التلفاز وسرقة أوقات الطفولة!!
زيد محمد رماني





كيف يتسنى للأطفال أن يصبحوا أفراداً نافعين في المجتمع؟ وكيف تعدهم سنوات سذاجتهم الطفولية لفترة البلوغ؟ وكيف يمضون أوقاتهم؟! ولاسيما أن الوقت يعتبر مقياسا مفيداً نظراً لأنه - وخلافاً للثروة والفرص الاجتماعية المتاحة - هو السلعة نفسها بالنسبة للجميع، فإذا كان أغلب الناس يظلون يقظين ست عشرة ساعة كل يوم ، فإن إجمالي ساعات اليقظة المئة والاثنتي عشرة (أسبوعياً) سيمثل موضوعاً ملائماً للدراسة، فكيف يمضي أطفالنا هذه المئة والاثنتي عشرة ساعة في الوقت الحاضر، وبخاصة الأطفال بين سن الثالثة والحادية عشرة ؟!!
لقد كان معظم الأطفال- حتى مئتي سنة مضين - يمضون وقتهم، في المجتمعات المحلية والقرى التي يعيشون فيها في ملاحظة الأفراد البالغين في أنشطتهم اليومية في العمل واللهو وكان الأطفال يتعلمون المهارات والمواقف الضرورية التي تتناسب والمجتمع المألوف الذي لم يكن بعيدا عن متناولهم
وكانت المهارات والقدرات التي يطورونها، وهم أطفال، تفيدهم عندما يصبحون بالغين·
وقد بدأ شيء من ذلك يتغير بعد ظهور الثورة الصناعية، فالناس، بدأوا يتنقلون بأعداد متزايدة من المجتمعات المحلية التي عاشوا فيها فترات طويلة إلى المدن، كانوا يبحثون عن فرص اقتصادية واجتماعية جديدة، وفي العالم الصناعي الحضري الجديد، رأى الأطفال الحياة وراقبوها بطرائق جديدة تماماً، ومن ثم وجدت المدارس لكي ترفد التعلم بالمشاهدة والملاحظة·
ثم تغيّر الوضع في السنوات الأخيرة، فأصبح الأطفال يمضون نحو 40 ساعة كل أسبوع في مشاهدة التلفاز وممارسة ألعاب الفيديو، وعندما نضيف إلى ذلك أربعين ساعة أخرى تأخذها المدرسة من وقت الأطفال أسبوعياً، بما في ذلك الوقت الذي يستوعبه الذهاب إلى المدرسة والعودة منها وأداء الواجب المدرسي في المنزل، فلن يتبقى لهم سوى 32 ساعة للتفاعل مع زملائهم·
لذا قال >جون كوندري<: >إن دور التلفاز في تكوين البيئة التي يتم في سياقها التكييف الاجتماعي للأطفال يُعّد موضوعاً جديراً بالدراسة<·
فالأطفال يقتربون من التلفاز ويشاهدونه بدوافع تختلف اختلافاً كبيراً عن الدوافع الشائعة لدى البالغين، فأغلب البالغين يشاهدون التلفاز بغرض الترفيه والتسلية، أما الأطفال فرغم أنهم يجدون التلفاز مسلياً، إلا أنهم يشاهدونه لأنهم يسعوون إلى فهم العالم من خلاله·
إن التلفاز سارق للوقت، فعندما يشاهد الأطفال التلفاز مدة أربع ساعات في اليوم أو أكثر، فإنهم لن يفعلوا أياً من الأشياء الكثيرة الأخرى التي قد تكون في نهاية المطاف أكثر أهمية من زاوية نموهم، على أن التلفاز هو أكثر من مجرد سارق للوقت النفيس، فمحتواه في البرامج وفي الإعلانات يؤثر بعمق في مواقف الأطفال ومعتقداتهم وتصرفاتهم·
فإذا كانت البدانة مثلا تمثل مشكلة للكبار والصغار، فهل يلعب التلفاز دوراً بارزاً في توافر الظروف المسببة للبدانة والسمنة؟!
يقول أكثر من باحث: في الوقت الذي لا يتضح فيه مدى قوة العلاقة السببية المحتمل وجودها فإن هناك أسباباً تسوغ الاعتقاد بوجودها·
فمشاهدة التلفاز وهي نوع من النشاط الجسدي السلبي، غالباً ما تصحب بالأكل·
كما أن الأغذية التي يُعلن عنها في التلفاز ربما أثارت الرغبة في الأكل عند المشاهد، والغذاء هو المنتج الأكثر شيوعاً في الإعلانات التجارية التلفازية·
إن مهمة صناع برامج التلفاز هي الاستحواذ على انتباه الناس، والإمساك بهم لفترة تكفي للإعلان عن منتج، وفي ضوء السلوكات الإنسانية فإن هذا العمل ليس سهلاً، فالكائنات البشرية تضجر بسرعة ويتضاءل تأثرها بسهولة، ولكي يحصل التلفاز على انتباهنا، فلابد له أن يتغير باستمرار·
ويلاحظ أن أكثر القيم الذرائعية وروداً في الإعلانات التجارية >القدرة< و>الإفادة< و>الأناقة< ومن أقلها وروداً >الشجاعة< و>التسامح<، ومن أكثر القيم التي يجري التأكيد عليها من بين القيم المتصلة بالمظهر >الجمال< و>الشباب<، أما قيمة >السعادة< فقد تم التأكيد علىها في نحو 60 في المئة من مجموع الإعلانات·
وسجلّت القيم المرتبطة بتحقيق الذات مثل: السعادة الشخصية، الحياة المثيرة، التميز الاجتماعي، وروداً أكبر عدداً في الإعلانات مقارنة مع قيم معينة أخرى أكثر غيرية مثل >المساوة< و>الصداقة<·
والواقع، أن القيم التي تؤكد عليها الإعلانات التجارية التي تُعلي من شأن القيم الإنسانية على حساب القيم الغيرية، تستحق وقفة جادة·
إذن، ما العمل؟ ! ·· ينبغي علينا أن نكف عن خداع أنفسنا فيما يتعلق بالتلفاز، وعلينا أن نبدأ بالتصرف المنضبط تجاهه·
إن بعض الآباء ربما لجأ إلى تقليل الوقت المسموح به للأطفال لمشاهدة التلفاز·
كما أن بعض الآباء الذين أدركوا خطر التلفاز يتحدثون عما يشاهدونه في التلفاز مع أطفالهم، معلقين على الأجزاء التي تبدو زائفة ومضللة بشكل خاص·
إن هذا وذاك، قد يساعد، بََيْد أننا ينبغي أن نستخدم أكثر من وسلية مناسبة وطريقة إيجابية وأسلوب حكيم ومنهجية واقعية تجعل الأطفال أكثر حذراً من استخدام التلفاز، كمصدر رئيس للمعلومات والثقافات·
إن علينا أن نفعل ما بوسعنا لتحسين ماهو متاح لأطفالنا، وأن نبحث عن البدائل المتناسبة مع مستوياتهم العمرية والفكرية والذهنية، ذلك لأن العمل الجاد من أجل صحة وسعادة وسلامة الأطفال أمر يستحق العناء·
إن الأطفال في حاجة إلى أن يتعلموا الكثير في المدرسة عن التلفاز، سواء عن برامجه أو إعلاناته·
ولو أنّ الأطفال تعلّموا أن الحصول على السلع ليس هو الهدف الأسمى في الحياة، وأن الكثير من القيم التي يتعلمونها من برامج التلفاز وإعلاناته تتناقض مع ما يتعلمونه في المدرسة، فسيكون ذلك أمر عظيم الفائدة·
إن التلفاز، >وللأسف< لن يختفي من حياتنا في يوم من الأيام، ومن غير المرجح أيضا أن يتغير بما يكفي لكي يصبح بيئة معقولة ومناسبة للتكييف الاجتماعي للأطفال·
إن الأطفال في حاجة إلى أن يعرفوا عن أنفسهم القدر نفسه الذي يحتاجون فيه إلى معرفة العالم·
إنهم في حاجة إلى قدر أكبر من التجربة وقدر أقل من التلفاز·
إن على المدارس والأسر أن تقوم بدورها على نحو أفضل مما هو حاصل الآن، وهي تحتاج إلى كل المساعدة الممكن توافرها، فالحد من تأثير التلفاز في حياة الأطفال هو خطوة أولى جيدة·
قد آن الأوان لاتخاذها·