القدوة.. ظِلال أم ضَلال؟!
عبد الكريم عبد الله با عبد الله


حين حدَّثني الأب بأن ابنه يتلّقى تدريس مادة اللغة الإنجليزية بشكل جيّد في مدرسته الحاليّة؛ لذلك هو يُؤْثر بقاءه فيها على أخرى تفوقها بمواصفاتها وأدائها التربوي، وأنّه كثيراً ما يصطحب ابنه معه في مسامراته مع أصدقائه (المسلمين العرب) ليتيح لابنه ممارسة اللغة الإنجليزية والتحدّث بها مع أبناء أصدقائه!
قد يستوقفك هذا الموقف العابر كما استوقفني ويثير لدينا عدة تساؤلات:
الأول: ما مدى إدراك الأب لقدرة اللغة الأجنبية وجاذبيتها في تشكيل ذهنية الابن ورسم تصوراته عن الحياة، باعتبارها رافد تلك الثقافة ومفتاحها؟
الثاني: إلى أي مدى نستطيع جعل قيمة تعلّم اللغة الأجنبية في إطارها المنسجم مع المبادئ، دون أن تتجاوز رتبتها في سلّم القيم الإسلامية؟
ابتداءً قد نتفق على أهميّة تعلّم اللغة الأجنبية حين تكون هي لغة الحضارة السائدة اليوم.. لكن الملاحظة النقديّة أبعد من تعلّم ذات اللغة التي تُعد مكوناً ثقافياً، ووسيلة لتحصيل العلوم والخبرات والتجارب، مما يستوجب التفاعل معها بقدر من الموضوعية والحاجة.
أي مجتمع -ومنه مجتمعنا المسلم- حين يتَّجه بمؤسَّساته التعليميَّة والإعلاميَّة لتشكيل اتجاهاً ثقافيَّاً معيناً، فإنِّه يعتني بإبراز النماذج والقدوات التي تتمثَّل ذلك؛ لتكون معْلماً للتأثير، واقتباس التوجُّهات والرؤى العامة للمجتمع، ويتأكّد الأمر على مجتمعنا حين يتّجه نحو الانفتاح على الثقافات المغايرة ويتفاعل مع مكوناتها ومعطياتها ومنها اللغة، فإنِّه بذلك يعرّض جزءاً من مخزونه وثقافته الخاصّة للتهديد والذوبان، ما لم يُعد ترتيب أولوياته التربويَّة ويتفقّدها من جديد؛ ويجهِّز قدواته ونماذجه الممثِِّله لثقافته الأصيلة؛ لتكون خط الدفاع الأول في وعي الجيل، وباديةً على السطح في مداولاته ومنتدياته.
إنَّ سيادة النمط المحافظ في مجتمعنا وعلو القيم والأخلاق الإسلاميّة وفشوِّها؛ أصبح مهدَّداً -وأن أبدى ممانعةً أوليّة- في ظل تعدّد البدائل المتناقضة في القيم والأخلاق والسلوكيات، والتحدّي هو في العبور بالمتربّين نحو القدوة الجيّدة والنموذج الذي ينبغي أن يحذوا حذوه في تفاصيل حياتهم، وتحديد معاييره؛ وهذا يشكّل هاجساً يؤرّق الأسر والمؤسَّسات التربويَّة. ولو تتبعنا مظاهر الاقتداء لدى مَن نربِّيهم، ونتعرَّف اتجاه بوصلتهم، ونلحظ المؤشِّرات المرتبطة بميولهم وهواياتهم ورغباتهم وحاجاتهم في مراحلهم العمريَّة المختلفة، والقيم التي تبرز أثناءها، بالنظر -مثلاً- إلى ألبستهم واكسسواراتهم التي يرتدونها وهيئتها وطريقة ارتدائها، أو بالنظر لمقتنياتهم الخاصة ومحتوياتهم الالكترونية، وما يكتبونه على صفحات كتبهم المدرسية، وما يتغنَّون به ويترنَّمون، والأظهر من ذلك ملاحظة مضامين كلامهم وأسلوب تخاطبهم مع الآخرين، ومستوى انفعالاتهم السلبية والإيجابية... وأشياء كثيرة من ذلك تعكس أنماط القدوات والنماذج المؤثرة فيهم، والاتجاهات التي تأخذ بُعْدها في نفوسهم، كما نلحظ بجلاء تمدَّد الأنماط المفاهيميّة والسلوكيّة غير المنضبطة بميزان الإسلام، وانحسار كثير من معالم المروءة والاستقامة.. لذا من الضرورة بمكان أن تزول الغشاوة عن عيون من نربيهم، ونوضح لهم باستمرار النماذج والقدوات التي نفخر بها وتزخر بها أمّة الإسلام، وعلى طليعتها التي تنبعث منها كل هداية، وتصحّ معها كل بداية، وتشرق بها كل نهاية، القدوة المقتفاة، والنموذج المجتبى، النبي المصطفى، محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وأخبرت عنه عائشة - رضي الله عنها - فقالت: " كان خلقه القرآن.. ثم مِن بعده القرون المفضَّلة ومن تبعهم بإحسان، فنعود لننهل من سيرته - صلى الله عليه وسلم - وننطلق مجدداً من المفاهيم والقيم التي خطّها لأمَّته، لتكون نموذجاً قيميَّاً راقياً ومؤصَّلاً. ليعلم الجيل قيمنا ولو اشتركتْ الأمم الأخرى في كثير منها، إلا أن نبعها من ديننا أبهج، وإشراقها من هدي نبيِّنا أوهج!
إنَّ سلامة هذا الاقتداء الذي أمرنا الله به وتعلّم طريقة الاستنباط منه، يقوِّم خلل المعلِّم غير الموفّق الذي رسم خيال القدوة لطلابه في لاعب كرة قدم، أو صوَّرها في دولة تنبعث منها رائحة الفتن.. أو ذاك المسلسل الذي رسم أنموذجه في ممثِّل منقلب على الشريعة والأخلاق.. أو ذاك المحرِّر الذي يبيع ويشتري في قيم المجتمع ويزاود عليها.. يقطع الطريق على أعداء الإسلام في محاولاتهم البائسة في إسقاط نماذج المصلحين من العلماء والأخيار أو تشويه القيم والتصورات والمفاهيم الإسلامية.. فنستقي المعايير الصحيحة التي اختارها نبيّنا - عليه الصلاة والسلام - لنحاكم إليها مفاهيمنا، فنقف وراء المنهج لا الأشخاص، ونأخذ بالقيم الراسخة لا الرايات والدعايات، وننطلق من العلم الصحيح لا الأهواء والشهوات..وبهذا تكون القدوة ظِلال لا ضلال!

__________________