مَن رآه بديهةً هابَه
جمع الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم صفات الجمال والكمال البشري، وكريم الصفات والأخلاق والأفعال، حتى أبهرت سيرته القريب والبعيد، وتمَلَّكت هيبتهُ العدوّ والصديق، فكان صلى الله عليه وسلم صاحب هيبة تعلوه، ووقار يحيط به، وكان الذي يراه لأول وهلة يرى عليه المهابة والوقار، والذي يخالطه يرى تواضعه ورحمته، ويعرف مكارم وعظم أخلاقه. ففي السيرة النبوية لابن هشام، والشمائل المحمدية للترمذي، وأخلاق النبي وآدابه للأصبهاني، ودلائل النبوة للبيهقي، وغيرهم، أن عليّاً بن أبي طالب رضي الله عنه قال في وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم: "مَن رآه بديهةً (ابتداء) هابه، ومَن خالطه معرفةً أحَبَّه). قال الهروي: "(من رآه بديهة) أي مفاجأة من غير روية كناية عن أول الوهلة، (هابه) أي خافه مخافة العظمة، ووقع في قلبه منه المهابة، (ومن خالطه معرفة) أي من حيث عرف ما كان عليه من حُسْن العشرة ودوام البشاشة". وقد وصفت أم معبد الخزاعية النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بخيمتها مهاجراً فقالت: "رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق .. إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب".
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئِلْتُ أن أصفه ما أطقْتُ، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو متُّ على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة) رواه مسلم. قال النووي في فوائد هذا الحديث: "وفيه ما كانت الصحابة عليه من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله".
وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها قالت: (وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقيَتْ عليه المهابةُ) رواه مسلم. قال الطيبي: "(وكان قد ألقيت عليه المهابة) كان هي التي تفيد الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن علي رءوسهم الطير، وذلك عزة منه لا كِبْر وسوء خلق، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالي إياه صلوات الله عليه لا مِنْ تلقاء نفسه".
وعن قَيْلَة بنت مَخْرَمَةَ الغنوية: أنها رأت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو قاعد القرفصاء, قالت: (فلما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع أُرْعِدْتُ من الفرَق (الخوف والفزع)) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال البيضاوي: "والمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام مع اشتهاره بالتخشع، لما رأيته هبته بحيث أُرْعِدْتُ من الفرَق, وهذا غاية في المهابة, ودليل على أن مهابته أمر سماوي ليس بالتصنع". وقال الطيبي: "وهو مبالغة لكمال التخشع فيه وإلقاء رداء الهيبة عليه". وفي "مسند أبي يعلى" عن البراء بن عازب ر ضي الله عنه قال: (إن كان لتأتي عليَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فأتهيَّب منه).
ومع هيبته ووقاره، وعلو قدره ومنزلته صلى الله عليه وسلم، كان أشد الناس تواضعاً وأبعدهم عن الكِبْر، وقد قال له رجلٌ له: (يا خيرَ البريّة)، فقال مُتواضعاً: (ذاك إبراهيم عليه السلام) رواه مسلم. وكان يقول: (لا تُطروني (لا تبالغوا وتتجاوزوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري. ولما جاءه رجل ترعد فرائصه قال له: (هوِّن عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (اللحم المجفف في الشمس)) رواه ابن ماجه. وعلى قدْر توقير العبد وتعظيمه لربه يكون توقير الخَلق له، فمن عظَّم اللهَ عز وجل ووقره زرع الله له المحبة والتوقير في قلوب الناس له، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بربه عز وجل، وأشد الخلق وأعظمهم خوفاً منه سبحانه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بالُ أقوامٍ يتنَزَّهونَ عن الشيءِ أصنعُه، فواللَّه إني لأعلمهم باللَّه عز وجل وأشدهم له خشية) رواه البخاري.
وينبغي الحذر من الخلط بين المهابة وبين الكبر، فالمهابة التي مبعثها الحب والتوقير من سمات المسلم ولا تنفك عن تواضعه، وأما الكِبْر والتعالي على الناس، فيؤدي بصاحبه إلى الهلاك، وإلى أن يصبح إنساناً لا يألف ولا يؤلف.. قال ابن القيم: "والفرق بين المهابة والكِبر: أنّ المَهَابة أثرٌ من آثار امتلاء القلب بعظمه الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك، حلّ فيه النور ونزلت عليه السكينة، وأُلْبِسَ رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة، فحنَّت إليه الأفئدة، وقرّت به العيون، وأنِست به القلوب، فكلامه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، وإنْ سكت، علاه الوقار، وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع. وأما الكِبْر فأثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستيثار لا الإيثار، ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيها، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقا، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، ولا يزداد من الله إلا بعدا، ولا من الناس إلا صغارا وبغضا".
والنبي صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الأنبياء والرسل، وأعظم الناس وقاراً وهيبة، كان أشد الناس تواضعاً، ومن صفاته التي وصفه بها ربه عز وجل الرحمة ولين الجانب لأصحابه فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. فكان صلوات الله وسلامه عليه مع هيبته ووقاره يقضي لأصحابه حوائجهم، ويتواضع معهم، ويجيب دعوتهم، ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويشفق عليهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم) رواه الحاكم. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم، ويمسح برؤوسهم، ويدعو لهم) رواه النسائي.
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ملِكاً، ولكنه كان أعظم وأهْيَب من الملوك، وقد تملكت هيبتهُ العدوّ والصديق، ومع ذلك كان أشد الناس تواضعا، وأحسنهم خلقا، وكان رحمة للعالمين، قال الله تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء :107]، وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إنما أنا رحمةٌ مهداة) رواه الحاكم. وقد وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: (من رآه بديهة هابه، ومَن خالطه معرفةً أحَبَّه).
منقول