الاحتِفالُ بالمَولِد النَّبويِّ - شُبهاتٌ ورُدودٌ
علوي عبد القادر السقاف
الشُّبهةُ السَّابعةُ:
لَمَّا ثبَت لهم أنَّ الاحتِفالَ بالمولِدِ بِدعةٌ لم يَفعَلْها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا صحابتُه الكِرامُ رضِيَ اللهُ عنهم، وأكَّد على ذلك عددٌ من العُلماء، منهم الحافظُ ابنُ حجرٍ بقولِه: (أصلُ عمَلِ المولدِ بِدعةٌ لم تُنقَلْ عن أحدٍ مِن السَّلفِ الصالِح من القُرونِ الثلاثةِ)، كما نقلَه عنه السُّيوطيُّ في ((الحاوي للفتاوي)) (1/ 229)؛ قالوا: نعَمْ! هو بِدعةٌ لكنَّه بِدعةٌ حسَنة، وابنُ حجرٍ نفْسُه ذَكَر ذلك وغيرُه من العُلماء.
والصوابُ الذي عليه المحقِّقون من العُلماءِ: أنَّه لا يُوجَدُ في الإسلامِ بِدعةٌ حَسَنةٌ وبِدعةٌ ضلالةٌ، بلْ كلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ، كما هو صريحُ الحديثِ الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وكلامُ العُلماءِ في إنكارِ تَقسيمِ البِدعةِ إلى حَسنةٍ وسيِّئةٍ كثيرٌ، ويطولُ ولا يتَّسعُ المقامُ لذِكره، لكن أَكتفي بنَقلَينِ اثنينِ فقط لعالِمينِ مَشهودٍ لهما بالفِقهِ والتأصيل.
الأوَّل: الإمامُ أبو عُبَيدٍ القاسمُ بنُ سلَّام، وهو مِن أعيانِ القرنِ الثالثِ، وقد تُوفِّي عام 224هـ؛ نقَل عنه ابنُ بَطَّالٍ في شرْحه للبُخاريِّ (8/588) قولَه: (البِدعُ والأهواءُ كلُّها نوعٌ واحدٌ في الضلال).
والثاني: أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ موسى الشاطبيُّ، العالِمُ الأُصوليُّ المالكيُّ؛ قال في ((فتاويه)) (ص180): (إنَّ قولَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (كلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ) مَحمولٌ عند العُلماءِ على عُمومِه، لا يُستثنَى منه شيءٌ البتَّةَ، وليس فيها ما هو حَسَنٌ أصلًا). وقال في كتابه ((الاعتصام)) (1/246): (هذا التقسيمُ أمرٌ مُخترَعٌ، لا يدلُّ عليه دليلٌ شرعيٌّ).
وممَّا يُؤيِّد كلامَهما ما قالَه إمامُ دارِ الهجرة مالكُ بنُ أنسٍ، في قاعدتِه العظيمة: (مَن ابتدَعَ في الإسلامِ بِدعةً يراها حسَنةً، فقد زعَم أنَّ محمدًا خان الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}؛ فما لم يكُن يومئذٍ دِينًا، فلا يكونُ اليومَ دِينًا) ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (6/ 58)، و((الاعتصام)) للشاطبي (1/62).
ومَن بَعدِه تلميذُه الإمامُ الشافعيُّ؛ فقَد نقَل عنْه الجوينيُّ في ((نهاية المطلب في دراية المذهب)) (18/ 473)، والغزاليُّ في ((المستصفى)) (1/171) قوله: (مَن اسْتَحسَن فقد شَرَعَ)، ولا يُتصَوَّر ممَّن يرَى أنَّ الاستحسانَ تَشريعٌ لم يَأذَنْ به اللهُ، أنْ يقولَ بتَحسينِ بعضِ البِدعِ.
وشَبيهٌ بذلك: استشهادُهم بالحديثِ الذي رواه مسلمٌ عن جَريرٍ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنَةً فعَمِلَ بها مَن بَعدَه، كان له أجْرُها ومِثلُ أجْرِ مَن عمِلَ بها مِن غيرِ أن يَنتقِصَ مِن أجورِهم شيءٌ)، فقالوا: الاحتفالُ بالمولِد سُنَّةٌ حسَنةٌ.
وهذا منهم تَحريفٌ للحديثِ عن معناه الصَّحيحِ، وجَهلٌ أو تجاهُلٌ لسببِ وُرودِه، وهو (أنَّ قومًا أتَوُا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الأعرابِ مُجتابِي النِّمَارِ (أي: لابِسي الصُّوفِ المُخرَّقِ مِن فَقرِهم)، فحَثَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الناسَ على الصَّدقةِ، فأبْطَؤوا حتى رُئِي ذلك في وجْهِه، فجاء رجُلٌ من الأنصارِ بقِطعةِ تِبْرٍ فطرَحَها، فتتابَع الناسُ حتَّى عُرِفَ ذلك في وجْهِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: «مَن سَنَّ سُنَّةً حسَنةً...» ؛ فالمقصودُ بالحديثِ: مَن أحْيا سُنَّةً مِن سُننِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، كما عندَ ابنِ ماجهْ وغيرِه من حَديثِ عَمرِو بنِ عَوفٍ المُزَنيِّ رضِيَ الله عنه مرفوعًا: «مَن أحيا سُنَّةً مِن سُنَّتي قد أُميتتْ بَعدي كان له من الأجرِ مِثلُ مَن عمِلَ بها من غيرِ أنْ يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، ومَن ابتَدعَ بِدعةً لا يَرضاها اللهُ ورسولُه، فإنَّ عليه مِثلَ إثمِ مَن عمِلَ بها من الناسِ، لا يَنقُصُ مِن آثامِ الناسِ شيئًا» ، علَّق الشاطبيُّ بقولِه: (فدلَّ على أنَّ السُّنَّةَ هاهنا مِثلُ ما فعَل ذلك الصحابيُّ، وهو العملُ بما ثبَت كونُه سُنَّةً- يعني الصَّدقةَ) وليس المولدَ!
وإنَّ الذي قال: ((مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسَنةً ...)) هو القائلُ: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ مِن بَعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجِذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ بِدعةٌ، وكلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ)) وهو القائِل: ((مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) وكلُّها أحادِيثُ صحِيحة والأخْذُ بها جميعًا والتوفِيقُ بينها هو المتعيِّن.
الشُّبهةُ الثامِنةُ:
زعْمُهم أنَّ بعضَ الصحابةِ ابتدَع بِدعًا حسنةً، ويَستشهِدون بما جاءَ في صحيح البخاريِّ عن رِفاعةَ بنِ رافعٍ الزُّرَقيِّ، قال: كنَّا يومًا نُصلِّي وراءَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رفَع رأسَه من الرَّكعةِ، قال: سمِعَ اللهُ لِمَن حمِدَه، قال رجلٌ وراءَه: ربَّنا ولكَ الحَمدُ، حمْدًا كثيرًا طيِّبًا مُبارَكًا فيه، فلمَّا انصرَف، قال: مَنِ المتكلِّمُ؟ قال: أنا، قال: رأيتُ بِضعَةً وثلاثينَ مَلَكًا يَبتَدِرونها؛ أيُّهم يَكتبُها أوَّلُ!)؛ قالوا: هذا الصحابيُّ ابتدَعَ هذا الذِّكرَ ولم يَسمَعْه من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ، وهذه بِدعةٌ حسَنةٌ.
وهذا فهمٌ خاطئٌ؛ فالصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم لهم مَزيَّةٌ ليستْ لغيرِهم، وهي كونُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بين ظَهرانَيْهِم يُصحِّحُ أفعالَهم؛ فما فعَلَه الصحابيُّ وأقرَّه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليه فإنَّه يَصيرُ من السُّننِ التقريريَّة وليس مِن البِدعِ، كما قرَّر ذلك عُلماءُ الأُصول، وكلُّ ما يَروُونه ممَّا فعَلَه الصحابةُ وأقرَّهم عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فهو مِن هذا القَبيلِ.
ومن ذلك: استِدلالُهم بجَمْعِ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنه الصَّحابةَ لصلاةِ التراويحِ خلْفَ إمامٍ واحدٍ بعدَ وفاةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم؛ قالوا: وهذه منه بِدعةٌ حسَنةٌ.
والمتأمِّل لحادثةِ عُمرَ رضِيَ الله عنه هذِه يجِدُ أنَّ الاستشهادَ بها أضعفُ مِن سابقتِها؛ لأنَّ هذا الفِعلَ قد فعلَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم نفْسُه، حيثُ صلَّى بالصحابةِ صلاةَ التراويحِ جماعةً، وكان هو إمامَهم كما ثبَت ذلك عند الشَّيخَينِ البُخاريِّ ومُسلمٍ مِن حديثِ عائشةَ رضِي اللهُ عنها، ثمَّ لم يَخرُجْ إليهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ ذلِك خَشيةَ أنْ تُفرَضَ عليهم تلك الصَّلاةُ؛ فانقطعتْ هذه الصلاةُ في عهدِ أبي بَكرٍ وأعادَها عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه بعدَما زالتِ العِلَّةُ، وهي خوفُ الفَرْضيَّة؛ فكيف يُقال: إنَّ عُمرَ ابتدَعَ صلاةً جديدةً لم تكُن في زمنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم؟! وأين هذا من إحداثِ الاحتِفالِ بالمولِد؟!
وممَّا يَلحَقُ بهذه الشُّبهةِ: استشهادُهم بأعمالٍ فعَلَها الصحابةُ رضِيَ الله عنهم بعدَ مماتِه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، مِثل كِتابةِ القُرآنِ وجمْعِه، ونَقْطِ المصحفِ وضَبْطِه بالشَّكلِ، وقالوا: هذه كلُّها بِدَعٌ حسَنةٌ، والمولِدُ من جِنسِ هذه الأعمالِ.
وقائلُ مِثل هذا الكلامِ إمَّا جاهلٌ بعِلمِ الأُصولِ، أو مُلبِّسٌ على العامَّةِ؛ فالبِدعُ المذمومةُ هي ما لم يَفعَلْه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع وجودِ المُقتضِي الدَّاعي إليه وعدمِ وجودِ ما يَمنَعُ مِن فِعله؛ فما الذي كان يمنعُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم من إقامةِ المولِد؟! وإذا كان مقتضاه حُبَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم؛ فهذا كان موجودًا عند الصحابةِ؛ فلماذا لم يَفعلُوه؟ والجواب: لأنَّه ليس مَشروعًا.
أمَّا كِتابةُ القُرآنِ وجمْعُه فهو مِن بابِ حِفظِه مِن الضَّياعِ، وهذا المُقتضِي لم يكُن موجودًا في حياةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالوحيُ كان يَتنزَّلُ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى قُبَيلِ وفاتِه بأبي هو وأُمِّي ونفْسِي، وجُلُّ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم كانوا في المدينةِ، فلمَّا تُوفِّي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وانقطَعَ الوحيُ بعدَما اكتَمَل، وتوسَّعتْ رُقعةُ الإسلامِ وانتَشرَ الصحابةُ ومَن جاء بَعدَهم في أنحاءِ المعمورةِ، واختَلَف بعضُ الناسِ في آياتٍ مِن القُرآنِ، اقتَضَى الأمرُ جَمْعَه وكِتابتَه في مُصحَفٍ واحدٍ، فجَمعوه من الصُّدورِ ومِن الألْواحِ المُفرَّقةِ في مُصحَفٍ واحدٍ ونَسخوا مِنه نُسخًا وزَّعوها على الأمصارِ، وأحْرَقوا ما سِوى ذلك، ولَمَّا بعُدَ الناسُ عن العربيةِ ودَخلتْهم العُجمةُ؛ بسببِ دُخولِ عددٍ كبيرٍ من العَجمِ في الإسلامِ، احتاجوا لنَقْطِه؛ ليُقرأَ قِراءةً صحيحةً، أمَّا في زمنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يكُن مَجموعًا ولا مَكتوبًا بهذه الصُّورةِ، وهذا يُسمِّيه عُلماءُ الأصولِ المصالِحَ المُرسَلةَ، وشَرحُها يطولُ، وليس هذا مَقامَه.
والتقرُّبُ إلى اللهِ تعالى بالمُحْدَثاتِ، والتعبُّدُ له بالبِدعِ-كما هو الحالُ في الاحتِفالِ بالمولِدِ-، ليس من بابِ المصالِحِ المُرْسلَةِ؛ ففي بابِ العِباداتِ لا يُحْتجُّ بالمصالِح المرسلَةِ؛ لأنَّ العِباداتِ توقيفيَّةٌ، لا مجالَ فيها للرأي والاجتِهادِ والعَملِ بمُسْتَحسَناتِ الناس، ولأنَّ العِباداتِ حَقٌّ محضٌ للهِ تعالى، ولا يُمكِنُ معرفةُ حقِّه تعالى كَمًّا وكَيْفًا، وزَمانًا ومَكانًا إلَّا من جِهتِه سُبحانَه.
الشُّبهةُ التاسعةُ:
قولُهم: إنَّ الاحْتِفالَ بالمولدِ عادةٌ وليس عِبادةً؛ فلماذا تُنكرون علينا العاداتِ؟!
وهذه مُغالَطةٌ منهم وهُروبٌ من الواقِع والحَقيقةِ، وإلَّا فكيف يُقال لاجتِماعٍ فيه قِراءةٌ للقرآنِ، وذِكرٌ لله، ودُعاءٌ، وتذكيرٌ بسِيرةِ المصطفى صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وشمائلِه؛ يَتقرَّبون به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَدْعُون الناسَ إليه، ويَحثُّونهم عليه؛ ويَعدُّونه مِن أجَلِّ أعمالِهم التي يَرجُون بها الأجرَ والثوابَ؛ كيف يقولون عن مِثل هذا: إنَّه عادةٌ وليس عِبادةً؟! فما هي العبادةُ إذنْ؟!
ولو سُئل المحتفِلُ بمولدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: لماذا تَحتفِلُ؟ سيقولُ: لأنِّي أُحبُّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم. فلو قِيل له: هل الاحتِفالُ بمولِدِه صلَّى الله عليه وسلَّم طاعةٌ أو معصيةٌ؟ قطعًا لن يقولَ: هو معصيةٌ؛ إذْ كيف يَحتفِلُ بمعصيةٍ؟! سيقول: إنَّها طاعةٌ وقُرْبةٌ، فيُقال له: هل عَلِم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الطاعةَ أم جَهِلها؟ فقطعًا لن يقولَ: جَهِلها؛ فإنْ قال: عَلِمَها، سألْناه: هل بلَّغَها لأُمَّتِه أو كتَمَها؟ وهنا لا يُمكِن أن يقول: كَتَمها، فإنْ قال: بلَّغَها. قُلنا له: هاتِ الحديثَ الذي حثَّنا فيه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الاحتِفالِ بمولدِه ، وسنكونُ نحنُ أوَّلَ المحتفِلين به؛ لأنَّنا نُحبُّه وحَريصونَ أشدَّ الحِرْصِ على اتِّباعِ سُنَّته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهيهاتَ هيهاتَ أنْ يأتِيَ بحديثٍ واحدٍ صحيحٍ أو ضَعِيفٍ فيه الحثُّ على ذلك، أو حتَّى فِعلُه أو تَقريرُه!
الشُّبهةُ العاشرةُ:
ومِن شُبهاتِهم في تجويزِ الاحتِفالِ بالمولِد: تَشبيهُهم المَولِد بإقامةِ المؤتَمَراتِ؛ تكريمًا لعالِم، وإبرازًا لجُهودِه، وذِكرًا لسِيرتِه ومآثرِه، وقولهم: إنَّ اجتماعَنا لتذكُّرِ سِيرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفَضلِه على الأُمَّةِ أَوْلَى من ذلك.
والردُّ على هذه الشُّبهةِ مِن وَجهينِ:
الأوَّل: أنَّ عقْدَ ندوةٍ أو مُؤتَمرٍ للتعريفِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم وسِيرتِه والدِّفاعِ عنه أَوْلَى بلا شكٍّ مِن غيرِه، لكنَّ عقْدَ ندوةٍ أو مؤتمرٍ مرَّةً أو أكثرَ، وفي بلدٍ واحدٍ، أو أكثرَ لا يُقاسُ عليه المولدُ بحالٍ من الأحوالِ؛ فالمؤتمرُ أو الندوةُ ليس احتِفالًا وفرحًا وطربًا بقُدومِه، بل هو تعريفٌ وتعليمٌ ودعوةٌ لِمَن يَجهَلُ سِيرته ودَعوتَه مِن المسلِمين وغيرِهم.
الثاني: هذه المُؤتَمراتُ ليس لها أوقاتٌ مُحدَّدة، ولا يصحُّ أن تُعقدَ في اليومِ الذي وُلِد فيه العالِمُ؛ فهي ليستْ أعيادَ مِيلادٍ له؛ فقد يكونُ هذا العالِمُ وُلِد في رجب والمؤتمرُ يُقامُ في مُحرَّم؛ فهو ليس مُرتبِطًا بمولدِه، بل بما يُناسِبُ الحُضورَ والمشاركِينَ والقائِمينَ على المؤتمر.
فإنْ قالوا: وكذلك المولدُ يُقامُ طِيلةَ العامِ وليس في يَومٍ مُحدَّد. قلنا: هذه مُغالَطةٌ؛ بل أجمَع القائِمون على هذه الموالدِ على القِيامِ بها في اليومِ الثاني عَشرَ من ربيعٍ الأوَّل وإنْ كانوا يُقيمونَه في أيَّامٍ مُتفرِّقةٍ طِيلةَ العامِ؛ إمعانًا في تَكرارِ البِدعةِ.
وقد ذَكَر الإمامُ جمالُ الدِّينِ السُّرَّمَرِّيّ ُ حُكمَ الاحتِفالِ بالمولِدِ النبويِّ، فقال- بعدَ حِكايتِه للخِلافِ في أيِّ شهرٍ وُلِدَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي أيِّ يَومٍ مِن شَهرِ المولدِ-:
(وفي هذا الخِلافِ ما يَدلُّ على أنَّ السَّلفَ لم يكونوا يَجعلون ذلك مَوسِمًا للاجتِماعِ والولائمِ والاحتِفالِ في صُنعِ الأطعمةِ والأشربةِ والسَّماعاتِ؛ إذ السَّلفُ كانوا أعظمَ الناسِ تَوقيرًا ومحبَّةً وتَعظيمًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأحرصَ الخَلقِ على نَشْرِ مَحاسنِه؛ فلو كان يومُ مولدِه عِندَهم موسِمًا لتوفَّرتْ هِمَمُهم على حِفظِه، ولم يَكُنْ عِندَهم ولا عِندَ غَيرِهم فيه خِلافٌ، ولاتَّفَقوا عليه كما اتَّفَقوا على يَوميِ العِيدينِ وأيَّامِ التشريقِ، ويومِ عَرفةَ ويومِ عاشوراءَ، ... فلو كان المولدُ مِثلَها لحُفِظَ كما حُفِظتْ.
ولكنَّ الاجتِماعَ على قِراءةِ القُرآنِ ونَشْرِ مُعجزاتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ أخلاقِه وآدابِه، والتعريفِ لحقوقِه، وامتثالِ أوامرِه والوقوفِ لزواجرِه، وتَعليمِ سُنَنِه؛ مُستحَبٌّ في كلِّ وقتٍ، بل واجبٌ) [((المولد الكبير للبشير النذير صلى الله عليه وسلم)) ورقة (10 ب)- بواسطة: ((منْهجُ الإمَامِ جمالِ الدِّينِ السُّرَّمَرِّيّ ِ في تقرير العقِيدة)) لخالِد المطلق (72 - 73)].
الشُّبهةُ الحاديةَ عَشْرةَ:
زَعْمُهم أنَّ الاجتماعَ لتذكيرِ الناسِ بسِيرةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ يومَ وِلادتِه كالتذكيرِ في خُطبِ الجُمُعة بيومِ البَعثةِ والهِجرةِ، وكالتذكيرِ في السابِعَ عَشرَ مِن رمضانَ بغزوةِ بدرٍ، وغيرِ ذلك مِن أحداثِ السِّيرة النبويَّة؛ فلِمَ تُحرِّمون هذا وتُبيحون ذاك؟!
وهذه مُغالَطةٌ أخرى أيضًا؛ فالذين يُجيزون تَذكيرَ الناسِ بالهِجرةِ والبَعثةِ وبالغزواتِ على مِنبَرِ الجُمُعةِ يُجيزون تَذكيرَهم بوِلادتِه وبوفاتِه، فتَجِدُهم يَخطُبون بهذا وبهذا، ولا يُنكِرون شيئًا من ذلك، وليس هذا مَحَلَّ النِّزاعِ والخلافِ؛ فمَحلُّ الخِلافِ هو الاجتماعُ مِن أجلِ ذلك، والتَّداعي إليه، وتَكرارُه في أوقاتٍ مُحدَّدةٍ، والاحتفالُ به؛ لذلك فهُم أيضًا لا يُجيزون أنْ يجتمِعَ الناسُ في يَومِ البَعثةِ أو الهِجرةِ أو الغزوةِ كلَّ عامٍ ويُقيمون الولائمَ والقَصائدَ والمدائحَ والذِّكرَ مِن أجلِها، ولا يُخصِّصون ذلك اليومَ بشَيءٍ، ومعلومٌ أنَّه لنْ يُصادفَ يومُ السابِعَ عَشرَ من رَمضانَ في كلِّ عامٍ يومَ جُمُعةٍ؛ حتى يُخطُبَ عن هذه المناسبةِ قَصدًا.
ونقول أيضًا: لقد وقعَتْ ثلاثةُ أحداثٍ في شَهرِ ربيع الأوَّل؛ المولِدُ (على فَرْض التَّسليمِ بصِحَّتِه)، والهِجرةُ، والوفاةُ. ومع ذلك لم يُحْدِثِ الصحابةُ في هذا الشهرِ أيَّ عِبادةٍ دِينيةٍ مُتكررةٍ تُذَكِّرُهم بهذه الأحداثِ؛ وما ذلك إلَّا لأنَّهم فَهِموا أنَّ كمالَ الاقتِداءِ والمحبَّةِ إنما هو في الاتِّباع، وقد كانوا رضِي اللهُ عنهم أشدَّ الناسِ تعظيمًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأَشدَّهم حُبًّا له، ومع هذا التعظيمِ والحُبِّ فإنَّهم رضِي الله عنهم لم يَحتفِلوا بيومِ مَولدِه، ولا جعَلوا يومَ هِجرتِه عِيدًا، ولا صنَعوا مَأتمًا ليومِ وفاتِه صلَّى الله عليه وسلَّم.
الشُّبهةُ الثانيةَ عَشرةَ:
قولُهم: إنَّ أكثرَ العُلماءِ يُجيزون الاحتِفالَ بالمولِد، ولم يُحرِّمْه إلَّا المتشدِّدون مِن أتْباعِ ابنِ تَيميَّة.
وهنا ثَلاثُ نِقاطٍ مُهمَّة للردِّ على هذه الشُّبهةِ:
الأولى: أنَّ العِبرةَ بالحقِّ والدليلِ وليس بالكَثرةِ.
الثانية: سبَق في أوَّلِ المقالِ أنَّ عُلماءَ المسلِمين الأوائِل كالأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم لم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم جوازُه أو فِعلُه؛ فكيف يُقَال: إنَّه قولُ أكثَرِ العُلَماءِ؟
الثالثة: الزَّعمُ بأنَّه لم يُحرِّمه إلَّا أتباعُ ابنِ تيميَّة زعمٌ غيرُ صحيحٍ، وحتَّى لا أُثقِلَ على القارئِ فسأنقُلُ نقولاتٍ لثلاثَةِ عُلماء أفْتَوا بتَحريمِه ليسوا من المدرسةِ التيميَّةِ.
الأوَّل: العلَّامة تاجُ الدِّين الفاكهانيُّ، المالكيُّ؛ قال في رسالته ((المورِد في عمَل المولِد)) (ص20): (لا أعلمُ لهذا المولِدِ أصلًا في كِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا يُنقَلُ عَمَلُه عن أحدٍ مِن عُلماءِ الأُمَّة، الذين هُم القُدوةُ في الدِّين، المتمسِّكونَ بآثارِ المتقدِّمين، بلْ هو بِدعةٌ أحْدَثها البَطَّالون... وهذا لم يأذنْ فيه الشرعُ، ولا فعَلَه الصحابةُ ولا التابِعون، ولا العُلماءُ المتديِّنون، فيما عَلِمتُ، وهذا جوابي عنه بين يَدَيِ اللهِ إنْ عنه سُئلتُ، ولا جائزٌ أن يكونَ مُباحًا؛ لأنَّ الابتِداعَ في الدِّين ليس مُباحًا بإجماعِ المسلِمين).
الثاني: ابنُ الحاجِّ الفاسِي؛ قال في ((المدخل)) (2/312): (فإنْ خلا- أي: عمَلُ المولِد- منه- أي: مِن السَّماعِ- وعمِلَ طعامًا فقط، ونوَى به المولِدَ، ودعَا إليه الإخوانَ, وسَلِم مِن كلِّ ما تقدَّمَ ذِكرُه- أي: مِن المفاسِد- فهو بِدعةٌ بنَفْسِ نِيَّتِه فقط؛ إذ إنَّ ذلك زِيادةٌ في الدِّين ليس من عمَلِ السَّلفِ الماضين، واتِّباعُ السَّلفِ أَوْلَى، بل أوْجَبُ، مِن أن يَزيدَ نِيَّةً مُخالِفةً لِما كانوا عليه؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعًا لسُنَّة رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَعظيمًا له ولسُنَّتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولهُم قدَمُ السَّبقِ في المبادَرةِ إلى ذلك، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنه نوَى المولِدَ، ونحن لهم تبَعٌ؛ فيَسعُنا ما وَسِعَهم... إلخ).
وقال أيضًا: (وبعضُهم- أي: المشتغلِين بعمَلِ المولِد- يتورَّع عن هذا- أي: سماعِ الغِناءِ وتوابعِه- بقِراءةِ البخاريِّ وغيرِه؛ عوضًا عن ذلك، هذا وإنْ كانتْ قراءةُ الحديثِ في نفْسِها من أكبرِ القُرَبِ والعباداتِ، وفيها البركةُ العظيمةُ، والخيرُ الكثيرُ، لكنْ إذا فُعِل ذلك بشَرْطِه اللائِقِ به على الوجهِ الشرعيِّ، لا بنِيَّةِ المولِد، ألَا ترَى أنَّ الصلاةَ مِن أعظمِ القُرَبِ إلى اللهِ تعالى، ومع ذلك فلو فعَلَها إنسانٌ في غيرِ الوقتِ المشروعِ لها، لكان مذمومًا مُخالِفًا؛ فإذا كانتِ الصلاةُ بهذه المثابةِ؛ فما بالُك بغيرِها؟!).
الثالث: العلَّامةُ الأصوليُّ أبو إسحاقَ الشاطبيُّ، وهو من عُلماءِ المالكيَّة أيضًا؛ قال في فتاويه (ص 203): (معلومٌ أنَّ إقامةَ المولدِ على الوصفِ المعهودِ بين الناسِ بِدعةٌ مُحدَثةٌ، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ).
وختامًا:
قد يقولُ القائلُ: إنَّ الأُمَّةَ اليومَ تمرُّ بمُنعطَفٍ خطيرٍ، وقد تَكالَبَ الأعداءُ عليها من كلِّ صَوبٍ، وهي في غِنًى عن إثارةِ مِثل هذه الموضوعاتِ، التي تُفرِّقُ المسلِمين ولا تَجمَعُهم!
وللجوابِ عن ذلك أقولُ: نعمْ تمرُّ الأُمَّةُ بأخطارٍ عِظامٍ، منها تكالُب الأعداءِ عليها، ومنها انتشارُ البِدعِ والشُّبهاتِ، وتفشِّي المنكرات، وحُبُّ الشَّهوات؛ فوجبَ على الناصحِينَ النُّصحُ والتحذيرُ؛ حفاظًا على الأمَّة، وجمعًا لكلمتِها على التوحيدِ والسُّنَّة، وإنَّ هذه الأُمَّةَ المُمتحنَةَ اليومَ والمبتلاةَ، يَتوجَّب عليها في هذا الوقتِ أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ آخَر أن تُراجِعَ عَلاقتَها مع ربِّها، وذَنْبَها الذي استوجبتْ به ما حلَّ بها؛ فـ«ما نزَلَ بلاءٌ إلا بذَنبٍ»، وأنْ تُبادِرَ بالتَّوبةِ منه؛ لأنَّه «وما رُفِعَ إلا بتوبةٍ»، وأعظمُ ما عُصي اللهُ تعالى به بعدَ الشِّركِ به هو البِدعُ؛ فإنَّ البِدعةَ أحبُّ إلى إبليسَ مِن المعصيةِ، والله يقولُ الحقَّ وهو يَهدِي السَّبيلَ.
هذا: وإنَّ مِما يَصُدُّ كثيرًا من الناسِ عن قَبولِ الحقِّ ولو ظهَر لهم جليًّا بعدَ إيضاحِ الحُجَّةِ وبيانِ الأدلَّةِ النَّقليَّةِ والعَقليَّةِ: صُعوبةَ الانفكاكِ عما اعتادَوا عليه سِنينَ عديدةً، وكُرهَهم لمفارقةِ ما كان عليه الآباءُ والأجدادُ أو تخطِئَتَهم.
فنَسألُ اللهَ بمَنِّه وكَرمِه أن يُرِيَنا والمسلِمين جميعًا الحقَّ حقًّا ويَرزُقَنا اتِّباعَه، وأنْ يُرِيَنا الباطِلَ باطلًا ويَرزُقَنا اجتنابَه، وندعو بدُعاءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
اللهمَّ ربَّ جَبرائيلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ، عالِمَ الغيبِ والشهادةِ، أنْتَ تحكُمُ بين عِبادكَ فيما كانوا فيه يَختلفونَ؛ اهدِنا لِمَا اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنك؛ إنّكَ تَهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ.