قال العراقي في استدلاله على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر: (ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. [يوسف:24]. قال1 المفسرون، منهم البغوي: رأى يعقوب عاضاً على أنملته، يقول: إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام. فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله).
قلت: يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج في الغيبة، وبعد الممات، لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها، وينادى.
والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته، لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِن خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. [فاطر:3]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ*أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور}. [تبارك: 20-21]. وقال تعالى: { فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. [العنكبوت:17].
فتأمل هذه الآيات ونظائرها، وانظر ما دلت عليه من اختصاصه تعالى وانفراده1 بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، وانظر2 كيف استدل بهذا على وجوب عبادته وطاعته والإيمان به، وهل يُعَارِضُ هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة من شَمَّ رائحة العلم، ودرى ما الناس فيه من أمر دينهم.
فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌوإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمتان كاذبتان، لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير.
وكل من يذكر تعريف الكرامة وحَدَّها يقول: هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه، أو على غيره، وعلى هذا التعريف لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم.
قد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون.
وقد أنكر تعالى على من دعاه وقصده1 في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه، ضال بعبادة غيره.
قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْن َ أَرْبَابًا}. الآية [آل عمران:80]. والأرباب هنا2: هم المعبودون المدعون، وسيأتي تحقيق هذا.
وقال تعالى فيمن عبد3 المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. [المائدة:76].
وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله داخل في مسمى العبادة فتنبه.
فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً، وإن قَلَّ، كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس وسط النهار.
وقد تقدم أن هذه الشبهة هي التي تعلق بها النصارى في دعائه ودعاء أمه.
ثم اعلم أن الآية ليس فيها ما يدل على كرامة يعقوب –عليه السلام- إلا حفظه في عقبه، وصيانة ولده، فإن الله يحفظ الرجل الصالح في نفسه وأهله ووله، كما في حديث ابن عباس: "احفظ الله يحفظك"1. وليس ذلك من جهة المثال وتخصيصه، فإن هذا لا يفيد الكرامة ولا يفهمها.
وقد تمثل جبريل في صورة دحية الكلبي1. وكثيراً ما يتمثل الملك في صورة البشر.
والذي رآه يوسف هو المثال، لا نفس يعقوب وذاته كما فهمه الغبي، فإن هذا لا يدل عليه كلامهم أصلاً، وكرامات يعقوب –عليه السلام- أَجَلُّ من ذلك وأعظم.
وقد يُمَثَّلُ للإنسان من يحب ويأنس به، أو من يجله ويهابه، لمصلحة تعود عليه، لا على نفس صاحب المثال، ولذلك نظائر وأشباه في اليقظة1 والمنام، يعرفها أولو العلم والأفهام.
تنبيه
ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشاً من هو أفضل منهم، وأقوى إيماناً.
وقد كثرت في القرن الثاني والثالث، وفي القرن الأول من هو أفضل وأجل ممن وقعت له هذه الخوارق، وبسط هذا له محل آخر1.
والقصد إبطال كلام هذا الضال.
ويقال له: أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال: إن هَمَّ يوسف من جنس الخطرات والواردات التي لا تستقر وليست بعزم، فتركها والإعراض عنها حسنة، كما دل عليه حديث: "إذا هَمَّ العبد بالسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة"2.
ومنهم من قال: البرهان المشار إليه هو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى}. [الإسراء:32]. رأى الآية مكتوبة في السقف.
ومنهم من قال: رأى ثلاث آيات هي البرهان.
ومنهم من قال: لم يهمّ يوسف بسوء لوجوب عصمته حتى قبل النبوة، وقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. [يوسف:24] معلق على عدم الرؤية، وقد ثبتت فلا هَمَّ، نقول: هلك1 زيد لولا عمر.
وهذا معنى ما قال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: لولا أن رأى برهان ربه همَّ بها.
وهذا يذهب إليه من يقول بعصمة الأنبياء قبل النبوة.
وهو الراجح عن من اعتمد أقوالهم هذا العراقي فيما وصل إلينا في علم مسألة2 الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا3 خالفهم ظناً منه أن إثبات الكرامة يقتضي إباحة الدعاء مع الله.
قال بعض السلف: "أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أيَّ مذهب وافق هواك تمذهبت به".
ومن العجب أنه يكرر في هذه "الرسالة": سلوني سلوني إن أشكل عليكم شيء، وعندي مِنَ النسخ، وعندي كذا وكذا، ويطري نفسه إطراء لا يصدر عَمَّن له دين وعقل، أو دراية بشيء من الآداب والنقل، حتى أنشد في مدح نفسه قول الشاعر:
سَلِي إن جهلتِ الناسَ عَنَّا وعنهمُ فليس سواءً عالمٌ وجهولُ
وما أحسن ما قيل:إني سألتُ ولكن لم أجدْ أحداًأثنى2 عليك ومدح النفس تضليلُ
ومثل هذا لا يَحسُنُ ممن له علم وفضل، أو أدب ينتفع به وعقل، فكيف بمن لم يعلم حقيقة الإسلام، ولم يعرف منه ما عرفه آحاد العوام.
وقد اعترض بعض الجهال على شيخ الإسلام في بعض تقاريره فأخطأ الإصابة، ولم يتأدَّب بحضرة تلك العصابة. وقال له الشيخ: لا أدب ولا فضيلة.
وأَنَّى لمثل هذا بالفضل والأدب، وقد عدم العلم الذي هو أصل الفضائل والرتب.فقرُ الجهولِ بلا علمٍ إلى3 أدبٍفقر الحمار بلا رأس إلى3 رسن
وهذه الدعوى الكاذبة يمكن كل واحد أن يدعيها، ولكن هيهات هيهات قد حيل بين النفوس الجاهلة وبين أمانيها، لقول أصدق الورى، ومن لا ينطق عن الهوى: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم" الحديث1.
والله يعلم أني ما رأيت لهذا إصابة قط فيما يدعيه وينفرد به، حتى أنه قال في بدء رسالته وخطبته في وصف الأرواح: (فما تعارف منها في الأزل ائتلف). فزاد في الحديث قوله: "في الأزل" وهي زيادة تدل على جهله، وكثافة فهمه، فإن الأزل لا وجود للأرواح فيه، فضلاً عن أن تتعارف، لأنه اسم لما قبل إيجاد المخلوقات.