تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

    القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي
    محمد أبو الفتح البيانوني

    التمهيد:
    أ- التعريف بالقواعد الشرعية، وأنواعها ونشأتها وتطورها:
    لابد للوقوف على تعريف للقواعد الشرعية من الوقوف على تعريف القواعد بوجه عام.. فالقواعد لغة: جمع قاعدة، ومن معانيها اللغوية: (الأساس)، ومنه قوله - سبحانه وتعالى-: ((وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا إنك أنت السميع العليمُ)) (البقرة: 127)، ومن معانيها أيضاً: (الضابط)، وهو الأمر الكلي ينطبق على جزئيات.
    أما القاعدة اصطلاحاً، فهي: (قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها) ، وتطلق على معان ترادف الأصل والقانون، والمسألة والضابط والمقصد.. ويظهر لمن تتبع موارد الاستعمالات: أن القاعدة هي الكلية التي يسهل تعرف أحوال الجزئيات منها.
    وتتعلق القاعدة بمختلف العلوم، فهناك قواعد أصولية وفقهية ونحوية، وهناك قواعد شرعية وعقلية وقانونية.. فلكل علم قواعده.
    ومن مثل هذه التعريفات السابقة يمكننا تعريف القواعد الشرعية بأنها: (أحكام شرعية كلية تنطبق على أحكام فرعية متنوعة)، وهو التعريف القريب المشابه لتعريفات أكثر العلماء الذين عرفوا القواعد الفقهية والأصولية، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه وقيوده.
    وهذا التعريف الذي اخترناه للقواعد الشرعية، أكثر شمولاً من غيره لجميع أنواع القواعد الشرعية التي نتحدث عنها في هذا البحث، لتشمل القواعد العقدية، والعبادية والتعاملية، والخلقية، والدعوية، وغيرها سواء اتخذت طابع القواعد الفقهية أو الأصولية.. أو كانت مما يعد من الضوابط أو القواعد.. وذلك مثل قوله - تعالى -: ((إن الحسنات يذهبن السيئات)) (هود: 114)، وقوله: ((إن مع العسر يسراً)) (الشرح: 6)، وقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) ، وقوله: ((لا ضرر ولا ضرار)).
    وقول الأصوليين: (الأمر للوجوب، والنهي للتحريم..)، وقول الفقهاء: (الأمور بمقاصدها)، و (المشقة تجلب التيسير)، و (العادة محكمة)، وقول بعض الدعاة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)، وقول بعضهم: (نحن دعاة لا قضاة)، وهكذا.
    أنواع القواعد الشرعية وأقسامها:
    اختلفت أساليب العلماء في تقسيم القواعد الشرعية، تبعاً لاختلاف موضوعاتها المتعلقة بها من جهة، وبحسب الحيثيات التي اعتبرت في التقسيم من جهة أخرى.
    ولعل أقدم وأشهر تقسيم لها هو تقسيمها إلى قواعد أصولية وقواعد فقهية، وخص بعضهم القواعد الشرعية الكبرى الخمس، وهي: (الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، والعادة محكمة)، بوصفها القواعد الكبرى، أو بأمهات القواعد الفقهية، نظراً لعمومها وشمولها لغيرها من القواعد الفرعية والأحكام الكثيرة، ومنهم من ألحق بها سادسة أو سابعة.
    وقد اتجه أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - في كتابه (المدخل الفقهي العام) إلى تنسيقها وتنظيمها، فجعلها في قسمين أساسين، هما: قواعد أساسية.. وقواعد فرعية.
    ووزع القواعد التسع والتسعين التي صـدرت بها مجلة الأحكام العدلية على هذين القسمين، فكان منها أربعون قاعدة أساسية، وتسع وخمسون قاعدة فرعية، ثم وزع القواعد الفرعية على القواعد الأساسية بحسب طبيعة موضوعها ومتعلقاتها.
    ولكن الذي أختارُه في تقسيم القواعد الشرعية عامة: أن تقسم إلى قسمين أساسين: (قواعد شرعية عامة) و (قواعد شرعية خاصة).
    وأريد بالقواعد العامة: (القواعد الشرعية المتعلقة بجميع الجوانب الشرعية المتنوعة أو بمعظمها، وإن غلب استخدامها في جانب خاص من الجوانب الشرعية أو أكثر)، وذلك مثل: أمهات القواعد الفقهية الخمس، وكثير من القواعد الأصولية والفقهية، والعقدية والعبادية، والخلقية والدعوية..
    فإن هذه القواعد وأمثالها يحتاج إليها العالم والباحث في مختلف العلوم، وتصلح أصولاً وضوابط لمختلف تلك العلوم أو معظمها، سواء أكانت عقدية أم عبادية أم دعوية، على حد سواء، دون تفريق بين علم وآخر - وإن غلب عليها الاستعمال في جانب من جوانب تلك العلوم دون غيره بعض العصور والأزمان - وذلك نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين مختلف العلوم الإسلامية والأحكام الشرعية من جهة، ولكونها قواعد شرعية عامة تتعلق بالحكم الشرعي المتعلق بجميع أفعال المكلفين والعباد، دون تفريق بين جانب وآخر، من جهة أخرى.
    فقاعدة (الأمور بمقاصدها) وقاعدة (الأمر للوجوب) مثلاً، قواعد يحتاج إليها في الجانب العقدي، كما يحتاج إليها في الجانب العبادي والخلقي والدعوي.. ويستدل بها وبأمثالها على أحكام فرعية كثيرة في مختلف الجوانب، وإن غلب على تسمية القاعدة الأولى اسم القاعدة الفقهية، وعلى الثانية اسم القاعدة الأصولية.. وهكذا.
    وأريد بالقواعد الخاصة: (القواعد التي يغلب عليها التعلق بجانب خاص من الجوانب الشرعية، فيحتاج إليها في علم من العلوم أكثر من غيره)، وذلك كالقواعد الأصولية والفقهية والعقدية والعبادية والدعوية.. وما إلى ذلك.
    ثم يأتي تقسيم القواعد الشرعية بنوعيها العام والخاص إلى قواعد أساسية، وأخرى فرعية، وذلك بحسب درجة شمولها أو اقتصارها على أحكام محدودة.. فتكون القواعد الأساسية أشبه ما تكون بأساس للقواعد الفرعية، وتكون القواعد الفرعية أشبه ما تكون بالضوابط الفقهية أو الضوابط الأصولية والدعوية وغيرها.. وإن كلاً من القواعد السابقة (العامة منها والخاصة، والأساسية منها والفرعية) قد يكون دليلها نصاً شرعياً معيناً، مثل قوله - تعالى -: ((والصلح خير)) (النساء: 128)، أو قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا ضرر ولا ضرار)).
    وقد يكون دليلها اجتهادياً مستنبطاً من مجموعة النصوص الشرعية وعللها، أو من مختلف الأدلة الشرعية النقلية منها والعقلية مثل: (المشقة تجلب التيسر) و (العادة محكمة).
    كما قد تكون من المتفق عليه بين العلماء أو المختلف فيه.. إلى غير ذلك من صفات وسمات يمكن من خلالها تقسيم القواعد الشرعية إلى أقسام أخرى، وتصنيفها إلى عدة أقسام بحسب الحيثية التي ينظر إليها الباحث فيها والمصنف لها.
    فإنه بهذا التقسيم الجديد للقواعد الشرعية يجتمع شتات القواعد كلها في إطار شرعي واحد، كما يتم توزيعها على جميع الجوانب الشرعية المحتاجة إليها، لتعمل جميعها عمل القواعد الأصولية والفقهية في مجالها، فتكون قواعد ضابطة، ومعالم مفهمة للأحكام الشرعية المتعلقة بها، دون تفريق بين أنواعها، فلا يؤدي هذا التقسيم إلى إهمال القواعد العقدية أو الدعوية أو الخلقية من خلال العناية بالقواعد الأصولية والفقهية الغالبة، كما حدث ويحدث في الأوساط العلمية والعملية.
    ويمكننا بعد هذا التوضيح تصور تقسيم القواعد الشرعية على الوجه التالي:
    ومما يجدر التنبيه إليه: أن وصف القواعد الشرعية (بالكلية) - كما جرى على ذلك كثير من الكاتبين فيها - لا يفيد تأسيس وصف جديد لها، وإنما يؤكد معناها الأصلي الذي سبق أنه (قضية كلية.. )، ومن هنا استغنيت عنه مكتفياً بوصفها بالشرعية، تمييزاً لها عن غيرها من القواعد اللغوية والعقلية المجردة، وتعميماً لها على مختلف الجوانب الشرعية المتعلقة بها، مع التسليم بأن التقسيم هنا قضية اصطلاحية اجتهادية، ولا مشاحة في المصطلحات.
    نشأة القواعد الشرعية وتطورها:
    نمكن إرجاع نشأة القواعد الفقهية إلى (جوامع الكلم) في القرآن والسنة، حيث وردت آيات كريمة، وأحاديث شريفة تشبه القاعدة في أسلوبها وصياغتها، وذلك من حيث الكلية والشمول..
    وإذا كانت جوامع الكلم عبارة عن: (عبارات قصيرة تحمل معاني عظيمة) فإن في كلام الله - تعالى -، وكلام رسوله الأمين، كثيراً من جوامع الكلم هذه التي تحمل في طياتها وجوهاً كثيرة من البلاغة والإعجاز.
    فما أبلغ وأجمل قول الله - تعالى -: ((خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)) (الأعراف: 199)،
    وقوله: ((ما على المحسنين من سبيل)) (التوبة: 91)،
    وقوله غز وجل: ((والصلح خير)) (النساء: 128)،
    وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العجماء جرحها جرار)) ،
    وقوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) ،
    وقوله: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.. )) ، إلى غير ذلك من نصوص كثيرة أشار إليها - صلى الله عليه وسلم - في حديثه عن بعض خصائصه، حيث يقول: ((أوتيت جوامع الكلم.. )).
    ولا غرابة أن يتأثر بالأسلوب القرآني والنبوي كبارُ الصحابة الكرام، وعلماء الأمة العظام، فتجري على ألسنتهم أمثال تلك العبارات الجامعة، ولا سيما في مقام الفتوى والقضاء!
    فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قوله: ((مقاطع الحقوق عند الشروط)) ، كما روي عن القاضي شريح الكندي قوله: ((من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه)) ، وقد ملئت كتب المتقدمين من العلماء بأمثال تلك الأقوال الجامعة التي تعد أصولاً لكثير من القواعد الفقهية التي صيغت فيما بعد.
    ولقد جرى بعض الباحثين على تقسيم تاريخ نشأة القواعد الشرعية إلى ثلاثة أطوار أساسية هي:
    طور النشوء والتكون، وذلك من (زمنه - صلى الله عليه وسلم - إلى أواخر القرن الثالث الهجري).
    طور النمو والتدوين، وذلك من (أوائل القرن الرابع إلى أواخر القرن الثالث عشر).
    طور الرسوخ والتنسيق، وذلك من (أوائل القرن الرابع عشر إلى يومنا هذا).
    ب- بيان أبرز خصائص القواعد الشرعية:
    لم أر لأحد الكاتبين في القواعد الفقهية والأصولية حديثاً خاصاً عن خصائص تلك القواعد، وسماتها الأساسية، وإنما يستطيع الباحث عن تلك الخصائص أن يقف عليها في ثنايا كلام العلماء عنها، وعن أهميتها وفائدة دراستها، كما يستطيع استنباط بعض هذه الخصائص من التفكر فيها وفي طبيعتها، ولعل أبرز ما توصلت إليه من خصائصها ما يلي:
    1- ضبطها للفروع:
    وهذه الخصيصة واضحة من طبيعة القواعد وتعريفها، حيث إنها قضايا وأحكام كلية، تتناول فروعاً متنوعة يصعب ضبطها، والتعرف عليها، بدون هذه القواعد الكلية.
    وفي بيـان أهمية هذه الخصيصة يقول الإمام القرافي في الفروق: (.. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية، دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها.. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب.. ).
    ويقول في ذلك الإمام الزركشي في مقدمة كتابه (المنثور في القواعد):
    (.. أما بعد: فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة، في القوانين المتحدة، هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع لأجلها، والحكيم إذا أراد التعليم، لابد له أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه.. ).
    2- كشفها عن المدارك الشرعية، والحكم التشريعية:
    فإن المرء من خلال تعرفه على القواعد الشرعية، وربطها بفروعها المتنوعة، تنكشف له كثير من المدارك الشرعية، والحكم التشريعية التي بنيت عليها الأحكام الإسلامية، ولا يخفى أثر الوقوف على المدارك، وتفهم الحكم، في المسلم عامة، وفي العالم خاصة.
    وفي هذا يقول الإمام السيوطي في (الأشباه والنظائر) في معرض حديثه عن أهمية الوقوف عليها، كلاماً جميلاً ينطبق على معرفة القواعد الفقهية أيضاَ على وجه العموم:
    (اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج لمعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان.. ).
    ويقول أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - في (المدخل الفقهي العام): ((.. فإن في هذه القواعد تصويراً بارعاً، وتنويراً رائعاً للمبادئ والمقررات الفقهية العامة، وكشفاً لآفاقها ومسالكها النظرية، وضبطاً لفروع الأحكام العملية بضوابط، تتبين في كل زمرة من هذه الفروع وحدة المناط، وجهة الارتباط رابطة تجمعها إن اختلفت موضوعاتها وأبوابها).
    3- كثرتها وتنوعها:
    قد يتوهم البعض أن القواعد الشرعية محصورة في عدة قواعد قليلة العدد، نظراً لما شاع بين أهل العلم من قواعد فقهية وأصولية، إلا أن المتتبع لها يجدها كثيرة جداً يصعب جمعها وحصرها، وذلك لكثرتها وتنوعها من جهة - كما سبق معنا في بيان أنواعها - ونظراً لتوزعها على مختلف المصنفات والكتب والأبواب الفقهية في مختلف المدارس العلمية من جهة أخرى. فهناك القواعد العامة والخاصة، وهناك القواعد المتفق عليها والمختلف فيها، وهناك القواعد والضوابط..
    وإن هذه الكثرة - وإن كانت قليلة بالنسبة لكثرة الفروع والمسائل الفقهية - وهذا التنوع في القواعد الشرعية، يمد الفقه الإسلامي بالقوة والخصوبة، ويعبر عن مدى سعة شمول الشريعة الإسلامية واستيعابها للمسائل القديمة والمستجدة..
    وفي هذا يقول الإمام القرافي: (فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى القضاء، لا توجد في كتب الفقه أيضاً).
    ومن هنا يستطيع الدارس لأمهات الكتب الفقهية، ولا سيما لمتقدمي الفقهاء، أن يستخرج من هذه الكتب الكثير الكثير من القواعد الكلية والضوابط الشرعية، التي قد تتفق أحياناً، وتختلف أحياناً أخرى من كتب مذهب فقهي معين إلى آخر..
    وقد بَدَأت في هذا دراساتٌ جديدة مفيدة من قبل بعض الباحثين، كما فعل الدكتور علي أحمد الندوي في كتابه (القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للحصيري، شرح الجامع الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني)، والدكتور محمد الروكي في كتابه(قواعد الفقه الإسلامي) من خلال كتاب (الإشراف على مسائل الخلاف) للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي. وكما فعل فبلهما الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في جمع أصول وقواعد وضوابط كثيرة من كتب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - طبعت في (ص1-292)، المجلد الثاني من المجموعة الكاملة لمؤلفاته. إلى غير ذلك من بحوث علمية مشابهة لم تطبع بعد .
    4- صلاحيتها للاستدلال بها أو الاستئناس:
    تفيد عبارات كثير من المتقدمين والمتأخرين الذين كتبوا في القواعد الفقهية، أنها عبارة عن ضوابط جامعة لا تصلح للاعتماد عليها في الاستنباط، ولا يستدل بها على الأحكام الشرعية.
    يقول العلامة ابن نجيم: (لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط، لأنها ليست كلية بل أغلبية، خصوصاً وهي لم تثبت عن الإمام، بل استخرجها المشايخ من كلامه).
    وجاء في مقدمة مجلة الأحكام العدلية: (.. فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد، إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل.. ).
    وجاء في مكان آخر: (وتلك القواعد مسلمة معتبرة في الكتب الفقهية، تتخذ أدلة لإثبات المسائل وتفهماها في بادئ الأمر، فذكرها يوجب الاستئناس بالمسائل، ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان).
    ويقول أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمة الله -: (.. ومن ثمَّ لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة على الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط، دون نص آخر خاص أو عام يشمل بعمومه الحادثة المقضيّ فيها، لأن تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة واعتبار، هي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه، لا نصوص للقضاء) ، إلى غير ذلك من أقوال تؤكد هذه النتيجة.
    إلا أن بعض الباحثين المحدثين ناقشوا هذه النتيجة، ولم يسلموا بها على إطلاقها، نظراً لاختلاف القواعد من حيث أصولها من جهة، ومن حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها، أو عدم وجوده من جهة أخرى، كما ذهب إلى هذا الأستاذ الدكتور محمد صدقي البورنو، فهو يقول: (فمن حيث الأصول، فإن من القواعد الفقهية ما كان أصله من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون مبنياً على أدلة واضحة من الكتاب والسنة المطهرة، فهذا النوع يصلح دليلاً شرعياً نظراً إلى أصله أو دليله) ، وضرب لذلك أمثلة عديدة.. وسبق إلى هذا الدكتور على الندوي.
    ولكن لما كانت كثير من القواعد الشرعية في حقيقتها تعليلاً لأحكام شرعية متنوعة، أو تأصيلاً لها، وكان منها ما يغلب عليه الطابع الأصولي أو الطابع الفقهي.. كان من الطبيعي أن تصلح تلك القواعد الشرعية ولا سيما الأصولية منها للاستدلال والاستئناس.. فكثيراً ما يستدل العلماء لبعض المسائل الشرعية بقاعدة الاستحسان أو الاستصحاب، أو مفهوم المخالفة، وغيرها من القواعد الأصولية العامة التي أطلق عليها العلماء اسم الأدلة التبعية أو المختلف فيها.. كما يستدلون ببعض القواعد الأصولية الخاصة، مثل قولهم: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهكذا..
    ولا يصلح كونها (أغلبية ترد عليها بعض المستثنيات) حجة لعدم جواز الاستدلال بها، وذلك لأن المستثنيات ترد غالباً على القواعد الفقهية دون الأصولية من جهة، ولأن الاستثناء من القاعدة لا يضعف من حجيتها وقوتها، فالعبرة للغالب وليس للنادر، وإن الاستثناء عندما يرد على قاعدة، إنما يكون استناداً إلى قاعدة أخرى راجحة في مقام الاستثناء خاصة، وليس خروجاً عن أصل القاعدة ودليلها.
    ومن هنا أرى أن يلخص موضوع صلاحيتها للاستدلال والاستثناء بما يلي:
    عن كثيراً من القواعد الشرعية يصلح للاستدلال به على أحكام شرعية مستجدة، أو الاستئناس به في مسألة من المسائل، ذلك:
    لأن أصل بعض هذه القواعد نص صريح من القرآن أو السنة، فيكون الاستدلال بها استدلالاً بالكتاب والسنة بطريق غير مباشر، وذلك مثل قاعدة: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، وهكذا.
    ولأن بعضها مستنبط من مجموع نصوص شرعية وأدلة نقلية وعقلية، فيكون حال المستدل بها في مسألة من المسائل حال من يحيل السائل أو المستفتي على أدلة القاعدة نفسها، فهو من باب الاستدلال غير المباشر بالأدلة الشرعية الأخرى أيضاً، وذلك مثل قاعدة: العادة محكمة وغيرها.
    أما إذا كانت المسألة المستدل عليها اجتهادية بحتة لا تعتمد على نص شرعي، كاعتمادها على دليل عقلي مجرد، ورأى العالم دخولها تحت قاعدة من تلك القواعد المقررة، فيمكن عندئذ الاستدلال عليها بالقاعدة، ويكون دليل المسألة عندئذ هو دليل القاعدة نفسها، ويكون حال المستدل بها حال من يقول: يقاس حكم هذه المسألة على حكم تلك المسائل الاجتهادية الأخرى التي تدخل في القاعدة، مع ضرورة ملاحظة المسائل المستثناة من القاعدة المستدل بها.
    ويمكن حمل كلام من منع من الاستدلال بالقواعد الفقهية مطلقاً على معنى خاص هو: أن القاعدة الفقهية لا تصلح دليلاً على نسبة حكم الحادثة المعينة الجديدة إلى مذهب معين على سبيل القضاء أو الفتوى به، ولا يتعارض هذا المعنى مع إمكانية صلاحية بعض القواعد الفقهية للاستدلال الشرعي المطلق بها على حكم من الأحكام.
    وإلى مثل هذا المعنى يشير قول الدكتور علي الندوي: (وينبغي أن يبين هنا: أن عدم جواز استناد القاضي أو المفتي إلى إحدى القواعد الفقهية وحدها، إنما محله فيما يوجد فيها نص فقهي يمكن الاستناد إليه، فأما إذا كانت الحادثة لا يوجد فيها نص فقهي أصلاً لعدم تعرض الفقهاء لها، ووجدت القاعدة التي تشملها فيمكن عندئذ استناد الفتوى والقضاء إليهـا، للهم إلا إذا قطع أو ظنَّ فرقٌ بين ما اشتملت عليه القاعدة، وهذه المسألة الجديدة).
    كما يمكن أن يفهم مثل هذا من كلام ابن نجيم الذي سبقت الإشارة إليه، والله أعلم.
    ج- المصادر والمراجع في دراسة القواعد الشرعية:
    يمكننا تقسيم المصادر والمراجع في دراسة القواعد الشرعية بوجه عام إلى قسمين أساسين، هما:
    مراجع عامة لا تختص بالقواعد، مراجع خاصة بالقواعد.
    كما يمكننا تقسيم كل قسم من هذين القسمين إلى:
    مراجع قديمة، ومراجع حديثة.
    أولاً: المصادر والمراجع العامة القديمة، ومنها:
    القرآن الكريم، وتفاسيره، ولا سيما تفاسير المتقدمين من العلماء، كالطبري وابن عطية والقرطبي.
    السنة النبوية وشروحها الكبرى، ولا سيما شروع الكتب الستة، والمصنفات والموطأ.
    كتاب الخراج لأبي يوسف، والأموال لأبي عبيد، والأم للشافعي.
    كتب طاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن الشيباني.
    إلى غير ذلك من كتب قديمة مشابهة.

    ثانياً: المصادر والمراجع العامة الحديثة، ومنها:
    سلسلة موسوعات فقه السلف للأستاذ الدكتور محمد رواس القلعه جي.

    ثالثاً: المصادر والمراجع الخاصة القديمة، منها:
    1- أصول الكرخي، المتوفى سنة (340هـ)، المطبوع مع كتابه الأقوال الأصولية، تحقيق الدكتور حسين خلف الجبوري، طبعة مطابع الصفا في مكة المكرمة عام 1409هـ - 1989م.

    2- تأسيس النظر للدبوسي المتوفى سنة (430هـ).

    3- القواعد في فروع الشافعية، لمحمد إبراهيم السهلكي، الموفى سنة (613هـ).

    4- قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، المتوفى سنة (660هـ).

    5- الأشباه والنظائر لابن الوكيل الشافعي، المتوفى سنة (716هـ).

    6- القواعد للمقّري المالكي (758هـ).

    7- المجموع المُذهب في ضبط قواعد المَذهب للعلائي الشافعي (761هـ).

    8- الأشباه والنظائر للسبكي (771هـ).

    9- المنثور في القواعد للزركشي (794هـ).

    10- القواعد في الفقه لابن رجب الحنبلي (795هـ).

    11- القواعد في الفروع لعلي بن عثمان الغزي (799هـ).

    وغيرها كثير.

    رابعاً: المراجع والمصادر الخاصة الحديثة، ومنها:
    1- مجلة الأحكام العدلية، لمجموعة من كبار العلماء في العهد العثماني.

    2- الشروح المتنوعة لمجلة الأحكام العدلية.

    3- شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا.

    4- المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا.

    5- القواعد الفقهية للدكتور على أحمد الندوي.

    6- الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية للدكتور محمد صدقي البورنو.

    7- القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للإمام جمال الدين الحصيري، شرح الجامع الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني، للدكتور علي أحمد الندوي.

    8- قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي، للدكتور محمد الروكي.


    إلى غير ذلك من مصادر ومراجع عامرة وخاصة، قديمة وحديثة في القواعد الشرعية المتنوعة.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

    القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي (3)
    محمد أبو الفتح البيانوني

    القسم الأول: القواعد الشرعية العامة وأثرها في ترشيد العمل الإسلامي:
    المبحث الأول: نماذج من القواعد وتطبيقاتها في الجانب العقدي
    إن المتتبع للقواعد الشرعية العامة في جانب العقائد يراها كثيرة منتشرة في كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما يقف على كثير منها في كلام السلف الصالح، وفي ثنايا الكتب العقدية المتنوعة.
    كما يجد بعضها اتخذ صيغة القاعدة وأسلوبها على وجه يتبادر إلى ذهن السامع لها أنها قاعدة عقدية، نظراً لأسلوب صياغتها من جهة، ولعلاقتها المباشرة بموضوعات عقدية واضحة من جهة أخرى. ويجد بعضً منها لم تتبلور صياغته بعد كقاعدة عقدية، وإنما اتخذ طابع حكم عقدي عام، يستخدمه العلماء في تقرير مسائل عقدية عديدة.. وهنا يبرز دور العلماء والمتخصصين في العلوم الشرعية في بلورة مثل هذه القواعد وتطوير صياغتها حتى تتخذ مع الزمن شكل القاعدة الفقهية أو الأصولية المعهودة.
    ونظراً لكثرة مثل هذه القواعد من النوعين السابقين قي الجانب العقدي كغيره من الجوانب الأخرى - سأقوم في كل مبحث من هذه المباحث بخطوتين هما:
    1- سَردُ نماذج لما يمكن أن يسمى قاعدة عقدية على سبيل التمثيل لا الحصر.
    2- إجراء تطبيقات عقدية على عدد منها، لبيان كيفية الإفادة منها في الجانب العقدي وربطها به.
    آملاً أن يكون مصل هذا العمل مفتاحاً عملياً، وأنموذجاً صالحاً للكتابة في هذا الموضوع.
    أولاً: سَردُ نماذج للقواعد العقدية:
    1- قوله - تعالى -: ((إنا كل شيءٍ خلقنه بقدرٍ)) (القمر: 49).
    2- قوله - تعالى -: ((يمحوا الله ما يشاءُ ويثبتُ وعنده أمُّ الكتاب)) (الرعد: 39).
    3- قوله - تعالى -: ((إلا من أكرهَ وقلبه مطمئن بالإيمان)) (النحل: 106).
    4- وقوله: ((فماذا بعد الحق إلا الضلال ُ)) (يونس: 32).
    5- وقوله: ((ومن يتوكل على الله فهو حسبه)) (الطلاق: 3).
    6- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفعت الأقلام وجفَّت الصُّحُف ُ)).
    7- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلِماً فإن كان كافرِاً وإلا كان هوَ الكافِرُ)).
    8- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدُ الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ إلى النار)).
    9- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكلَّ بدعة ضلالهٌ)).
    10- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولكن من رضي وتابع)).
    11- قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق).
    12- قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
    13- قول أبن مسعود - رضي الله عنه -: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن).
    14- قول علي - رضي الله عنه -: (كَدَرُ الجماعة ولا صفاء الفرقة).
    15- قول بعض العلماء: (يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال).
    16- قول الإمام أبو جعفر الطحاوي: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه).
    17- وقوله: (ولا تثبتُ قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام) .
    18- وقوله: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً) .
    19- وقوله: (ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود) .
    20- وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه) .
    إلى غير ذلك من قواعد عقدية كثيرة.
    ثانياً: إجراء تطبيقات عقدية على عدد من القواعد.
    سأكتفي في مجال التطبيقات بالتطبيق على خمس قواعد فقط في كل جانب من الجوانب مراعاة لحجم البحث، فمن ذلك:
    1- قاعدة (ولكن من رضي وتابع).
    هذه القاعدة جزءٌ من حديث نبوي شريف أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ستكون أمراءُ فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلّوا)) .
    يقول الإمام النووي في شرحه: (.. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولكن من رضي على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضى به، أو بأن لا يكرهه بقلبه، أو بالمتابعة عليه) .
    ويظهر من سياق الحديث الشريف، ومن كلام الإمام النووي أن هذه القاعدة تتعلق بباب التعامل مع الأمراء، وبباب الأمر بالمعروف والنهي علن المنكر، وليس بباب العقائد، وإنما استشهدت بها في جانب العقيدة نظراً لاستخدام بعض العلماء لها في باب العقيدة من جهة، ولتعلقها بعمل القلب وهو الرضى والإنكار من جهة أخرى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
    ويؤخذ من هذه القاعدة أن مناط التكفير أو التأثيم في مشايعة الكفر أو الإثم، إنما هو في الرضى به والمتابعة عليه، وليس مجرد السكوت عنه، وذلك لأن السكون لا يصلح دللاً قوياً على المتابعة والرضى، فقد يسكت المرء عن منكر من المنكرات مهما كان كبيراً، لجهله بحكمه، أو لخوفه من صاحبه، أو لعدم قدرته على الإنكار باللسان أو اليد، أو لترتب مفسدة أكبر في نظره على إنكاره له.. وما إلى ذلك، فيكتفي بالإنكار بقلبه عن طريق بغضه له وسخطه على فاعله.
    وكثيراً ما يغفل بعض الناس عن مثل هذه القاعدة فيحكمون بكفر بعض الناس أو تأثيمهم بمجرد سكوتهم عن مكفّر أو مفسّق، غافلين عن خطر الخطأ في ميدان التكفير والتأثيم ولا سيما لم يكن أهلاً لذلك! .
    2- قاعدة (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق) . هذه القاعدة وردت على لسان عدد من علماء السلف، أمثال ابن عباس - رضي الله عنه -، وطاووس وغيرهما.
    فعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) (المائدة: 44)، قال: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق)، وعن طاووس وغيره: (ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر) .
    وورد عن كثير من العلماء تقسيم الشرك إلى شرك أصغر وأكبر .
    ومما دعا العلماء إلى مثل هذا التفريق بين كفر وكفر، وشرك وشرك، ورود نصوص شرعية كثيرة تطلق وصف الكفر أو الشرك، أو الظلم أو الفسق، أو تنفي وصف الإيمان عمن ارتكب كبيرة من الكبائر، مثل ما ورد في سورة المائدة: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))، ومصل ما أخرجه البخاري ومسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) .
    وما أخرجاه أيضاً من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم قسون وقتاله كفر)) .، وما أخرجه الترمذي وحسنه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) .، إلى غير ذلك من نصوص شرعية وقعت بعض الفرق بسببها في تكفير مرتكب الكبيرة دون انتباه إلى مثل هذه القاعدة ..
    ويكن توضيح معنى هذه القاعدة فيما يأتي: إن كلاً من الكفر والظلم والفسق يكون على درجات، فكل ما ثبت بنص شرعي أنه كفر أو شرك، ودلّت الدلائل الشرعية الأخرى على أنه ليس كفراً أو شركاً خرجاً من الملة، فهو كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وكذلك كل ما ورد فيه الوعيد بأنه: ليس منا، أو تبرأ منه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نفى عنه وصف الإيمان، ودلت الدلائل الشرعية الأخرى أنه ليس مخرجاً من الملة فهو من الكبائر التي قد يقع فيها المؤمن، ولا تخرجه عن مطلق وصف الأيمان.
    ومن هنا قال الإمام أحمد - رحمة الله -: (من أتى هذه الأربع: الزنا السرقة وشرب الخمر، والنُهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم، ولا أسميه مؤمناً، ومن أتي دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان) .
    ومن هذه القاعدة يظهر خطأ الذين كفروا المسلم بمجرد اقتراف الكبائر دون تفريق بين المستحل لها وبين غيره، مما وقع فيه بعض المتقدمين وكثير من المتأخرين اليوم، اعتماداً على مثل هذه النصوص المطلقة دون تقييد لها بما يجب تقييده بما تفيده النصوص الأخرى والقواعد الشرعية العامة.
    ولعل من القواعد الفرعية التابعة لهذه القاعدة، قول جمهور علماء أهل السنة: (كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً)، ومما يؤكده قوله - تعالى -: ((قالت الأعراب أمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبكم)) (الحجرات: 14).
    3- قاعدة: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
    4- قاعدة: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن).
    5- قاعدة: (كدر الجماعة، ولا صفاء الفرقة).
    وقد جمعت بين هذه القواعد الثلاث نظراً لقوة الترابط والتكامل بينها.
    أما القاعدة الأولى فعد وردت عن الصحابي الجليل عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه -، ورويت مرفوعة، وهي صريحة ببيان حقيقة الجماعة التي أمر الشارع بالتزامها، وأنها لا تكون مع الكثرة دائماً، فلا يجوز يترك المسلم الحق ويأخذ بالباطل، لقلة الآخذين بالحق، وانصراف النسا عنه، كما لا يجوز أن يتمسك المسلم بالباطل وينحاز إليه بحجة أخذ الناس به وانصرافهم إليه.
    فالحق ثابت، وواجب الأخذ به دائماً، ولا عبرة بالاجتماع على الباطل، قال - تعالى -: ((ولو اتبع الحق أهواهم لفسدت السماواتُ والأرض ومن فيهن)) (المؤمنون: 71)، وقال: ((وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله)) (الأنعام: 116).
    والمراد بالحق هنا: الثابت قطعاً، الذي لا يشوب ثبوته احتمالٌ، وكان على وجه لا يقبل اجتهاداً ولا تأويلاً، وهو الذي ورد النهي عن التفرق فيه والاختلاف حوله، قال - تعالى -: ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)) (آل عمران: 105).
    ولا يراد به الحق الاجتهادي أو ما يسمى صواباً عند المجتهد، لأنه مختلف في حقّيته، فقد يكون صواباً عند مجتهد وخطأً عند آخر. فإن مثل هذا الحق الاجتهادي لا تنبغي معاملته معاملة ذلك الحق البين، ولا يجوز الافتراق بسببه، كما لا تجوز المفاصلة فيه، لأنه وإن كان صواباً وحقاً عند من رآه، فهو يحتمل الخطأ في ذاته، وقد يراه غيره خطأً، ولهذا ورد عن الأئمة - رحمهم الله - فولهم: (مذهبي صواب ويحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ ويحتمل الصواب) .
    فلو ترك الناس جميعاً حقاً ثابتاً، ووقعوا جميعاً في إثم قاطع - كما لو استباحوا الخمر والزني والربا- فالواجب على المسلم أن يتمسك بالحق في ذلك ولو كان وحده، أما لو اختلف قولهم في مسألة اجتهادية، ورأى بعضهم أن الحق في كذا، وخالفهم فيه غيرهم، فلا يجوز أن تفترق صفوفهم بسبب هذا الخلاف، فلكل طرف أ، يتمسك بما يراه حقاً، إذا لم تترتب على هذا التمسك بالحق الاجتهادي مفسدة راجحة، وإلا فلا بد أن يتنازل بعضهم عن اجتهاده لاجتهاد الآخرين، لأن الاجتماع على خطأ اجتهادي في نظر البعض، أولى من التفرق على صواب اجتهادي عند الآخرين .
    ومن الغفلة عن مثل هذا الفرق بين الحقين (القاطع والاجتهادي) وقع بعض الناس في التعصب لما يرونه حقاً باجتهادهم، وعاملوه معاملة الحق المطلق، وتمسكوا به وفاصلوا من خالفهم على أساسه، وإذا راجعهم أحد في موقفهم، وأنكر عليهم افتراقهم بسببه، احتجوا عليه بهذه القاعدة (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)!! ناسين أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، الذي رويت عنه هذه القاعدة، هو نفسه الذي قال وروى: (مارآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) ، مفرقاً بين ما رآه المسلمون باجتهادهم أنه حق، وبين ما قرره الشارع وأثبت حقّيته!!
    ويمكن في نظري أن يعتبر القول الثاني لابن مسعود - رضي الله عنه -، قاعدة تابعة لقوله الأول، فتشكلان معاً ضابطاً شرعياً مهماً لموقف المسلم من القضايا الاجتهادية وغيرها، وتُكَونان معاً قاعدتين مكملتين لقاعدة: (يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار)، التي سبقت في أمثلة القواعد العقدية الواردة في الأحاديث النبوية.
    كما يمكن أن يلحق بهذه القواعد ما روي عن علي - رضي الله عنه - من قوله: (كدر الجماعة ولا صفاء الفرقة) ، إذ تؤكد هذه القاعدة ما قررته قبل قليل من أن الاجتماع على خطأ اجتهادي في نظر البعض، أولى من التفرق على صواب اجتهادي عند آخرين.
    وما أخرجه البخاري في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - يؤيد ترجيحه التنازل عن الرأي الاجتهادي في سبيل الألفة والاجتماع، فعن عبيدة عن علي - رضي الله عنه - قال (اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي) ، وجاء في الفتح أن سبب قوله هذا: أن علياً كان لا يحبذ بيع أم الولد - كما كان يرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ثم رجع عن ذلك وقال بالجواز، فقال له عبيدة: (رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة)، فقال علي ما قال. وفي رواية عن عبيدة: (بعث إلي عليٌ وإلى شريح فقال: إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون.. إلى آخر قوله السابق) .
    ومما يزيد أهمية هذه القاعدة أنها صدرت عن علي - رضي الله عنه -، الذي عانى أكثر من غيره من وراء خلافه مع معاوية - رضي الله عنه - في شأن الخلافة.. ولعل مثل هذه النتيجة التي توصل إليها بع خلاف طويل، ترك بصماته وآثاره على حياة الأمة في عهده وعهد من بعده إلى اليوم، هي التي نبهت ولده الإمام الحسن - رضي الله عنه - إلى ضرورة التنازل عما يراه حقاً إلى الطرف الآخر، فحقن بذلك الدماء، وجمع الكلمة، مؤثراً الاجتماع - على الرغم من الكدر الذي فيه - على ذلك الصفاء النسبي المتوهم أو العارض في ذلك الافتراق، بعد أن عايش وذاق مع والده رضي الله عنه ويلات الافتراق والاقتتال بين المسلمين.
    ولعل في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل في حق الحسن - رضي الله عنه -:
    ((إن ابني هذا سيدٌ ولعلَّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) ، تأييداً صريحاً لهذا الموقف، وتأكيداً لصحة معنى هذه القاعدة .
    المبحث الثاني: نماذج من القواعد وتطبيقاتها في الجانب العبادي
    إن شأن القواعد الشرعية المتعلقة بجانب العبادات، شأن القواعد الشرعية المتعلقة بجانب العقائد، يجدها الباحث في كلام الله - عز وجل - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يقف على كثير منها في كلام العلماء والأئمة من السلف والخلف، وفي ثنايا الكتب الفقهية عامة وفي كتب التدليل والتعليل خاصة، وذلك على مختلف المدارس الفقهية، ولا سيما في أبواب العبادات..
    فمنها ما اتخذ شكل القاعدة الكلية العامة المتفق عليها غالباً، ومنعا ما اتخذ شكل الضابط الفقهي الذي كثيراً ما يختلف من مذهب فقهي إلى آخر..
    أولاً: سرد نماذج للقواعد العبادية:
    1- قوله - سبحانه وتعالى-: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) (الذاريات: 56).
    2- وقوله: ((ليس البر أن تولوا وجهوكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من أمنا بالله واليوم الأخر وملائكة ولكتاب والنبيين)) (البقرة: 177).
    3- وقوله: ((وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين)) (الحجر: 99).
    4- قوله - تعالى -: ((ما يعبدون إلا كما يعبد أباؤهم من قبل)) (هود: 109).
    5- قوله - تعالى - في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلى عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه.. )) .
    6- وقوله: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه..)) .
    7- قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يمل الله حتى تملوا)) .
    8- وقوله - صلى الله عليه وسلم - ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)) .
    9- وقوله: ((وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) .
    10- وقوله: ((إن في الصلاة شغلاً)) .
    11- قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) .
    12- قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) .
    13- قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لتأخذوا مناسككم)) .
    14- قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ليس من البر الصوم في السفر)) .
    15- قول ابن عباس: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها) .
    16- قول الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: (جماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع) .
    17- وقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه) .
    18- وقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: (الأصل في العبادات الحظر، والأصل في العادات الإباحة) .
    19- وقوله أيضاً: (الوجوب يتعلق بالاستطاعة، فـلا واجب مع العجز، ولا محرم مع ضرورة) .
    20- وقوله: (الأحكام الأصولية والفروعية لا تتم إلا بوجود الشروط، وانتفاء الموانع) .
    إلى غير ذلك من قواعد وضوابط كثيرة تتعلق بالعبادات بوجه عام، أو بعبادة منها على وجه الخصوص، تزخر بها معظم كتب الفقه.
    ثانياً: إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة:
    1- قاعدة: (وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه.. ).
    يؤكد هذا الحديث القدسي الشريف: أن أفضل ما يتقرب به إلى الله - عز وجل - هو العمل بما افترضه على عباده.
    إذ ليس من العقل والحكمة أن يتقرب العبد إلى خالقه بما أباحه له، أو ندبه إلى فعله، في الوقت الذي يهمل قيه الواجب الذي فرضه الله عليه وألزمه به! فلا تتحقق طاعة العبد لله - عز وجل - إلا بتنفيذ الأوامر واجتناب الواهي التي تعد الفيصل الأساس بين العبد المطيع العبد العاصي. وما شرعت النوافل بعد ذلك إلا تكميلاً لمعنى الطاعة، ومبالغة في معنى التقرب من الله والتحبب إليه - سبحانه -.
    ومن العجب أن ترى أناساً يحرصون على كثير من النوافل في بعض العبادات، في الوقت الذي يهملون فيه فروضاً أخرى!!
    فقد يتوسع المرء الجاهل في عبادة مندوبة تنسجم مع طبيعته وتوافق هواه، أو تسهل عليه، ويقصر في عبادة واجبة تشق عليه، أو لا تستريح إليها نفسه، مما يقدح في حقيقة عبوديته، وصدق طاعته لربه!!
    فتأتي هذه القاعدة الشرعية لتوضح المنهج، وترتب الأولويات في طريق التقرب إلى الله - عز وجل -، فالأولوية المطلقة في هذا الأداء الفروض الشرعية، وتأتي النوافل والمندوبات في الدرجة الثانية تابعة ومكملة، كما تصرح بذلك القاعدة الثانية الواردة في الحديث نفسه: (وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه... الحديث).
    ومما يؤكد دلالة هذه القاعدة ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: (قال رجل يا رسول الله: إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، قال: يا رسول الله إن فلانة تذكر من قلة صيامها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: هي في الجنة).
    فلم تنقذ المرأة من النار كثر صلاتها وصيامها وصدقتها، في الوقت الذي قصرت فيه بحق جيرانها وكف الأذى عنهم، وما كان الله ليحب من يقصر في واجب، ويكثر من نفل.. وما أكثر ما تختل هذه الموازنة عند كثير من المسلمين اليوم!!
    2- قاعدة: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته).
    فإن من رحمة الله بعباده أن جعل أحكامه التكليفية كثيراً ما تدور بين الرخصة والعزيمة، مراعاة لطباعهم، وتخفيفاً عنهم، ودفعاً للحرج.
    وإن من شكر الله - عز وجل - على هذه النعمة أن يتعامل العبد مع رخص الله، كما يتعامل مع عزائمه، ومن هنا ورد عن بعض السلف التشديد على من رغب عن الرخصة ولم يقبلها، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه، قوله: (من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة).
    وعلى هذا المعنى يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أوردته كقاعدة سابقاً: (ليس من البر الصوم في السفر) ، حيث جاء في سبب وروده: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن في حر شديد، فإذا برجل من القوم قد دخل تحت شجرة، وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لصاحبكم أي وجع به؟، فقالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم، وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ: ((ليس من البر الصوم في السفر، عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) .
    وذكر الحافظ ابن حجر: أن الشافعي - رحمه الله - حمل نفي البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة .
    والفرق واضح بين من أبى قبول الرخصة، ورفض العمل بها متمسكاً بالعزيمة وحدها، وعدم وقوعه في الحرج بسببها، مع اعترافه بحكم الرخصة، وعدم إنكاره على الأخذ بها.. وعلى هذا ينزل اختلاف العلماء في تفضيل الصيام أو الفطر للمسافر .
    كما أن الفرق واضح أيضاً بين العمل بالرخصة عند الحاجة إليها، وبين تتبع الرخص الذي نهي عنه، حتى قال بعض السلف فيه: (من تتبع الرخص فقد تزندق)، وقولهم: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).، فإن العمل الأول يكون بدافع التوسع بالمباح عند الحاجة، ودفع الحرج القائم، أما تتبع الرخص فإنما يقوم على التهرب من الأحكام الشرعية والتخلص منها، طلباً للراحة، واتباعاً للهوى..
    3- قاعدة: (جماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع) (97).
    تؤكد هذه القاعدة أن العبادة لا تكون إلا لله، ولا تكون إلا بما شرع الله لعبادته، فلا تكون فيما يبتدعه الناس من عبادات، ولا بما لم يأذن الله به، قال - تعالى -: ((أمر ألا تعبدوا إلا إياه)) (يوسف: 40)، وقال - سبحانه -: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب)) (الشورى: 13)، وقال أيضاً: ((أم لهم شركوا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولو لا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم)) (الشورى: 21).
    وترجع هذه القاعدة العبادية الكبرى إلى الخصيصة التوقيفية التي تتميز بها العبادات عن غيرها من الأحكام، فلا اجتهاد في شرع عبادة من العبادات، لأن حق التشريع مقصور على الله وحده، فهو المتعبد الذي خلق العباد لعبادته، وهو أعلم بما يتعبدهم به، وأخبر بما يصلح لهم منها، وما يرضيه من عبادات: ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) (الملك: 14).. ولو ترك الناس وشأنهم في اختيار أنواع العبادات، لخبطوا فيها خبط عشواء.. وما أكثر ما ورد عن السلف الصالح من الأمر بالاتباع، وذم الابتداع.
    وأصل ذلك كله قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة.
    ومن القواعد الفرعية المندرجة تحت هذه القاعدة، ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو: (أن الأصل في العبادات الحظر، والأصل في العادات الإباحة) ، ثم قال: (واعلم أن البدع من العبادات على قسمين: إما أن يبتدع عبادة لم يشرع الله ورسوله جنسها أصلاً، وإما يبتدعها على وجه يغير به ما شرعها الله ورسوله.. ) .
    4- قاعدة: (الأفضل في كل وقت وحال، إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه) .
    وهذه قاعدة في بيان التفاضل بين العبادات، وهي مسألة اختلفت فيها أقوال العلماء ومسالكهم: فمنهم من سلك مسلك تفضيل الأشد والأشق على النفوس، ومنهم من سلك مسلك تفضيل الواجب على المندوب، ومنهم من سلك مسلك تفضيل الأنفع للآخرين، فقدم العبادات الجماعية على الفردية، وهكذا..
    وهذا الاختلاف في التفضيل بين العبادات والأعمال يعود إلى العديد من النصوص الشرعية التي ورد في بعضها تفضيل عمل على آخر، أو التصريح بأن أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا، وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - ((الإيمان بضع وسبعون-أو بضع وستون - شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)).
    ومثل حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، إلى غير ذلك من أحاديث ترتب فضائل بعض الأعمال والعبادات..
    وجاءت قاعدة الإمام ابن القيم - رحمة الله - مرجحة بين تلك الأقوال، وجامعة بين تلك النصوص، فكان مما قال - رحمة الله -: (فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام الفرض كما في حالة الأمن.. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
    والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن) .، وهكذا ..
    5- قاعدة: (الأحكام الأصولية والفروعية، لا تتم إلا بوجود الشروط وانتفاء الموانع) .
    هذه قاعدة مطردة في العبادات وغيرها ن فإن الحكم الشرعي أياً كان نوعه لا يصح إلا بتحقق شروطه، وانتفاء موانعه. فالصلاة مثلاً: لا تصح حتى توجد شروطها وأركانها وواجباتها، وتنتفي موانعها وهي مبطلاتها التي ترجع إلى الإخلال بشيء مما يلزم فيها، أو فعل منهي عنه فيها بخصوصها، وكذلك الصيام لا بد في صحته من وجود كل ما يلزم فيه، ومن انتقاء المفطرات، وكذلك الحج والعمرة .
    ومن الغفلة عن مثل هذه القاعدة التي تصرح بالترابط والتلازم بين تحقيق الشروط وانتفاء الموانع، تجد بعض الناس يحرص على تحقيق شروط عبادة من العبادات، ويتوسع في أداء سننها وآدابها، في الوقت الذي يغفل عن المبطلات لها، أو المؤثرة في صحتها..
    إلى غير ذلك من قواعد عبادية كثيرة...
    المبحث الثالث: نماذج من القواعد، وتطبيقاتها في الجانب التعاملي
    لا تقل القواعد الشرعية المتعلقة بجانب التعامل عن القواعد الشرعية المتعلقة بجانب العقائد والعبادات، إن لم تزد عليها، نظراً لسعة باب التعامل مع الآخرين، وحاجته الكبيرة إلى ضوابط وقواعد، تحقق العدالة، وتنظم الصلات بين الناس.
    ومن هنا نجد في كلام الله - عز وجل -، وكلام رسوله صلى الله عيه وسلم أمثلة كثيرة لتلك العبارات الدقيقة الجامعة التي تجري مجرى القواعد والضوابط، كما نجد لكثير من علماء السلف والخلف قواعد وضوابط لمختلف جوانب المعاملات والعلاقات بين الناس.
    أولاً: سرد نماذج للقواعد الشرعية في جانب التعامل:
    1- قوله - تعالى -: ((يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود)) (المائدة: 1).
    2- وقوله: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد)) (البقرة: 282).
    3- وقوله: ((والصلح خير)) (النساء: 128).
    4- وقوله: ((والله يعلم المفسد من المصلح)) (البقرة: 220)
    5- وقوله: ((ممن ترضون من الشهدآء)) (البقرة: 282)
    6- وقوله - تعالى -: ((فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)) (البقرة: 173).
    7- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار)) (109).
    8- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأعط كل ذي حق حقه)) .
    9- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) .
    10- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الخراج بالضمان)) .
    11- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العجماء جرحها جبار)) .
    12- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات..)) .
    13- وقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (مقاطع الحقوق عند الشروط) .
    14- قول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: (كل شيء في القرآن أو أو فهو مخير، وكل شيء فإن لم تجدوا، فهو الأول فالأول) .
    15- قول القاضي شريح - رحمه الله -: (من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه) .
    16- قول الإمام أحمد - رحمه الله -: (كل ما جاز فيه البيع، تجوز فيه الهبة والصدقة والرهن) .
    17- قاعدة (المعروف عرفاً، كالمشروط شرطا ً) .
    18- قاعدة (إعمال الكلام أولى من إهماله) .
    19- قاعدة (الاضطرار لا يبطل حق الغير) .
    20- قاعدة (الجواز الشرعي ينافي الضمان).

    إلى غير ذلك من قواعد كثيرة تتعلق بأبواب المعاملات المتنوعة، تجدها في مجلة الأحكام العدلية، وغيرها من كتب القواعد وكتب الفقه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

    القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي (4)
    محمد أبو الفتح البيانوني

    ثانياً: إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة:
    1- قاعدة: ((والصلح خير)).
    وردت هذه القاعدة في قول الله - تعالى -: ((والصلح خير)) (النساء: 128)، فهي وإن وردت في سياق خوف النشوز والإعراض من الزوج عن الزوجة، فهي تفيد بإطلاق لفظها وعمومه تفضيل الصلح على غيره في كل أمر، فقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -، في تفسير هذه الآية، قالت: (هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبـراً أو غيره فيريد فراقها فتقول: أمسكني واقسم لي ما شئت! قالت: فلا بأس إذا تراضيا) (123).
    يقول القرطبي: قوله - تعالى -: ((والصلح خير))، ((لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف، خيرٌ على الإطلاق، ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء، أو غير ذلك.. )) (124).
    فتكون هذه القاعدة عامة في كل خلاف يقع بين الناس، ومن هنا قيل: الصلح سيد الأحكام..
    2- قاعدة: ((فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)).
    وردت هذه القاعدة في قول الله - تعالى -: ((إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلآ إثم عليه إن الله غفور رحيم)) (البقرة: 173)
    فقد قيدت هذه القاعدة حالة الاضطرار إلى تناول الحرام المعفو عنها بعدم البغي والتعدي في هذا التناول، فكانت أصلاً ودليلاً للقاعدتين المشهورتين: (الضرورات تبيح المحظورات) (125)، (والضرورة تقدر بقدرها) (126).
    فقررت أن الضرورة في علة الإباحة للمحظور، وأن هذه الإباحة مقيدة بقدر الضرورة دون تعدٍّ أو تجاوز.
    وليست هذه القـاعدة خاصة في تناول المحظورات من الأطعمة حالة الاضطرار، وإنما هي عامة في كل ما يضطر المرء إلى استعماله وتناوله مما هو محرم عليه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
    وقد عدَّ العلماء هذه الآية أصلاً ودليلاً من أدلة القاعدة الفقهية الكبرى: (المشقة تجلب التيسير) (127).
    3- قاعدة (البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
    أصل هذه القاعدة جزء من حديث شريف رواه الإمام مسلم بلفظ: (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه) (128). وجاء لفظها كاملا في رواية للبيهقي وغيره بإسناد حسن أو صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) (129).
    يقول الإمام النووي: (وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعي عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه، لأنه لو كان أعطي بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم/ واستبيح، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي، فيمكنه صيانتهما بالبينة) (130).
    وتعد هذه القاعدة أصلاً عظيما في باب الخصومات والمرافعات، وهي محل اتفاق بين العلماء.
    4- قاعدة: (الاضطرار لا يبطل حق الغير) (131).
    هذه القاعدة تعتبر تابعة لقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقيداً لها فإذا كان الاضطرار بضوابطه وشروطه يبيح للمرء ارتكاب المحظور وتناوله، ولو كان هذا المحظور ملكاً لغيره، فإن هذا الاضطرار لا يبطل حق الغير في ضمان ما أتلف من ماله دون إذنه، وإلا كان من إزالة الضرر بالضرر، والقاعدة الفقهية تقول: (الضرر لا يزال بمثله) (132).
    ومن هنا قرر العلماء أن من اضطر لأكل طعام غيره دون إذنه، فإن عليه بعد ذلك قيمة ما أكل أو مثله صيانة لحق الغير من الإبطال.
    وفي هذا يقول الشيخ أحمد الزرقا - رحمه اله - في شرحه للقواعد: الاضطرار لا يبطل حق الغير سواء كان الاضطرار:
    1- بأمر سماوي، كالمجاعة والحيوان الصائل.
    2- أو غير سماوي، كالإكراه الملجئ.
    ففي الأول يجوز له أن يأكل من مال الغير بقدر ما يدفع به الهلاك عن نفسه جوعاً، ويدفع الصائل بما أمكن ولو بالقتل، ويضمن في المحلين وإن كان مضطراً، فإن الاضطرار يظهر في حل الإقدام لا في رفع الضمان وإبطال حق الغير.. وفي الثاني إذا كان وارداً على إتلاف مال الغير فإن المكره يضمنه (133).
    وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة فروعاً كثيرة تعرف في محلها في كتب القواعد والفقه.
    5- قاعدة (الجواز الشرعي ينافي الضمان) (134).
    تفيد هذه القاعدة أنه إذا جاز إتلاف شيء في حالة من الأحوال، فإن هذا الجواز يتنافى مع وجوب الضمان على المتلف، لأن التلف حصل بذلك الأمر الجائز.
    وقد قيد العلماء هذه القاعدة بشرطين:
    1- أن لا يكون ذلك الشرط الجائز مقيداً شرط السلامة.
    2- أن لا يكون عبارة عن إتلاف مال الغير لأجل نفسه.
    وذلك لأن الضمان يستدعي سبق التعدي، والجواز الشرعي يأبى وجود التعدي (135)، فلو حفر إنسان بئراً في ملكه الخاص به، أو في طريق العامة ولكن بإذن ولي الأمر، فوقع فيها إنسان أو حيوان، فلا يضمن حافر البئر شيئاً. ولو وجد المسلم عند مسلم خمراً أو خنزيراً، فأتلفه له إنكاراً للمنكر، فلا يضمن المتلف ما أتلفه، لأن إتلافه لمثل هذا جائز له.. وهكذا..
    وتندرج تحت هذه القاعدة فورع فقهية كثيرة، خرجها العلماء عليها، كما أن لها مستثنيات يوقف عليها في كتب الفقه عامة وكتب القواعد خاصة (136). إلى غير ذلك من قواعد تتعلق بجانب المعاملات.
    المبحث الرابع: نماذج من القواعد، وتطبيقاتها في جانب الأخلاق
    لم يكن نصيب الجانب الخلقي من القواعد الشرعية بأقل من غيره في الجوانب السابقة، وإنما زاد عليها نظراً لأهمية الجانب الخلقي في نظام الإسلام من جهة، ولحاجة هذا الجانب إلى قواعد وضوابط أكثر من غيره من جهة أخرى.
    فإن من محاسن ديننا الإسلامي تركيزه على الضوابط والمعايير أكثر من تركيزه على الأحكام التفصيلية فيها، نظراً لسعة دائرته، التي يصعب استيعابها بأحكام تفصيلية خلقية من جهة، ولاعتماد كثير من المواقف الخلقية على عوامل نفسية داخلية يصعب الحكم عليها من جهة أخرى.
    لهذا كله جاءت الضوابط والمعايير الخلقية لتكون بيد كل مسلم، وفي متناول كل شخص، يزن بها الحسن من القبيح، ويعرف بها الخطأ من الصواب.. فقوله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً: ((البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (137)، وقوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (138)، يشكلان معاً معياراً دقيقاً، وضابطاً مطرداً لكثير من المواقف والتصرفات.. ومثل هذا كثير في النصوص الشرعية والأحكام الخلقية.
    أولاً: سرد نماذج للقواعد الخلقية:
    1- قوله - سبحانه وتعالى-: ((ومن يتوكل على الله فهو حسبه)) (الطلاق: 3).
    2- وقوله: ((ما على المحسنين من سبيل)) (التوبة: 91).
    3- وقوله - تعالى -: ((إنما يفترى الكذب الذين يؤمنون)) (النحل: 105).
    4- وقوله: ((إن الظن لا يغنى من الحق شيئاً)) (يونس: 36).
    5- وقوله: ((إن بعض الظن إثم)) (الحجرات: 12).
    6- وقوله: ((إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا)) (الحجرات: 6).
    7- وقوله: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجا ً)) (الطلاق: 2).
    8- وقوله: ((ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً)) (الطلاق: 4).
    9- وقوله: ((ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (الحشر: 9).
    10- قوله - تعالى -: ((إن مع العسر يسراً)) (الشرح: 6).
    11- قوله - صلى الله عليه وسلم - ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (139).
    12- وقوله: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)) (140).
    13- وقوله: ((إن تصدق الله يصدقك)) ((صدق الله فصدقه)) (141).
    14- وقوله: ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)) (142).
    15- وقوله: ((المرء مع من أحب)) (143).
    16- وقوله: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) (144).
    17- وقوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (145).
    18- وقوله - صلى الله عليه وسلم - ((البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (146).
    19- وقوله - صلى الله عليه وسلم - ((كن كابن آدم)) (147)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل)) (148).
    20- وقول عائشة - رضي الله عنها -: (ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه) (149).
    إلى غير ذلك من قواعد خلقية تزخر بها النصوص الشرعية...
    ثانياً: إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة:
    1- قاعدة: (إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا)).
    هذه القاعدة جزء من آية كريمة تؤكد على خلق (التبين) في الأمور، و(التثبت) في الأخبار، قال الله - تعالى -: ((يأيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) (الحجرات: 6).
    وقد جاء في سبب نزولها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة مصدقاً (أي جامعاً للصدقات) إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم - في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم - فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد ابن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فنزلت هذه الآية.. (150).
    ولا يشك أحد في أهمية خلق التبين والتثبت ولا سيما في الأمور المهمة والأخبار الغريبة، ولا فيما يتركه عدم التثبت من آثار وخيمة، وما يخلفه من ندم..
    ولكم خلف خلق التعجل في الأمور والأخذ بالظن من آثار سيئة في العلاقات الإنسانية، فقطع الأرحام وباعد بين القلوب، وفرق الصفوف.. ومن هنا كان هذا الخلق متطلباً إعلامياً هاماً، وركيزة كبرى من ركائز الإعلام السليم.. ولطالما فقد كثير من الناس والمؤسسات مصداقيتهم عند الآخرين من وراء ضعف هذا الخلق أو فقده!!
    2- قاعدة: ((إن تصدق الله يصدقك)) ((صدق الله فصدقه)).
    هاتان القاعدتان جزء من حديث شريف جاء فيه: ((أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبياً فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟، قالوا: قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟، قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك) (151).
    وهاتان القاعدتان الواردتان في مورد واحد تؤكدان على أهمية خلق الصدق مع الله - عز وجل -، وأن جزاءه العاجل صدق الله مع العبد، وإعطاؤه لعبده ما يريد.
    وما أكثر النصوص الشرعية المؤكدة على خلق الصدق، والمحذرة من خلق الكذب، سواء كان صدقاً مع الله، أو مع النفس، أو مع الآخرين، أو الجاعلة خلق الكذب من أخلاق المنافقين والكافرين!!
    والذي تميز به هذا النص عن غيره، أن جعل من ذلك قاعدة مطردة تصلح لكل فرد أو جماعة، كما تصلح لكل مقام وموقف..
    3- قاعدة: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)).
    هذه القاعدة جزء من حديث أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، وابن ماجه والدارمي في كتاب النكاح (152)، وقد اشتمل هذا الحديث على أحكام عامة تصلح أن تكون قواعد خلقية عامة، منها:
    1- أن حسن الخلق من كمال الإيمان.
    2- وأن خير المسلمين من كان خيراً لأهله.
    3- أن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو خير الناس لأهله.
    فالقاعدة الأولى تربط ما بين كمال الإيمان وحين الخلق، وتظهر مكانة الأخلاق في الإسلام، حيث جاء في أول الحديث ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً...)) (153).
    والقاعدة الثانية: تضع معياراً للخيرية والتفاضل بين المؤمنين، وتصرح أن أفضل المسلمين وخيرهم من كان أفضلهم وخيرهم لأهله.
    والقاعدة الثالثة: تبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو خير الناس لأهله، وتضع معياراً لهذه الخيرية، وقدوة مطلقة فيها، فالخيرية المطلقة مع الأهل هي ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - مع أهله، وليست تبعاً لأهواء الرجال أو النساء، كما أنها ليست تبعاً لما اعتاده بعض الرجال في التعامل مع نسائهم.
    وقد اشتملت النصوص الشرعية والسيرة النبوية على شمائله - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع أهله، من المحبة لهم، والإحسان إليهم، والتلطف معهم، والقوامة عليهم.. مما يشكل منهجاً واضحاً لتحقيق هذه الخيرية.
    4- قاعدة: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (154).
    يضع هذا الحديث الشريف قاعدة كاشفة، ومعياراً ضابطاً لكل من البر والإثم في جانب الأخلاق. فالبر في جانب الأخلاق يتمثل في حسن الخلق عامة مع الناس وقد جاءت وصيته - صلى الله عليه وسلم - بإحسان الخلق مع الناس عامة، فقال: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (155).
    والإثم في جانب الأخلاق يتمثل في الخلق الذي تتردد النفس الصالحة في الحكم عليه، وتتحرج من التخلق به، وتكره أن يطلع الناس على وجوده فيها.. لأن الفطرة البشرية تحب أن يطلع على كل خلق كريم، كما تحرص أن تتستر على كل خلق قبيح.
    فتضع هذه القاعدة بذلك ضابطاً عملياً، ومعياراً دقيقاً لكل خلق وتصرف يواجه الإنسان في حياته، في الوقت الذي تؤكد أن البر المأمور به، والمحبوب عند الله - عز وجل - في جانب العلاقة مع الآخرين، متمثل في حسن الخلق معهم.
    وإن هذا الضابط العملي والمعيار الدقيق يمنع النفس الخبيثة الأمارة بالسوء من أن تزين للمرء خلقاً قبيحاً، أو تصرفه عن الخلق الحسن.. إن مثل هذه المعايير والضوابط تعد محسناً من محاسن الإسلام، وخصيصة من خصائص نظام الأخلاق فيه، حيث تنضبط المعايير، وتثبت الفضائل، ولا تبقى عرضة للتحول والتغير تبعاً للعادات والأعراف، كما تذهب إليه النظرية النسبية في الأخلاق عند كثر من غير المسلمين (156).
    5- قاعدة: ((كن كابن آدم)) (157)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل)) (158).
    هذه النصـوص أجزاء من أحـاديث نبوية وردت في بيان موقف المسلـم من الفتن، وهي في مجملها تمثل قاعدة خلقية خاصة بحال الفتن التي يلتبس فيها الحق بالباطل، كالاقتتال بين المسلمين جماعات أو أفراداً، وفي حال اختلافهم على طلب الملك وما إلى ذلك.
    فقد بين الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من خلق المسلم في حال الفتنة (المسالمة والصبر) وعدم مقابلة القاتل بالقتل، خلافاً لخلقه في الأحوال العادية التي شرع الله فيها رد الاعتداء بمثله، وهي المعروفة عند العلماء بمسألة (الظفر) أو (رد الصائل)، حيث جاء فيها قول الله - تعالى -: ((فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)) (البقرة: 194)، وقوله في صفات المؤمنين أيضاً: ((والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون * وجزاؤ سيئةٍ سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل* إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر أن ذلك لمن عزم الأمور)) (الشورى: 39-43).
    أما القاعدة الخاصة بالفتنة، فقد وردت فيها أحاديث عديدة، تشير إلى التأسي فيها بموقف خير ابني آدم الذي قال فيه لأخيه: ((لأن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)) (المائدة: 28).
    يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: (قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفاً وأن لا يمتنع ممن يريد قتله، قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة) (159).
    ومن العجيب ما وقع فيه بعض الدعاة المحدثين من تعميم قاعدة الموقف حال الفتنة على عموم المواقف العادية الأخرى!! كما فعل الأستاذ جودت سعيد في كتابه القديم
    (مذهب ابن آدم الأول) وكتابه الجديد (كن كابن آدم) مما سنناقشه إن شاء الله في آخر البحث عند الحديث عن التطبيقات الخاطئة لبعض القواعد الشرعية.
    إلى غير ذلك من قواعد شرعية خلقية عديدة يوقف عليها في كتب الأخلاق والآداب الشرعية.
    المبحث الخامس: نماذج من القواعد، وتطبيقاتها في جانب الدعوة
    هناك قواعد شرعية عديدة تصلح ضوابط لأمور الدعوة الإسلامية، سواء من حيث أصولها ومناهجها، أو من حيث أسلوبها ووسائلها..
    وإن الدعوة الإسلامية لا تكون سليمة وصحيحة ومنتجة إلا إذا تقيدت بتلك القواعد الشرعية، وانضبطت بتلك الضوابط، ذلك لأن أبرز خصائصها أن تكون على بصيرة، قال الله - تعالى -: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحن الله وما أنا من المشركين)) (يوسف: 108).
    وما ضعفت الدعوة الإسلامية على مدى الأيام، وما تخبط في طريقها، إلا بسبب بعدها عن تلك البصيرة المنشودة، ووقوعها في انحراف المهج أو قصوره، وخطأ الأسلوب وضعف الوسيلة.
    وما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم القواعد الشرعية، والانضباط بها ليقوموا بدعوتهم حق القيام، فيصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم، قال - تعالى -: ((يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفرلكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) (الأحزاب: 70-71).
    أولاً: سرد نماذج للقواعد الدعوية:
    1- قول الله - تعالى -: ((قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)) (الأعراف: 164).
    2- قوله - سبحانه وتعالى-: ((قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)) (الأنعام: 91).
    3- قول الله - تعالى -: ((فلا تقعد بعد لذكرى مع القوم الظالمين)) (الأنعام: 68).
    4- قوله - تعالى -: ((وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) (سبأ: 24).
    5- قوله - تعالى -: ((وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم تقون)) (الأنعام: 69).
    6- قول الله - تعالى -: ((فذكر إنما أنب مذكر * لست عليهم بمصيطرا)) (الغاشية: 21-22).
    7- قوله - تعالى -: ((ولا تزر وزارة وزرا أخرى)) (فاطر: 18).
    8- قوله - تعالى -: ((إن مع العسر يسراً)) (الشرح: 6).
    9- قوله - تعالى -: ((لا تحسبن الذين كفرو معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير)) (النور: 57).
    10- قوله - سبحانه - - تعالى -: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)) (آل عمران: 120).
    11- قوله - تعالى - ((لآ إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) (البقرة: 256).
    12- قوله - صلى الله عليه وسلم - ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)) (160).
    13- قوله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الله رفيق يحب الرفق الأمر كله)) (161).
    14- قوله - صلى الله عليه وسلم - ((المؤمن مرآة المؤمن)) (162).
    15- قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)) (163).
    16- قول عائشة - رضي الله عنها -: (ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) (164).
    17- قول أبو بكر - رضي الله عنه - (أينقص الدين وأنا حي! ) (165).
    18- قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (وإني أخشى أن آخذ الناس بالإسلام جملة، فيدفعوه جملة) (166).
    19- قول بعض الدعاة: (نحن دعاة لا قضاة) (167).
    20- قول بعضهم: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)) (168).
    إلى غير ذلك من قواعد كثيرة وضوابط عديدة مبثوثة في كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصادرة عن كثير من العلماء العاملين، والدعاة الربانيين في القديم والحديث، تزخر بها الكتب الدعوية.
    ثانياً: إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة:
    1- قاعدة: ((قالوا معذرة إلى ربكم ولعلمهم يتقون)).
    وردت هذه القاعدة الدعوية القرآنية في قصة أصحاب السبت من اليهود في سورة الأعراف، حيث احتالوا على الحكم الشرعي في منعهم من الصيد يوم السبت، فقامت طائفة منهم بوعظهم وإنكار منكرهم، فقالت لهم طائفة: ((وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا ً)) (الأعراف: 164)، فأجاب الواعظون: ((قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتفون)) (الأعراف 164)، معللين وعظهم لهم بعلتين: الأولى: الإعذار إلى الله - عز وجل - بالقيام بواجب التذكير والنصيحة، والثانية: رجاء اتعاظهم، واتقائهم الله - سبحانه وتعالى- (169).
    فكانت قاعدة عامة للدعاة تؤكد أن الغرض من الدعوة إلى الله - تعالى -، والنصيحة للآخرين في حال رؤيتهم على منكر أمران:
    أ- القيام بواجب الأمر والنهي، والتناصح، إعذاراً إلى الله - عز وجل -.
    ب- أداء حق المدعويين على الدعاة، وهو حق التذكير رجاء الاتعاظ والتذكر.
    فليس من الحكمة الفصل ما بين هذه مقصدين على وجه إذا ضعف احتمال أحدهما عند الداعي، أهمل المقصد الآخر، بل على الداعي أن يقوم بواجبه في التذكير رجاء الاستجابة، وإبراء لذمته، والنتيجة الله - عز وجل - (170).
    2- قاعدة: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيد هم شيئاً)).
    هذه القاعدة الدعوية القرآنية وردت في سورة آل عمران، حيث ينهى الله - عز وجل - المؤمنين عن موالاة الكافرين، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فقال - تعالى -: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط)) (آل عمران: 120).
    فبينت هذه القاعدة للدعاة عامة أن النجاة من كيد الأعداء منوطة بتحقيق شرطين أساسين هما: الصبر والتقوى، وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة (171). ولكن كثيراً ما يغفل الدعاة عن هذه القاعدة، أو يقصروا في تحقيق هذين الشرطين، فيبتليهم الله بالكيد والأذى من أعدائهم، وينفذ كيدهم فيهم.
    وليس الصبر والتقوى المشروطان في هذه الآية عبارة عن كلمات تقال، أو أحول تدعى، وإنما هي من عزائم الأمور التي تتطلب جهاداً ومجاهدة في تحقيقهما، والتي تعرف بآثارها ومظاهرها في حياة المؤمن.
    ولعل من أبرز مظاهر التقوى المطلوبة:
    1- الإخلاص لله - عز وجل - في النية والقول والعمل.
    2- التزام طاعته - سبحانه -، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، باجتناب النواهي والعمل بالأوامر.
    3- التواصي بين المؤمنين بالحق، وتبادل النصيحة والشورى فيما بينهم، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر.
    4- إتقان العمل الصالح والاستمرار عليه، وتوخي الحكمة فيه.
    5- تحقيق وحدة الصف بين العاملين، ونبذ التفرق والشقاق، ولا سيما عند مواجهة الأعداء.
    6- اللجوء إلى الله - سبحانه - وحده، والإكثار من ذكره، والتضرع إليه في السراء والضراء.
    كما أن من أبرز مظاهر الصبر المطلوب:
    1- الاستمرار في الجهاد والعمل الحكيم، والثبات على التقوى والعمل الصالح.
    2- البذل والتضحية في سبيل الله، والجهاد بالنفس والمال والوقف..
    3- التعقل في العمل، وعدم التعجل في النتائج، وضبط النفس.
    4- عدم الركون إلى الأعداء وتوليهم، وإعلان البراءة منهم، وتجنب الخضوع والتنازل عن أمور الدين من أجلهم.
    5- التصديق بوعد الله - عز وجل -، والجزم بأن العاقبة للمتقين.
    6- تفويض الأمر لله - سبحانه وتعالى-، وصدق التوكل عليه (172).
    وما أحوج المسلمين اليوم إلى تفهم هذه القاعدة الدعوية، والاستنارة بها في دعوتهم، ومعالجة عقباتهم ومشكلاتهم!!
    3- قاعدة: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)).
    هذه القاعدة الدعوية قاعدة قرآنية تبين أنه لا مجال للإكراه أبداً في سبيل اعتناق العقيدة، ما دام كل من الرشد والغي أسبح واضحاً بما أوضحه الله ورسوله من جهة، وما دام الله قد أعطى كل إنسان العقل الذي يميز به بين الرشد والغي، والهدى من الضلالة من جهة أخرى، قال - تعالى -: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) (البقرة: 256).
    وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية كثيراً نظراً لظاهر معارضتها مع بعض آيات الجهاد من جهة، ولما ثبت من قتال الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمشركي العرب، وأنه لم يرض منهم إلا الإسلام، فقال بعضهم بنسخها، وقال آخرون إنها خاصة بأهل الكتاب من دون المشركين، وما إلى ذلك من أقوال (173).
    ولكن الذي يجمع بينها وبين النصوص الأخرى هو حمل لفظ (الدين) في هذه الآية على الاعتقاد والملة، فهذا مما لا يكره عليه أحد ابتداءً، وحمل لفظ الدين في آيات أخرى على الخضوع العام لنظام الإسلام العام، وإن بقي المرء على عقيدة أخرى.
    كما جرى إقرار أهل الذمة على البقاء على عقائدهم وأديانهم، ما داموا قد خضعوا بعقد الذمة لنظام الإسلام العام، ودفعوا الجزية رمزاً لهذا الخضوع، وذلك مثل قوله - تعالى -: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)) (البقرة: 193)، وقوله - تعالى -:
    ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)) (الأنفال: 39)، وقوله: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) (التوبة: 33).
    وهذا التوازن بين ضرورة الخضوع لنظام الإسلام العام، والمسالمة له من غير المسلمين من جهة، وبين عدم إكراه أحد على اعتناق الدين الحق من جهة أخرى، يعد مزية من مزايا النظام الإسلامي، ومحسناً عظيماً من محاسنه، حيث يحقق للجميع حرية الاعتقاد من جهة، كما يحقق للدين الحق علوه وخضوع الآخرين لنظامه من جهة أخرى. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه اليوم باصطلاح العصر: (الشرعية الدولية الربانية) التي يجب أن تهيمن على الجميع، مع السماح ببقاء الناس على شرائعهم الخاصة بهم، ولا ضير في مثل هذه الهيمنة العامة للشرعية الدولية الربانية، لأنها هيمنة شريعة الخالق على المخلوقين، وشريعة المعبود الواحد على العباد، خلاقاً لما يجري اليوم من هيمنة شريعة قوم معينين على غيرهم من الأقوام باسم الشرعية الدولية البشرية.
    4- قاعدة: (نحن دعاة لا قضاة).
    هذه القاعدة مقولة لأحد كبار رجال الدعوة في العصر الحاضر(174)، جعلها صاحباها عنواناً لكتاب له، كان له أثر طيب في تصحيح بعض المفاهيم العاصرة التي طرأت على بعض أبناء الحركة الإسلامية، وأفرزت اتجاهات دعوية متظرفة وجماعات عرفت بجماعات (التكفير والهجرة). فإن هذه القاعدة تؤكد على أن الداعي ليس قاضيا على الناس يحاكمهم ويحكم عليهم، وإنما هو هاد ومرشد، ومبشر ومنذر.
    فليست وظيفته أن يصنف الناس إلى مسلم وكافر، أو فاسق أو مبتدع، بقدر ما تكون وظيفته دعوة الكافر إلى الإيمان، والفاسق إلى الطاعة، والمبتدع إلى الاتباع.
    أما الحكم على الناس بكفر أو ردة أو فسق أو ابتداع، فهو متروك إلى المتخصصين من العلماء والمفتين والقضاة، الذين ينظرون إلى المسألة من جميع جوانبها، ويلمون بجميع متطلباتها، ثم يصدرون الأحكام فيها. وأمثال هؤلاء مجتهدون في أحكامهم، لهم أجران عليها إذا أصابوا، وأجر واحد إذا أخطأوا، ولا يأثمون في أحكامهم الخاطئة، إلا إذا قصروا فيها، ولم يستفرغوا وسعهم في تحقيق متطلباتها.
    أما غيرهم من الناس مهما كانت ألقابهم ومستوياتهم، فليس من شأنهم إصدار الأحكام على الناس، وإذا فعلوا ذلك عرضوا أنفسهم إلى الخطر، وباؤوا بالإثم على كل حال.
    ولكم اتخذ بعض شباب الدعوى الإسلامية اليوم مثل هذا الموقف، وتجرؤوا فيه على إصدار الأحكام على المسلمين، عامتهم وخاصتهم، حاكمهم ومحكومهم، مما جرهم إلى مواقف خاطئة، وتصرفات شاذة هنا وهناك، عانت منها الدعوة الإسلامية المعاصرة وقاست من ورائها الأمرين!!
    وهذا يؤكد لنا أهمية هذه القاعدة، وضرورة تعليمها والتذكير بها، حتى لا يقع في الخطأ فيها شباب الدعوة كما وقع بعضهم.
    وقد ظهرت كتب عديدة مفيدة في معالجة هذا الخطأ، تؤكد صحة هذه القاعدة، وتناقش الشبهات التي تثار في أذهان الناس حولها (175).
    5- قاعدة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).
    هذه القاعدة الدعوية تنسب للشيخ: محمد رشيد رضا - رحمه الله - وتبناها وأكد عليها الأستاذ حسن البنا - رحمه الله - وتقبلها جمهور الدعاة قبولاً حسناً (176)، وتحفظ عليها بعضهم بسبب إطلاق الإعذار للمخالف الذي قد يوهمه لفظها، ومن هنا رأيت ضرورة تقييدها صراحة بقولنا: (.. ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه فيما يجوز فيه الاختلاف) (177)، على الرغم من كونه قيداً ملحوظاً فيها، وذلك بسبب ما يجري لها من فهم خاطئ من جهة، وما يترتب على تطبيقاتها من أخطاء عملية عند بعض الدعاة من جهة أخرى، كما سنشير غليه إن شاء الله في آخر البحث عند الحديث عن التطبيقات الخاطئة للقواعد الشرعية.
    وهذه القاعدة الدعوية تؤكد أمرين أساسين هما:
    1- ضرورة التعاون في المتفق عليه.
    2- ضرورة الإعذار للمخالف في المسألة الاجتهادية.
    وإلا فما يمنع المتفقين على أمر ما من التعاون على تحقيقه، اللهم إلا الأنانيات القاتلة، والعصبيات البغيضة! وما يمنع المخالف من إعذار غيره في خلافه في مسألة اجتهادية، ما دامت محل اجتهاد ورأي من جهة، وما دام الإعذار موقفاً متبادلاً بين المختلفين من جهة أخرى!!
    وإلا كيف يطلب إنسان من مخالف له أن يعذره في اجتهاده ومخالفته، في الوقت الذي لا يعذر هو صاحبه في خلاف له!!
    ومما ينبغي التنبيه إليه هنا: أن إعذار المخالف في مخالفته لا يستلزم التسليم بقوله أولاً، كما لا يستلزم السكوت عن خطأ في نظره ثانياً. وإنما يستلزم الاحترام، وعدم الإنكار عليه، ولا يمنعه إعذاره من مناقشة رأي المخالف وبيان خطئه فيه، ومن دعوة المخالف إلى الخروج عن الخلاف أيضاً.
    فكما أن من القواعد الشرعية (لا ينكر المختلف فيه) (178)، فإن من القواعد الشرعية أيضاً (الخروج من الخلاف محبوب) (179). وما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم هذه القاعدة تفهماً صحيحاً، وإلى تربية أجيالهم عليها، وعلى إحسان تطبيقها!!
    إلى غير ذلك من قواعد شرعية دعوية كثيرة، تعرف في مواطنها من اكتب الشرعية عامة، والكتب الدعوية خاصة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

    القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي (5)
    محمد أبو الفتح البيانوني

    القسم الثاني: القواعد الأصولية والفقهية وأثرها في ترشيد العمل الإسلامي:
    المقدمة:
    وتتناول التعريف بالقواعد الشرعية الخاصة (الأصولية والفقهية) الأساسية منها والفرعية، وبيان صلتها بالقواعد الشرعية العامة.
    سبق في التمهيد لهذا البحث أن عرّفتُ القواعد الشرعية الخاصة بأنها: (القواعد الشرعية التي يغلب عليها التعلق بجانب خاص من الجوانب الشرعية، فيحتاج إليها علم من العلوم أكثر من غيره).
    وعرفت القواعد الشرعية العامة بأنها: (القواعد الشرعية المتعلقة بجميع الجوانب الشرعية المتنوعة أو بمعظمها، وإن غلب استخدامها في جانب خاص من الجوانب الشرعية أو أكثر).
    ومن هنا كانت القواعد الأصولية والفقهية أبرز أنواع القواعد الشرعية الخاصة، نظراً لتعلقها بجانب الأصول والفقه من جهة، وللصلة الوثيقة القائمة لعلمي الأصول والفقه بمختلف العلوم الشرعية من جهة أخرى.
    وقد اعتنى الكاتبون السابقون في علم القواعد الشرعية بالقواعد الأصولية والفقهية أكثر من غيرها من القواعد، وتناولوها غالباً تحت مسمى (القواعد الكلية) أو (القواعد الفقهية) أو (الأشباه والنظائر) أو (الأصول والضوابط) حتى غلبت المعرفة بها خاصة على الباحثين، وتبادر الذهن إليها عند ذكر القواعد الكلية على الإطلاق، مما جعلني أختار للقواعد اسم (القواعد الشرعية) وأقسمها إلى قواعد عامة وخاصة، وأساسية وفرعية، ليشمل المسمى مختلف أنواع القواعد المتعلقة بجميع العلوم الشرعية على السواء، كما أوضحت في التمهيد.
    ونظراً لسعة دائرة القواعد الأصولية والفقهية من جهة، ولاشتهارها بين العلماء أكثر من غيرها من جهة أخرى، أفردت الحديث عنها في قسم خاصة أتناول فيه نماذج من القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، مع تطبيقات لها في الجانب الدعوي، كما أتناول نماذج من التطبيقات الخاطئة لبعض هذه القواعد.
    وقد تعددت تعريفات العلماء للقواعد الفقهية، على الرغم من تشابه أكثر هذه التعريفات، فعرفها بعضهم بأنها: (الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها) ، كما عرفها بعضهم بأنها: (حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها) .
    وعرفها أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه - الله - بأنها: (أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية، تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها).
    واختار الدكتور علي أحمد الندوي تعريفها بأنها: (أصل فقهي كلي يتضمن أحكاماً تشريعية عامة من أبواب متعددة في القضايا التي تدخل تحت موضوعه).
    ومما تجدر ملاحظته هنا أن معظم الكاتبين في القواعد الكلية جروا على عدم التفريق في التعريف بين القاعدة الفقهية، والقاعدة الأصولية، بل مثل بعضهم لها بقواعد من كلا النوعين.
    ولكني نظراً للفرق القائمة بين النوعين في بعض الجوانب والتي أوصلها بعضهم إلى ما يزيد على أربعة فوارق، رأيت مصلحة في التفريق بينها في التعريف على وجه يشير إلى بعض الفروق بينهما، على الرغم من التشابه والتداخل القائم بينهما من الوجوه الأخرى.
    فاخترت لتعريف القاعدة الفقهية أنها: (حكم شرعي كلي، يتناول أحكاماً فرعية متنوعة)، واخترت لتعريف القاعدة الأصولية أنها: (أصل شرعي كلي، يستدل به على أحكام فرعية متنوعة).
    ولما كانت الاقتصار على نماذج معدودة لكل من النوعين في المبحثين القادمين، وإجراء تطبيقات عليها على سبيل التمثيل، وإلا فقد يصل عددها جميعاً إلى آلاف القواعد، ويكفي أن أشير هنا إلى أن الإمام المقري وحده ذكر في مقدمة كتابه (القواعد) أنه قصد إلى تمهيد ألف قاعدة ومئتي قاعدة، وأن الإمام السر خسي اشتمل كتابه (المبسوط) على ما يقارب ألف قاعدة. .. وهكذا.
    المبحث الأول: نماذج من تطبيق القواعد الأصولية في الجانب الدعوي
    نظراً لكثرة القواعد الأصولية وتداخلها مع القواعد الفقهية في كثير من كتب القواعد، سأختار منها ما يغلب عليه الطابع الأصولي في هذا المبحث على سبيل التمثيل، مقتصراً في إجراء التطبيقات الدعوية على خمس منها فقط، وهذه القواعد هي:
    1- لا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
    2- الاجتهاد لا ينقض بمثله.
    3- لازم المذهب ليس بمذهب..
    4- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
    5- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
    6- إذا تعارض المانع والمقتضي قدم المانع.
    7- درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
    8- إذا تعارضت مفسدتان: روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخففهما.
    9- لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح.
    10- الأصل براءة الذمة.
    إلى غير ذلك من قواعد أصولية كثيرة..
    التطبيقات الدعوية على بعض هذه القواعد:
    1- القاعدة الأولى: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص):
    وهي من القواعد المشهورة المتفق عليها بين العلماء، صدرت بها مجلة الأحكام العدلية، حيث نصت المادة (14) من مواد المجلة عليها.
    ويريد العلماء بها أنه: إذا ثبت نص ما في قضية، وكانت دلالته على معناه دلالة صريحة واضحة كأن يكون مفسراً أو محكماً في اصطلاح الأصوليين، فلا يجوز الاجتهاد في هذه القضية، ولا العدول عن دلالة النص الوارد فيها إلى معنى آخر.
    (ذلك لأن الحكم الشرعي حاصل بالنص، فلا حاجة لبذل الوسع في تحصيله، ولأن الاجتهاد ظني، والحكم الحاصل به حاصل بظني، بخلاف الحاصل بالنص فإنه يقيني، ولا يترك اليقيني للظني).
    ولا يقتصر حكم هذه القاعدة على النص الشرعي، وإنما يشمل كل نص صريح واضح ورد في قضية من القضايا، سواء كان نص دستور أو قانون عام، أو كان نص فردٍ في عقد من العقود، أو نص جماعة وقيادة في موضوع من الموضوعات.
    فعندما ينص الشارع مثلاً على تحريم لحم الخنزير، أو تحريم نكاح المتعة وما إلى ذلك، فلا يجوز لأحد أن يجتهد في حكم هذه المسائل فيقول فيها بخلاف ما جاء النص به، لأن من شروط الاجتهاد المقبول شرعا أن يكون في (محله) ومحله: عند عدم وجود النص، أو عند ورود النص الظني المحتمل لأكثر من معنى.
    وعندما ينص امرؤٌ في العقد على صفة معينة مشروعة، أو شرط محدد مشروع، ويقبل بذلك الطرف الآخر من أطراف العقد، يكون النص ملزماً للطرفين، وليس لأحد أن يجتهد في قبول أو رد هذه الصفة أو ذلك الشرط المنصوص عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص.
    وعندما تنص جهة قيادية مسؤولة في مؤسسة من المؤسسات على جواز فعل أو منعه بما لا يخالف الشرع، يجب على الأتباع والعاملين في هذه المؤسسة التقيد بالنص، ولا تجوز لهم مخالفته أو الاجتهاد فيه بما يخرج عن دلالته.. وهكذا فإن أي اجتهاد في موارد مثل هذه النصوص الصريحة الواضحة مردود على صاحبه، ويستحق فاعله الإثم والعقاب على هذه المخالفة.
    ولا يستثنى من ذلك إلا صاحب النص نفسه إذا أراد التغيير فيه بالطرقة المشروعة، أو من كان في منصب الإمامة والمسؤولية عن تنفيذ هذا النص في حالة ترتب مفسدة كبرى على تنفيذه، تزيد على مفسدة إهمال النص وعدم العمل به في تلك الحالة.
    ولو سمح لكل إنسان أن يجتهد في مقابلة النصوص، لتعطل العمل بها، وفقدت النصوص مشروعيتها ومصداقيتها وضاعت دلالتها بين الناس. قال الله - تعالى -: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)) (النور: 63).
    وقال: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)) (الأحزاب: 36).
    ومن هنا كان على جميع الناس الرجوع إلى نصوص مرجعياتهم الشرعية والإدارية، والتقيد بما ورد فيها، والتحرز من الاجتهاد وتأويل النصوص الواردة في مثل هذه المواطن، حتى لو خالفت مثل هذه النصوص اجتهادهم، ما داموا ملتزمين بتلك المرجعية، ومعترفين بها، ولا يتعارض هذا الوجوب عليهم في الطاعة والخضوع لهذه المرجعية، مع بيان رأيهم ووجهة نظرهم، ومحاورتهم ومناقشتهم، فإن الحوار والمناقشة شيء، والالتزام والطاعة والتقيد بالنص شيء آخر.
    فكما أنهم لا يمنعهم الالتزام والتقيد بالنص من حقهم في المناقشة والحوار في المسائل الاجتهادية، فإنه لا يبرر لهم مخالفة رأيهم، ولا مناقشتهم للنص، الخرج على النص وعدم الالتزام به.
    ولا يخفى الأثر الكبير لتفهم هذه القاعدة في سلوك كثير من أتباع الدعوات والعاملين في المؤسسات المختلفة، تجاه قياداتهم ومسؤوليهم، وفي تجلية مفهوم الطاعة في المعروف لديهم، حيث أسيء فهمه لدى كثير منهم، فخرجوا عن الطاعة، ووقعوا في المخالفة من حيث لا يشعرون.
    2- القاعدة الثانية: (الاجتهاد لا ينقض بمثله):
    هذه القاعدة من القواعد المشهورة المتفق عليها بين العلماء، وقد وردت ضمن قواعد مجلة الأحكام العدلية في المادة السادسة من موادها.
    ويريد بها العلماء: أن الاجتهاد في المسائل التي يجوز فيها الاجتهاد، لا ينقض بمثله من اجتهاد آخر، فلو قضى قاضٍ في حادثة ما باجتهاده، ثم تبدل اجتهاده فيها فقضى فيما رفع إليه من حادثة جديدة مشابهة بغير ما قضى به سابقاً، فإن اجتهاده الأول ثابت لا ينقض بتغير ذلك الاجتهاد. ذلك لأنه لو نقض الاجتهاد الأول بالثاني، لجاز أن ينقض الثاني بالثالث وهكذا.. ولأنه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار.
    وكذلك لو كان القاضي المخالف للحكم في الحادثة الثانية شخص آخر غير القاضي الأول، فلا يجوز له نقض قضاء القاضي الأول، بل يجب عليه تنفيذه، وله أن يحكم بغير ذلك في غير تلك الحادثة بما يراه.
    واستثني من ذلك حالة صدور القضاء مخالفاً لنص شرعي صريح، والتأكد من الخطأ في تطبيق الحادثة على الحكم الشرعي، فإنه ينقض مصل هذا القضاء عملاً بالنص الشرعي، وتداركاً للخطأ الثابت، وما إلى ذلك من حالات خاصة.
    واستدل العلماء على هذه القاعدة بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - حكم في مسائل خالفه فيها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولم ينقض حكمه، وأن عمر - رضي الله عنه - حكم في المسألة المشركة في الميراث بعدم المشاركة، ثم حكم فيها بالمشاركة بخلاف ما قضى في نظيرها سابقاً، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال: (تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي، وقضى في الجد قضايا مختلفة.. ).
    فقد روى الإمام ابن القيم - رحمه الله - عن عبد الرزاق بسنده عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: (قضى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأمها، وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب، والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم في عام كذا وكذا؟ فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم، فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين).
    ويؤيد هذه القاعدة الدليل العقلي المقتضي ضرورة تحقيق الاستقرار في الحكام والقضاء، وسد باب الفوضى والاضطراب فيها، حيث تتحقق بهذه القاعدة الموازنة الصحيحة بين ضرورة الرجوع إلى الحق في الاجتهاد من جهة، وبين ضرورة استقرار الأحكام والأقضية من جهة أخرى.
    ومن هنا: لا يصح لأحد، فرداً كان أو جماعة، أن يخرج على حكم قضاء سابق في قضية من القضايا إذا ما صدر فيها قضاء من أهله، بحجة تغير القضاء والاجتهاد فيها، وإنما على الجميع العمل بالاجتهاد الجديد والقضاء الثاني فيما يستجد من حوادث وقضايا، كما لا يصح أن ينظر إلى المسائل المقضي بها سابقاً بالقضاء الأول على أنها خطأ يجب الرجوع عنه، أو إثم وقع فيه صاحبه، ذلك لأن الاجتهاد السابق ولو ثبت خطؤه في نظر صاحبه فيما بعد، أو في نظر غيره إنما هو خطأ اجتهادي مأجور عليه صاحبه من جهة، ولأن الاجتهاد الجديد المخالف للقضاء السابق صواب اجتهادي ويحتمل الخطأ أيضاً من جهة أخرى.
    ومن هنا جاء في الحديث الشريف: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)).
    وبقدر فهم مثل هذه القاعدة يحسن الدعاة التعامل مع الحكام والقرارات الصادرة عن قياداتهم ومسؤوليهم في الشؤون الدعوية وغيرها، ويدفع شر الاضطراب والفوضى في التعامل مع القرارات والاجتهادات المتغيرة.
    3- القاعدة الثالثة: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان):
    هذه القاعدة وردت في المادة (39) من قواعد مجلة الأحكام العدلية، وهي من القواعد المشهرة المتفق عليها أيضاً بين العلماء.
    ويريد بها العلماء: أن الأحكام الشرعية المبنية على الأعراف والأزمان، لا ينكر تغيرها إذا ما تغيرت تلك الأعراف السابقة في الأزمان اللاحقة (200).. وفي هذا يقول العلامة ابن عابدين في رسالته (نشر العرف): (كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان أولاً للزم المشقة والضرر بالناس، وخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به، أخذاً من قواعد مذهبه).
    ولا بد لفهم هذه القاعدة فهما صحيحاً من التنبه إلى ضابط الأحكام التي تتغير بتغير الزمان، وفي هذا يقول الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي: (اتفقت كلمة المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية التي بنيت على القياس ودواعي المصلحة، فإذا أصبحت لا تتلائم وأوضاع الزمان ومصلحة الناس وجب تغييرها، وإلا كانت عبثاً وضرراً، والشريعة منزهة عن ذلك ولا عبث فيها، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها بنصوصها الأصلية: الآمرة والناهية، كحرمة الظلم والزنى والربا وشرب الخمر والسرقة، وكوجوب التراضي في العقد، ووجوب قمع الجرائم وحماية الحقوق، فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان، بل هي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها، قد تتبدل باختلاف الأزمنة والمحدثات، فوسيلة حماية الحقوق مثلاً وهو القضاء، كانت محاكمة تقوم على أسلوب القاضي الفرد، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية، فيمكن أن تتبدل إلى أسلوب محكمة الجماعة، وتعدد درجات الاحتياط، فالتبدل في الحقيقة في مثل هذه الأحكام، ما هو إلا تبدل الوسائل للوصول إلى الحق، والحق ثابت لا يتغير.. ).
    وخوفاً من أن تفهم القاعدة على غير معناها الصحيح، رأي بعض العلماء أن تقيد عبارتها بقولنا: (لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان).. ويحسن تقييدها في نظري بقولنا: (لا ينكر تغير الأحكام المبنية على الأعراف والأزمان بتغير الأزمان) دفعاً للبس في ذلك من جهة، ولتشمل القاعدة الأحكام النصية المبنية على الأعراف الزمنية أيضاً من جهة أخرى.
    ولو تفهم الناس عامة والدعاة خاصة، هذه القاعدة على حقيقتها لعملوا على تغيير كثير من آرائهم واجتهاداتهم الدعوية وغيرها، التي قامت على مصالح زمنية متطورة، أو أعراف محلية متغيرة، مما يحقق للدعوة الإسلامية أصالتها ومعاصرتها، ويخرج بها عن الجمود في جانب المناهج البشرية، والأساليب والوسائل المتغيرة.
    ولكم نجد في دعاة اليوم من يتمسك بمثل هذه المتغيرات في المناهج والأساليب والوسائل، باسم المحافظة والأصالة، ويتخرج من الخروج عليها والتغيير فيها تحرجه من الخروج على النصوص الشرعية الثابتة، والأحكام القاطعة، والمبادئ اللازمة!!
    في الوقت الذي نجد فيه بعض الناس يخرجون على الثوابت والمبادئ باسم المعاصرة والحداثة، وإذا روجعوا في ذلك، احتجوا بمثل هذه القاعدة، وفهموها على غير وجهها، ووضعوها في غير محلها!!
    فلا بد من فهم دقيق لهذه القاعدة، ومعرفة صحيحة بتطبيقاتها، لتسلم للدعوة الإسلامية أصالتها، وتتحقق معاصرتها.
    ومن هنا قال القرافي: (الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين).
    4- القاعدة الرابعة: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح):
    وردت هذه القاعدة في المادة (30) من مواد مجلة الأحكام العدلية، وهي قاعدة مشهورة متفق عليها بين العلماء.
    ويرد بها العلماء: أنه إذا تعارض درء المفاسد مع تحقيق المصالح قدم درء المفاسد على جلب المصالح، لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.. واستدلوا عليها بأدلة منها:
    1- قوله - تعالى -: ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)) (الأنعام: 108)، حيث نهى الله - سبحانه - عن سب الكفار وآلهتهم مع ما فيه من مصلحة تحقير دينهم وإهانتهم، لما يتسبب عنه من مفسدة مقابلة سبهم بسب الله - عز وجل - .
    2- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) ، فإن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات.
    3- ولأن للمفاسد سرياناً وتوسعاً كالوباء والحريق، فمن الحكمة والحزم القضاء عليها في مهدها، ولو ترتب على ذلك حرمان من منافع أو تأخير لها.
    4- كما يدل لهذه القاعدة منهج الشارع في تدرجه في بيان الأحكام الشرعية، وعدم إنزالها جملة واحدة، على الرغم من المصالح المترتبة على التعجيل بها، نظراً لما قد يترتب على ذلك من جلب مفاسد من وراء ذلك التعجل، كما صرح بذلك حديث عائشة - رضي الله عنها -، فقد روى البخاري عنها قولها في نزول القرآن الكريم: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).
    وقد فرع على هذه القاعدة أحكاماً كثيرة، وانبثقت عنها فتاوى عديدة في موضوعات متنوعة.
    كما يحتاج إليها الدعاة كثيراً في موازناتهم الدعوية، ولا سيما عند تعارض المصالح والمفاسد، وعدم إمكان الجمع بين تحقيق المصلحة ودرء المفسدة.. فكثيراً ما يندفع بعض الدعاة إلى تحقيق مصلحة دعوية في اجتهادهم، غافلين عن المفاسد المترتبة على ذلك، مما يجعلهم في نهاية الأمر نادمين على ما أقدموا عليه!!
    فكم من مفاسد عامة، ومنكرات كبرى ترتبت على إنكار منكر جزئي، أو جلب مصلحة عاجلة!
    من هنا كان من الضروري أن تترك الموازنات الدعوية الدقيقة في القضايا الكبرى الشائكة لأهل العلم والفقه، وأهل الحل والعقد في الأمة، الذين يحسبون لكل أمر حسابه، ولا تعميمهم المصالح العاجلة عن رؤية المفاسد الآجلة، ولا يدفعهم الحماس إلى حرق المراحل، واستعجال النتائج.
    وعلى هذا ينزل قول الإمام عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - لولده عبد الملك لما سأله (مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله لا أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق؟ قال عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة) .
    ويقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله - مؤكداً هذه القاعدة: (.. ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب، أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب.. وإذا كان قوم على بدعة وفجور، ولو نهوا عن ذلك وقع شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة، لم ينهوا عنه).
    وقد سبق أن فصلت في هذه المسألة، وتوسعت في النقول عن العلماء فيها، في كتاب: (جهاد الكلمة)، فيرجع إليه من شاء.
    5- القاعدة الخامسة: (لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح):
    وردت هذه القاعد في المادة (13) من مواد مجلة الأحكام العدلية، وهي قاعدة مشهورة متفق عليها بين العلماء.. ويريد بها العلماء: أنه إذا دلت الأحوال والقرائن على إرادة معنى معين يخالف ما صرح به، قدم التصريح على الدلالة، لأنه أقوى، ولأن دلالة التصريح يقينية، ودلالة الحال والقرائن ظنية، واليقين مقدم على الظن.
    وقد فرع عنها الفقهاء أحكاماً فرعية كثيرة تعرف في محالها من كتب الفقه والقواعد.. وإن لهذه القاعدة آثاراً عملية كثيرة في مختلف المجالات، إذا ما فهمت على وجهها الصحيح.
    فلو صرح إنسان ما بأمر في مسألة عقدية أو فقهية أو دعوية، ثم دلت بعض تصرفاته وأحواله على خلاف ما صرح به، فلا يصح أن يحكم عليه بتلك التصرفات والأحوال، ويترك ذلك التصريح، فينسب إليه ما فهم من القرائن والأحوال والتصرفات.. لأن هذه القرائن والأحوال والتصرفات تحتمل في دلالتها أموراً عديدة من خطأ أو نسيان، أو غفلة عن مقتضيات ذلك التصريح، مما يجعل دلالتها دلالة ظنية لا تقوى على معارضة دلالة التصريح الصادرة عنه..
    الهم إلا إذا روجع في ذلك، وصرح بخلاف ما كان قد صرح به سابقاً، تصريحاً ينسجم مع ما دلت عليه تصرفاته وأحواله..
    ويمكن أن يلحق بهذا: ما لو صرح إنسان ما في مكان ما في كتبه يقول أو حكم بلفظ قاطع صريح، وداء في كلامه في موطن آخر ما يفهم منه غير ذلك، وليس صريحاً في دلالته، فلا يصح أن تعتمد في حقه هذه الدلالة، وترك النص الصرح القاطع، لأن اللفظ الصريح القاطع يقين، والدلالة المفهومة من اللفظ المحتمل شك، واليقين لا يزول بالشك.. ومن هنا قدم الأصوليون: دلالة عبارة النص على دلالة الإشارة والدلالة والاقتضاء، عند التعارض، نظراً لقوة الدلالة الأولى على الثانية، وهكذا.
    ومن الغفلة عن مثل هذه القواعد وقع بعض الناس في أحكام خاطئة على بعض العلماء والدعاة، فنسبوهم إلى ما لم ينتسبوا إليه، ولقبوهم بألقاب لم تخطر لهم على بال، عملاً بدلالة بعض مواقفهم وأحوالهم في اجتهاداتهم، وتجاهلوا ما صرحوا به في مواطن أخرى مما يدفع الظن والشك.. ولو أنصف أمثال هؤلاء، لقدموا دلالة التصريح على دلالة الأحوال والتصرفات، وقدموا حسن الظن بالعلماء والدعاة على إساءة الظن فيهم، وحملوا حالهم على الأحسن دائماً..
    قال - تعالى -: ((وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً)) (النجم: 28).. وقال - عز وجل -: ((يائها الذين أمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)) (الحجرات: 12).
    وجاء في الحديث الشريف: ((حسن الظن من حسن العبادة)).
    المبحث الثاني: نماذج من تطبيق القواعد الفقهية في الجانب الدعوي
    نظراً لكثرة القواعد الفقهية وتداخلها مع القواعد الأصولية في كثير من كتب القواعد، سأختار في هذا المبحث من القواعد ما يغلب عليه الطابع الفقهي على سبيل التمثيل، مقتصراً في إجراء التطبيقات الدعوية على خمس منها فقط:
    وهذه القواعد هي:
    1- من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه.
    2- يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء.
    3- الميسور لا يسقط بالمعسور.
    4- إذا ضاق الأمر اتسع.
    5- الضرورات تبيح المحظورات.
    6- الضرورات تقدر بقدرها.
    7- لا ينكر المختلف فيه.
    8- الخروج عن الخلاف مستحب.
    9- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
    10- المفضول قد يصير فاضلاً لمصلحة راجحة.
    إلى غير ذلك من قواعد فقهية كثيرة..
    1- القاعدة الأولى: (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه):
    هذه القاعدة من القواعد الفقهية المشهورة، والمتفق عليها بين العلماء، وردت في المادة (99) من مواد مجلة الأحكام العدلية.. وهي كثير الفروع عند الحنفية خلافاً للشافعية.. ويرد بها العلماء: أنه من كان مستحقاً لشيء، فتعجل بالحصول عليه قبل حلول أجله، كان عقابه بالحرمان منه معاملة له بنقيض قصده.
    لأنه باستعجاله هذا أقدام على تحصيله بسبب محظور.. وهذه القاعدة من باب السياسة الشرعية في القمع وسد الذرائع .، وقد عدها بعضهم من مستثنيات القاعدة الكبرى القائلة:
    (الأمور بمقاصدها).. واستدلوا عليها بمنع الشارع من قتل مورثه بغير حق من الإرث منه عقوبة له، فقد جاء في الحديث الشريف: ((ليس للقاتل من تركة المقتول شيء)) .
    ونقل عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه أفتى في المرأة التي يطلقها زوجها فتتزوج غيره قبل انقضاء عدتها، بأنها تحرم على الزوج الثاني إن دخل بها حرمة مؤبدة، معاملة لها بنقيض مقصودها، بمقتضى السياسة الشرعية في المصالح المرسلة.
    وستفاد من هذه القاعدة الفقهية في المجال الدعوي، حيث تعالج ظاهرة الاستعجال التي ابتلي بها كثير من الدعاة، فتراهم يتجاوزون المراحل الفطرية الدعوي، مخالفين بذلك السنن الربانية، استعجالاً منهم للنتائج المرجوة، فتكون النتيجة غالباً الخسران والندامة.
    وعندما جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعجلون النصر، ويطلبون الدعاء منه، أنكر عليه استعجالهم، فقد روى البخاري عن أبي عبد الله خباب بن الأرت - رضي الله عنه -: (قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
    فما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم المنهج النبوي، والاستنارة بهذه القاعدة الفقهية!! فقد جاء في الحديث الشريف: ((وما أعطي أحدكم عطاء خيراً وأوسع من الصبر)).
    فالداعية الحكيم: هو الذي يستقيم على منهج الله، ويقدم ما يقدر عليه من خير، ويصبر على ذلكن تاركاً النتائج لله غز وجل، فلا يستعجلهـا، لأن الله هو القـادر على كل شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
    2- القاعدة الثانية: (الميسور لا يسقط بالمعسور):
    هذه القاعدة الفقهية نقلها السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر عن الأشباه والنظائر للتاج السبكي، كمالا أوردها الحافظ ابن رجب الحنبلي في قواعده. وقال عنها السبكي: (وهذه القاعدة من أشهر القواعد المستنبطة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منعه ما استطعتم.. )) ، وذكر الإمام أن هذه القاعدة من الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة.
    ومعنى القاعدة: أن المأمور به إذا لم يتيسر فعله على الوجه المطلوب، بل تيسر فعل بعضه، فلا يسقط فعل هذا البعض المتيسر بتعسر فعل البعض الآخر، أي: بعدم القدرة على فعل الكل، بل يجب فعل القدر المتيسر فعله.
    ومن هنا: وجب على من قدر على أداء الصلاة قاعداً، أو على جنب، أو بالإيماء، أن يصلي كما يستطيع، ولا تسقط عنه الصلاة جميعها، بسبب تعذر إتيان بعض أركانها..
    فقد جاء في الحديث الشريف: (عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب).
    وإن من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها: (المشقة تجلب التيسير)، وهي تعبر عن خصيصة من خصائص الشريعة الإسلامية ألا وهي: التيسير ورفع الحرج.
    وإن مثل هذه القاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، يمكن الاستفادة منها في جميع جوانب الحياة، ولا تقتصر على أحكام العبادات.. فإذا عجز الدعاة عن تحقيق أمر الله - عز وجل - في جميع جوانب الحياة لضعفهم أو لظروف خاصة بهم، وأمكنهم تطبيق أحكام الله في بعض الجوانب دون بعض، فلا يجوز لهم أن يتوقفوا عن تطبيق ما أمكنهم، نظراً لما عجزوا عنه من إقامة الدين كاملاً، فما لا يدرك كله، لا يترك جله.
    وكثيراً ما فهم بعض الدعاة خطأ مقولةً مشهورة لبعض الدعاة وهي: (خذوا الإسلام جملة، أو دعوه جملة) فذهبوا إلى ترك الممكن والمتيسر منه، وانظروا تيسر تطبيق الإسلام كاملاً، أو وجهوا النقد الشديد اللاذع إلى من استطاع أن يطبق بعض الجوانب دون بعض غافلين عن مثل هذه القاعدة الفقهية!
    فهناك فرق بين من يستطيع أخذ الإسلام جملة، وبين من لم يستطع ذلك مع اعتقاده بوجوب الأخذ به جميعاً، وسعيه إلى الأخذ به من جميع أطرافه، وبين من ظن أن بإمكانه أن يتخير من الإسلام بعض جوانبه، ويترك بعضها، فيأخذ بشيء ويترك أشياء، مشوهاً بذلك وحدة الإسلام وكماله، وهذا هو الذي ينزل عليه قول: (خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة).
    ومن المتفق عليه أن وجوب القيام بالأحكام الشرعية مقيد بالعلم بها أولاً، والقدرة عليه ثانياً فمن جهل بعض الأحكام الشرعية - وكان ممن يعذر مثله في الجهل - كان معذوراً فيما قصر فيه، ومن علم بها ولكنه عجز عن القيام بها بسبب من الأسباب، كان معذوراً فيما قصر فيه أيضاً.
    فلا تقام الحجة على أحد في ذلك إلا بالعلم والقدرة معاً.
    وإلى هذا المعنى أشار الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في أكثر من موطن في فتاواه، وكان مما قاله في حق النجاشي: (.. وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها، لم يكن له دخل فيه لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لان ذلك كان يظهر عند قومه فينكرون عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم..
    إلى أن قال: وكثيراً ما يتولى الرجل من المسلمين والتتار قاضياً، بل إماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. ). فما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم مثل هذه القواعد ليكونوا على بصيرة في دعوتهم!



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •