك وِرْدُ العيشِ سهلا
كالجنين.. وهو في الغيب سجين
إن تحذِّره أذى الدنيا وآفات السنين
قال: هيا.. حيث أحيا
ذاك خيرٌ من أمان الـ ـغيب والغيب أمين
أطلقونا.. وإلى الدنيا خذونا
حيث نلقى الآكلينَ الشاربينَ اللابسينا
ذاك خيرٌ.. وهو ضيرٌ
من رفوفٍ مظلمات.. يوم عيدٍ تحتوينا
هذه القصيدةُ هي إحدى قصائدِ ديوان "عابر سبيل"، الذي أداره العقادُ على موضوعاتِ الحياة اليومية، كالكواء وخيطه بالمكواة على منضدته، ورجل المرور وكيف يتحكم في الراكبين برغم أنه هو نفسه ليس له ركوبة، وإن لم يستطعْ أن يتحكم في الشاعر؛ لسبب بسيط هو أنه يمشي على قدميه، ومن ثم فلا تقيده قواعد المرور، وما إلى ذلك.
وقد برع العقاد في أكثر قصائد هذا الديوان، بل إنه بَذَّ ابنَ الرومي، إذ كانت مهارة ابن الرومي مقصورةً - أو تكاد - على تصوير بعض موضوعات الحياة اليومية في أبيات سريعة تخاطب إحدى الحواس كالعين مثلًا، ثم لا شيء غير ذلك، أما العقادُ فإنه لم يكتفِ بمجرد التصوير الحسي، وإن لم يكن هذا بالشيء القليل، بل سَمَا من ذلك إلى آفاق أعلى وأرحب، وخلع على هذه الموضوعات ثوبًا فلسفيًّا جميلًا دونما تَعَمُّلٍ أو تكلفٍ، مما زاد هذه القصائد غنًى على غنًى، ولا يقدح طبعًا في شاعريته العظيمة أن عددًا قليلًا من القصائد في هذا الديوان جاءت فاترة، فليس هناك شاعرٌ واحدٌ في الدنيا كلها إلا وبعض شعره ضعيف متهافت.
والقصيدة التي بين أيدينا تتناول سلطانَ الرغبة في الحياة على الكائنات جميعًا، إن الحياة مفعمةٌ بألوان المتاعب والشقاء، ولكن سحرها - برغم ذلك - لا يقاوم، ونحن المخلوقين نندفع إليها اندفاعَ الفراش إلى قلب النار، إن المسألة ليست مسألة تفكير عقلي، ولكنها مسألة الغرائز الضاربة بجذورها الحديدية في أعماقنا كلِّنا، وليس إلى مخالفتها من سبيل، إننا أجمعين لا نكفُّ عن الشكوى مما نجد في الحياة من عناء، ولكن من منَّا، وهو في حالته الطبيعية، يرحب بالموت، أو على الأقل لا يرتعب منه، إذا تاح له؟ ولكن انظر كيف عبَّر العقاد عن سلطان الحياة هذا على نفوسنا؟ إنه - والصمت ضارب بأطنابه على المدينة في يوم عيد، بعد أن غادر الناسُ منازلَهم وحوانيتَهم وشوارعَهم وانطلقوا إلى الحدائق - يمد أذُن خياله لتقتنص تلك الهيمنة الخفية من خلف أبواب الدكاكين: أي صوت هذا؟ وماذا هناك؟ وبعد قليل تتضح معالمُ الصوت، وإذا بها سلعُ الدكاكين تهتف ثائرةً بأصحاب هذه المحلات: أن أدركونا وأطلقونا ودعونا نضرب في أرجاء الدنيا، ولا تأخذكم بنا شفقة؛ لأننا لسنا من السذاجة وقلة الخبرة بالدنيا، بحيث نظن أن هذه الحرية التي نصبو إليها هي جنة النعيم، بل نحن على يقين من أن الهلاكَ يتربص بنا، ولكنَّ لتيار الحياة سحرًا متسلطًا، وإن له لمَوَارًا في داخلنا يقضُّ مضاجعنا، ويبغِّض لنا هذا الهدوء الذي يلفنا تبغيضًا شديدًا، بل يجعلنا نختنق به، ولسنا في ذلك بدعًا بين المخلوقات، فهل رأيتم جنينًا، مهما بصرتموه بما ينتظره من عناء وضنى، قد فضل البقاء في بطن أمه لائذًا بالظلام والأمان؟
إنه يفضل على ذلك نور المتاعب والشقاء، إنه ليفضل الحياة على العدم.
ولننظر الآن كيف أدى العقاد هذا؟ إن المقطع الأول يصوِّر في كلمات سريعة، ولكنها منتقاة ومركبة بطريقة توحي بالكثير، فراغ المدينة من أهلها، والصمت المخيم تمامًا على أرجائها، إنه يفاجِئُنَا بهذه الأوصافِ الثلاثة "مقفرات، مغلقات، محكمات"، التي تتضافر جميعًا في الدلالة على الخلو والفراغ، والإيحاء بالوحشة التامة والصمت المطبق. وبعد أن يفاجئنا العقاد بهذه الأوصاف الثلاثة يذكر لنا ما هذه الأشياء التي هي "مقفرات، مغلقات، محكمات"، إنها "كل أبواب الدكاكين على كل الجهات"، ولاحظ التأكيد بـ"كل"، الذي تكرر مرتين ليقضي على أي خالجة شكٍّ في شمول الإقفار والصمت كل شيء، وبعد أن تحقق المفاجأة غرضها يعود الشاعر فيوضح سببَ هذا الصمتِ وخلو المكان من السكان، إنهم قد خرجوا إلى المتنزهات في الهواء الطلق، وتنبَّه إلى هذه المقابلة التي يعقدها بين الإقفار والوحشة في داخل المدينة، وبخاصة عند الحوانيت: "تركوها، أهملوها"، وبين ضجة العيد وبهجته وازدحام الناس في الخلوات التي توحي بها عبارة: "يوم عيد عيدوه، ومضوا في الخلوات".
وكما فاجأنا الشاعر في أول القصيدة بالأوصاف الثلاثة التي تدل على خلو المدينة من قاطنيها، وتوحي بالوحشة والصمت الشامل، يفاجئنا مرة أخرى في أول المقطع الثاني بهذه الكلمات الثائرة التي تمزق الصمت المخيم، وتثير عجب المار من هناك وقد راعه السكون الموحش أيما إثارة:
البدار! ما لنا اليوم قرار
فيتساءل في دهشة:
أي صوت ذاك يدعو الناس من خلف الجدار؟
وقبل أن يتحقَّقَ من حقيقة ذلك الصوتِ، حتى يردفَ تساؤلَه بمناشدة الناس، الذين لا يسمعونه ولن يستجيبوا له، ولكنها طبيعته المحبة للحرية التي لا تطيق أن ترى محبوسًا أو مقيدًا، فتهب من غير أدنى توانٍ إلى نجدته:
أدركوها أطلقوها
وبعد أن يدعو بدعوة الحرية يعودُ فيبين لنا حقيقة ذلك الصوت:
ذاك صوت السلع المحـ ـبوس في الظلمة ثار
وتأمل كيف أن الشاعر لا يطيق أن يرى شيئًا - أي شيء - محبوسًا، إنه ينسب الحبس إلى صوت السلع لا إلى السلع نفسها، كما يسند إليه الثورة على ما هو فيه من حبس وظلمة، فما بالك برد فعل السلع نفسها؟.
وفي المقاطع التالية يمضي الشاعر فيتابع ثورة السلع (أو قل: ثورة صوت السلع)، وهتافها المهتاج الذي يدل على ضيق بلغ المدى من القيود التي تشل حركتها، وتمنعها من الانطلاق في دنيا الله الواسعة، وبخاصة أن اليوم يومُ عيدٍ مما يضاعف الغيظ من هذه القيود أضعافًا، وتمعن في قولها: "تحت أطباق السقوف"، مع أنه سقف واحد، إنما هو الضيق الذي بلغ المدى يجعل السقف سقوفًا، كذلك التفت إلى هذه الصورة الطريفة:
المدى طال بنا بيــن قعود ووقوف
التي يصور فيها الشاعرُ السلعَ وقد بلغ بها الحنق أقصاه فهي لا تستقر في مكانها، وكيف يستقر الحانق المهتاج؟ وأين تذهب الطاقة الحبيسة التي تريد أن تجد لنفسها متصرفًا؟ أرجو أن تتصور بعين الخيال قطع الحلوى أو السراويل مثلًا وهي تقوم وتقعد لتقوم مرة أخرى، وهكذا دواليك، لاهثة من عظم الانفعال، ونافخة من الغيظ، وقد اكفهرَّ منها الوجه، وتقبضت الملامح، "وطقت" عيناها بالشرر، وهذا كله بعدُ مما توحيه العبارة المارة، وإذا كنا قد سمعنا الشاعر وهو يهتف بأهل المدينة وأصحاب الدكاكين بخاصة أن:
أدركوها أطلقوها
فها نحن نسمع السلع نفسها وهي تهتف بهم هتافًا، وكأنها تجاوب به هتاف الشاعر، إنهما كلمتان اثنتان، وكلتاهما فعل أمر، وكل كلمة تستقل بشطرة، تماما كما هو الحال في هتاف الشاعر من قبل، بل إن إحدى الكلمتين هي إحدى الكلمتين اللتين استعملهما الشاعر، والملاحظ أن هذه الكلمة قد ختم بها الشاعر صمته، أما في صيحة السلع فإنها تفتح الكلام، فكأنها قد التقطت الخيط منه من حيث تركته، وأكملت ما كان بدأه، إنها تقول:
أطلقونا أرسلونا
وقد لفتت نظري هاتان اللفظتان: "نسعى ونطوف"، ولا أدري مدى تنبُّهِ الشاعر لهما، إننا نعرف أن السعي والطواف هما من شعائر الحج، فهل يريد الشاعر، عن وعي أو عن غير وعي، أن يخلع على الحياة والحرية صفة القداسة؟ إنه مجرد تساؤل.
وفي المقطع الثالث نسمع السلع، وقد هدأ بعض ثورتها، تلجأ إلى الحجة وصوت المنطق، وتَرَوَّ قليلا أمام قولها: "أي نعم"، وكأنها تتخيلُ أمامها من يحاورها ويحاول أن يثنيها عن رغبتها، فهي تؤكد له أنها تعرف ما ينتظرها:
أي نعم لم نسه عن ذا ك ولم نجهله جهلا
إلا أن الرغبة في الحياة، برغم ما تكتظ به من مقاعس، هي رغبة مركوزة في أعماق الكائنات جميعها بما فيها السلع:
غير أنا قد وددنا
أن نرى العيش وإن لم يك ورد العيش سهلا
ثم تأخذ السلع في التفلسف، فتمد بصرها وعقلها إلى ما وراء حياتها، بل إلى ما وراء الحياة جمعاء، إلى ظلمة الرحم، حيث الجنين على أعتاب الدنيا تحاول أن تصده بنصائحك عن المجيء إلى الحياة ومنغصاتها، ولكنه لا يستمع لنصح، بل يضغط بكل ما غرس في أعماق أعماقه من الرغبة في المجيء إلى الحياة، واسمع قول الشاعر: "أذى الدنيا وآفات السنين"، فقوله: "أذى الدنيا" هو كلام مطلق، أما عبارة: "آفات السنين" فهي نزول من أفق لمطلق إلى دنيا الواقع والزمن، الذي تتتابع فيه المتاعب واحدة بعد الأخرى على مدى العمر البشري، فللطفولة أوجاعها وألوان شقائها، وكذلك للمراهقة والشباب، إلى أن نبلغ مرحلة الشيخوخة فتتكاثر علينا الآفات حتى تهزمنا وتلقي بنا إلى خارج الحياة، واسمع أيضًا رد الجنين على هذه التحذيرات الصادقة، إنه لا يناقش ولا يحاج، بل كأنه لم يسمع شيئًا مما قيل له، يكون رده:
... هيا حيث أحيا
وذلك مثلما يحدث عندما تأخذ في نصح صديق لك ألا يخرج من البيت الآن، فإن ثمة خطرًا في الخارج يتهدده، فيتركك حتى تفرغ كل ما عندك من نصائح وتحذيرات، فإذا ما فعلت لم يكلف نفسه مئونة الرد، بل يكتفي بأخذك من يدك قائلًا: "يا للابينا!".
وفي المقطع الأخير، وبعد أن تحاجنا السلع وتتفلسف، تعود إلى الهتاف بنا للمرة الثانية أن "أطلقونا" (وهذه ثالث مرة ترد فيها تلك الكلمة في هذه القصيدة القصيرة مما يدل على مدى ضيق الشاعر وسلعه بالحبس والتضييق، إنها صيحة مغتاظ حانق أشد الحنق). ومرة أخرى أيضًا نرى الرغبة نفسها العارمة في لقاء الناس ("أشتات الشاربين" أول مرة، وهنا: "الآكلين الشاربين اللابسينا" تفصيلًا)، كذلك أحب لك في النهاية أن تلتفت إلى ما في البيتين الأخيرين من جملة اعتراضية وردت في كلام السلع، أليست سلعا فيلسوفة؟ فكيف لا يزدحم عقلها وعباراتها بالمعاني المتدافعة التي تضطر معها إلى قطع الكلام بالاعتراضات لتوازن بين المعنى وضده في جملة واحدة، اسمع:
ذاك خير وهو ضير
من رفوف مظلمات يوم عيد تحتوينا
كما أحب لك أن تلتفت أيضًا إلى أن الشاعر قد عاد من حيث بدأ حين أشار في نهاية القصيدة إلى أن ذلك اليوم كان يوم عيد، وهي نفس الإشارة التي وردت في أول مقطع، بل في آخر بيت من ذلك المقطع (بالضبط، كما هو الحال هنا في المقطع الأخير):
يوم عيد عيدوه ومضوا في الخلوات
وبعد، فهذه قصيدة من قصائد العقاد من ديوان "عابر سبيل"، ذلك الديوان الذي يختص بالموضوعات اليومية العادية المبتذلة، وفيها الخيال العجيب، والعاطفة المهتاجة، والتصور الحي، والإيحاء البارع، والبناء المحكم المتين والفكر العميق مما حللناه آنفًا، وذلك إلى جانب الموسيقى التي تستطيع العين، بلمحة واحدة، أن تحيط بنظامها، والتي تكاد أن تقطر من الأبيات من فرط امتلائها به، ثم نسمع من يتهم العقاد، وهو أحد شعراء العربية الفحول، بأن شعره جاف... أليس ذلك هو السخف بعينه؟!


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz6dOjcqKMQ