الاختلاط.. وسراب (الضوابط الشرعيّة)
فهد بن صالح العجلان
لم يكن (الاختلاط) هو الحالة الوحيدة من الأحكام الشرعيّة التي شُقّ سياجها بسكّين (الضوابط الشرعيّة)، فعامّة المحرّمات لم تسلم ممن يضع ريشته في (وعاء) الضوابط الشرعيّة؛ ليخفّف بألوانها الجميلة لون السوء المنبعث من هذه المخالفات.
يتفق كلّ (دعاة الاختلاط) من الصحفيين والإعلاميين وبعض من لا يحمل من الأوصاف سوى أنّه يتكلّم في الاختلاط، ومعهم قلّة قليلة من المحسوبين -وظيفة- على العلم الشرعي.. يتفقون جميعاً على أن الاختلاط في التعليم والعمل وفي المناسبات واللقاءات جائز بالضوابط الشرعيّة.
آه.. ما أجمل الضوابط الشرعيّة، ولو كان ثمّ ضوابط وقيود شرعيّة لما حصل خلاف أصلاً، لكنّ ضوابط الخداع هذه ما هي إلا سراب يحسبه الإنسان غيرة وتعظيماً للشريعة، وصيانة لأحكامها، فإذا وقف عليها لم يجد أمامه إلا الجسد المحرّم بعرض أكتافه- وقد تبخّرت عنده كلّ الضوابط الشرعيّة، فما عادت صالحة إلا في إسكات الناصحين.
لنقف سوياً على هذه الضوابط، ولنحاكمها معرفيا ومنهجياً؛ لنرى هل تصلح لأن تكون ضوابط يجوز معها هذا الاختلاط، أم هو شيء مما يقال، ولا حقيقة تحته؟:
يقولون: يجب أن يغضّ بصره، وأن لا يحصل ريبة، ولا احتكاك أو تقارب بين الجنسين، وأن تكون اللغة محترمة، وغير خاضعة للقول ولا مثيرة للفتنة، وأنّ لا تتبرّج المرأة ولا تتعطّر ولا تتزيّن في بدنها ولا ملبسها، وأن تلبس لباساً محتشماً، وأن لا يحصل بينهما خلوة، وأن... الخ.
أول خطأ معرفي هنا: أنّهم يتحدثون عن (حضور) المجالس المختلطة، وأنّ من يحضرها يجب عليه أن يلتزم بكلّ هذه الضوابط السابقة.
وليس محلّ خلافنا هو في حضور المجالس المختلطة فقط، فخلافنا من الأساس في حكم وجود هذا الاختلاط، وفي حكم (تشريع) الاختلاط، والإذن به، وهو شيء آخر غير مسألة حضور المجالس المختلطة.
مثلاً.. من يريد أن يحضر إلى قبرٍ قد شيّد عليه ضريح يجتمع الناس لدعائه والتبرّك به، فحضوره جائز بالضوابط الشرعيّة، وأما الإذن بوجود مثل هذا الضريح، والسكوت عن فعل الناس عنده، فهو محرّم قطعاً بلا تفصيل، وكذلك: حضور الإنسان لمكان يباع فيه الخمر جائز بالضوابط الشرعيّة، وبقاء مثل هذا المكان محرّم بلا تفصيل، وسفر المسلم إلى البلاد التي ينتشر فيها الحرام، والكفر، والفساد جائز بالضوابط الشرعيّة، ولا يمكن أن يكون الحرام والكفر أمراً مباحاً.
وكذلك الاختلاط.. فالضوابط التي يذكرون تصلح أن تقال فيمن يحتاج أن يتعامل مع مجالس مختلطة؛ لأجل الدراسة مثلاً، فيقال له مثل هذه الضوابط، لكن لا يصحّ أن يقال: إن ذات الاختلاط الموجود في هذه الدراسة لا بأس به، فمثلهم في هذا مثل من يقول: لا تشرب الخمر، ولا تقترف الفاحشة، ولا تتعامل بالربا، ولا بأس بوجود الفاحشة والربا والخمر، ما دام أن الشخص ملتزم بالضوابط الشرعيّة، فلا يشرب هو الخمر، ولا يفعل الفاحشة والربا!
إنّ (دعاة الاختلاط) يؤمنون بوجود منكرات، ومفاسد ظاهرة في الاختلاط، من نظر، وتبرّج، وخلوة، وعلاقات حميمة، وفساد يتعدّى هذا بمراحل، فطالبوا من يحضر بأن يبتعد عن هذا، ولم ينظروا إلى الواجب على المسلمين في إغلاق منبع هذه المحرمات.
إنهم بهذا قد جعلوا الأحكام الشرعية شأناً خاصّاً متعلّقاً بالفرد، من حافظ عليه فهو مثاب ومأجور ويباح له الاختلاط، ومن خالفه فنحن نقرّه ونسكت عنه، ولا نقول له شيئاً، فعطّلوا بهذا دور النظام، والدولة في صيانة الأحكام الشرعيّة، والأمر بها، والنهي عن مخالفتها، فجزاكم الله خيراً أن نصحتم عشرة بأن يلتزموا بالضوابط الشرعيّة، وعفا الله عنكم إذ برّرتم لمائة بأن يقعوا في الحرام، وينتهكوا الأحكام الشرعية، وقزّمتم الأحكام الشرعيّة واستكثرتم عليها أن تكون ملزمة، أو أن يقوم النظام على رعايتها.
***
وربّما شرّع بعضهم للاختلاط، وبرّر له؛ بسبب وجود حاجة، أو ضرورة ماسّة له، وهنا خطأ علميّ من زاويتين:
الأولى: أنّ الحاجة والضرورة إنما تتصوّر في حالة كون التعليم كلّه تعليماً مختلطاً، فيجد الشخص نفسه محتاجاً أو مضطراً للتعليم، وهذه الصورة غير موجودة -بحمد الله- في بلادنا، فالدراسة ما زالت وستبقى-غير مختلطة، وبالتالي: فليس ثمّ حاجة أو ضرورة لهذا الاختلاط، وليست الدولة بحاجة لأن يقوم تعليمها على الاختلاط، بل إنّ إدخال الاختلاط هو الذي يتطلّب جهداً وكلفة وتغييراً ومتطلبات كثيرة.
الثانية: أنّ الحاجة والضرورة إنما تأتي على الأحكام المحرّمة، وبالتالي: فالأولى أن يحرّروا حكم الاختلاط، ثمّ يتحدثوا بعد هذا في حكم الحاجة أو الضرورة، أما أن نناقشهم في حكم الاختلاط، ثمّ يكون حديثهم عن الحاجة، فهذا تسليم منهم بأن الاختلاط محرّم، فليقولوا به إذن، ثم يكون النقاش بعد هذا في حكم الاختلاط.
***
يا لها من ضوابط رائعة لو كانت في مجتمعات مختلطة، يصيح بها غيور ليحمي الشباب والفتيان من أوضار هذه المحرمات، أمّا أن تأتي (ضوابط الخداع) في مجتمع محافظ يرفض الاختلاط، والبلد مصان عنه، والناس تأنف منه، فيطالبون بوجوده؛ لأجل أن يضعوا بعض الضوابط، فما أدري ما يضرّهم لو بقي المجتمع على رفض الاختلاط مع بقاء ضوابطهم محفوظة ومصانة، ما الذي يؤزّهم إلا أن يزجّوا بالشباب والفتيات في أتون الاختلاط، ثمّ يطالبوهم بالصيانة، والحفظ، والضوابط!.
ثمّ إن كان هذا الاختلاط بحاجة إلى كلّ هذه الضوابط الكثيرة، والنصائح المتكرّرة، فهذا إيمان منكم بأنّ الاختلاط شيء خطير، ومثير، ومسبّب لإشكالات وبلايا، فلماذا أنتم حريصون عليه أصلاً، يعني: قبل الحديث عن الضوابط، ومدى إمكانيتها، وصحّتها، ما سبب هذا اللجج في المطالبة بالاختلاط، مع كلّ هذه الضوابط التي تدلّ على إدراككم لما فيه من خطر وضرر؟.
***
الإشكاليّة الأخرى في هذه الضوابط أنّنا نتحدّث معهم عن واقع وحال من أجله تكلّم العلماء ونصح الغيورون، وهم يتحدثّون عن حالة ذهنية نظريّة يقوم الاختلاط فيها على ضوابط وقيم وآداب!
أين هذا الاختلاط الملائكي الذي يجتمع الشباب والفتيان فيه كلّ يوم ساعات طويلة، فلا تجد إلا غضّ البصر، وحفظ اللسان، والستر الكامل، والابتعاد عن أي ريبة، أو منكر من قول أو فعل؟!
من يجرجر علينا هذه الضوابط هم من أعلم الناس بأثر الاختلاط في التعليم والعمل، وما فيه من مفاسد وبلايا، وسوء تفوح رائحته في العالمين، وتحكيه المجالس، ويتناقل أخباره الناس في كلّ مكان، ثمّ يأتيك بالحديث المثالي عن غضّ البصر، والابتعاد، والستر، والصيانة، ويحلّق بنا في خيال لننسى الواقع!
لو كان (دعاة الاختلاط) صادقين في دعوتهم للضوابط الشرعيّة، لحرّموا الاختلاط؛ حفاظاً على هذه الضوابط، فمن تعظيمي لغضّ البصر، وحرمة الخلوة، ووجوب الستر، والمنع من الخضوع للقول أنّ أمنع الوسائل التي تمزّقه لا أن أشرّع ما يكون سبباً للتهوين منه والتأثير عليه.
بأي منطق يفكّر من يُجلس الشاب بجوار الفتاة ساعات طويلة كلّ يوم، ليتبادلوا الحديث والواجبات، ويتشاركوا في الفصل والساحة والمطعم والوقت الطويل، ثمّ يطالبه أن يكون طيلة هذه الفترة غاضّاً بصره عن ما حرّم الله؟ وأن لا يبدر منه أي قول فيه خضوع للقول؟ وأن لا يكون هذا سبباً لعلاقة حميمة أو خلوة.. ؟
***
وربّما حاول بعضهم التفريق بين أصل الاختلاط، وبين ما يحتفّ به.
فيقول: دعونا مما يحتفّ بالاختلاط من مفاسد، فهل ثمّ إشكال في ذات الاختلاط مع الالتزام بالضوابط، وخلوّ هذا الاختلاط من مفاسد؟
وما مثله إلا مثل من يقول: دعونا من الإسكار الموجود في الخمر، وحدثونا عن الخمر نفسه؟
الاختلاط الموجود مشتبك بالمفاسد لزوماً تامّا لا ينفكّ عنه، فطبيعة الدراسة والعمل، وطبيعة وجود الرجال والنساء فيها، يجعل ثمّ تلازم للمفاسد، وغلبة لها لا يمكن الانفكاك بينهما، خاصّة أن كلامنا في الاختلاط بطريقته المعاصرة، ولا يوجد اختلاط آخر بتطبيق مختلف.
وهذه الأنظمة الغربية المعاصرة ما زالت عاجزة عن وضع حلّ لمشكلة التحرّش الجنسي في المجالات المختلطة، علماً أن ضابط التحرّش الجنسي ضابط متعلّق بالاعتداء على الآخرين، وضبط هذا مما يمكن، ومع ذلك فما زال العجز ظاهراً في التطبيق، فكيف يمكن ضبط (النظر المحرّم)، والخضوع بالقول، وإبداء الزينة، وعدم الضرب بالأرجل، ونحو هذه الضوابط الشرعيّة التي تختلف تماماً عن الضوابط المادّية المتعلقّة بالعدوان الذي يرفضه الغربيون؟
وبالمناسبة: فبعض أصحاب الضوابط، إذا قال لك الضوابط الشرعيّة، فلا تحفل به كثيراً، فإنما يعني بها التحرّش الجنسي (الاعتداء)، وأما بقية المحرّمات القائمة على التراضي فليس له معها أي مشكلة كما هي فلسفة الحياة الغربية.
***
إن نبيّ الرحمة - عليه الصلاة والسلام - ينهانا قائلاً: ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) فقطع بنصحه ورحمته- أسباب الفتنة وسدّ ذرائعها، وهؤلاء يمهدون لها، ويشرعون ذرائعها بشرط أن لا يقع في الحرام، فالشريعة تسدّ الطرق والأسباب المؤدّية للحرام، وهؤلاء لا يريدون إلا سدّ الحرام فقط، بل وحتى الحرام قد أجازوه وأذنوا فيه؛ لأنّهم يعرفون أن الدراسة المختلطة لا تسلم من محرمات قطعية وظاهرة، ومع ذلك شرّعوها وأقرّوها، بل إنّ هذا الاختلاط بضوابط الخداع هذه تمهّد بشكل حتمي للخلوة التي نقطع بوقوع الحرام فيها، فإذا كانت الشريعة نهت عن الخلوة لما قد يحصل فيها من فساد، فضوابط الخداع قد تكفّلت أن توقع في الخلوة التي لا يشكّ أحد في حصول الحرام فيها.
واقع الدارسة المختلطة مؤسف في كلّ تطبيقاته المعاصرة، ورائحته مؤذية لكلّ غيور على أحكام الشريعة، وأمر فسادها تجاوز قضية إطلاق البصر أو الخلوة أو التبرّج إلى حال أبعد منها هذا بكثير، فهل ترون الاختلاط إن جاء لمجتمعنا سيكون خلقاً آخر؟!
إن من تعريفات الجنون أن تكرّر نفس التجربة وتتوقّع نتائج مختلفة، فهذا هو الاختلاط، فهل سيغدو صلاحاً وإيماناً وخيراً وصيانة للأحكام الشرعية بمجرّد أن نقول هو بحسب (الضوابط الشرعيّة!)
***
يتبع