تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: هدم ملة داود ابن جرجيس

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي هدم ملة داود ابن جرجيس

    كشف شبه داود بن جرجيس


    للشيخ الامام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ، وصلى اللهُ وسَلَّمَ على نَبيِّنا محمَّدٍ، وآلِه وصحبِه أجمعين، أما بعد.
    فإن اللهَ سبحانه نَصَبَ في كلِّ زمانٍ رجالاً يحمونَ شريعتَه،
    وينصرون ملَّتَه،
    ويجاهدونَ فيه حقَّ جهادِه،
    إذا انتهكت حُرُماتُه غَضِبوا غَضَبَ الأَسَد،
    وإذا سُلِكَ سَبِيْلُه فَرِحُوا فرحَ الوالِد بالولد.
    أسبلَ اللهُ عليهم من العلمِ النافع والعملِ الصالح ما أهَّلَهم للقيامِ بهذه المسؤوليةِ العظيمةِ، والمُهَّمةِ الجسيمة.
    فاستخدموا هذا السلاحَ الذي أسبلَ اللهُ عليهم أذيالَه في هداية الخلقِ، وإرشادِهم إلى الطَّرِيْقِ السَّويِّ، والنَّهْجِ المَرْضِيّ.
    كما استخدموه أيضا في استئصال شبه المنحرفين، والقضاء، على بدع المبتدعين.
    وكان مقصودُهم بالردِّ على هؤلاء
    القيامَ بالمِيْثاقِ الذي أخذه اللهُ تعالى على أهلِ العلمِ في قوله:
    {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}.الآية، والخوفَ من الوقوعِ في جريمةِ كتمِ العلمِ وإخفائه.
    وكان من مقصودِهم أيضاً نُصْحُ الأُمَّةِ،
    والأَخْذُ بِحُجُزِها عن السقوط في المهالك،
    سواءٌ في ذلك المردودُ عليه منهم أو غيرُه،

    فالمَرْدُوْدُ عليه بإيضاحِ الحقِّ له، وقِيامِ الحُجَّةِ عليه، وغيرُه بتحذيرِه من اتباعِ الأهواءِ، والسُّقُوطِ في شَرَكِهَا.
    قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله تعالى- في وصفِ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ، ومرادِهم بالردِّ على المنحرفين:
    وأئمةُ السُّنَّةِ والجماعة وأهلُ العلمِ الإيمانِ فيهم العدلُ والعلمُ والرحمةُ، فيعلمون الحقَّ الذي يكونون به موافقينَ للسُّنَّةِ، سالمين من البدعة.
    ويعدِلُون على من خَرَجَ منها ولو ظلمهم، كما قال تعال:{
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
    ويرحمون الخَلْقَ فيريدون لهم الخَيْرَ والهدى والعلمَ، ولا يقصدون الشَّرَّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدُهم بذلك بيانَ الحقِّ، ورحمةَ الخلقِ، والأمرَ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكرِ، وأن تكون كلمةُ اللهِ هي العليا، وأن يكون الدينُ كلُّه لله ... اهـ

    وإن من الرِّجالِ الذين هَيَّأَهم الله تعالى، ونَصَبَهم لحفظِ شريعتِه، والقيام عليها: أئمةَ الدَّعْوةِ بنجد، الذين أبلوا بلاءً حسناً في هذا المِضمَارِ، وحَمَوْا ثغوراً للشَّرِيْعة كاد أن يَقْتَحِمها المشركونَ والكُفَّارُ وأنفقوا نفيسَ العمرِ وعزيزَ المالِ في الدعوة إلى التوحيدِ ومُؤازَرَةِ أهلِه الأبرار.
    فلا تجد شبهةً منحرفةً أثيرت في وقتِهم إلا وهم لها بالمرصاد، ولا تشكيكاً في الحقِّ إلا وهم لتفنيدِه وتَزْيِيْفِه على أتمِّ استعداد.انتهى
    كتبه عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
    ***
    لاح نور الهدى وزال الضلال ودهى الشركَ والعنادَ زوالُ
    وتجلت شمس الكمال عيانًا بعد ما كان دونها أظلال
    ورياض التوحيد جاد رُباَها من سما الحق عارض هطالُ
    ويد الجهبذ المحقق للحق الإمام المهذَّب المفضالُ
    والهِزَبْر الهمام والعالم النحـ ـرير مَنْ عنده تنتهي الآمالُ
    ذاك عبد اللطيف كنز المعالي هو بحر للعلم بحر زُلالُ
    أَحْكَمَتْ للورى "دلائل" قصد صار فيها على الهدى استدلالُ
    رسخت في قلوب قوم هداة وذوو الزيغ عن هنالك زالوا
    رفعت عن عيوننا كل غبن وبها زال داء شرك عضالُ
    ولها مبتغي الهدى فليبادر فلها ساغ أن تُشَدَّ الرِّحالُ
    *****

    الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
    أرسل الرسل وأنزل الكتب لتأصيل الأصول وتحقيق الحقائق، فقامت حجة الله على المكلَّفين من الخلائق.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق.
    وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله المبعوث بأحسن الملل والطرائق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بجهاد كل فاسق ومنافق.
    أما بعد:
    فقد وقفت على أوراق أرسلها بعض أهل العراق إلى بعض
    أصحابنا

    ، ورأيت فيها من الصد عن سبيل الله، والدعوة إلى عبادة الأولياء والصالحين، ودعائهم، والحثِّ على قصدهم في الملمات والشدائد، والإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، ما لا يتسع السكوت عليه.
    فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأمر بجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، كما أمر بجهادهم باليد والسنان.
    فلما أعلن الحرب على التوحيد وأنصاره وأعوانه، والموالاة للشر وأتباعه وكُهَّانه، تصدى له أئمة العلم والهدى، وشموس الحق والتقى، فألَّفوا الردود المطوَّلة والمختصرة في نقض شبهه وتضليله، وبيان كذبه وافترائه وتزويره، فانجلى للناس بهذه الردود حقيقة أمره، وسوء مغزاه ومكره.فلله الحمد على إعزاز دينه وأوليائه، وخذل الشرك وأهله وأعوانه.....
    قال تعالى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.[الفرقان:52]
    .وقال تعالى:
    {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.[آل عمران:104]، وقال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}.[الحج:78]،
    وقال تعالى:
    {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}.[هود:116].
    قال ابن كثير1:(يقول تعالى:فهلا وجد من القرون الماضية من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض.
    وقوله:
    {إِلاَّ قَلِيلاً}أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَرِه، وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
    وقوله:
    {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ}
    أي استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك، حتى فجأهم العذاب).

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي في "رسالته":(اعلم أني ووالدي وجدي بيت علم، وعقيدتنا عقيدة السلف، وليس الآن في بغداد من هو على مذهب الإمام أحمد غيري، وأنا تابع لأقوال الشيخين ابن تيمية وابن القيم).
    والجواب
    أن يقال:مذهبك وعقيدتك وما أنت عليه قد اشتهر وعرف من رسائلك، وسُمِعَ منك شفاهاً,ونقله العدول، ولم يزل يتواتر من وقت قدومك الجبل، والقصيم، واجتماعك بالشيخ عبد الله أبا بطين، وما وقع بينكما من المناظرة في مسمي العبادة وغيرها، كل ذلك وصل إلينا، وتواتر لدينا، واستفاض استفاضةً تورث علماً ضرورياً أنك داعية إلى دعاء الصالحين والأولياء، وندائهم والاستغاثة بهم فى الحوائج, و الملمَّات والشدائد، وأن ذلك لديك مستحب وارد,وأن من كفَّر من يعبد الصالحين فهو مخطئ ضال، وأنه لا يكفر ولا يشرك إلا من دعاهم استقلالاً، وزعم أنهم الفاعلون المدبرون، وأما على وجه الجاه والشفاعة فذلك عندك ليس بشرك ولا كفر.
    كل هذا ثبت لدينا قَبْل هذه الرسالةِ الأخيرة، فلما وقفنا على ما فيها، وتأملنا خافيها وباديها، إذا هي على المذهب الذي حكينا، والطريقة التي عرفنا وروينا، بل فيها من الزيادة في الكذب على الله وكتابه، والكذب على أهل العلم في نقل مذاهبهم، وتحريف كلامهم، ما لا يصدر عَمَّن تصور الإسلام وعرفه، وآمن بالله واليوم الآخر، بل لا يصدر عَمَّن له عقل يحسن أن يعيش به. فنعوذ بالله من الجهالة والعمى، والضلال عن سبل الإيمان والهدى.
    ونسبة هذا إلى الإمام أحمد وإلى الشيخين كنسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وخواص أصحابه،وأهل ملَّته.
    نزلوا بمكةَ في قبائلِ هاشمٍ
    ونزلت بالبيداءِ أبعدَ منزلِ
    والمؤمن يعرف هذا بمجرد إيمانه، ولا يختص بمعرفة أولو1 العلم.وأما تبرئتك نفسك من الحلف بغير الله، فمسألة الحلف لو سُلِّمت لك البراءة منها دون ما أنت عليه بكثير، فإن من استحب دعاء غير الله، وألحد في آياته، وصد عن سبيله:أعظم إثماً، وأكبرجرماً، ممن يحلف بغيره.
    وأما ما زعم العراقي من أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالمعروف في عرفه هو:دعاء الصالحين، ونداؤهم بالحوائج.

    وهذا عند الله ورسوله، وعند أولي العلم من خلقه أكبر الكبائر على الإطلاق، كما جاء في حديث ابن مسعود قال:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك".
    وهذا العراقي صرح بأنه يجوز نداؤهم، [أعني نداء الأنبياء والصالحين، بل والجمادات –كما هو مشهور عنه، لكن يسميه توسلاً، خالف المشركين في التسمية، لا في الحقيقة، فيدعو الغير، ويرجوه]3 في كل مطلوب، على وجه الجاه والتسبب، وهذا حقيقة الشرك والتنديد.
    والمنكر في عرفه هو:النهي عن هذا، وعن تكفير أهله، ولهذا صرح في هذه الرسالة بأنه ينصح عن4 تكفير هذا الضرب من الناس، ويزعم أن لهم نيَّات صالحة، ومقاصد صحيحة، فظهر أنه رأس من دعا إلى المنكر، وسعى في هدم5 المعروف، ومحو آثاره.

    وأي معروف يبقى مع دعاء غير الله، وأي منكر يزجر عنه وينهى لو كانوا يعلمون؟؟
    قال تعالى:
    { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. [الكهف:103-104].
    وأصل الإسلام وقاعدته:أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يُعبد إلاَّ بما شرع.
    وهذا وأمثاله من أجهل الناس بهذا الأصل، وأضلهم عن هذا السبي
    ل، بل هم أعظم الناس صدًّا عنه، وردًّا له، وعيباً لأهله. والمخلصُ عندهم، الداعي إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له:خارجي مبتدع، كما صرح بع في رسالته الأولى، وزعم أن هذا دين الخوارج، وأن من كفر بدعاء غير الله فهو ممن يكفر أهل القبلة بالذنوب،
    وأكثر هؤلاء لا يقتصرون على نسبة أهل التوحيد إلى الخوارج والبدعة، بل يصرحون بتكفيرهم، واستحلال دمائهم وأموالهم.والله المستعان.
    قال العراقي:(ولكنا لا نكفر الناس بهذه الأشياء، لأنا اطلعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وكذا وكذا).
    فيقال:أبْعد الخلق عن كتاب الله، وسنة رسوله، هم أهل الاعتقادات
    الباطلة،
    وأهل الغلو في الأنبياء، والأولياء، والصالحين، وهم أضل خلق الله عما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإن ورثوا الكتاب، ودرسوه، فإن الوراثة والدراسة والاطلاع نوعٌ، والعلم به والإيمان والعمل، ومعرفة حقائقه ونصوصه نوعٌ آخر.قال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}.[الأنعام:25].وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.[الجمعة:5].
    وفي الحديث الذي في وصف الخوارج:"يقرؤون2 القرآن لا يجاوز حناجرهم، هم شر قتلى تحت أديم السماء"3.
    فالعلم والكتاب إذا لم يَخْلُصْ إلى القلوب فهو حجة على ابن آدم.
    ويقال:كتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال أهل العلم صريحة متوافرة متظاهرة على تكفير من دعا غير الله، وناداه بما لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى:
    {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}.[يونس:106]. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}.[الإسراء:56].
    والقرآن كلُّه دالٌّ على هذا المعنى، مقرر له، وإن اختلفت
    الطرق والأوجه في بيانه،
    والتنبيه عليه، فكيف ينسب جواز دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله إلى القرآن وإلى السنة؟؟
    وهل يقول هذا من يعرف ما جاءت به الرسل ويتصوره، فضلاً عَمَّن يؤمن به؟
    والمشركون الأولون يعترفون للرسل وأتباعهم أنهم دعاة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة والدعاء لله، وإنما نازعوا في تصديقهم، وقبول ما جاؤوا به.
    وهذا الذي يزعم أنه اطلع على كتاب الله لم يعرف منه ما عرفه أولئك المشركون!
    فالإسلام في هذه الأوقات أغرب منه في أول ظهوره، والدعوةُ إليه مع كثرة من يقرأ القرآن، وينسخه، ويطبع المصاحف، وكتب العلم، فسبحان من قلوب العباد بيده، يصرفها بقدرته وحكمته، ويدبرها بعلمه ومشيئته.

    ومن العجائبِ والعجائبُ جَمَّةٌقربُ الدواءِ وما إليه وصولُ

    كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظماوالماءُ فوق ظهورِها محمولُ
    وما أحسن ما قال مجاهد –رحمه الله- في قوله تعالى:{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.[الأنفال:24]قال:حتى يتركه لا يعقل.
    وأما قوله:(إن الشيخ أحمد بن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية لا يكفران أحداً من أهل القبلة).

    فيقال:لو عرف هذا مَنْ أهلُ القبلة في هذا الموضوع، ومن المراد بهذه العبارة عند أهل العلم لما أوردها هنا محتجاً بها على دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله.
    ومن أعرض عن كلام أهل العلم، ورأى أن من صلى، أو قال لا إله إلا الله"فهو من أهل القبلة، وإن ظهر منه من الشرك والترك لدين الإسلام ما ظهر،
    فقد نادى على نفسه بالجهالة والضلالة، وكشف عن حاصله من العلم والدين بهذه المقالة.
    وقد أنكر الإمام أحمد –رحمه الله-قول القائل:لا نكفر أهل القبلة3.وهذا يزعم أنه على مذهب الإمام أحمد، ومقصود من قالها إنما هو البراءة من مذهب الخوارج الذين يكفرون بمجرد الذنوب، وهذا وَضَعَ كلامهم في غير موضعه4، وأزال بهجته، لأنه تأوله في أهل الشرك، ودعاء الصالحين، فالتبس عليه الأمر، ولم يعرف مراد من قال هذا من السلف.
    وهذا الفهم الفاسد مردود بكتاب الله، وسنة رسوله، وبإجماع أهل العلم، وقد عقد الفقهاء من أرباب المذاهب باباً مستقلاً في هذه المسألة، وذكروا حكم المرتد من أهل القبلة، وقرروا من المكفرات أشياء كثيرة دون ما نحن فيه، وجزموا بأن العصمة بالتزام

    الإسلام ومبانيه ودعائمه العظام، لا بمجرد القول، أو الصلاة1، مع الإصرار على المنافي.
    وهذا يعرفه صغار الطلبة، وهو مذكور في المختصرات من كتب الحنابلة وغيرهم.
    فهذا لم يعرف ما عرفه صبيان المدارس والمكاتب، فالدعوى عريضة والعجز ظاهر.
    وأعجب من هذا أنه يقول في رسالته"
    (إني رأيت لمن يدعو2 الصالحين والأولياء ويناديهم في حاجاته أدلةً صحيحة، ونيات صالحة، ما تخرج عن التوحيد، لأن المقصود التسبب والوسائل، لا الاستقلال)هذا كلامه.
    ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذا الغاية، فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد، ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد.
    ومن له أدنى نهمة3 في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، يعرف أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم، وآلهتهم التي عبدوها مع الله:إلا التسبب، والتوسل، والتشفع، ليس إلا، ولم يدَّعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون
    الله،
    ولا قال به1 أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربِّه.
    وقد قال تعالى:
    {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.[النمل:14].فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده.
    قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره:
    {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}.الآية[يونس:18]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.[الزمر:3]، وقال تعالى:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}.[الأحقاف:28]، وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء}.[الزمر:43]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ}.[البقرة:165].
    فأخبر تعالى أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة، وأحبوهم مع الله محبة تأله وتعبد لنيل أغراضهم الفاسدة، ولم يريدوا منهم تدبيراً ولا تأثيراً لا شركة2 ولا استقلالاً.
    يوضحه قوله تعالى:
    {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}.إلى قوله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.[يونس:31]، وقوله:{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ
    وَمَن فِيهَا}إلى قوله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.[المؤمنون:84-89]، وقوله {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا}إلى قوله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.[النمل:61-64].
    فتأمل هذه الآيات، وما فيها من الحجج والبينات، تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين، ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين.
    وتأمل كيف استدل الله سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، بما أقر به الخصم واعترف به من توحيد ربوبيته، واستقلاله بالملك، والخلق، والتأثير، والتدبير.
    وهذه عادة القرآن دائماً يعرج على هذه الحجة، لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود.
    فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة، والظهور
    . فأيُّ شبهة بعد هذا تبقى للمماحل الكفور

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    واعلم أن دعاء الأموات والغائبين ليس بسبب لما يقصده المشرك ويريده، بل هو سبب لنقيض قصده وحرمانه، وهلاكه في الدنيا والآخرة.
    قال تعالى:{يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ *يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}.[الحج:12-13].(لأنه في الحقيقة إنما عبد الشيطان، ودعاه، وأطاعه فيما يأمر به، ولذلك تتبرأ الملائكة والصالحون ممن1 دعاهم، وصرف لهم شيئاً من العبادة).
    وأيضاً فليس كل سبب يباح، بل من الأسباب ما هو محرَّم، وما هو كفر، كالسحر، والتكهن.
    والغبي يظن أن الدليل يسلم له إذا أراد السبب لا الاستقلال.وعباد الكواكب، وأصحاب النيرنجيات3 ومخاطبات النجوم، يرون أنها أسباب ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية، وعباد القبور والأنفس المفارقة، يرون أن تعلق قلب الزائر وروحه بروح المزور سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك
    المزور،
    كما ذكره الفارابي وغيره من عباد الكواكب، والأنفس المفارقة.
    وقد قال بعض السلف:(ما عبدتِ الشمسُ والقمر إلا بالمقاييس)1.
    1 جاءت هذه العبارة عن ابن سيرين فيما رواه عنه ابن جرير في "تفسيره":(8/ 131)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن":ص196، والدارمي في المقدمة من "سننه": (1/ 58)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 76) طبعة المنيرية.
    ولفظه: "أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس".
    قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره":(2/ 203)على سند ابن جرير:إسناده صحيح.اهـ.
    وقد ذكر شيخ الإسلام هذه العبارة عن بعض السلف في "الرد على البكري"ص 269.وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء":(2/ 652):وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.اهـ.وي نظر "الاقتضاء":(2/ 682، و687).


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي:(ومن الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم ما ذكر الله عن نبيه سليمان،
    وقوله لآصف، فإنه1 طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله).
    فنقول:
    سبحانك هذا بهتان عظيم، ما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا.
    وقصة آصف من أدلة التوحيد، وآصف توسل إلى الله بتوحيده وإلهيته، وكرر ذلك في دعائه، وقد قيل: إنه يعرف الاسم الأعظم، فهو طالب من الله، راغب إليه، سائل له، ليس بفاعل أصلاً2، وسليمان عليه السلام آمر ليس بسائل ولا طالب. وفرق بين الأمر والمسألة.
    ومن لم يفرق بين الأمرين، و3لم يدر حكم المسألتين، فليرجع إلى وراء، وليقتبس نوراً من كلام أئمة العلم والهدى.
    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:"لا تنسنا يا أُخَيَّ من صالح دعائك"
    وهذا من جنس الأسباب العادية، فإن الرجل إذا كان معروفاً بالصلاح، وإجابة الدعاء، فطلب منه الدعاء، أو أمر به، فدعا الله واستجيب له، لا يكون هو الفاعل للاستجابة، وليس المطلوب منه ما يختص بالله من الفعل، وإنما يطلب منه ما يختص به من الدعاء والتضرع.
    فالآية من أدلة التوحيد، وصرف الوجوه إلى الله، وإقبال القلوب عليه، فإن آصف توسل إلى الله بتوحيده وربوبيته، وقَصَدَه وحده، ولم يقصد سليمان ولا غيره، مع أن سليمان أفضل منه لنبوته.
    وفيها أن الأنبياء لا يسألون ولا يقصدون، بل ربما صار حصول مقصودهم، ونيل مطلوبهم على يد من هو دونهم من المؤمنين.
    وأن أعظم الوسائل وأشرف المقاصد هو توحيد الله بعبادته ودعائه وحده لا شريك له، كما فعل آصف.
    وفيها براءة أولياء الله من الحول والقوة، كما دلت عليه القصة، فإنه1 توضأ، وصلى، ودعا، فقال في دعائه: "يا ذا الجلال والإكرام" قاله مجاهد.
    وقال الزهري2: يا إِلهَنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها".
    فأي شبهة تبقى مع هذا، وأي حجة فيه على أن غير الله يدعى؟
    ثم أخذ العراقي في هذيان وإسهاب حاصله: أن السبب لا يفعل، وأن الله هو الفاعل.
    ومراده بهذا أن دعاء الأموات والغائبين من الأولياء والصالحين يجوز ويسوغ، إذا اعتُقِد أن الله هو الفاعل.
    وقد مَرَّ رد هذا، وتقرير جهل قائله، ومفارقته لما عليه أهل الإسلام، وقد تقدم أن أصل الإسلام وقاعدته: هي عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالقصد والطلب.
    وأن توحيد الربوبية، واعتقاد الفاعلية له تعالى لا يكفي في السعادة والنجاة، ولا يكون به الرجل مسلماً حتى يعبد الله وحده، ويتبرآ مما سواه من الأنداد والآلهة.
    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس:
    "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله".
    وهذا ظاهر بحمد الله، وإن خفي على خفافيش البصائر، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا2 إلى ركن وثيق، فهاموا من الجهل والضلال في كل فج عميق، مع انتسابهم إلى العلوم والدفاتر، وتقدمهم في المجالس والمحاضر.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي: (فعند أهل السنة أفعال العبد مخلوقة لله، وعند المعتزلة أن المخلوق خالق لأفعاله، ومع هذا فأهل السنة لا يكفرونهم) انتهى.
    قلت:
    يريد العراقي أن مسألةَ الأموات والغائبين، ودعاءََهم1 في الحوائج والشدائد مبنية على هذه المسألة، وأن أهل السنة يثبتون ذلك لمن اعتقد أن الله خالق أفعال العباد، وأن من أنكر دعاء الصالحين ونداءهم2، فهو من المعزلة، لأن إنكاره مبني على اعتقاده أن العبد خالق لأفعال نفسه.
    والجواب أن يقال:
    أما هذه المسألة أعني –خلق أفعال العباد- فأهل السنة قائلون بها، لدلالة الكتاب والسنة، والأدلة العقلية والنقلية، قال تعالى:
    {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. [الصافات: 96].
    وقد انعقد الإجماع على هذا، ثم حدث قول القدرية النفاة في أواخر عصر الصحابة، وأول من اشتهر عنه ذلك غيلان القدري،
    ومعبد الجهني.
    فأما غيلان: فكان في زمن هشام بن عبد الملك، فناظره الأوزاعي إما أهل الشام في زمانه، وألزمه الحجة، وحكم بكفره، وقتله هشام.
    ومعبد الجهني: قتله الحجاج بن يوسف. وأكثر السلف والأئمة1 يكفرونه بههذ المقالة، كما هو معروف في محله.
    وقد قال الإمام أحمد: "ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا".
    وقد حكى الإجماع على كفر من أنكر العلم شمس الدين ابن قيم الجوزية، وناهيك به علماً واطلاعاًَ، فنسبته عدم التكفير إلى أهل السنة كذب جَرَّه عدم الحياء.
    ثم أي حجة في هذا على أن الأولياء والصالحين يدعون بما لا يقدر عليه إلا الله، فمسألة خلق الأفعال لا تلازم بينها وبين دعاء الأولياء والصالحين بوجه ما.
    وإنما أتي هذا من جهة ظنه أن من قال: بأن الله يخلق أفعال العباد، يباح له دعاء الصالحين. ومن قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، يحرم عليه ذلك، هذا ظن الأحمق، ولم يفرق2 بين مذهب المعتزلة والقدرية، ودين المشركين من العرب والصابئين.
    ويذكر أن بعض الأغبياء شكا رجلاً إلى أمير من الأمراء، فقال: إنه مرجئ، خارجي، رافضي1، ناصبي، يسب معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص. فقال له الوالي: "لا أدري على أي شيء أحسدك؟ على علمك بالمقالات، أو على معرفتك بالأنساب"2.
    قال العراقي: (وكان أحمد يصلي خلفهم، وكل السلف).
    والجواب أن يقال:
    سبحان الله، ما أقبح الواقحة والجراءة3، والتمادي في الكذب على الله، وعلى أولي العلم من خلقه؛ ما صلى الإمام أحمد خلف قدري قط، بل أفتى بعض أهل الحديث بمجلسه أنه لا يصلى خلفهم، فاستحسنه واستصوبه. والمعروف من مذهبه أن الصلاة لا تصح خلف فاسق باعتقاده أو فعله.
    وقد كذب هذا بانتسابه إليه، والحكم عليه بالصلاة خلف القدرية، وأكثر أهل السنة لا يرون الصلاة خلفهم، كما ذكره صاحب "كشف الغمة".
    بعض العلماء يقول: مسألة صلاة الجمعة والجماعة مبنية على
    مسألة القول بالتكفير وعدمه، ويرى الصلاة خلف من لم يكفر ببدعته إذا احتيج1 إلى ذلك، فما حكاه هذا عن أهل السنة كذب لا مرية فيه، والصواب التفصيل عند بعضهم، والمنع مطلقاً عند آخرين... ... يتبع إن شاء الله




  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي: (وهذا باب الكرامة) وتكلم في إثبات الكرامة، وأنها تكون بعد الموت، واستدل بقوله تعالى عن الملائكة {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. [فصلت: 31].
    ومراد العراقي أن دعاء الصالحين، والاستشفاع بهم، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، من جنس الكرامة المثبتة التي أثبتها أهل السنة.
    وهذه طامة عظيمة، وغاية في الجهالة والسفاهة، بل هي من جنس احتجاج النصارى على دعاء المسيح، وأمه، وعبادتهما، ظنوا أن ما حصل للمسيح ولأمه –عليهما السلام- من المعجزات والكرامات1، يبيح لهم دعاءهما2، وعبادتهما. وإذا خاطبت النصراني، سرد عليك من المعجزات والكرامات التي أعطيها المسيح واحتج بها على دعواه.
    وعباد القبور يحتجون في هذا الباب بما لم يثبت. وما ثبتَ
    فأكثرُه دون ما أعطيه المسيح،
    ومع ذلك فالاحتجاج به على دعائهم من جنس حجج النصارى، لا يدل على المدَّعَى، بل غايته أن يدل1 على علو الدرجة، وصدق الرسالة، أو ثبوت الولاية إذا اقترن به عمل صالح.
    وأما الاستدلال بذلك على أنه يدعى ويرجى، ويشفع وينفع، فهذا من دين النصارى، والصائبة، وعباد الأصنام.
    وهذه الشبهة هي التي أوقعت في الشرك جمهور المشركين، فإن أصل عبادة الأصنام هو التعلق على الصالحين، وتصوير صورهم وتماثيلهم. بل عباد الكواكب دعاهم إلى عبادتها ما أودع الله فيها من الحِكم والمنافع التي ظهرت آثارها في هذا العالم، كما يعرفه من عرف مذاهب القوم.
    وطرد الدليل الذي استدل به العراقي: أن يقال بدعاء كل ذي كرامة وقربة2، إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، ولا يتوجه الإنكار على النصارى في قولهم: يا عيسى افعل كذا، يا روح القدس أعطني كذا، ويا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، لأنه من أولي العزم، ومن أكابر أهل الكرامات.
    والمسلم إذا تصور هذا ظهر له ما فيه من الجهل والضلال، بمجرد الفطرة، ومعرفة الإسلام، وأما من رزق الفهم فيما جاء به
    محمد صلى الله عليه وسلم،
    ووفق للاستدلال بآيات الله ومخلوقاته، التي نصبها شاهدة ودالة على توحيده في ربوبيته، فذلك أكمل إيماناً، وأتم علماً وإيقاناً، يرى كفر من تعلق على غير الله، ودعاه فيما يختص بالله من أوضح الواضحات، وأبين البينات.
    قال تعالى:
    {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [الشورى:9]. استدل بعموم قدرته وإيجاده وإحيائه الموتى على وجوب توليه بعبادته وحده لا شريك له.
    والقرآن والسنة يدلان على هذا، ويقررانه بأنواع الدلالات، وألطف التقريرات.
    والآية التي استدل بها ليس فيها ما يدل على دعواه، بل فيها ما يبطلها ويدحضها1، فإن أول الآية نص على وجوب التوحيد، وإفراد الله بالعبادة والاستقامة على ذلك بالتزام حقوقه وواجباته، وتنزل الملائكة ومخاطبتهم للمؤمن بهذا الخطاب، وتوليهم2 له لا يدل على أنه يفعل ويشفع، وإنما يدل على كرامته، وعلو درجته، ونيل مشتهاه، ومدعاه في دار الكرامة.
    فأين في هذا ما يدل على أنه يدعى في حياته، أو بعد مماته؟ وفي الحديث:
    "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ3 مقعده من النار".
    وفي رواية: "بغير علم".
    وهذا الجاهل في الاستدلال بآيات الله، ويحملها على غير محملها، ويتأولها على غير تأويلها، بل على نقيضه وضده، فسبحان من طبع على قلبه.ط
    [وقد استدل بعض من يدعي العلم على مسألة تصرف الأولياء، وأنهم يدعون، بقوله تعالى:
    {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. [آل عمران:169].
    فقال بعض عوام المسلمين: إن كانت القراءة يَرزقون –بفتح الياء- فذاك متجه، وإلا فالآية حجة عليك]1.
    قال في "الفتاوى البزازية": من كتب الحنفية: "قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر". انتهى.
    فإن أراد علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع، والإجماع على هذا يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا أحد الطرق التي يعرف بها الإجماع.
    وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في رسالته "في الرد على من زعم أن الأولياء يدعون ويتصرفون على أن ذلك كرامة".
    قال: "وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي،
    والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة عقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة". انتهى.
    والمقصود أنه حكى إجماع الأمة على كفر من زعم ذلك.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    واستدل العراقي على دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج1 بقوله تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا}. [النازعات:5]. وذكر عن البيضاوي أنها أرواح الموتى.
    الجواب أن يقال: قد حكى البيضاوي أقوالاً في الكلام2 على هذه الآية، وقدَّم أنها الملائكة، وحكى أنها النجوم، وحكى أنها خيل الغزاة، وحكى أنها أنفس الغزاة.
    وعلى زعم هذا وطرد دليله: كل ما ذكر يدعى مع الله حتى خيل الغزاة، والبيضاوي لا يقول بدعاء أحد مع الله، بل ذكر في "تفسيره" مواضع يعز استقصاؤها في المنع من3 ذلك وتحريمه.
    ثم هذا القول الذي قاله العراقي رجوع إلى عبادة الملائكة، والنجوم، والأنفس المفارقة، هذا حقيقة دين الصابئة، أوقع العراقي فيه: ظنه أن العبادة لا تكون عبادة وشركاً إلا إذا اعتقد التأثير من دون الله،
    وهذا الشرط هو الذي أوقعه فيما وقع فيه من تجويز عبادة الملائكة، والنجوم، والأنفس المفارقة.
    وهذه1 المسألة غلط فيها كثير من الضالين، مع أن الله تعالى وضحها في كتابه توضيحاً كافياً شافياً. وقد تقدم بعض ذلك قريباً.

    والشرك: جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والنسك، والطاعة، ونحو ذلك من العبادات.فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربه، قد2 عدل به سواه، وجعل له نداً من خلقه. ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شَرِكَةً في الربوبية، أو استقلالاً منها.
    والعجب كل العجب أن مثل هؤلاء يقرؤون3 كتاب الله، ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئاً من قواعد العربية،
    وهو في هذا
    الباب من أضل خلق الله، وأبعدهم عن فهم وحيه وتنزيله.
    ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم به1، ووصفهم به، خاص بقوم مضَوا، وأناس سلفوا وانقرضوا، لم يعقبوا وارثاً.
    وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عباد2 الأصنام، هذه نزلت3 في النصارى، هذه في الصابئة، فيظن الغُمر4 أن ذلك مختص5 بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة.
    ثم اعلم أن قول البيضاوي هنا قول لا يلتفت إليه، ولا يعول في الدليل عليه، لأنه صدر عَمَّن لا يرضى، ولا يؤتم به في هذا الشأن ولا يقتدى، ولم يقله أحد من أئمة التفسير والهدى، بل قد صرحوا بخلافه كما يعرفه أولو6 الأحلام والنهى، ونبهوا على أن أصل الشرك هو سؤال أرواح الموتى.
    والبيضاوي وأمثاله إنما يؤخذ عنهم ما شهدت له الأدلة الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، التي يتلقاها أهل العلم والإيمان، من أحكام السنة والقرآن.

    وقد قال عمر بن الخطاب –رضي الله تعالى عنه-: "ذهاب الإسلام من ثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن،1 وحكم الأئمة المضلين"2.
    هذا لو سلمنا ثبوت العلم لمن يحكي مثل هذه الأقوال، وإلا فأين العنقاء لتطلب، وأين السمندل ليجلب؟3
    وأهل التحقيق من المفسرين على أن المراد بهذه الآية هم الملائكة، فإسناد التدبير إليهم كإسناد النزع، والنشط، والتقسيم، والزجر، كما في
    الايات
    وليس في هذه الآيات الكريمات ما يدل على دعاء الملائكة، وعبادتهم، فإنهم رسل مأمورون مدبرون، كما أن إبلاغ الرسالة من الرسول البشري لا يدل على دعائه، ولا يقتضيه، فكذلك الملائكة،
    لأنهم رسل بالأوامر الكونية والشرعية. والقدرةُ والتدربير وتسخير المخلوقات كل ذلك لله وحده، وهو من أدلة توحيده وإلهيته، وصرف الوجوه إليه، والإعراض عما سواه.
    قال تعالى في حق الملائكة:
    {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ}. إلى قوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. [الأنبياء:26-29]. وقال في شأن جبريل وغيره من الملائكة {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. [مريم:64].
    فتأمل ما في هذا القول من كمال العبودية، ومتابعة الأمر، والبراءة من الملكة والحول والقوة، والاعتراف له تعالى بذلك.
    فاستدل بعموم الربوبية، ثم قال تعالى:
    {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ثناء عليه تعالى بإثبات العلم، ونفي ما يضاده، أو ينافي كماله.
    قال تعالى في حق المسيح:
    {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }. الآية [النساء:172].
    والمقصود أن تسخير الملائكة، وتدبيرها، وإرسالها من أدلة إلهيته تعالى، واستحقاقه لأن يعبد وحده لا شريك له.
    * ومن العجب أن هذا العراقي زعم هنا أن ابن القيم قال في كتاب "الروح" وابن تيمية قال في كتاب "الفرقان": إن أرواح الموتى تدبر. وقد برأهما الله، وحماهما من ذلك، بل هما من أبعد خلق الله عن هذه الأقاويل الجاهلية الشركية، ومن أشدهم نهياً عنها، وإبطال
    لها في غالب كتبهم ومصنفاتهم، وقد شنعوا على من قال هذا، وكفروه، وحكوا هذا القول عن الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم.
    وفي "الفرقان" للشيخ ما يبطل هذا المذهب من وجوه عديدة تقارب السبعين. فانظر ترى، إن كنت من أهل العلم والهدى.
    وفي كتاب "الروح" ما يقارب ذلك من إبطال هذا القول، وتكفير فاعله.
    ومن وقف على الكتابين، وله فهم عن الله ورسوله، يعرف ما قلناه، ويتضح له صحته ومغزاه.
    والخطاب مع ذكي النفس، قوي الهمة، رفيع القدر، العارف بأخذ العلم واستنباطه، وأما وضيع النفس، ضعيف الهمة، خسيس القدر، الجاهل بأخذ العلم من معدنه ومظانه فليس الكلام معه، ومثله لا يزداد بكثرة الكتب والأقوال إلا شكاًّ وحيرة.
    ثم استدل العراقي برؤيا الأرواح بعد الموت عند النصر والظفر.
    وهذا من أعجب ما سمعنا عن هؤلاء الضلال. والرؤيا على أقسام معروفة، وتأويلات مختلفة، فمنها حقائق وصور مشهورة. ومنها أمثال مضروبة، وعلى الأول ليست فاعلة، ولا سبباً أصلاً، بل هي علامات وشواهد، ولا يخالف في هذا من شم رائحة العلم والتمييز. وقد قالوا: إن رؤيته صلى الله عليه وسلم مناماً –بشرطها المقرر، وهو أن يراه صلى الله عليه وسلم على صفته ومثاله- يختلفُ تأويلُه بحسب اختلاف الرائي، واختلاف الزمان والمكان، فرؤيته عند الحرب تحمد للمؤمنين وفيها بشارة لهم،

    بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، والبغاة المعتدين، فهي نذارة لهم، وعقوبة عاجلة، وكذلك المكان الذي تكثر فيه المعاصي، ويظهر الفجور. واللبيب يفهم من الرؤيا والمثل ما لا يفهمه سواه، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
    وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيوية، وأبو بكر، وعمر كانوا يجاهدون بأنفسهم وأموالهم، وقد قال تعالى لنبيه:
    {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}. [الأنفال:17]. ولما وعدهم أن يمدهم بالملائكة تقاتل معهم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [الأنفال:10] فأخبر أن النصر من عند الله لا من عند غيره، لتنيب القلوب إليه، فتعتمد في مهماتها ةعليه، وتستغيث به وحده لا شريك له.
    فإذا كان هذا حالهم في الحياة فكيف ترى حال الأرواح بعد الممات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
    "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُوْ لَهُ".
    وهؤلاء الضلالُ يقولون: إن أرواح الأولياء تدبر، وتهزم، وتنصر، وتفعل، وتفعل، قل أأنتم أعلم أم الله.
    وهذا الرجل يعرف من نظر في كلامه أنه أجنبي عن العلم والإيمان، لم يعرف ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وكيف كان الشرك في الأمم. ولكنه وجد مادة وكتباً شتت فهمه، أراد
    الاستغناء بها فلم تزده إلا جهلاً وعمى، وأضاف إلى ذلك الجراءة في الكذب على أهل العلم، ونسبة الأقوال الضالة إليهم، كما كذب على الشيخ وتلميذه، وزعم أنهما قالا: أرواح الموتى من المدبرات، وروح النبي صلى الله عليه وسلم هزمت الجيوش. والصواب أن الشيخ –رحمه الله- نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الفلاسفة والصابئة*.
    قال رحمه الله – فيمن قال إن أرواح الموتى تجيب من دعاها1:
    "هذا يشبه بقول من يقول: الأرواح بعد المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها، وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة، ومن أخذ عنهم كابن سينا وأبي حامد وغيرهما.
    وهذه الأحوال هي من أصول الشرك، وعبادة الأصنام، وهي من المقاييس التي قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس".
    وقال أيضاً –رحمه الله- في الكلام على رؤساء المتكلمين: "وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك، الفاعلون له"2 إلى أن قال: "وقد رأيت في مصنفاتهم في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة –أنفس الملائكة وغيرهم- ما هو أصل الشرك".
    وقال العلامة ابن القيم –رحمه الله- في "مدارجه": ومن أنواعه –يعني الشرك الأكبر- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم،

    والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له عند الله. انتهى.
    ***
    والرجل وجد مادة وكتباً شتت فهمه، وحيرت عقله، أراد الاستغناء بها فلم تزده إلا عمى وجهلاً، فأضاف إلى ذلك الجرأة في الكذب على الله وعلى رسله وعلى أولي العلم من خلقه، كما كذب على الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وزعم أنهما قالا: الأرواح تدبر وتتصرف بعد الموت، والشيخ رحمه الله نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الفلاسفة والصابئة.
    1 في ط: آل ثاني: "قال رحمه الله: من قال إن أرواح ..." إلخ.
    2 هذا النقل عن شيخ الإسلام ليس موجوداً في ط: آل ثاني.



    [ونَقْلَ العراقي عن كتاب "الروح" أن روح النبي صلى الله عليه وسلم هزمت جيوش الكفار والظلم مع كثرة عددهم، لا أصل له، وكتاب "الروح" موجود، ومسموع من المشايخ الثقات العارفين بنصوصه وأقواله وأصوله وفروعه، ليس فيه هذا، بل فيه ردُّه وإبطاله كما تقدم.
    كذلك نقله عن الشيخ كذب ظاهر، وإفك وخيم.
    ويغلب على ظني أنه سمع في كتاب "الروح" ذكر رؤيا الأرواح وصعودها، ونزولها، وحضورها تارة عند الحرب أو غيره، ورؤية بعض الناس لأصحابها: فظن أن هذا هو القول بأن الأرواح تدبر، وتهزم الجيوش، لأن في ذهنه وخَلْده ما عليه الصابئة والفلاسفة من أن الأنفس المفارقة قد تؤثر في هذا العالم، ولم يميز بين مذهب الصابئة، وما عليه المسلمون، ومن بلغ في الجهالة إلى هذه الغاية والحد، فقد تعطل قلبه عن الإدراك والمنافع وفسد.





  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي في استدلاله على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر: (ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. [يوسف:24]. قال1 المفسرون، منهم البغوي: رأى يعقوب عاضاً على أنملته، يقول: إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام. فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله).
    قلت: يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج في الغيبة، وبعد الممات، لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها، وينادى.
    والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته، لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.
    وقال تعالى:
    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِن
    خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. [فاطر:3]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ*أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور}. [تبارك: 20-21]. وقال تعالى: { فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. [العنكبوت:17].
    فتأمل هذه الآيات ونظائرها، وانظر ما دلت عليه من اختصاصه تعالى وانفراده1 بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، وانظر2 كيف استدل بهذا على وجوب عبادته وطاعته والإيمان به، وهل يُعَارِضُ هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة من شَمَّ رائحة العلم، ودرى ما الناس فيه من أمر دينهم.

    فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌوإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
    هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمتان كاذبتان، لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير.
    وكل من يذكر تعريف الكرامة وحَدَّها يقول: هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه، أو على غيره، وعلى هذا
    التعريف لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم.
    قد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون.
    وقد أنكر تعالى على من دعاه وقصده1 في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه، ضال بعبادة غيره.
    قال تعالى:
    {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْن َ أَرْبَابًا}. الآية [آل عمران:80]. والأرباب هنا2: هم المعبودون المدعون، وسيأتي تحقيق هذا.
    وقال تعالى فيمن عبد3 المسيح:
    {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. [المائدة:76].
    وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله داخل في مسمى العبادة فتنبه.

    فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً، وإن قَلَّ، كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس وسط النهار.
    وقد تقدم أن هذه الشبهة هي التي تعلق بها النصارى في دعائه ودعاء أمه.
    ثم اعلم أن الآية ليس فيها ما يدل على كرامة يعقوب –عليه السلام- إلا حفظه في عقبه، وصيانة ولده، فإن الله يحفظ الرجل الصالح في نفسه وأهله ووله، كما في حديث ابن عباس: "احفظ الله يحفظك"1. وليس ذلك من جهة المثال وتخصيصه، فإن هذا لا يفيد الكرامة ولا يفهمها.

    وقد تمثل جبريل في صورة دحية الكلبي1. وكثيراً ما يتمثل الملك في صورة البشر.
    والذي رآه يوسف هو المثال، لا نفس يعقوب وذاته كما فهمه الغبي، فإن هذا لا يدل عليه كلامهم أصلاً، وكرامات يعقوب –عليه السلام- أَجَلُّ من ذلك وأعظم.
    وقد يُمَثَّلُ للإنسان من يحب ويأنس به، أو من يجله ويهابه، لمصلحة تعود عليه، لا على نفس صاحب المثال، ولذلك نظائر وأشباه في اليقظة1 والمنام، يعرفها أولو العلم والأفهام.

    تنبيه
    ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشاً من هو أفضل منهم، وأقوى إيماناً.
    وقد كثرت في القرن الثاني والثالث، وفي القرن الأول من هو أفضل وأجل ممن وقعت له هذه الخوارق، وبسط هذا له محل آخر1.
    والقصد إبطال كلام هذا الضال.
    ويقال له: أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال: إن هَمَّ يوسف من جنس الخطرات والواردات التي لا تستقر وليست بعزم، فتركها والإعراض عنها حسنة، كما دل عليه حديث:
    "إذا هَمَّ العبد بالسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة"2.
    ومنهم من قال: البرهان المشار إليه هو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى}. [الإسراء:32]. رأى الآية مكتوبة في السقف.

    ومنهم من قال: رأى ثلاث آيات هي البرهان.
    ومنهم من قال: لم يهمّ يوسف بسوء لوجوب عصمته حتى قبل النبوة، وقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. [يوسف:24] معلق على عدم الرؤية، وقد ثبتت فلا هَمَّ، نقول: هلك1 زيد لولا عمر.
    وهذا معنى ما قال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: لولا أن رأى برهان ربه همَّ بها.
    وهذا يذهب إليه من يقول بعصمة الأنبياء قبل النبوة.
    وهو الراجح عن من اعتمد أقوالهم هذا العراقي فيما وصل إلينا في علم مسألة2 الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وهنا3 خالفهم ظناً منه أن إثبات الكرامة يقتضي إباحة الدعاء مع الله.
    قال بعض السلف: "أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أيَّ مذهب وافق هواك تمذهبت به".
    ومن العجب أنه يكرر في هذه "الرسالة": سلوني سلوني إن أشكل عليكم شيء، وعندي مِنَ النسخ، وعندي كذا وكذا، ويطري نفسه إطراء لا يصدر عَمَّن له دين وعقل، أو دراية بشيء من الآداب والنقل، حتى أنشد في مدح نفسه قول الشاعر:

    سَلِي إن جهلتِ الناسَ عَنَّا وعنهمُ فليس سواءً عالمٌ وجهولُ
    وما أحسن ما قيل:
    إني سألتُ ولكن لم أجدْ أحداًأثنى2 عليك ومدح النفس تضليلُ
    ومثل هذا لا يَحسُنُ ممن له علم وفضل، أو أدب ينتفع به وعقل، فكيف بمن لم يعلم حقيقة الإسلام، ولم يعرف منه ما عرفه آحاد العوام.
    وقد اعترض بعض الجهال على شيخ الإسلام في بعض تقاريره فأخطأ الإصابة، ولم يتأدَّب بحضرة تلك العصابة. وقال له الشيخ: لا أدب ولا فضيلة.
    وأَنَّى لمثل هذا بالفضل والأدب، وقد عدم العلم الذي هو أصل الفضائل والرتب.
    فقرُ الجهولِ بلا علمٍ إلى3 أدبٍفقر الحمار بلا رأس إلى3 رسن
    وهذه الدعوى الكاذبة يمكن كل واحد أن يدعيها، ولكن هيهات هيهات قد حيل بين النفوس الجاهلة وبين أمانيها، لقول أصدق الورى، ومن لا ينطق عن الهوى: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم" الحديث1.
    والله يعلم أني ما رأيت لهذا إصابة قط فيما يدعيه وينفرد به، حتى أنه قال في بدء رسالته وخطبته في وصف الأرواح: (فما تعارف منها في الأزل ائتلف). فزاد في الحديث قوله: "في الأزل" وهي زيادة تدل على جهله، وكثافة فهمه، فإن الأزل لا وجود للأرواح فيه، فضلاً عن أن تتعارف، لأنه اسم لما قبل إيجاد المخلوقات.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقى
    : (وقد أجمع الحنابلة وغيرهم على طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته).
    والجواب أن يقال:
    هذه دعوى عريضة كبيرة، لا تصدر إلا عن اطلاع كلي، وإحاطة تامة بأقوال أهل العلم، أو عن وقاحة كلية، وتهور في الكذب، وإيغال في الافتراء.
    ومن المعلوم ضرورة عند من نظر في كلام هذا من أهل العلم، أنه ليس من القسم الأول، بل هو ممن يجهل الضروريات الإسلامية، والبديهيات الإيمانية اليقينية، مما لا يخفى على عامة المسلمين، فكيف له بمعرفة الإجماع في هذه المسألة.
    والمدَّعِي يطالب بتصحيح دعواه. ولكن نتنزل مع هذا ونكتفي منه بتصحيح ذلك عن واحد فقط ممن يحتج به من أئمة العلم والفتوى، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من بعدهم من التابعين، وتابعي التابعين، أو الأئمة الأربعة، أو أصحاب الوجوه والترجيحات في مذاهبهم.
    وأما من لا يحتج به من الخُلُوْفِ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء ليسوا بحجة، ولا يرجع إليهم بالاتفاق، والآثارُ والأحاديث دَلَّت على عيبهم وذمهم بما أحدثوه في دين الله من
    الأقوال والأفعال، كما في حديث العرباض بن سارية1، وغيره من الأحاديث.
    وما علمت أحداً من أهل العلم وأئمة الفتوى، قال هذا، لا من الصحابة ولا من غيرهم.

    بل حكى الشيخ الإمام أحمد بن عبد الحليم الإجماع على المنع من دعائه صلى الله عليه وسلم، والطلب منه، وقرر أن هذا من شعب الشرك الظاهرة، وسيأتيك بسط كلامه.
    وذكر الحنابلة كصاحب "الفروع" و"الإقناع" وغيرهم، حتى أصحاب المختصرات: أن المُسَلِّم عند القبر لا يستقبله عند الدعاء، ولا يدعو الله عنده. وهذا منهم صيانة للتوحيد.
    وأبو حنيفة قال: لا يستقبله عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، بل يستقبل القبلة، وحكاه شيخ الإسلام.
    وقد كره مالك للرجل أن يدعو عند القبر الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وذكر أنه يستقبل القبلة عند الدعاء، كما ذكره في "المبسوط" وغيره من كتب المالكية.
    وفي منسك الإمام أحمد مثل هذا، بل كرهوا للرجل من أهل المدينة أن يأتي القبر الشريف كما دخل المسجد، لأنه محدث، لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال مالك: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أوّلَها

    وأما مَنْ قدم من سفر أو أراده من أهل المدينة فرخصوا1 له في إتيان القبر الشريف للسلام، لأن ابن عمر كان يفعله.
    قال ابن أخيه عبيد الله بن عمر بن عاصم: لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ابن عمر2.
    وعبيد الله المصغَّر3 من أفضل آل عمر، ومن أعيان وقته، ثقةً وزهداً وعلماً.
    وأما دعاؤه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهم مجمعون على المنع منه.
    ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ما يقتضي الجواز والإباحة.

    قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله-: "والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وفي مغيبه1 ليس مشروعاً قط، ولكن كثيراً من الناس يدعو2 الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم، فتتمثل3 له الشياطين، و4تقضي بعض مآربه، لتضله5 عن سبيل الله كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر، وتخاطبهم، وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا، وغير زماننا". انتهى.
    وقال الشيخ –رحمه الله-: "وكان الصحابة والتابعون –لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك- لا يدخل أحد إليها، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعاً إنما يفعلونه6 في المسجد7.
    وكان السلف إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر.
    وأما وقوف المُسَلِّم عليه، فقال أبو حنيفة: ليستقبلوا القبلة أيضاًَ، و8لا يستقبلوا القبر.

    وقال أكثر الأئمة: بل ليستقبلوا القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء –أي الدعاء الذي يقصده لنفسه1- إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها.
    واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقَبِّله. وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد.
    قالت طائفة من السلف في قوله تعالى:
    {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}. الآية [نوح:23]. هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
    وقد ذكر بعض هذا البخاري في "صحيحه"2 لما ذكر قول ابن عباس. وذكر ابن جرير وغيره عن غير3 واحد من السلف. وذكره وَثِيْمَةُ4 وغيره في "قصص الأنبياء" من عدة طرق. انتهى.
    وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي من أكابر الحنابلة وعلمائهم: "والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً –يعني النبي صلى الله عليه وسلم- ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفاراًَ".
    وقال أيضاً: "والحكاية التي تنسب إلى مالك مع أبي جعفر المنصور كذبٌ عند أهل المعرفة بالنقل الصحيح". انتهى.
    ومذهب مالك –رحمه الله- المعروف عند أصحابه يخالف هذه الحكاية المكذوبة ويردها.
    قال القاضي عياض: قال مالك في "المبسوط": "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو1، ولكن يسلم ويمضي".
    وقال القاضي إسماعيل في "المبسوط" قال مالك: "لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو1، ولكن يسلم على النبي، وعلى أبي بكر، وعمر، ثم يمضي".
    ولما نقل ابن وهب عن مالك أنه يدعو1 للنبي2 صلى الله عليه وسلم عند القبر، حمله أكابر أصحابه على الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم. وابن
    عبد البر يقول: لفظ1 الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ مالك.
    وقال بعض المالكية: المراد بالدعاء السلام، بدليل أنه ذكر في رواية ابن وهب نفسه يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله.
    وقد تقدم مذهب الحنابلة وأبي حنيفة.
    وإذا كان هذا ممنوعاً مع أنه دعاء الله، فما ظنك بدعاء الرسول نفسه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم؟
    فالأول مُنِع منه لأنه وسيلة وذريعة إلى هذا المحذور الذي هو سؤال غير الله، وقصده في الحاجات. ولم يكن في عهد السلف شيء من هذا، وإنما حدث أوائله ومباديه بعد القرون المفضلة، وأنكرها أهل العلم والإيمان، محافظةً منهم2 على السنة، وحمايةً لجانب التوحيد، وطاعة لله ورسوله، وسداً لذرائع الشرك ووسائله.
    وقد روى الضياء في "المختارة" عن الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك، قال: "ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"

    وروي أيضاً عن علي بن الحسين زين العابدين.
    وهذان الإمامان هما أفضل أهل البيت في زمانهما.
    وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة في سنن أبي داود بلفظ: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا قبري عيداً ..." الحديث1.

    فانظر هذه السنة المأخوذة عن أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً وداراًَ. وتأمل ما دلت عليه من الحِكم والفوائد: من ذلك نهيه عن اتخاذ قبره عيداً، والعيد ما يعتاد مجيئه في وقت مخصوص. وتأمل حكمة ذلك ومقصوده، وما فهمه السلف منه1 من النهي عن التردد إلى القبر الشريف، كلما دخل المسجد.
    وفيه: أن الصلاة والسلام يبلغه، وإِنْ بَعُدَ المُسَلِّم.
    وفيه: أن الذي يجب له صلى الله عليه وسلم من التوقير والتكريم، والصلاة والسلام، مطلوب في كل مكان، وعلى أي حال، وذلك أكمل وأتم2 ممن يعتاد ذلك عند مجيئه إلى القبر، أو يزيد بالغلو والإطراء، فإذا بَعُدَ عنه فهو من أشد الناس معصية وجفاءً.

    وفيه حماية أصل الدين وقاعدنه بصرف الوجوه إلى الله، وإنابة القلوب إليه، واعتمادها عليه.
    ورعاية هذا الأصل من أهم1 أصول الشريعة، ومداركِ الأحكام.
    وسؤال المخلوق وصرف الوجه إليه بالمسألة والطلب في الأمور الكلية يعود على هذا الأصل بالهدم والقلع.
    فمن عرف هذا حق المعرفة، ونظر في أدلته وأصوله: تبين له علم السلف، ودقة نظرهم، وحسن سياستهم للناس بما يصلح دينهم ودنياهم.
    وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد2

    وذكر أبو بكر الإمام الأثرم وغيره من أئمة الحنابلة: أن العلة في ذلك كون الصلاة ونحوها من العبادات عند القبور وسيلة وذريعة إلى تعظيم أربابها بما لم يشرع من الغلوِّ، والدعاء، وعبادتها مع الله.
    فكيف والحالة هذه يقال بجواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن ذلك مجمع عليه، كما زعمه المفتري، الجاهل بالله تعالى ومعرفة حقه، وحق رسله، فنعوذ بالله من الخذلان.

    والعلمُ يَدْخُلُ كُلَّ قلبِ موفقٍمن غير بَوَّابٍ ولا استئذانِ
    ويرده المحرومُ من خِذلانهلا تشقِنَا اللّهمَّ بالخِذْلاَنِ

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقى:
    (والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد من كتاب الله لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. [فاطر:13]. وهذه الآية صحيحة، ولكن هذا الفهم باطل، لأن الدعاء المذكور هو السجود على أنها أرباب، وهي الأصنام، وهم كانوا يعبدونها على أنها أرباب لهم، وهي أخشاب وأحجار لا تملك شيئاً، فالذي يستدل بهذه الآية يقال له: أين مذكور تفسير هذه الآية أنَّ المراد بها الأنبياء والشهداء والأولياء الذين يناديهم المسلم نداء لا عبادة؟ فإن هذا لم يذكر قط في تفسير، ولا في حديث، ولا في أقوال السلف. نعم ذكر الشيخ تقي الدين وقال: إنه باب الزجر والتغليظ والإشارة، لا باب الحكم على المسلم بالردة، فله أكثر من مائة عبارة تنفي ذلك، والدعاء ليس في كل مكان يراد به العبادة، قال تعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَه -سندع الزبانية. [العلق:17-18]. أيقال: إن الله تعالى عبد الزبانية لأنه دعاهم)
    انتهى كلامه.

    وإنما سقناه بحروفه ليعلم المؤمن قدر ما أنعم الله عليه به من
    نعمة الإسلام،
    وما اختصه به من الكرامة ورفع المقام،
    وليعتبره بما يراه من حال هؤلاء الضالين، كيف تلاعب بهم الشيطان
    ،
    وأوصلهم إلى غاية من الجهل والضلال،
    حجبهم بها عن معرفة الله، ودينه،
    وحقه على عبيده،
    وعن معرفة رسله،
    ومعرفة حقهم، وما يجب لهم، وما يستحيل،
    وأوهمهم مع ذلك أنهم من أهل العلم بشرعه ودينه في التحريم والتحليل
    ،
    وهم كما ترى ليس معهم من الإسلام أصل ولا خبر،
    ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر.
    فإن حاصل ما قرره هنا:
    أن الله تعالى لم يحرم عبادة الأنبياء والملائكة والصالحين، ودعاءهم،

    وإنما حَرَّم اعتقاد الاستقلال من دونه، واعتقاد الربوبية فيها.
    وأن العبادة هي السجود فقط، مع اعتقاد أنها أرباب –وهي الأصنام والأخشاب والأحجار- لا تملك شيئاً.
    وأن النداء يجوز لأنه ليس بعبادة،
    وأنه لم يذكر قط كون النداء عبادة، وما ذكره الشيخ تقي الدين من باب الزجر والإشارة، وله أكثر من مائة عبارة تنفي كون نداء الأنبياء والصالحين عبادة.
    ومن فهم من كلام الله تحريم دعاء الصالحين فهو مخطئ ضال، منفرد بهذا الفهم.
    هذا حاصل كلامه، فيا ويحه ما أكبر زلته، وما أغلظ كفره،
    وما أشدَّ عداوته لما جاءت به الرسل [وما أكثف حجابه عن معرفة ما أرسلت به الرسل]3 واتفقت عليه دعوتهم،
    وهذا النوع من
    الناس هم أعوان إبليس وأنصاره في كل زمان ومكان،[ نعم لا كثرهم الله - كتبه محمد عبد اللطيف]
    ظهروا للناس في ثياب القراء والعلماء،
    وهم من أجهل من تحت أديم السماء.[نعم]

    يا فرقةً ما خان دينَ محمدٍ وجنى عليه ومله إلا هي
    وفي هذا من الكذب على الله، والكذب على رسوله، وعلى أولي العلم من ورثته، والقول عليه بغير علم، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على اللغة والشرع ما يعزُّ استيفاء الكلام عليه واستقصاؤه.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    فقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الآية ونحوها تكفير من دعا الأنبياء والصالحين)كذب على الرسول، ونسبة ما لا يليق بآحاد المؤمنين إليه.
    وهل وقعت الخصومة، وجرد السيف، ودعي من دعي من أهل الكتاب إلى المباهلة، وأمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، إلا لأجل عبادة الأنبياء والصالحين، ودعائهم. وهل صُوِّرَتِ الأصنام وعبدت إلا باعتبار من هي على صورته وتمثاله من الأنبياء والملائكة والصالحين؟

    والآيات التي يعبَّر فيها بالموصول وصلته كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. [فاطر:13] ونحوها من الآيات، كقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}. [يونس:106]. {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ}. [الإسراء:56].
    فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعوّ ومعبود نبياً كان أو ملكاً أو صالحاًَ، إنسياً أو جنياً، حجراً أو شجراً، متناولة لذلك بأصل الوضع.
    فإن الصلة كاشفة ومبنية للمراد، وهي واقعة على كل مدعوٍّ من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية، وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب. تقول: جاء الذي قام أبوه، لمن يعهد قيام الأب، ويجهل النسبة بينه وبين من جاء.
    والمعهود عند كل من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عُبِدوا مع الله، وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم وملماتهم، كما جرى لليهود والنصارى في عبادة الأنبياء والأحبار والرهبان، وكما جرى لقوم نوح في ودٍّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر1، وكما جرى للعرب في عبادة الملائكة، واللات، وهو رجل صالح كان يلت السويق للحاج.
    وهذا أوضح من أن يحتاج لتقرير، وأظهر من أن يتوقف على كشف وتفسير. فإن العربي سليم الذوق والفطرة يعرفه1 بعربيته وفطرته، وجميع المفسرين يقررون هذا بضروب من العبارات والتقريرات، ويفهمها الذكي، ومَنْ خَصَّ الأصنام في بعض المواضع فهو لا يمنع أنها عبدت باعتبار من هي على صورته.
    وقد ذكر هذا ابن كثير في "تفسيره" وذكره غيره من أهل العلم. وقد كذب هذا عليهم، نسبهم إلى الجهل، كما كذب على الله ورسوله، قال تعالى:
    {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّر ِينَ}. [الزمر:60].
    وأيضاً فقد2 قال تعالى:
    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}. [الأنبياء:25].
    فإن نازع هذا في عموم النفي فهو على مذهب من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب). وإن سلم العموم، وزعم أن دعاء الصالحين ونداءهم3 ليس بعبادة ولا دعاء فقد خرج عن المعقول والمنقول، وأتى بجهالة حمقى، خرج بها عَمَّا قاله جميع أئمة العلم والهدى.
    وقوله تعالى عن نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. [يوسف:39] هي من هذا الباب، فإن تفرق الآلهة والأرباب يصدق بعبادة الأنبياء والصالحين.
    ومن نازع في هذا فليس من جملة العقلاء1 ولا ممن يعرف الضروريات التي يعرفها الحمقى.
    هذا لو لم يرد في عبادة الأنبياء والصالحين الملائكة نصوص خاصة، فكيف2 وقد جاء في ذلك ما فيه الهدى والشفاء.
    قال تعالى:
    {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. [آل عمران:80]. والأرباب هنا هم الآلهة المعبودة3، فإن الرب وضع للمعبود كما وضع للمالك والمربي والخالق، وليس هذا من المشترك، ولا من المتواطئ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته اللغوية، والشرعية.
    وبهذا يتبين لك خطأ العراقي في قوله: (على أنها أرباب) فإنه يريد بهذا القيد أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد التدبير والتأثير لها، كما تقدم عنه صريحاً.
    وقال تعالى فيمن عبد الصالحين بطاعتهم من دون الله، وغلا في الأنبياء:
    {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. الآية
    [التوبة:31].
    فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم بطاعتهم في التحليل والتحريم المخالف لأحكام الله تعالى1

    وقال تعالى فيمن عبد الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}. [الإسراء:56]. وهذه فيمن عبد الصالحين من الجن والإنس والملائكة كما فسرها بذلك غير واحد من السلف، ويدل عليه قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}. [الإسراء:57]. وقد وصفهم بأنهم لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من حال إلى حال وإن قَلَّ، كما تفيده1 النكرة في سياق النفي، فبطل دعاؤهم بما لا يقدر عليه إلا الله.
    وقال تعالى:
    {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}. [سبأ:22]. نفى أن يكون لهؤلاء المدعوين مُلْكٌ في السموات والأرض ولو قَلَّ كمثقال ذرة، وهذا هو الذي يعبر عنه بالاستقلال.
    ونفى أن يكون لهم فيهما شرك ولو قَلَّ، كما يفيده قوله: (من شرك)2، فإنه يفيد استغراق النفي.
    ونفى أن يكون له منهم من1 ظهير يعاونه ويؤازره، وإذا بطل الملك والشركة والمعاونة لم يبقَ سوى الشفاعة، فنفاها بقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. [سبأ:23]. فإن هذا يفيد إبطال الشفاعة التي ظنها المشرك ودعا غير الله لأجلها، وقد دل القرآن على نفيها في مواضع.
    والشفاعة المثبتة التي دلَّ عليها الاستثناء، وجاءت بها الأحاديث النبوية، نوع آخر غير ما ظنه المشركون.
    وحقيقتها: أن الله تعالى إذا أراد رحمة عبده ونجاته أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع.
    وقُيِّدت الشفاعة المثبتة بقيود منها: إذنه تعالى للشافع. ونكتة هذا القيد وسره: صرف الوجوه إلى الله، وإسلامها له، وعدم التعلق على غيره لأجل الشفاعة، ولذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد، وما يدل على وجوب عبادة الله وحده.
    وهذا الموضع لم يفهمه كثير2 من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً وطلَبَها من غير الله، فعادوا إلى ما ظنه المشركون وقصدوه، قال تعالى:
    {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. [يونس:18].
    ومنها: أنه لا يشفع أحد إلا فيمن رضي الله قوله وعمله
    . قال تعالى:
    {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}. [النجم: 26]. وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}. [الأنبياء:28]. ومن الآيات الخاصة بمن يدعو الملائكة وأمثالهم قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}. الآية [سبأ:40].
    وقال تعالى في شأن المسيح:
    {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. [المائدة: 116، 117، 118]1. فتأمل ما فيها من العلوم، إن كنت من ذوي الألباب والفهوم.
    منها: أن اتخاذ الأنبياء والصالحين آلهة شرك ينبغي تنزيه الرب تعالى عنه.
    وفيها براءة أولياء الله ممن أشرك بهم.
    وفيها: أن الرسل ما أمرت الخلق إلا بما أرسلوا به من عبادة الله وحده.
    وفيها: برهان ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة. وأن الرب الذي عمت ربوبيته جميع خلقه هو المستحق أن يعبد. وأن العبد المربوب ولو علت درجته كعيسى وغيره من الرسل أو الملائكة لا يكون شريكاً لربه ومالكه {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}. الآية [الروم:28].
    والقرآن كله يدل على هذا، ولكن من عادة القرآن مراعاة1 ما تقتضيه الحال، فيطنب في محل الإطناب، ويوجز في محل الإيجاز، والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
    فظهر أن آية سورة فاطر التي أوردها دالة على ما دل عليه سائر الآيات، وأن فيها من العموم المستفاد من الصلة ما لا يتأتى معه التخصيص، وأن ما تقدم من الآيات دال على ذلك يعضد مفهوم من أوردها في المنع من دعاء الصالحين.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    وقول العراقي: (هذه الآية صحيحة لكن الفهم باطل) مما يدل على جهله المركب، وكثافة فهمه، فإن القرآن أغنى وأعلى وأجل وأعظم من أن يعبر عنه بهذه العبارة، أو يقسم إلى صحيح وغيره.
    وإنما تستعمل هذه العبارة فيما يقبل القسمة من الأحاديث، لأنها تنقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع. ولا يُصَحِّح إلا من يضعف، ولا يحسّن إلا من يقبح.
    وقد أنكر أبو حنيفة على رجل صار يحسن ما يسمع منه من الروايات، وزجره عن ذلك، وقال: "إنما يحسن من يقبح".
    هذا في السنة ونحوها، فكيف بالقرآن الذي هو كله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد.
    وقوله: (إن الدعاء هو السجود في هذه الآية، وأن نداء الصالحين ليس بعبادة) إلى آخر عبارته.

    فهذا الكلام نشأ عن جهله باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء، فإن العبادة تتضمن غاية الخضوع والذل، ومنه طريق مُعَبَّد: إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، هذا أصلها في اللغة.
    وأما في الشرع فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. قاله شيخ الإسلام.
    وقال بعضهم: هي ما أمر به شرعاً، من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي.
    وقال بعضهم: هي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
    فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله، ولا تصرف لسواه.
    وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير السجود.
    ودعاءُ المسألة من أفضل أنواعها، وأجلها، كما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    "الدعاء هو العبادة"
    . والحصر يقتضي الاختصاص الادعائي، والتمييز على سائر العبادات. قال بعض الشراح: هو كقوله: "الحج عرفة". أي ركن العبادة الأعظم هو الدعاء.

    وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة". ومخ الشيء خالصه ولُبُّه.
    وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين". والعماد والعمود: ما يقوم به الشيء ويعتمد عليه، جعله عماداً لأنه لا يقوم إلا به. وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول.
    وكان هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة في أكثر موارد القرآن والسنة.
    ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم:
    "أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل
    شيء قدير
    . وقد سئل ابن عيينة عن معناه، فأنشد قول أمية في عبد الله بن جدعان:

    أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إنَّ شيمتَك الحياءُ
    قال في "القاموس": الدعاء هو الرغبة إلى الله. انتهى.
    وقال الحسين بن محمد النعمي: الدعاء في الأصل موضوع لأن يكون من فقير عاجز خاضع، لغني قادر عزيز قاهر. انتهى.
    والدعاء يَرِدُ في الكتاب والسنة بمعنى الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي، ويرد بمعنى المسألة والطلب بالصيغة القولية.
    وقد فسر قوله تعالى:
    {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. الآية [غافر:60] بدعاء العبادة، وبدعاء المسألة، والقولان معروفان، والآية تشمل النوعين. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكر أنهما متلازمان، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد.
    وقال رحمه الله:
    والدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين:
    دعاء العبادة، ودعاء المسألة –وساق جملة من الآيات- ثم قال: ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، وسميت به لتضمنها معنى الدعاء دعاءِ العبادة والمسألة.
    ثم قال: فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه
    ،
    ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال، وسمي الذكر دعاء لما فيه من التعريض بالمسألة.
    قال: وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت مما لا يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر، إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب منه. وأما إذا كانت من الفقير من كل وجه، للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار. انتهى.
    قلت: وقد نص على ما ذكره الشيخ من الفرق علماء المعاني صاحب "المفتاح" وغيره. وفرقوا في الصيغة الواحدة نظراً للمخاطب والمخاطِب –بكسر الطاء- فقالوا: هي من الأعلى أمر، ومن المساوي التماس، ومن دونه مسألة وطلب.
    وقد فسر قوله تعالى:
    {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}. [الأعراف:55] بدعاء المسألة، قاله العلامة ابن القيم، وقرر أنه في هذه الآية أظهر. وذكر أن استعمال الدعاء في العبادة والمسألة من استعمال اللفظ في حقيقته الواحدة، ليس من المشترك، ولا المتواطئ، ولا المجاز.
    وقوله تعالى:
    {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}. [الإسراء:67] ظاهر في دعاء المسألة لمناسبة الحال والواقع.
    وفي حديث عكرمة بن أبي جهل لما فرَّ يوم الفتح إلى السِّيْف، وركب البحر، جاءتهم ريح عاصف، وظنوا الهلكة، أخلصوا الدعاء لله،
    وصاروا يتواصون بذلك، ويقول بعضهم لبعض لا ينجي في مثل هذا إلا الله. فقال عكرمة: إن كان لا ينجي في الشدة إلا هوتعالى، فكذلك لا ينجي في الرخاء إلا هو. وقال: لئن أنجاني الله لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فكان ذلك، وأسلم وحسن إسلامه –رحمه الله- والقصة معروفة عند أهل العلم.
    وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"2 سماها دعوة، وهي سؤال وطلب، وتوسل بالتوحيد.

    والعراقي يقول: (لا تسمى دعاء وإنما هي نداء) وهذا رد على رسول الله، وتكذيب بآيات الله، وقول على الله بغير علم.
    وفي السنن من حديث حصين بن عبد الرحمن الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم: "كم كنت تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء، وستة في الأرض، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟" قال: الذي في السماء"1.
    ومن هذا الباب قوله تعالى:
    {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. [الأنعام:40] الآية. وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة.

    وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. [العنكبوت:65].
    وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله، والنهي عن دعاء غيره، على المنع من مسألة المخلوق ودعائه، بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك، لا سيما شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم،
    اللذين يزعم هذا العراقي أنه على طريقتهما.

    أيها المدَّعِي سُلَيْمى سفاهاً لستَ منها ولا قلامةَ ظُفْرِ
    إنما أنتَ من سُلَيْمى كواوٍألحقت في الهجاء ظلماً بعَمْرِو
    يوضح هذا أن ما لا يقدر عليه إلا الله من الأمور العامة الكلية لهداية القلوب
    ومغفرة الذنوب, والنصر على الأعداء, وطلب الرزق من غير جهة معينة, والفوز بالجنة, والإنقاذ من النار, ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة،
    فسؤاله وطلبه غاية في السؤال والطلب،
    وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية، ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق، أو يقصد به غير الله.
    وهذا أحد الوجوه في الفرق بين دعاء المخلوق فيما يقدر عليه من الأسباب العادية الجزئية، وبين ما تقدم، مع أن سؤال المخلوق قد يحرم مطلقاً.

    ومسألة المخلوق في الأصل محرمة، وإنما أبيحت للضرورة. قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ والى ربك فارغب [الشرح:7-8].
    وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع نفراً من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً. فكان أحدهم يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنيه1.
    وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم، وأمر بقطعها، وبعث رسوله بذلك، كما في السنن وغيرها. وقال:
    "من
    تعلق شيئاً وكل إليه"
    بل نهى عن قول الرجل: ما شاء الله وشئت. وقال لمن قال له ذلك: "أجعلتني لله نداً
    ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار. وقال لأبي واقد الليثي وأصحابه من مسلمة الفتح لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}"

    ونهى عن الصلاة عند القبور وإن لم يقصدها المصلي. ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله
    ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغيره، حسماً لمادة الشرك، وقطعاً لوسائله، وسداً لذرائعه، وحماية للتوحيد، وصيانة لجانبه.
    فمن المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً؛ أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول النصراني: يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، أو يا عيسى، أعطني كذا، وافعل بي كذا، وكذلك قول القائل: يا علي، أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو فلان وفلان: أعطني كذا، أو أجرني من كذا، أو أنا في حسبك، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية، التي
    تتضمن العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس، فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شُعَب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار، ومقتِ العزيز الغفار.
    وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام، حتى ذكره ابن حجر في "الإعلام" مقرراً له.
    وتأويل الجاهلين، والميل إلى شبه المبطلين، هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين، من أهل الكتاب والأميين، في الشرك بالله رب العالمين.
    فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات.
    وبعضهم برؤيا المنامات.
    وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات.
    وبعضهم بقول من يُحَسِّن به الظن.
    وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء، وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير، وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله، الذين لم يفهموا من العبادة سوى السجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه، فأين الحب والخضوع، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والرغب والرهب، والطاعة والتقوى،
    ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة؟
    فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله،
    ولا يكون عبادة، لأن
    العبادة السجود فقط،
    بل عبارته تفهم أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال،
    وقد رأينا من المشركين، ولم نرَ مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته.

    ولولا ما نقصده من انتفاع من اطلع على هذه الرسالة لم نتعرض لرد شيء من كلامه، لظهور بطلانه.



  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    ويزيد هذا ظهوراً ما جاء في الحديث من قوله: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً في وجهه يوم القيامة". وقوله: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم".
    وقوله:
    "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أَوْشَكَ له بالغنى: إما3 بموت عاجل، أو غنى عاجل"

    وقوله: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: الذي غرم مفضع، أو فقر مدقع، أو دم موجع". هذا في سؤال الخلق ما يقدرون عليه من الأسباب الجزئية، فكيف ترى بما لا يقدر عليه إلا الله من الأمور العامة الكلية.
    وعلى زعم هذا العراقي لا يكره شيء من ذلك ولا يمنع لمن قصد الصالحين ودعاهم.
    وقوله: (على أنها أرباب) يريد به ما مَرَّ من أن دعاءها ومسألتها بطريق السبب والشفاعة لا يضر. وقد تقدم رد هذا بما يغني عن إعادته.
    وقد عُلِّق على الحكم بالكفر وإباحة الدم والمال بنفس الشرك، وعبادة غير الله، قال تعالى:
    {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَآفَّةً}. [التوبة:36]. وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}
    [الأنفال: 39]. والفتنة: الشرك. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}. الآية [المائدة: 72]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. [النساء:48].
    ومن المشتهر عندهم أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعِلِّية.
    وهذا الأحمق زاد قيداً فقال: "لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله". وفي تلبية المشركين في الجاهلية: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1.
    فهؤلاء لم يدَّعوا الاستقلال. وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين.
    وقوله: (وهذا نداء لا دعاء) من أدل الأشياء على جهله، وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قَلَّ، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر، أو النهي، ويقابله النجا الذي هو المسارَّة وخفض الصوت.
    هذا بإجماع أهل اللغة، كما حكاه ابن القيم في "نونيته" وشيخ الإسلام في "تسعينيته" وليس قسيماً للدعاء كما ظنه الغبي. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ}. الآية [الكهف: 52]. ما فعلوه عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله. وقال تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ}. [الأنبياء:83].
    {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ}. [الأنبياء:76]. {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}. [الأنبياء:87]. وقال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ}. [مريم:2، 3]. وسمى هذا النداء دعاءً في كتابه العزيز. قال عن نوح عليه السلام {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}. [القمر:10]. وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}. [آل عمران:38].
    وفي الحديث:
    "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"1.
    وفيه أيضاً:
    "لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً"2. يعني الشيطان الذي تفلت عليه صلى الله عليه وسلم.
    وفيه:
    "ألا أنبئكم بأول أمري وآخره: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى"
    يشير بدعوة سليمان إلى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}. الآية [ص:35]. وبدعوة إبراهيم إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}. [البقرة:129]. فسمى هذه المسألة دعوة، والتاء فيها للوحدة.
    وقال معاذ –رضي الله تعالى عنه- في الطاعون: "إنه ليس برجز، إنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، ورحمة بكم" يشير إلى قوله: "اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون"1.
    فانظر هذه النصوص، وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب. وقد تقدم بعض هذا، وكُرِّر تتميماً للفائدة، وربما جَرَّ شأن شؤوناً.
    وأما قول العراقي:
    (إن الشيخ ذكر هذا على سبيل التغليظ والزجر، وله مائة عبارة تنفي ذلك وتخالفه) فيكفي من هذا العراقي أن يصحح دعواه بعبارة واحدة، ولا نكلفه تصحيح المائة، لأنه أعجز وأقلّ.

    وقد تقدم التنبيه على كذبه ومجازفته، وأنه وجد كتباً وموادّ1 شَتَّت فهمه، وحجبت إدراكه وعلمه، فلم يزدد بها إلا حيرة وشكاًَ
    وما أحسن ما قيل:

    جهد المغفَّل في الزمان مضيَّعوإن ارتضى أستاذَه وزمانَه
    كالثور في الدولاب يسعى وهو لايدري الطريقَ فلا يزالُ مكانَه
    وعبارات الشيخ في هذا الباب –أعني:
    إنكار الشرك، وتكفير أهله، والحكم عليهم بما حكم الله به ورسوله في الدنيا والآخرة- موجود مشهور، لو تتبعناه لعزَّ حصره واستقصاؤه،
    ولكن نشير ببعضه إلى ما وراءه.
    قال رحمه الله: وما علمتُ عالماً نازع في أن الاستغاثة بالنبي أو غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله لا تجوز. قال: وعلو درجته صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا تقتضي أن يسأل، كما لا تقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحدا أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة.
    وقال رحمه الله:
    من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم: كفر إجماعاً.
    قال البهوتي في شرحه على هذا الموضع: لأنه فِعْل عبّاد الأصنام القائلين:
    {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.

    وقال –رحمه الله- بعد أن سرد جملة من الآيات: وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، ومثل أن يطلب شفاء مريض من الآدميين والبهائم، ووفاءَ دَينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، أو ما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخول الجنة، ونجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن، أو العلم، أو أن يصلح قلبه، أو يحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك: فهذه الأمور لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشفِ مريضي، ولا عافِ4 أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من المشركين الذين يعبدون الملائكة والتماثيل التي يصورونها على صورهم،ومن جنس دعاء النصارى: المسيحَ وأمَّه.
    قال الله تعالى:
    {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}. الآية [المائدة:116]، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الآية [التوبة:31].
    وقال -رحمه الله-:
    وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك
    جهلاً وضلالاً من المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع، والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله، وأنزل جميع كتبه:
    بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك، ولا نبي، ولا صالح، ولا تماثيلهم، ولا قبورهم، ولا شمس، ولا قمر، ولا كوكب، ولا ما صُنع من التماثيل لأجلهم، ولا شيئاً من الأشياء، وبَيَّنَ أن كل ما يعبد من دونه فإنه يضر ولا ينفع، وإن كان ملكاً أو نبيًّا،
    وأن عبادته كفر.
    قال تعالى:
    {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}. إلى قوله: {مَحْذُوْراً}. [الإسراء:56-57]. بَيَّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس ما يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالاً من الجن، فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود.
    وقال تعالى:
    {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. [سبأ:22-23]. بَيَّنَ سبحانه أن كل ما يدعى من دونه، من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السموات والارض, ولا لهم نصيب فيهما, وليس لله ظهير يعاونه من خلقه.

    وهذه الأقسام الثلاثه هي التي تحصل مع المخلوقين,
    إما أن يكون لغيره ملك دونه,
    أو يكون شريكاً له,
    أو يكون معيناً وظهيراً له,
    والرب تعالى ليس من خلقه مالك, ولا شريك, ولا ظهير له,
    لم يبق إلا الشفاعة, وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له, فقال:
    {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. [سبأ:23].
    ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء في قوله:
    {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ -إلى قوله- بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. [آل عمران:79-80] بين أن اتخاذهم أرباباً كفر.
    وقال تعالى:
    {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ -إلى قوله - وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [المائدة:17]. وقد بين أن من دعا المسيح وغيره، فقد دعا ما لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
    وقال لخاتم الرسل:
    {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}. [الأنعام: 50]، وقال: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}. الآية [الأعراف:188]. وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}. [الجن:21]. وقال: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ليس لك مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}. [آل عمران:127-128]. وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}. [القصص:56]

    وقال: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ}. [النحل:37] انتهى.
    وكلامه في هذا المعنى يعزُّ حصره أو يتعذر. وكذلك صاحبه شمس الدين ابن القيم. كلامه في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، إلا بكلفة ومشقة، وتقدم قوله في "المدارج".
    وقال أبو الوفاء بن عقيل:
    لما صعبت التكاليف على الجهال والطَّغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم،
    وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل خطاب الموتى بالحوائج، ودَسِّ الرقاع في قبورهم، فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وتعليق الستور على القبور اقتداءً بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يحضر مشهد الكف، أو لم يَعْقِد على قبره، أو قبر أبيه بالآخر، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر وعمر. انتهى.
    والمقصود أن النصوص بهذا المعنى كثيرة شهيرة، والعاقل يسير فينظر.
    ويكفي المؤمن أن دعاء الموتى والغائبين لا يُعْرَف عن أحد من أهل العلم والإيمان الذين لهم لسن صدق في الأمة، ولم تأتِ به
    شريعة من الشرائع، بل المنقول عن جميع الأنبياء يرده ويبطله، فإن الله حكى أدعيتهم وتوجهاتهم، وما قالوه وأمروا به، وندب عباده إلى الاقتداء بهم فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. [الأنعام:90].
    وقد أجمع المسلمون على ذم البدع وعيبها. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}. [الشورى:21]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. [الأحقاف:4].
    وفي حديث العرباض بن سارية:
    "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".
    وهذا الوجه كافٍ في الجواب، للاتفاق على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.




  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي:
    "والأصل في ذلك قوله تعالى:
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}. [المائدة:35].
    قلت:
    يريد العراقي أن الآية أصل في دعاء الصالحين، والتوجه بهم إلى الله وجعلهم وسائط بين العباد وبين الله، ووسائل إليه في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم.
    والجواب:
    أن هذا القول صدر عن جهل بمسمى الوسيلة شرعاً،
    فإن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله، هي عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به، وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها،
    كما في البخاري وغيره من حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في غار، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة من البر والعفة والأمانة1. وكذلك ما شرع من واجب أو مستحب.
    قال تعالى:
    {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}. [الإسراء:57] وابتغاؤها بالقيام بما أمر به، وأحبه ورضيه، من الأعمال الصالحة.
    وأما دعاء غير الله فليس وسيلة شرعية،
    بل هو وسيلة أهل الشرك والجاهلية، من أعداء الرسل في كل زمان ومكان، والله لا يأمر بالشرك ولا يرضاه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. [الأعراف:29].
    فكيف يتوسل إليه بالشرك به الذي هو أظلم الظلم، وضد القسط، والذي يمنع من إقامة الوجوه له عند المساجد،وهو –أي الشرك- حقيقة التوسل الذي قصده المشركون.
    قال الله تعالى:
    {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}. [الأحقاف:28] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. [الزمر: 3] فهذا قد يسمى توسلاً، فإن لفظ التوسل صار مشتركاً، فيطلق شرعاً على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عباد القبور على التوجه إلى الصالحين ودعائهم مع الله في الحاجات والملمات.
    والمراد بالآية هو2 الأوَّل عند أهل العلم والمفسرين.
    وأما التوسل بذوات الأنبياء والصالحين بدون طاعتهم وبدون استغفارهم فهذا لم يشرع3، ولا أصل له4، فإن التوسل بالأنبياء مع معصيتهم ومخالفتهم في الدين والملة، قد دلت آية سورة التحريم على المنع منه، وعدم الانتفاع بالتعلق والقرابة والنسب والتوسل بذلك لمن لم يؤمن بما جاؤوا به من الهدى ودين الحق.1وكذلك في الحديث لما أنزل عليه قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. [الشعراء:214] قال: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً"2.
    وأكبر من3 هذا من يدعوهم، ويستغيث بهم، ويتقرب إليهم بعبادتهم على أنها وسيلة له، وشفعاء، فإن هذا هو عين الشرك الذي ذمه القرآن وعابه، وإن سمي توسلاً.
    وأما ما ذكره بعد هذا الكلام من نسبة الذي ينهى عن دعاء غير الله إلى الجهل وعدم الفهم، فهذا يتناول كل من نهى عن دعاء الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الرسل نهت عن دعاء غير الله بما لا يقدر عليه إلا الله، بل وفيما لا تدعو4 إليه حاجة ولا ضرورة من جنس المسألة، فلازم كلامه مسبة الأنبياء، وأتباعهم إلى يوم القيامة، فنعوذ بالله من حال أهل الجهالة والسفاهة.

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هدم ملة داود ابن جرجيس

    قال العراقي:
    "إنكم تكَفِّرون بالحلف بغير الله، ويُكَفِّر به السابقون من أهل بلدكم، وهو ليس بشرك ولا كفر، بل هو مكروه كراهة تنزيه، للأدلة على ذلك، ولأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه:
    "لا وأبيك"، ولأن الترمذي ترجم على هذه المسألة بالكراهة، وساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وأن هذا يدل على الكراهة للترجمة، ولأنه ساق الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر". وقال بعدُ: هذا محمول على التغليظ والزجر، كالريا الذي فسر به قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}. الآية [الكهف:110].
    والجواب أن يقال:
    في هذا الكلام من الجهل والخلط ما يتنزه عنه العاقل فضلاً عن العالم،
    من ذلك أنه قال: الحلف بغير الله ليس بشرك ولا كفر.
    ثم ساق حديث ابن عمر:
    "من حلف بغير الله فقد أشرك"
    ثم قادته المقادير إلى أن نطق بالرواية الأخرى:
    "من حلف بغير الله فقد كفر"
    فقف وتأمل هذه العبر!!
    ثم استدل بأن الترمذي ترجم بالكراهة، وهو أول من يخالف الترمذي في أكثر ما في سننه، مع أنه لم يفهم كلام الترمذي، ولا حام حول مراده.

    ويقال: مسألة الحلف بغير الله تظاهرت وتواترت النصوص النبوية بالنهي عنها،
    ودلّت على أنه شرك لا يحل ولا يجوز، كما ذكره أصحاب الكتب الستة، وأهل المسانيد من حديث: أبي هريرة، وعمر، و1ابنه، وابن مسعود، وغيرهم، وإنما ساق الترمذي حديث ابن عمر.
    والترمذي –رحمه الله- أثبت أنه شرك، وجعله كالريا، والريا شرك بالنص والإجماع، وهو من الكبائر،
    إلا أنه ليس مما ينقل عن الملة ويوجب الردة، للآيات والأحاديث.
    وكلام الترمذي يدل على هذا، وقد جعله مثل الريا،
    وقاسه عليه في الحكم، وحمله على هذا الحمل والتأويل: أن الرواية الأخرى التي خرجها عن ابن عمر فيها تكفير من حلف بغير الله، والحكم بأنه كفر،
    وأراد الترمذي أن هذا الكفر ليس هو مما يخرج عن الملة كالشرك الأكبر، بل كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم،
    كما قاله البخاري في "صحيحه"
    وتسميته هذا كفراً من باب التغليظ، وهذا مراده رحمه الله،
    وأما كونه شركاً محرماً فلم ينفِه الترمذي، ولم يتعرض له بتأويل، بل أثبته وقاله به، لأنه جعله مثل الريا.
    وهذا الجاهل اغتر بكونه ترجم بالكراهة،
    والكراهة في عرف هذا الرجل إنما تطلق على التنزيه، هذا وجه ضلاله،
    ولم يدر أن إطلاقها على كراهة التنزيه عرف حادث،
    وأن الكراهة في عرف الكتاب والسنة وقدماء الأمة تطلق على التحريم. قال تعالى بعد أن
    ذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}. [الإسراء:38].
    وفي الحديث:
    "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه.
    قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر:
    "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي علذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}. [الإسراء:38].
    وفي الحديث:
    "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه.
    قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر:
    "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي على هذا، ولم يتعقبه بتأويل. ثم قال: "بابٌ"2 وساق بسنده الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر"
    وتأَوَّلَ لفظه "كفر" بأنها على وجه الزجر والتغليظ،

    لأن الحلف بغير الله لا ينقل عن الملة، بل هو كالريا في عدم الردة، وإن كان شركاً.
    إذا عرفت هذا فالعراقي دلّس، وجعل البابين باباً واحداً،
    وجعل كلام الترمذي في تأويله لفظة "كفر" راجعاً إلى كلا البابين، وأن الحلف مكروه كراهة تنزيه، والترمذي لم يتعرض لكونها للتنزيه.
    وأما قوله:
    "إنكم تكفرون به، وترون أنه كفر" فهو كذب بحت، وفرية ظاهرة،
    ما قال أحد ممن يعتدُّ به عندنا إنه كفر مخرج عن الملة.
    وقد يُطلق العالم والمفتي ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا،
    ويقف حيث وقف،
    ومن أنكر هذا الإطلاق فقد أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم.
    على أن ابن قيم الجوزية قال:
    قد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب قائله،
    وقاله القاضي عياض من المالكية. وهذا ظاهر لا يخفى إذا قصد تعظيم من حُلف به كتعظيم الله.
    وأما استدلال هذا العراقي على عدم التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم:
    "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله"1 فهذا الاستدلال والفهم ليس بشيء
    .
    والحديث دليل على التحريم، والاستدلال به عليه هو عين الفقه عن الله ورسوله،
    لأنه أَمَرَ من حلف بغير الله أن يكفِّر بتجديد الإسلام، والإتيان بكلمة الإخلاص التي تضمنت البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد.
    وقد قال لقريش وغيرهم من عباد الأصنام:
    "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا".
    وقال لعمه:
    "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله
    فإن1 كان ذاك يدل على الكراهة، فهذا أيضاً إنما يدل عليها.
    فسبحان من حال بين قلوب هؤلاء وبين الفقه عنه، ومعرفة المراد من كلامه وكلام رسوله.
    وفي الحديث:
    "إن حسنة التوحيد تمحو الشرك وتكفره، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله". قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً"2.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قُدِّس سِرُّه- بعد أن ذكر تحريم الحلف، واستدل له:
    ومعنى قول ابن مسعود: "أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب" مع أن الكذب محرم بالإجماع.
    وأما ما حكاه عن شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال في "مختصر الإنصاف": ويكره الحلف بغير الله، وأن الشيخ استدل للكراهة.
    فلا يخفى أن العراقي دلس ولبّس،
    فأسقط من العبارة كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم، هذا تدليسه،
    وأما تلبيسه:
    فإن الشيخ قال بعد ذلك: وقيل يجوز. فأخره وحكاه بصيغة التمريض. وذكر أن القائل استدل لهذا: بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله: "أفلح وأبيه إن صدق" وبقوله في حديث أبي
    العشراء: "أما وأبيك، لو طعنت في فخذها أجزأك"1. ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء. واستدل بقوله: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"2. وبحديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقرر الشيخ أدلة التحريم.
    والشيخ رحمه الله في كتاب "التوحيد" استدل على هذه المسألة بقوله تعالى:
    {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. [البقرة:22].
    وترجم بالآية على هذه المسألة، وساق حديث ابن عمر، وما روي عن ابن عباس، ومنه: والله وحياتك.

    وأما الجواب عن قوله:
    "أفلح وأبيه" وقوله: "أما وأبيك" فلأهل العلم عنه أجوبة معرفة في محلها، منها: أن هذا ليس من جنس اليمين المقصودة بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله: "تربت يداك، ثكلتك أمك، ويح عمار".
    وهذا الجواب ذكره كثير من الناس.
    وقيل: إن ذلك منسوخ. واستدل القائل لهذا القول بما لا يمكن أمثال هذا العراقي نقضه، وبعضهم تكلم في المسند ولم يثبت هذا كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء.
    وهذا آخر ما أوردناه، والحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، وعظيم سلطانه. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين1.


    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
    "كتبه من إملاء مؤلفه –عفا الله عنه ورحمه- عبد العزيز بن ناصر بن راشد بن تريكي" اهـ. وفي "جـ": "رحم الله مؤلفه وعفا عنه وعن والديه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً وغفر الله لكاتبه ووالديه وذريته وإخوانه ولجميع المسلمين. آمين يا رب العالمين". اهـ.
    قال كاتبه –عفا الله عنه- تم الفراغ من مقابلة هذه الرسالة، والتعليق عليها قدر الطافة في اليوم الثاني والعشرين من شهر الله الحرام، سنة عشر وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    كتبه/ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •