الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا، والصلاة على مَن أُوتي جوامع الكلم، خير مَن نطق بالضاد، أفصح العرب لغة، وأعظمهم بيانًا وحجة، سيدنا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فالبلاغة هي مُرتقَى علوم اللغة وأشرفها، وبها يُعلم غثُّ الكلام من سمينه، وقد أجاد علماؤنا العرب في تصنيف وترتيب علومها، فوضعوها على ثلاثة علوم مرتبة ترتيبًا تصاعديًّا بحسب صياغة الجملة وسبك المعنى وجودة الأداء، وهذه العلوم - على الترتيب - هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
أولا: مفهوم علم البديع:
قال ابن منظور المصري: « (والبديع) والبِدْع: الشيء الذي يكون أولًا. والبديع: المحدَث العجيب، والمبدَع. والبديع:من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها وهو البديع الأول قبل كل شيء، ويجوز أن يكون بمعنى مبدِع أو مِنْ بدع الخلق أي بدأه، والله تعالى كما قال سبحانه في محكم كتابه: ﴿ بَدِيْعُ السَّمَوَاتِ والْأرْضِ ﴾ [البقرة: 17]؛ أي: خالقها ومبدِعها فهو سبحانه الخالق المخترِع لا عن مثال سابق »[1].
وذُكِر في المعجم الوسيط: "أن (البديع) هو اسم الفاعل والمفعول مِنْ بدعه، بدعًا: أنشأه على غير مثال سابق، والبديع جمعه بدائع، مما بلغ الغاية في بابه، والبديع: علم يعرف به وجوه تحسين الكلام"[2].
أما عن الدلالة الاصطلاحية للبديع في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، فإنها قد تباينت ضيقًا واتساعًا، وتعميمًا وتخصيصًا، ويمكن بيان ذلك من خلال تتبع دلالة لفظة (البديع) عند من ذكروها في كتبهم، بوصفها مصطلحًا بلاغيًا.. وفي هذا يجب التمييز بين مرحلتين في استخدام مصطلح البديع، وهما[3]:
المرحلة الأولى: ما قبل القرن السابع الهجري، مرحلة النشأة والتطور.
المرحلة الث-انية: القرن السابع الهجري وما تلاه، مرحلة الضبط والتصنيف.
المرحلة الأولى: النشأة والتطور:
ففي المرحلة الأولى كان (البديع) يستخدم بمعنى: الجديد في بلاغة الشعر، لا سيما ما أتى به الشعراء العبَّاسيون. فالجاحظ (ت 255ه-) وهو - على الأغلب - أول من دون كلمة البديع في البلاغة العربية[4] يشير إلى هؤلاء الشعراء المحدَثين الذين شكَّلوا اتجاهًا اقترن باسم البديع، فيقول: "ومن الخطباء الشعراء مَن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن: كلثوم بن عمرو العتَّابي، وكنيته، أبو عمرو وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف ذلك من شعراء المولَّدين، كنحو منصور النَّمري ومسلم بن الوليد الأنصاري وأشباههما، وكان العتابي يحتذي حذو بشَّار في البديع، ولم يكن في المولدين أوصب بديعًا من بشار وابن هِرَمة"[5].
لكن أول من وضع اصطلاحًا ودراسة لعلم البديع وعرَّفه وأصَّله كان أبو العباس عبد الله بن المعتز (ت 296ه-)، فالبديع عنده هو: « اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشاعر ونُقَّاد المتأدبين منهم »[6].
ويقول الخطيب القزويني: "علم البديع هو علم يُعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة"[7].
ويعد ابن المعتز واضع علم البديع أو مُنشأه، فكان أول مَن قدَّم عنه كتابًا مستقلًا أسماه: (كتاب البديع)، ويقول في هذا الكتاب: "وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين.."[8]، وأبواب البديع أو العناصر البديعية عنده انتهت واستكملت في خمسة أبواب، وهي: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، ورد العجز على الصدر، والمذهب الكلامي، وألحق هذه الأبواب الخمسة بمحاسن الكلام والشعر، وهي ما اصطُلح عليه لاحقًا بالمحسنات البديعية.
ثم أتى أبو هلال العسكري (ت 395ه-) بكتابه (الصناعتين)، إلا أنه لم يأت بتعريف محدد لعلم البديع بل جاء بالتعريف عددًا، كما قاله: "الباب التاسع في شرح البديع وهو خمسة وثلاثون فصلا"[9].
ومن بين هؤلاء العلماء ابن رشيق القيرواني (ت 456ه-) فقد ألف كتابًا ضخمًا سماه (العمدة في صناعة الشعر ونقده)، أوضح فيه معنى المخترَع والبديع والفرق بينهما في باب واحد. فقال فيما نصه: "المخترع من الشعر: هو ما لم يسبق إليه صاحبه، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره أو ما يقرب منه"[10].
وأما البديع عنده فهو: "الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل الحبل جديدًا ثم فتلت فتلًا آخر، وله ضروب كثيرة وأنواع مختلفة"[11]. وقد ذكر ابن رشيق في كتابه اثنين وثلاثين نوعًا من أنواع البديع.
ثم يأتي عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه-) فيقلّ استخدامه لمصطلح البديع، لكن على رغم ذلك فإن مفهوم البديع يعود لاتساعه عند أبي طاهر البغدادي (ت 517ه-) في كتابه (قانون البلاغة)، فقد سرد فيه أقسام البديع وعددها أربعة وأربعون[12].
المرحلة الثانية: الضبط والتصنيف:
أما المرحلة الثانية في استخدام مصطلح البديع فتبدأ من القرن السابع الهجري، على يد ثلة من البلاغيين أشهرهم: السكَّاَّكي الذي يعده الدارسون رائد مرحلة جديدة في البلاغة العربية، هي مرحلة الضبط والتصنيف والتقنين، وذلك في كتابه (مفتاح العلوم)، فكان من بين صنيعه في هذا الكتاب أن صنف بعضًا من مباحث البلاغة تحت (علم المعاني) وبعضًا آخر تحت (علم البيان).
والبديع عند السكاكي هو: "وجوه مخصوصة لقصد تحسين الكلام، وهي قسمان: قسم يرجع إلى المعنى، وقسم يرجع إلى اللفظ"[13] فقد صرح في هذا التعريف بأن البديع محوره الأساسي في التحسين المعنوي والتحسين اللفظي في الكلام، فإطلاق كلمة "الكلام" مع أداة التعريف يشير إلى جميع أنواع الكلام شعرًا كان أو نثرًا. ولعل هذا التعريف هو نتيجة الجمع بين أقوال المتقدمين، وهذا التقسيم هو الذي ما زال مستخدمًا حتى عصرنا الحاضر.
ومن علماء القرن الثامن الذين صرَّحوا بأن البديع هو علم خاص في مجال تحسين الكلام معنى ولفظًا، هو الخطيب جلال الدين القزويني (ت 739ه-) في كتابه "الإيضاح في علوم البلاغة" ما نصه: "علم البديع هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة". فاتضح في هذا التعريف بأن البديع هو علم مستقل، لكن القزويني اشترط كون البديع علمًا مستقلًا بوسيلته يعرف وجوه تحسين الكلام، أن يكون بعد استكمال مطابقته لمقتضى الحال ووضوح الدلالة، وهما عبارة عن علم المعاني وعلم البيان، أي رتبة علم البديع في البلاغة تكون بعد علمَي المعاني والبيان.
ثم جاء ما عُرف باسم البديعيات على يد صفي الدين الحِلِّي ثم عز الدين الموصلي، وأشهر هذي البديعيات كانت بردة الإمام البوصيري.
وكان من آخر ما اعتمد البلاغيون في تعريف البديع الأستاذ أحمد الهاشمي في كتابه (جواهر البلاغة)، قائلا: "البديع هو علم يعرف به الوجوه والمزايا التي تزيد الكلام حسنًا وطلاوة، وتكسوه بهاء ورونقًا، بعد مطابقته لمقتضى الحال مع وضوح دلالته على المراد لفظًا ومعنى"[14]. فهذا التعريف استكمل وأصبح هو المتداول.
وقد زاد الهاشمي كلمة "المزايا" في ذلك التعريف، فهذا يشير إلى أن الأساليب البديعية تمتلك المزايا الخاصة في مجال تحسين الكلام، وهي لم تكن موجودة في أساليب علمي المعاني والبيان، ولكن هذه المزايا منزلتها منزلة الزوائد على أساليب تحسين الكلام في علمي المعاني والبيان. فلذا بعض البلاغيين عبَّر عن كون تحسين الكلام بعلمي المعاني والبيان تحسينا ذاتيًا، وبعلم البديع تحسينا عرضيًا أي زائدًا.
-----------------
[1] محمد بن مكرم بن منظور المصري - لسان العرب - دار صادر - بيروت 2008م، (8/6).
[2] مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط - دار الشروق - الطبعة الرابعة 2004م، ص44.
[3] الدكتور جميل عبد الحميد - البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية - الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م، ص13.
[4] الدكتور إبراهيم سلامة - بلاغة أرسطو بين العرب واليونان - مكتبة الأنجلو المصرية - الطبعة الأولى 1950م، ص62.
[5] عمرو بن بحر الجاحظ - البيان والتبيين - تحقيق: عبد السلام هارون - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الرابعة 1975م، ص51.
[6] أبو العباس عبد الله بن المعتز- البديع - تحقيق: عرفان مطرجي - مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت - الطبعة الأولى 2012م، ص72.
[7] الخطيب جلال الدين القزويني - الإيضاح في علوم البلاغة - تحقيق: إبراهيم شمس الدين - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 2002م، ص255.
[8] البديع ص72
[9] أبو هلال العسكري - الصناعتين؛ الكتابة والشعر - دار إحياء الكتب العربية 1952م، ص266.
[10] ابن رشيق القيرواني - العمدة في صناعة الشعر ونقده - تحقيق: عبد الواحد شعلان - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الأولى 2000م، ص421.
[11] نفسه ص427.
[12] أبو طاهر البغدادي - قانون البلاغة في نقد النثر والشعر - تحقيق: الدكتور محسن غياض عجيل -مؤسسة الرسالة- بيروت. الطبعة الأولى 1981م، ص84.
[13] يوسف بن أبي بكر السكاكي - مفتاح العلوم - تحقيق: نعيم زرزور - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الثانية 1987م، ص423.
[14] السيد أحمد الهاشمي - جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع - دار العلم والمعرفة - طبعة جديدة 2017م، ص367.