كان للقرن التاسع عشـر الميلادي في دمشق أثره البارز من الناحية الثقافية والعلمية، شهد وجود علماء متميزين برعوا في جوانب تخصصية عُرِفوا بها، كما أولوا الكتاب أهمية بالغة وخدموه، لشعورهم بقيمته في ازدهار الحضارة.
وقد عَدَّ رئيسُ مجمع اللغة العربية محمد كرد علي هذا القرن بداية نهضة بلاد الشام عمومًا ودمشق خصوصًا[1]، وقد شهد هذا القرن قيام دار الكتب الظاهرية التي سعى لإنشائها هؤلاء العلماء الذين أشرنا إليهم، لذا يمكن أن نقول إن هذا القرن وضع دمشق على عتبة نهوض شهدته في أيامها المقبلة بعد، ولو أن الأوضاع السياسية كانت مضطربة، وكان الجو العام في المدينة في اتجاه، والتطور العلمي والثقافي كان في اتجاه آخر.
وتأتي أهمية هذا البحث في بيان قيمة المكتبة الظاهرية وملابسات قيامها، والكشف عن قيمة السماعات في مخطوطاتها، والاستفادة منها في طريقة جديدة لكتابة التراجم تعطي ألقًا جديدًا فيها لم يكن من قبل.
تزخر دار الكتب الظاهرية بمخطوطات فريدة قيّمة جُمِعت من أماكن عديدة في دمشقمما نجا من الإهمال والسرقات، وبفضل جهود علماء مخلصين على رأسهم الشيخ طاهر الجزائري، وأعضاء الجمعية الخيرية من أمثال الشيخ علاء الدين عابدين والشيخ محمود حمزاوي والشيخ سليم البخاري[2]، وهم الذين بينوا للوالي مدحت باشا وفرة ما تحتويه مرافق الوقف من خطيات تتعرض للاندثار، واقترحوا عليه أن يأمر بتخصيص مكان لحفظها من الضياع، فكتب إلى السلطان عبد الحميد يقول: لما كانت الكتب الموقوفة والمشروطة لاستفادة العموم قد حُصِـرت بأيدي المتولين، وحُرِم الناسُ من مطالعتها، فكان من اللازم جمعها وجعلها في مكان مخصوص ليكون الانتفاع بها عامًّا.
وبذلك استطاع الوالي الحصول على قرار بجمعها في تربة الملك الظاهر في شباط (1295) شرقية نظرًا لمناسبتها لتلك الغاية[3]، وحين عُزِل مدحت باشا عن الولاية وخَلَفه حمدي باشا حوَّل الجمعية الخيرية إلى مجلس معارف برئاسة مفتي الشام العلامة محمود حمزة، فاشترك مع الشيخ علاء الدين عابدين والشيخ سليم العطار والشيخ محمد المنيني في إثارة موضوع الكتب الوقفية، وأفهموه ضرورة جمعها في تربة الملك الظاهر بخزانة مخصوصة تحت متناول القراء والباحثين، فوافق الوالي، وأصدر أمره بما طلبوا، على أن تكون تحت إشراف أهل العلم المعنيين، وذلك في 15 / شباط / 1295 شرقية[4].
لم يكن جمع هذه الخطيات بالأمر الهيّن، إذ وقف في وجه العلماء مُتَوَلُّو الأوقاف ومَن استحل سرقتها، حتى إنهم هددوا الشيخ طاهر بالقتل وآذوه، فما ثناه ذلك عن مقصده.
لم يكن جمعُ المخطوطاتِ عملًا هينًا، وإنما دل على أن أهل العلم على بصيرة بما كانت تتضمن المرافق الوقفية، ولولا هذه الجهود لخسرت دمشق تلك البقية المهمة من الخطيات، فكانت بداية الجمع من عشر مكتبات على النحو الآتي:
1- كتب المدرسة العمرية التي أسسها في صالحية دمشق أبو عمر المقدسي محمد ابن أحمد بن قدامة -607هـ، وكانت أشهر الخزائن من قبل تلاعب أيدي المختلسين[5]، وتمتاز خطياتها بتضمنها خطوط مؤلفيها، وعليها سماعاتهم، وهي نادرة لا مثيل لها، وكثير منها مخطوطات وحيدة، فنُقِلَ منها إلى الظاهرية (660) مخطوطة[6].
2- خزانة مدرسة عبد الله باشا العظم في مدخل سوق البزوريين، وقفها سنة (1190هـ )، ونقل منها (461) مخطوط[7].
3- مكتبة مدرسة اسماعيل باشا وكان فيها كتب وقفها ابنه الوالي أسعد باشا العظم بعد سنة (1165هـ)، أخلي منها إلى الظاهرية (375) خطية، بعد أن رفض الناظر تسليمها، ورفع منها أنفس المخطوطات[8].
4- خطيات المدرسة السليمانية، وقفها فيها الملا عثمان الكردي، وجد فيها (312) مخطوطة.
5- مخطوطات المدرسة السليمانية الجوانية في جادة السليمانية[9]، كان فيها كثير من المخطوطات بقي ما لا يزيد عن (130) مخطوطة كان وقفها سليمان باشا العظم (1196هـ).
6- مخطوطات المدرسة المرادية في حارة الورد المؤدية إلى سوق ساروجة، وكان أنشأها الشيخ مراد بن علي الحنفي النقشبندي سنة (1108هـ) عرفت من قبل باسم أزهر دمشق، وقد سُرِق أكثر موجوداتها، ولم يبق منها سوى (260) مخطوطة[10].
7- خطيات الخانقاه السمسياطية[11]، وعثر فيها على (81) مخطوطة.
8- خزانة كتب بيت الخطابة بالجامع الأموي وحوت على (73) مخطوطة.
9- مكتبة الأوقاف عثر فيها على مخطوطات آلت إليها من خزائن متفرقة وضمت (64) مخطوطة[12].
10- موجودات جامع السياغوشية لم يكن فيها سوى (11) مخطوطة[13].
هذا وقد قُدِّمَ للظاهرية عدد من مخطوطات أخرى ضمت إلى ما ذكر حتى بلغت ما آل إليها سنة (1880م-1298هـ) (2400) مخطوطة غير الكتب المطبوعة[14]، ووضع للظاهرية نظام، وعين لها مشرفون، وموظفَين اثنين حتى افتتحت رسميًا للقراء والباحثين سنة (1878م-1296هـ)[15].
ومن أقدم خطيات الظاهرية:
• مسائل الإمام أحمد بن حنبل تأليف ابن حنبل كُتِب سنة (266هـ).
• سنن النسائي للإمام أحمد بن سعيد النسائي كُتِب سنة (355هـ).
• معاني الشعر لسعيد بن هارون كتب قبل سنة (410هـ).
• الملاحن لابن دريد الأزدي كتب سنة (410هـ).
• أسماء الضعفاء من رواة الحديث لمحمد بن عمر العقيلي كتب سنة (444هـ).
• المطر والسحاب لابن دريد الأزدي كتب سنة (445هـ).
• رفع اليدين في الصلاة للإمام البخاري كتب سنة (445هـ).
• المؤتلف والمختلف لعبد الغني بن سعيد الأزدي كتب سنة (485هـ).
• غريب الحديث للقاسم بن ثابت السرقسطي كتب سنة (499هـ).
كما تضم مخطوطاتها أشعارًا بخطوط مؤلفيها، كبعض أعمال ابن عساكر وأسرته، والضياء المقدسي وأسرته، وابن تيمية، وابن حجر، والذهبي، ويوسف ابن عبد الهادي، والسبكي، والنابلسي، وغيرهم كثير.
أقول: تمثل الظاهرية من غير شك اهتمام علماء دمشق زمن تأسيسها بالكتاب الذي يعرفون قيمته وأهميته، وخوفهم على ضياع ما بقي من خطيات بدمشق.
ومن مزيا هذه الخطيات تنوعها في العلوم والموضوعات، واتصافها بالضبط والإتقان، ذلك لأنها قرئت على الشيوخ وأثبتت عليها سماعات كثيرة على العلماء ممهمورة بخطوطهم، وخصوصًا المجاميع، وفيها ما لا يقل عن مئتي مجموع من النوادر، في المجموع الواحد رسائل عديدة، وكلها من الفرائد.
وأقول أيضًا: وانطلاقًا من تميز المخطوطات في الظاهرية بسماعاتها نقف عندها لمعرفة البواعث إليها.
ظهرت السماعات مع نشأة المدارس في بغداد ودمشق، ولعل أول مدرسة منها قامت في نيسابور معتمدة على أوقاف كثيرة تشجيعًا للأساتذة والطلبة.
وكانت غاية السماع إثبات قراءة طالب معين في ذيل الكتاب الذي قرأه على شيخه المذكور اسمه ممعا يعطي الكتاب قيمته العلمية وصحة ما فيه، إضافة إلى أن السماع إنما هو إجازة من الشيخ الذي يثبت عليه خطه.
ثم تطور الأمر وأطلق على السماع اسم الطباق، أي إن القراءة أتت على المخطوطة من طبقة إثر طبقة، حيث يثبت سماع إثره سماع آخر أو سماعات... وتلك عملية توثيق للكتاب ولمؤلفه وللطالب، ولا بد في السماع أن يتضمن المعلومات الآتية:
1- اسم الشيخ المسموع عليه الكتاب وكنيته ولقبه ونسبته.
2- عنوان الكتاب ومؤلفه.
3- اسم القارئ وكنيته.. (وقد يكون الشيخ هو القارئ).
4- أسماء السامعين للكتاب.. وتحديد أعمارهم إن كانوا صغارًا. (والجدير بالذكر فإن العادة أن تذكر أسماء الأطفال الحاضرين قراءة الكتاب إن كانوا فوق سن الرابعة، فيطلق على الواحد منهم اسم السامع، فإن كانوا دون ذلك يقال لأحدهم: حاضر.. فيكتب المقيد بعد ذكر اسمه وقد حضـر فلان في الأولى أو الثانية أو الثالثة.. أي من عمره).
5- عدد المجالس التي قرئ فيها الكتاب إن كانت في أكثر من جلسة.
6- اسم المكان: ويراد به البلدة أو القرية، وقد يذكر ما يتعلق بالمكان دون ذلك كبيت الشيخ أو المسجد الفلاني أو غيره.
7- التاريخ: ويثبت بالشهر واليوم وبالسنة ولا يذكر أنها بالهجرية للعرف.
8- وإن لك يكن الشيخ المسمع هو المؤلف ذكر سنده إليه.
9- يختم السماع بحمد الله، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، واسم الكاتب.
10- يوثق الشيخ السماع أخيرًا إن لم يكن هو كاتب السماع بعبارة «صح ذلك وثبت» ثم يذكر التاريخ.
وبناء على كل ما تقدم يمكن للباحث المهتم بالتراجم والرجال أن يجمع هذه السماعات ويفرزها على أسماء الشيوخ، وأسماء الكتب، وعلى كل عنصر من عناصر السماع.. ليخرج بترجمة موثقة نادرة، وهي طريقة جديدة.
ويقوم الباحث من أجل ترجمة عالم ما بتنسيق السماعات الخاصة به بعد دراستها ليصل إلى:
• معرفة شيوخه.
• أسماء الكتب التي قرأها أو سمعها على الشيوخ.
• أسانيده إلى مؤلفي الكتب.
• أسماء رفاقه في طلب العلم سواء في بلده أم في رحلاته.
• تاريخ رحلاته وخط سيره فيها.
• أسماء المدن والقرى التي دخلها وتلقى فيها عن شيوخها.
• عناوين الكتب المتداولة في زمنه.
• تاريخ قراءة كل كتاب باليوم والشهر والسنة.
• مراحل حياته.
كان النموذج الذي يقدم على هذه الطريقة ما صنعته شخصيًا في ترجمة الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (643هـ) وسميت العمل «التنويه والتبيين في سيرة الحافظ ضياء الدين» واتبعت هذه الطريقة كذلك في كثير من مؤلفاتي عن المدرسة النورية وغيرها.. وخرجت فيها بجديد مفيد فيما أزعم.
--------------------
[1] «خطط الشام» لمحمد كرد علي.
[2] انظر تراجمهم في كتاب «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري.
[3] انظر تراجمهم في كتاب «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري».
[4] «المدرسة الظاهرية» لأسماء الحمصي.
[5] سرق منها أحد النجديين خمسة أحمال من الكتب وفر بها. «منادمة الأطلال» (244) لأن بها كتب الحنابلة مذهب أهل نجد، هذا غير الإهمال وبيع المخطوطات من قبل المتولين.
[6] كان كثير منها مواد لرسائل الدراسات العليا. وانظر كتاب «المدرسة العمرية» لمحمد مطيع الحافظ.
[7] مدرسة عبد الله باشا العظم انظر «منادمة الأطلال» (270).
[8] مدرسة إسماعيا باشا من المدارس العثمانية، وقفها المذكور سنة (1141هـ) في سوق الخياطين، «خطط الشام» (269).
[9] المدرسة السليمانية الجوانية غرب خان الجمرك. «خطط الشام» (270).
[10] «خطط الشام» (267).
[11] السمسياطية: أشهر خوانق دمشق، بناها علي بن محمد السمسياطي سنة (453هـ) بجوار باب جامع دمشق الغربي، ووقفها على فقراء الصوفية. «خطط الشام» (398).
[12] «المدرسة الظاهرية» لأسماء الحمصي.
[13] جامع السياغوشية نسبة إلى سياغوش باشا الذي أمر ببنائه داخل باب الجابية عام (995هـ). «خطط الشام» (361).
[14] «المدرسة الظاهرية» لأسماء الحمصي.
[15] المصدر السابق.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/142644/#ixzz6bQ4Im5Rh