القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي
محمد أبو الفتح البيانوني
التمهيد:
أ- التعريف بالقواعد الشرعية، وأنواعها ونشأتها وتطورها:
لابد للوقوف على تعريف للقواعد الشرعية من الوقوف على تعريف القواعد بوجه عام.. فالقواعد لغة: جمع قاعدة، ومن معانيها اللغوية: (الأساس)، ومنه قوله - سبحانه وتعالى-: ((وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا إنك أنت السميع العليمُ)) (البقرة: 127)، ومن معانيها أيضاً: (الضابط)، وهو الأمر الكلي ينطبق على جزئيات.
أما القاعدة اصطلاحاً، فهي: (قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها) ، وتطلق على معان ترادف الأصل والقانون، والمسألة والضابط والمقصد.. ويظهر لمن تتبع موارد الاستعمالات: أن القاعدة هي الكلية التي يسهل تعرف أحوال الجزئيات منها.
وتتعلق القاعدة بمختلف العلوم، فهناك قواعد أصولية وفقهية ونحوية، وهناك قواعد شرعية وعقلية وقانونية.. فلكل علم قواعده.
ومن مثل هذه التعريفات السابقة يمكننا تعريف القواعد الشرعية بأنها: (أحكام شرعية كلية تنطبق على أحكام فرعية متنوعة)، وهو التعريف القريب المشابه لتعريفات أكثر العلماء الذين عرفوا القواعد الفقهية والأصولية، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه وقيوده.
وهذا التعريف الذي اخترناه للقواعد الشرعية، أكثر شمولاً من غيره لجميع أنواع القواعد الشرعية التي نتحدث عنها في هذا البحث، لتشمل القواعد العقدية، والعبادية والتعاملية، والخلقية، والدعوية، وغيرها سواء اتخذت طابع القواعد الفقهية أو الأصولية.. أو كانت مما يعد من الضوابط أو القواعد.. وذلك مثل قوله - تعالى -: ((إن الحسنات يذهبن السيئات)) (هود: 114)، وقوله: ((إن مع العسر يسراً)) (الشرح: 6)، وقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) ، وقوله: ((لا ضرر ولا ضرار)).
وقول الأصوليين: (الأمر للوجوب، والنهي للتحريم..)، وقول الفقهاء: (الأمور بمقاصدها)، و (المشقة تجلب التيسير)، و (العادة محكمة)، وقول بعض الدعاة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)، وقول بعضهم: (نحن دعاة لا قضاة)، وهكذا.
أنواع القواعد الشرعية وأقسامها:
اختلفت أساليب العلماء في تقسيم القواعد الشرعية، تبعاً لاختلاف موضوعاتها المتعلقة بها من جهة، وبحسب الحيثيات التي اعتبرت في التقسيم من جهة أخرى.
ولعل أقدم وأشهر تقسيم لها هو تقسيمها إلى قواعد أصولية وقواعد فقهية، وخص بعضهم القواعد الشرعية الكبرى الخمس، وهي: (الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، والعادة محكمة)، بوصفها القواعد الكبرى، أو بأمهات القواعد الفقهية، نظراً لعمومها وشمولها لغيرها من القواعد الفرعية والأحكام الكثيرة، ومنهم من ألحق بها سادسة أو سابعة.
وقد اتجه أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - في كتابه (المدخل الفقهي العام) إلى تنسيقها وتنظيمها، فجعلها في قسمين أساسين، هما: قواعد أساسية.. وقواعد فرعية.
ووزع القواعد التسع والتسعين التي صـدرت بها مجلة الأحكام العدلية على هذين القسمين، فكان منها أربعون قاعدة أساسية، وتسع وخمسون قاعدة فرعية، ثم وزع القواعد الفرعية على القواعد الأساسية بحسب طبيعة موضوعها ومتعلقاتها.
ولكن الذي أختارُه في تقسيم القواعد الشرعية عامة: أن تقسم إلى قسمين أساسين: (قواعد شرعية عامة) و (قواعد شرعية خاصة).
وأريد بالقواعد العامة: (القواعد الشرعية المتعلقة بجميع الجوانب الشرعية المتنوعة أو بمعظمها، وإن غلب استخدامها في جانب خاص من الجوانب الشرعية أو أكثر)، وذلك مثل: أمهات القواعد الفقهية الخمس، وكثير من القواعد الأصولية والفقهية، والعقدية والعبادية، والخلقية والدعوية..
فإن هذه القواعد وأمثالها يحتاج إليها العالم والباحث في مختلف العلوم، وتصلح أصولاً وضوابط لمختلف تلك العلوم أو معظمها، سواء أكانت عقدية أم عبادية أم دعوية، على حد سواء، دون تفريق بين علم وآخر - وإن غلب عليها الاستعمال في جانب من جوانب تلك العلوم دون غيره بعض العصور والأزمان - وذلك نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين مختلف العلوم الإسلامية والأحكام الشرعية من جهة، ولكونها قواعد شرعية عامة تتعلق بالحكم الشرعي المتعلق بجميع أفعال المكلفين والعباد، دون تفريق بين جانب وآخر، من جهة أخرى.
فقاعدة (الأمور بمقاصدها) وقاعدة (الأمر للوجوب) مثلاً، قواعد يحتاج إليها في الجانب العقدي، كما يحتاج إليها في الجانب العبادي والخلقي والدعوي.. ويستدل بها وبأمثالها على أحكام فرعية كثيرة في مختلف الجوانب، وإن غلب على تسمية القاعدة الأولى اسم القاعدة الفقهية، وعلى الثانية اسم القاعدة الأصولية.. وهكذا.
وأريد بالقواعد الخاصة: (القواعد التي يغلب عليها التعلق بجانب خاص من الجوانب الشرعية، فيحتاج إليها في علم من العلوم أكثر من غيره)، وذلك كالقواعد الأصولية والفقهية والعقدية والعبادية والدعوية.. وما إلى ذلك.
ثم يأتي تقسيم القواعد الشرعية بنوعيها العام والخاص إلى قواعد أساسية، وأخرى فرعية، وذلك بحسب درجة شمولها أو اقتصارها على أحكام محدودة.. فتكون القواعد الأساسية أشبه ما تكون بأساس للقواعد الفرعية، وتكون القواعد الفرعية أشبه ما تكون بالضوابط الفقهية أو الضوابط الأصولية والدعوية وغيرها.. وإن كلاً من القواعد السابقة (العامة منها والخاصة، والأساسية منها والفرعية) قد يكون دليلها نصاً شرعياً معيناً، مثل قوله - تعالى -: ((والصلح خير)) (النساء: 128)، أو قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا ضرر ولا ضرار)).
وقد يكون دليلها اجتهادياً مستنبطاً من مجموعة النصوص الشرعية وعللها، أو من مختلف الأدلة الشرعية النقلية منها والعقلية مثل: (المشقة تجلب التيسر) و (العادة محكمة).
كما قد تكون من المتفق عليه بين العلماء أو المختلف فيه.. إلى غير ذلك من صفات وسمات يمكن من خلالها تقسيم القواعد الشرعية إلى أقسام أخرى، وتصنيفها إلى عدة أقسام بحسب الحيثية التي ينظر إليها الباحث فيها والمصنف لها.
فإنه بهذا التقسيم الجديد للقواعد الشرعية يجتمع شتات القواعد كلها في إطار شرعي واحد، كما يتم توزيعها على جميع الجوانب الشرعية المحتاجة إليها، لتعمل جميعها عمل القواعد الأصولية والفقهية في مجالها، فتكون قواعد ضابطة، ومعالم مفهمة للأحكام الشرعية المتعلقة بها، دون تفريق بين أنواعها، فلا يؤدي هذا التقسيم إلى إهمال القواعد العقدية أو الدعوية أو الخلقية من خلال العناية بالقواعد الأصولية والفقهية الغالبة، كما حدث ويحدث في الأوساط العلمية والعملية.
ويمكننا بعد هذا التوضيح تصور تقسيم القواعد الشرعية على الوجه التالي:
ومما يجدر التنبيه إليه: أن وصف القواعد الشرعية (بالكلية) - كما جرى على ذلك كثير من الكاتبين فيها - لا يفيد تأسيس وصف جديد لها، وإنما يؤكد معناها الأصلي الذي سبق أنه (قضية كلية.. )، ومن هنا استغنيت عنه مكتفياً بوصفها بالشرعية، تمييزاً لها عن غيرها من القواعد اللغوية والعقلية المجردة، وتعميماً لها على مختلف الجوانب الشرعية المتعلقة بها، مع التسليم بأن التقسيم هنا قضية اصطلاحية اجتهادية، ولا مشاحة في المصطلحات.
نشأة القواعد الشرعية وتطورها:
نمكن إرجاع نشأة القواعد الفقهية إلى (جوامع الكلم) في القرآن والسنة، حيث وردت آيات كريمة، وأحاديث شريفة تشبه القاعدة في أسلوبها وصياغتها، وذلك من حيث الكلية والشمول..
وإذا كانت جوامع الكلم عبارة عن: (عبارات قصيرة تحمل معاني عظيمة) فإن في كلام الله - تعالى -، وكلام رسوله الأمين، كثيراً من جوامع الكلم هذه التي تحمل في طياتها وجوهاً كثيرة من البلاغة والإعجاز.
فما أبلغ وأجمل قول الله - تعالى -: ((خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)) (الأعراف: 199)،
وقوله: ((ما على المحسنين من سبيل)) (التوبة: 91)،
وقوله غز وجل: ((والصلح خير)) (النساء: 128)،
وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العجماء جرحها جرار)) ،
وقوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) ،
وقوله: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.. )) ، إلى غير ذلك من نصوص كثيرة أشار إليها - صلى الله عليه وسلم - في حديثه عن بعض خصائصه، حيث يقول: ((أوتيت جوامع الكلم.. )).
ولا غرابة أن يتأثر بالأسلوب القرآني والنبوي كبارُ الصحابة الكرام، وعلماء الأمة العظام، فتجري على ألسنتهم أمثال تلك العبارات الجامعة، ولا سيما في مقام الفتوى والقضاء!
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قوله: ((مقاطع الحقوق عند الشروط)) ، كما روي عن القاضي شريح الكندي قوله: ((من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه)) ، وقد ملئت كتب المتقدمين من العلماء بأمثال تلك الأقوال الجامعة التي تعد أصولاً لكثير من القواعد الفقهية التي صيغت فيما بعد.
ولقد جرى بعض الباحثين على تقسيم تاريخ نشأة القواعد الشرعية إلى ثلاثة أطوار أساسية هي:
طور النشوء والتكون، وذلك من (زمنه - صلى الله عليه وسلم - إلى أواخر القرن الثالث الهجري).
طور النمو والتدوين، وذلك من (أوائل القرن الرابع إلى أواخر القرن الثالث عشر).
طور الرسوخ والتنسيق، وذلك من (أوائل القرن الرابع عشر إلى يومنا هذا).
ب- بيان أبرز خصائص القواعد الشرعية:
لم أر لأحد الكاتبين في القواعد الفقهية والأصولية حديثاً خاصاً عن خصائص تلك القواعد، وسماتها الأساسية، وإنما يستطيع الباحث عن تلك الخصائص أن يقف عليها في ثنايا كلام العلماء عنها، وعن أهميتها وفائدة دراستها، كما يستطيع استنباط بعض هذه الخصائص من التفكر فيها وفي طبيعتها، ولعل أبرز ما توصلت إليه من خصائصها ما يلي:
1- ضبطها للفروع:
وهذه الخصيصة واضحة من طبيعة القواعد وتعريفها، حيث إنها قضايا وأحكام كلية، تتناول فروعاً متنوعة يصعب ضبطها، والتعرف عليها، بدون هذه القواعد الكلية.
وفي بيـان أهمية هذه الخصيصة يقول الإمام القرافي في الفروق: (.. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية، دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها.. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب.. ).
ويقول في ذلك الإمام الزركشي في مقدمة كتابه (المنثور في القواعد):
(.. أما بعد: فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة، في القوانين المتحدة، هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع لأجلها، والحكيم إذا أراد التعليم، لابد له أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه.. ).
2- كشفها عن المدارك الشرعية، والحكم التشريعية:
فإن المرء من خلال تعرفه على القواعد الشرعية، وربطها بفروعها المتنوعة، تنكشف له كثير من المدارك الشرعية، والحكم التشريعية التي بنيت عليها الأحكام الإسلامية، ولا يخفى أثر الوقوف على المدارك، وتفهم الحكم، في المسلم عامة، وفي العالم خاصة.
وفي هذا يقول الإمام السيوطي في (الأشباه والنظائر) في معرض حديثه عن أهمية الوقوف عليها، كلاماً جميلاً ينطبق على معرفة القواعد الفقهية أيضاَ على وجه العموم:
(اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج لمعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان.. ).
ويقول أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - في (المدخل الفقهي العام): ((.. فإن في هذه القواعد تصويراً بارعاً، وتنويراً رائعاً للمبادئ والمقررات الفقهية العامة، وكشفاً لآفاقها ومسالكها النظرية، وضبطاً لفروع الأحكام العملية بضوابط، تتبين في كل زمرة من هذه الفروع وحدة المناط، وجهة الارتباط رابطة تجمعها إن اختلفت موضوعاتها وأبوابها).
3- كثرتها وتنوعها:
قد يتوهم البعض أن القواعد الشرعية محصورة في عدة قواعد قليلة العدد، نظراً لما شاع بين أهل العلم من قواعد فقهية وأصولية، إلا أن المتتبع لها يجدها كثيرة جداً يصعب جمعها وحصرها، وذلك لكثرتها وتنوعها من جهة - كما سبق معنا في بيان أنواعها - ونظراً لتوزعها على مختلف المصنفات والكتب والأبواب الفقهية في مختلف المدارس العلمية من جهة أخرى. فهناك القواعد العامة والخاصة، وهناك القواعد المتفق عليها والمختلف فيها، وهناك القواعد والضوابط..
وإن هذه الكثرة - وإن كانت قليلة بالنسبة لكثرة الفروع والمسائل الفقهية - وهذا التنوع في القواعد الشرعية، يمد الفقه الإسلامي بالقوة والخصوبة، ويعبر عن مدى سعة شمول الشريعة الإسلامية واستيعابها للمسائل القديمة والمستجدة..
وفي هذا يقول الإمام القرافي: (فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى القضاء، لا توجد في كتب الفقه أيضاً).
ومن هنا يستطيع الدارس لأمهات الكتب الفقهية، ولا سيما لمتقدمي الفقهاء، أن يستخرج من هذه الكتب الكثير الكثير من القواعد الكلية والضوابط الشرعية، التي قد تتفق أحياناً، وتختلف أحياناً أخرى من كتب مذهب فقهي معين إلى آخر..
وقد بَدَأت في هذا دراساتٌ جديدة مفيدة من قبل بعض الباحثين، كما فعل الدكتور علي أحمد الندوي في كتابه (القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للحصيري، شرح الجامع الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني)، والدكتور محمد الروكي في كتابه(قواعد الفقه الإسلامي) من خلال كتاب (الإشراف على مسائل الخلاف) للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي. وكما فعل فبلهما الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في جمع أصول وقواعد وضوابط كثيرة من كتب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - طبعت في (ص1-292)، المجلد الثاني من المجموعة الكاملة لمؤلفاته. إلى غير ذلك من بحوث علمية مشابهة لم تطبع بعد .
4- صلاحيتها للاستدلال بها أو الاستئناس:
تفيد عبارات كثير من المتقدمين والمتأخرين الذين كتبوا في القواعد الفقهية، أنها عبارة عن ضوابط جامعة لا تصلح للاعتماد عليها في الاستنباط، ولا يستدل بها على الأحكام الشرعية.
يقول العلامة ابن نجيم: (لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط، لأنها ليست كلية بل أغلبية، خصوصاً وهي لم تثبت عن الإمام، بل استخرجها المشايخ من كلامه).
وجاء في مقدمة مجلة الأحكام العدلية: (.. فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد، إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل.. ).
وجاء في مكان آخر: (وتلك القواعد مسلمة معتبرة في الكتب الفقهية، تتخذ أدلة لإثبات المسائل وتفهماها في بادئ الأمر، فذكرها يوجب الاستئناس بالمسائل، ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان).
ويقول أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمة الله -: (.. ومن ثمَّ لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة على الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط، دون نص آخر خاص أو عام يشمل بعمومه الحادثة المقضيّ فيها، لأن تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة واعتبار، هي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه، لا نصوص للقضاء) ، إلى غير ذلك من أقوال تؤكد هذه النتيجة.
إلا أن بعض الباحثين المحدثين ناقشوا هذه النتيجة، ولم يسلموا بها على إطلاقها، نظراً لاختلاف القواعد من حيث أصولها من جهة، ومن حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها، أو عدم وجوده من جهة أخرى، كما ذهب إلى هذا الأستاذ الدكتور محمد صدقي البورنو، فهو يقول: (فمن حيث الأصول، فإن من القواعد الفقهية ما كان أصله من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون مبنياً على أدلة واضحة من الكتاب والسنة المطهرة، فهذا النوع يصلح دليلاً شرعياً نظراً إلى أصله أو دليله) ، وضرب لذلك أمثلة عديدة.. وسبق إلى هذا الدكتور على الندوي.
ولكن لما كانت كثير من القواعد الشرعية في حقيقتها تعليلاً لأحكام شرعية متنوعة، أو تأصيلاً لها، وكان منها ما يغلب عليه الطابع الأصولي أو الطابع الفقهي.. كان من الطبيعي أن تصلح تلك القواعد الشرعية ولا سيما الأصولية منها للاستدلال والاستئناس.. فكثيراً ما يستدل العلماء لبعض المسائل الشرعية بقاعدة الاستحسان أو الاستصحاب، أو مفهوم المخالفة، وغيرها من القواعد الأصولية العامة التي أطلق عليها العلماء اسم الأدلة التبعية أو المختلف فيها.. كما يستدلون ببعض القواعد الأصولية الخاصة، مثل قولهم: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهكذا..
ولا يصلح كونها (أغلبية ترد عليها بعض المستثنيات) حجة لعدم جواز الاستدلال بها، وذلك لأن المستثنيات ترد غالباً على القواعد الفقهية دون الأصولية من جهة، ولأن الاستثناء من القاعدة لا يضعف من حجيتها وقوتها، فالعبرة للغالب وليس للنادر، وإن الاستثناء عندما يرد على قاعدة، إنما يكون استناداً إلى قاعدة أخرى راجحة في مقام الاستثناء خاصة، وليس خروجاً عن أصل القاعدة ودليلها.
ومن هنا أرى أن يلخص موضوع صلاحيتها للاستدلال والاستثناء بما يلي:
عن كثيراً من القواعد الشرعية يصلح للاستدلال به على أحكام شرعية مستجدة، أو الاستئناس به في مسألة من المسائل، ذلك:
لأن أصل بعض هذه القواعد نص صريح من القرآن أو السنة، فيكون الاستدلال بها استدلالاً بالكتاب والسنة بطريق غير مباشر، وذلك مثل قاعدة: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، وهكذا.
ولأن بعضها مستنبط من مجموع نصوص شرعية وأدلة نقلية وعقلية، فيكون حال المستدل بها في مسألة من المسائل حال من يحيل السائل أو المستفتي على أدلة القاعدة نفسها، فهو من باب الاستدلال غير المباشر بالأدلة الشرعية الأخرى أيضاً، وذلك مثل قاعدة: العادة محكمة وغيرها.
أما إذا كانت المسألة المستدل عليها اجتهادية بحتة لا تعتمد على نص شرعي، كاعتمادها على دليل عقلي مجرد، ورأى العالم دخولها تحت قاعدة من تلك القواعد المقررة، فيمكن عندئذ الاستدلال عليها بالقاعدة، ويكون دليل المسألة عندئذ هو دليل القاعدة نفسها، ويكون حال المستدل بها حال من يقول: يقاس حكم هذه المسألة على حكم تلك المسائل الاجتهادية الأخرى التي تدخل في القاعدة، مع ضرورة ملاحظة المسائل المستثناة من القاعدة المستدل بها.
ويمكن حمل كلام من منع من الاستدلال بالقواعد الفقهية مطلقاً على معنى خاص هو: أن القاعدة الفقهية لا تصلح دليلاً على نسبة حكم الحادثة المعينة الجديدة إلى مذهب معين على سبيل القضاء أو الفتوى به، ولا يتعارض هذا المعنى مع إمكانية صلاحية بعض القواعد الفقهية للاستدلال الشرعي المطلق بها على حكم من الأحكام.
وإلى مثل هذا المعنى يشير قول الدكتور علي الندوي: (وينبغي أن يبين هنا: أن عدم جواز استناد القاضي أو المفتي إلى إحدى القواعد الفقهية وحدها، إنما محله فيما يوجد فيها نص فقهي يمكن الاستناد إليه، فأما إذا كانت الحادثة لا يوجد فيها نص فقهي أصلاً لعدم تعرض الفقهاء لها، ووجدت القاعدة التي تشملها فيمكن عندئذ استناد الفتوى والقضاء إليهـا، للهم إلا إذا قطع أو ظنَّ فرقٌ بين ما اشتملت عليه القاعدة، وهذه المسألة الجديدة).
كما يمكن أن يفهم مثل هذا من كلام ابن نجيم الذي سبقت الإشارة إليه، والله أعلم.
ج- المصادر والمراجع في دراسة القواعد الشرعية:
يمكننا تقسيم المصادر والمراجع في دراسة القواعد الشرعية بوجه عام إلى قسمين أساسين، هما:
مراجع عامة لا تختص بالقواعد، مراجع خاصة بالقواعد.
كما يمكننا تقسيم كل قسم من هذين القسمين إلى:
مراجع قديمة، ومراجع حديثة.
أولاً: المصادر والمراجع العامة القديمة، ومنها:
القرآن الكريم، وتفاسيره، ولا سيما تفاسير المتقدمين من العلماء، كالطبري وابن عطية والقرطبي.
السنة النبوية وشروحها الكبرى، ولا سيما شروع الكتب الستة، والمصنفات والموطأ.
كتاب الخراج لأبي يوسف، والأموال لأبي عبيد، والأم للشافعي.
كتب طاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن الشيباني.
إلى غير ذلك من كتب قديمة مشابهة.
ثانياً: المصادر والمراجع العامة الحديثة، ومنها:
سلسلة موسوعات فقه السلف للأستاذ الدكتور محمد رواس القلعه جي.
ثالثاً: المصادر والمراجع الخاصة القديمة، منها:
1- أصول الكرخي، المتوفى سنة (340هـ)، المطبوع مع كتابه الأقوال الأصولية، تحقيق الدكتور حسين خلف الجبوري، طبعة مطابع الصفا في مكة المكرمة عام 1409هـ - 1989م.
2- تأسيس النظر للدبوسي المتوفى سنة (430هـ).
3- القواعد في فروع الشافعية، لمحمد إبراهيم السهلكي، الموفى سنة (613هـ).
4- قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، المتوفى سنة (660هـ).
5- الأشباه والنظائر لابن الوكيل الشافعي، المتوفى سنة (716هـ).
6- القواعد للمقّري المالكي (758هـ).
7- المجموع المُذهب في ضبط قواعد المَذهب للعلائي الشافعي (761هـ).
8- الأشباه والنظائر للسبكي (771هـ).
9- المنثور في القواعد للزركشي (794هـ).
10- القواعد في الفقه لابن رجب الحنبلي (795هـ).
11- القواعد في الفروع لعلي بن عثمان الغزي (799هـ).
وغيرها كثير.
رابعاً: المراجع والمصادر الخاصة الحديثة، ومنها:
1- مجلة الأحكام العدلية، لمجموعة من كبار العلماء في العهد العثماني.
2- الشروح المتنوعة لمجلة الأحكام العدلية.
3- شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا.
4- المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا.
5- القواعد الفقهية للدكتور على أحمد الندوي.
6- الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية للدكتور محمد صدقي البورنو.
7- القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للإمام جمال الدين الحصيري، شرح الجامع الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني، للدكتور علي أحمد الندوي.
8- قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي، للدكتور محمد الروكي.
إلى غير ذلك من مصادر ومراجع عامرة وخاصة، قديمة وحديثة في القواعد الشرعية المتنوعة.