تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 8 من 22 الأولىالأولى 123456789101112131415161718 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 141 إلى 160 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #141
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 731 الى صـ 736
    الحلقة (141)


    ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم، ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم، ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم: سمعنا وأطعنا الآية. فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس، فانتفى ما شق عليهم من قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم الآية. بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم: سمعنا وعصينا؛ من الآصار في الدنيا والآخرة، فيكون حينئذ استئنافا جوابا لمن، كأنه قال: هل أجاب دعاءهم؟! ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: لها ما كسبت إلخ للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها، ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها، فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته، أي: لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله، لا لغيرها، وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه، وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه.

    قال الحرالي: وصيغة (فعل) مجردة، تعرب عن أدنى الكسب، فلذلك من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.

    لطيفة:

    وقال الجاربردي في " شرح الشافية ": معنى الكسب تحصيل الشيء على أي وجه كان، والاكتساب: المبالغة والاعتمال فيه، ومن ذلك قوله تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي وجه كان، ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه.

    [ ص: 732 ] قال الزمخشري: لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف. انتهى.

    قال العلامة ابن جماعة في " حواشيه ": تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قاله الزمخشري وغيره، ونص عليه سيبويه. قال الحلبي: وهو الأظهر. وقال قوم: لا فرق. قالوا: وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة ولا تكسب كل نفس إلا عليها بلى من كسب سيئة

    وقال تعالى: بغير ما اكتسبوا فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر. وقال الواحدي: الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد. وفي القاموس: كسبه يكسبه كسبا، وتكسب واكتسب: طلب الرزق، أو كسب أصاب، واكتسب تصرف واجتهد، ثم قال ابن جماعة: ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره، قاله ابن الحاجب في شرح (المفصل). وبمعناه قول بعضهم: في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرما من الله على عبده، بخلاف العقوبة، فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جد فيها واجتهد، وقريب منه قول آخر: للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله، سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل، وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار [ ص: 733 ] وسعي. نبه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك، وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها.

    وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت، وقد قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره أي: يرى جزاءه. وقال: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه، فالعقاب أيضا كذلك، فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها، وإن صور بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله. ومدعي خلافه عليه البيان. نعم الإصرار شرط، لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل. وبالجملة فما قاله جار الله حسن، وقد ذكره البيضاوي أيضا. وفي إعراب الحلبي: الذي يظهر في هذا، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف ؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب بتكلف ؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها، فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى والله أعلم، ثم قال ابن جماعة: والمبالغة من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر، والاعتمال: من اعتمل أي: عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته. انتهى.

    قال البقاعي ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلاما بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء، ولا حملهم فوق طاقتهم، مع أن له جميع ذلك، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلا للخلافة، فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر، ويظهر دينهم على كل دين، إذ كان سبحانه هو الداعي عنهم، وليكون الدعاء كله محمولا على الإصابة ومشمولا بالإجابة فقال تعالى: ربنا لا تؤاخذنا أي: لا تعاقبنا: إن نسينا أمرك ونهيك: أو أخطأنا [ ص: 734 ] أي: ففعلنا خلاف الصواب، تفريطا ونحوه.

    وقد ولع كثير من المفسرين ههنا بالبحث في أن النسيان والخطأ معفو عنهما، فما فائدة طلب العفو عنهما؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه. وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في " المدحة الكبرى ": لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون، ومن كان على شاكلتهم، فكأنهم يعدون النسيان من العصيان، والخطأ من الخطيئة. كقوله تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة

    وقيل في معنى الآية: لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة، على أن يكون النسيان بمعنى الترك، والخطأ من الخطيئة. وعليه فلا إيراد، والله أعلم.

    ربنا ولا تحمل علينا إصرا أي: عهدا يثقل علينا.

    قال الحرالي: الإصر: العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة: كما حملته على الذين من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان، ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار. ننقله عن أسفارهم تأكيدا لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وتعظيما لمنته تعالى، فلله الحمد فنقول: في سفر الخروج في الإصحاح الثاني عشر:

    * 15 * سبعة أيام تأكلون فطيرا. اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم، فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل.

    وكل هذا الإصحاح آصار شاقة.

    وفي السفر المذكور، في الإصحاح الحادي والعشرين.

    * 15 * ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا.

    * 16 * ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا.

    * 17 * ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا.

    * 27 * وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حرا عوضا عن سنه.

    * 28 * وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئا.

    * 29 * ولكن إن كان ثورا نطاحا من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة، فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل.

    [ ص: 735 ] وفي السفر المذكور، في الإصحاح الثالث والعشرين.

    * 10 * وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها.

    * 11 * وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك. وفضلتهم تأكلها وحوش البرية، كذلك تفعل بكرمك وزيتونك.

    * 12 * ستة أيام تعمل عملك، وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب.

    * 19 * أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك.

    وفي سفر العدد، في الإصحاح الخامس عشر: * 37 * وكلم الرب موسى قائلا.

    * 38 * كلم بني إسرائيل وقل لهم: أن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني.

    * 39 * فتكون لكم هدبا فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها.

    وفي السفر المذكور، في الإصحاح التاسع عشر:

    * 11 * من مس ميتا ميتة إنسان ما يكون نجسا سبعة أيام.

    * 12 * يتطهر به في اليوم الثالث، وفي السابع يكون طاهرا، وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرا.

    * 13 * كل من مس ميتا ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجس مسكن الرب، فتقطع تلك النفس من إسرائيل، لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة. نجاستها لم تزل فيها.

    * 14 * هذه هي الشريعة. إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسا سبعة أيام.

    * 15 * وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس.

    * 16 * وكل من مس على وجه الصحراء قتيلا بالسيف أو ميتا أو عظم إنسان أو قبرا يكون نجسا سبعة أيام. وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جدا.

    وفي السفر المذكور في الإصحاح الخامس والثلاثين:

    * 31 * ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل.

    وفي سفر التثنية، في الإصحاح الخامس عشر.

    * 19 * كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك. لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجز بكر غنمك.

    [ ص: 736 ] وفي سفر الخروج، في الإصحاح الرابع والثلاثين:

    * 20 * وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه.

    وفي سفر اللاويين، في الإصحاح الرابع:

    * 1 * وكلم الرب موسى قائلا:

    * 2 * كلم بني إسرائيل قائلا: إذا أخطأت نفس سهوا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها.

    * 3 * إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحا للرب. ذبيحة خطية.

    وكيفية ذلك حرجة جدا. انظرها.

    وفيه، في الإصحاح الخامس:

    * 1 * أو إذا مس أحد شيئا نجسا جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديب نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب.

    * 5 * فإن كان يذنب في شيء من هذه يقر بما قد أخطأ به.

    * 6 * ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزا من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيئته.

    والإصحاح المذكور كله آصار.

    وكذا الإصحاح السادس بعده كله آصار.

    وفي الإصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفي آصار كثيرة، منها:

    * 33 * وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس، وأما هو فتكسرونه.

    وفي الإصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكرا وأنثى، وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعا، ثم ثلاثا وثلاثين يوما. وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوما.

    وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها.

    وفي الإصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات.

    وفي ذلك آصار كبرى. انظرها.

    وفيه أيضا أحكام الحائض والآصار في شأنها. ومنها:

    * 19 * وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #142
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 737 الى صـ 748
    الحلقة (142)



    * 20 * وكل ما تضطجع عليه في طمثها [ ص: 737 ] يكون نجسا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسا.

    * 21 * وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء.

    وفي الإصحاح السابع عشر:

    * 15 * وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنيا كان أو غريبا يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجسا إلى المساء.

    وفي الإصحاح التاسع عشر:

    * 23 * ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء، لا يؤكل منها.

    * 24 * وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب.

    * 25 * وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها، لتزيد بكم غلتها. أنا الرب إلهكم.

    * 27 * لا تقصروا رؤوسكم مستديرا ولا تفسد عارضيك.

    وفي الإصحاح الخامس والعشرين:

    * 3 * ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما.

    * 4 * وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتا للرب. لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك.

    * 5 * زريع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف. سنة عطلة تكون للأرض.

    * 6 * ويكون سبت الأرض لكم طعاما. لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك.

    * 7 * ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاما.

    وفي سفر التثنية، في الإصحاح الحادي والعشرين.

    * 18 * وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما.

    * 19 * يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه.

    * 20 * ويقولون لشيوخ مدينته: ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير.

    * 21 * فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت.

    وفيه، في الإصحاح الثاني والعشرين:

    * 10 * لا تحرث على ثور وحمار معا.

    * 11 * لا تلبس ثوبا مختلطا صوفا وكتانا معا.

    [ ص: 738 ] وفيه، في الإصحاح الرابع والعشرين:

    * 1 * إذا أخذ رجل امرأة، وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ؛ لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته.

    * 2 * ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر.

    * 3 * فإن أبغضها الرجل الأخير، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة.

    * 4 * لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست ؛ لأن ذلك رجس لدى الرب.

    وهذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه فله الحمد، إنه أرحم الراحمين.

    ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي: من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف، وهذا في رفع شدائد البليات، ويقال: هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة واعف عنا أي: تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبنا: واغفر لنا أي: غط على ذنوبنا واعف عنها: وارحمنا أي: تفضل علينا بالرحمة مع كوننا مقصرين مذنبين: أنت مولانا أي: ولينا وناصرنا: فانصرنا على القوم الكافرين فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء.

    وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة، غاية مطلبهم.

    قال البقاعي: فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين، وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله: لا إكراه في الدين ليس ناهيا عن ذلك، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلا عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهرا بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.

    وقد ورد في " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات: قد فعلت » .

    [ ص: 739 ] وقد روى البخاري والجماعة عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة، كفتاه » .

    وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي » .

    وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها. قال: إذ يغشى السدرة ما يغشى قال: فراش من ذهب قال، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا، المقحمات.

    وعن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: « هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما [ ص: 740 ] نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته » . رواه مسلم والنسائي. وهذا لفظ مسلم.

    وأخرج الترمذي والنسائي والدارمي والحاكم وصححه، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » .

    وأخرج عبد بن حميد في " مسنده " عن الحسن: أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال: يا لك نعمة..! يا لك نعمة.

    هذا، وقد روي في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة... منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران » وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: « كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق. أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما » .

    وأخرج أحمد والحاكم والدارمي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة. تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما » .

    وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تجعلوا [ ص: 741 ] بيوتكم مقابر. إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة » . ولفظ الترمذي: « وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان » .

    وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة. وفيها آية هي سيدة آي القرآن، آية الكرسي » .

    فائدة:

    قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، وموردها إليه، مستويا على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده، مطلعا على أسرارهم وعلانيتهم، منفردا بتدبير المملكة، يسمع ويرى ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده، دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه! يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، [ ص: 742 ] ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب.

    وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم، والدافع عنهم، والحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده.

    وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.

    وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما جوادا رحيما جميلا هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل من سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟!

    اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وأعنا على إكمال ما قصدناه بفضلك. يا أرحم الراحمين.
    [ ص: 748 ]




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #143
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 749 الى صـ 754
    الحلقة (143)


    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ : مِائَتَا آيَةٍ، أَوْ إِلَّا آيَةً. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ اصْطِفَاءَ آلِ عِمْرَانَ، وَهُمْ عِيسَى وَيَحْيَى وَمَرْيَمُ وَأُمُّهَا، نَزَلَ فِيهِ مِنْهَا مَا لَمْ يَنْزِلْ فِي غَيْرِهِ. إِذْ هُوَ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَقَدْ جُعِلَ هَذَا الِاصْطِفَاءُ دَلِيلًا عَلَى اصْطِفَاءِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعْلِهِ مَتْبُوعًا لِكُلِّ مُحِبٍّ لِلَّهِ وَمَحْبُوبٍ لَهُ.

    وَتُسَمَّى : الزَّهْرَاءُ ، لِأَنَّهَا كَشَفَتْ عَمَّا الْتَبَسَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنْ شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَالْأَمَانُ، لِأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا فِيهَا أَمِنَ مِنَ الْغَلَطِ فِي شَأْنِهِ. وَالْكَنْزُ، لِتَضَمُّنِهَا الْأَسْرَارَ الْعِيسَوِيَّةَ . وَالْمُجَادَلَة ُ، لِنُزُولِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا فِي مُجَادَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَارَى نَجْرَانَ. وَسُورَةُ الِاسْتِغْفَارِ ، لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ . وَطَيْبَةُ، لِجَمْعِهَا مِنْ أَصْنَافِ الطَّيِّبِينَ فِي قَوْلِهِ:

    اَلصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ . إِلَى آخِرِهِ، أَفَادَهُ الْمَهَايِمِيُّ .

    وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هُوَ وَالِدُ مَرْيَمَ، أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا يَأْتِي التَّنْوِيهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ

    [ ص: 749 ] اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

    الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [ 1 - 3 ]

    الم سَلَفَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ

    اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ سَبَقَ تَأْوِيلُهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ .

    نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ أَيْ : الْقُرْآنَ . عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْجِنْسِ إِيذَانًا بِكَمَالِ تَفَوُّقِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ فِي حِيَازَةِ كَمَالَاتِ الْجِنْسِ ، كَأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِتَابِ دُونَ مَا عَدَاهُ ، كَمَا يَلُوحُ بِهِ التَّصْرِيحُ بِاسْمَيْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ : بِالْحَقِّ أَيْ : الصِّدْقِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ : مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ : مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ .

    قَالَ الْمَهَايِمِيُّ : أَيْ : مُعَرِّفًا صِدْقَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ . وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ : الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ، وَبِالشَّرَائِع ِ الَّتِي هِيَ صَلَاحُ كُلِّ زَمَانٍ . فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِتِلْكَ الْكُتُبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ : وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ تَعْيِينٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَبْيِينٌ لِرِفْعَةِ مَحَلِّهِ . تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ ، وَتَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ . إِذْ بِذَلِكَ يَتَرَقَّى شَأْنُ مَا يُصَدِّقُهُ رِفْعَةً وَنَبَاهَةً ، وَيَزْدَادُ فِي الْقُلُوبِ قَبُولًا وَمَهَابَةً ، وَيَتَفَاحَشُ حَالُ مَنْ كَفَرَ بِهِمَا فِي الشَّنَاعَةِ ، وَاسْتِتْبَاعِ مَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَالِانْتِقَامِ . قَالَهُ أَبُو السُّعُودِ .

    وَالتَّوْرَاةُ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ مَعْنَاهُ : (اَلشَّرِيعَةُ) . وَالْإِنْجِيلُ لَفْظَةٌ يُونَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا : (اَلْبُشْرَى). [ ص: 750 ] أَيْ : الْخَبَرُ الْحَسَنُ . هَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْكِتَابَيْنِ فِي مُصَنَّفَاتِهِم ْ . وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ تَطْبِيقَهُمَا عَلَى أَوْزَانِ لُغَةِ الْعَرَبِ وَاشْتِقَاقِهِم َا مِنْهَا . وَهُوَ خَبْطٌ بِغَيْرِ ضَبْطٍ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 4 ] من قبل هدى للناس وأنـزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام .

    من قبل متعلق بـ : ( أنزل ) ، أي : أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، والتصريح به مع ظهور الأمر ، للمبالغة في البيان : هدى للناس أي : لقوم موسى وعيسى . أو ما هو أعم ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع : وأنـزل الفرقان وهو الكتب السماوية التي ذكرها ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل . أو هو القرآن . وإنما كرر ذكره بما هو نعت له ، ومدح له ، من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس ، تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله ، قال الرازي : أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل . وعلى هذا التقدير فلا تكرار . ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين . قال : فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة . انتهى .

    ويجوز أن يكون المراد بالفرقان : ( الميزان ) المشار إليه في قوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والميزان : هو العدل في الأمور كلها ؛ واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى .

    [ ص: 751 ] إن الذين كفروا بآيات الله أي : جحدوا بها : لهم بسبب كفرهم بها : عذاب شديد وهذا الوعيد ، جيء به إثر ما تقدم حملا على الإذعان ، وزجرا عن العصيان : والله عزيز لا يغالب يفعل ما يشاء : ذو انتقام أي : معاقبة ، يقال : انتقم الله منه : عاقبه . والنقمة : المكافأة بالعقوبة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 5 ] إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

    إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أي : هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 6 ] هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم

    هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء أي : يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد لا إله إلا هو العزيز الحكيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 7 ] هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .

    هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات واضحات الدلالة : هن [ ص: 752 ] أم الكتاب أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام : وأخر متشابهات وهي : ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجها . وجعله كله محكما في قوله : أحكمت آياته بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني .

    ومتشابها في قوله : كتابا متشابها بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدق بعضه بعضا : فأما الذين في قلوبهم زيغ أي : ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع : فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة أي : طلب الإيقاع في الشبهات واللبس : وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله وحده : والراسخون في العلم أي : الثابتون المتمكنون مبتدأ ، خبره : يقولون آمنا به أي : بالمتشابه على ما أراد الله تعالى : كل من المحكم والمتشابه : من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب أي : العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة . وهو تذييل سيق منه تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر .

    تنبيه :

    للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة ، وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية - عليه الرحمة والرضوان - . يقول في خلالها :

    المحكم في القرآن ، تارة يقابل بالمتشابه ، والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان .

    ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكما ، وإن كان الله أنزله أولا اتباعا للظاهر من قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته

    فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها .

    وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل . فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان . فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله ، أي : فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، [ ص: 753 ] ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحي. أو يقال : ( وهو أشبه ) : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخا ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف ، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ ، وقد يكون في مسمع المبلغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد . وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ ، بهذا الاعتبار . والله أعلم .

    وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا . فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه : ( لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ) ، وإنما قال : وما يعلم تأويله إلا الله وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع . فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا ، على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة . ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : كتاب أنـزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وهذا يعم الآيات [ ص: 754 ] المحكمات والآيات المتشابهات . وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : أفلا يتدبرون القرآن

    ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره . والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمر الله ، وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه .

    يبين ذلك أن التأويل ، قد روي أن اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كحيي بن أخطب ، وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما ، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر . وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد نجران من تأول ( إنا ونحن ) على أن الآلهة ثلاثة ، لأن هذا ضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله . فأولئك تأولوا في اليوم الآخر . وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن ( أنا ونحن ) من المتشابه . فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه ، الذي يقوم مقامه من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #144
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 755 الى صـ 760
    الحلقة (144)


    فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه ، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه . ويسميها أهل التفسير : ( الوجوه والنظائر ) وصنفوا كتب الوجوه والنظائر . فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، [ ص: 755 ] بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله ، والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : وإلهكم إله واحد إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه . وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها . وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء فيه الأمر ، وإخبار .

    فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : إن السنة هي تأويل الأمر . قالت عائشة - رضي الله عنها - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن ، تعني قوله : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ، [ ص: 756 ] ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع . وهذا معناه . قال الله تعالى : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : هل ينظرون أي : ينتظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله إلى آخر الآية . وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها ، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك . فحينئذ يقولون : قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ، فإن الله يقول : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ويقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك . ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع [ ص: 757 ] التشابه . كما في قوله : وأتوا به متشابها على أحد القولين ، أي : يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله ، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم . فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين ، تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة ، كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله فإن تلك الحقائق قال الله فيها : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .

    وقوله : وما يعلم تأويله إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه . فإن [ ص: 758 ] كان عائدا على الكتاب لقوله : منه ، ومنه : فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهذا يصح ، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله ، وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه - وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة - إلا الله ، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا ، وكذلك قوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض - إلى قوله : إنما علمها عند الله وكذلك قوله : يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله . وهذا واضح بين ، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها . فهذا هذا .

    [ ص: 759 ] وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي . ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه ، والإيمان بمتشابهه ، لأن المقصود في الخبر الإيمان . وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه . بخلاف الأمر والنهي ، فإنه متميز غير مشتبه بغيره ، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع ، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها .

    ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله والكتابة عائدة على القرآن ، أو على ما لم يحيطوا بعلمه ، وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين

    فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله . كما تحداهم وطالبهم لما قال : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فهذا تعجيز [ ص: 760 ] لجميع المخلوقين . قال تعالى : ولكن تصديق الذي بين يديه أي : مصدق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب ، أي : مفصل الكتاب ، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب . والكتاب اسم جنس . ولما تحدى القائلين : افتراه ، ودل على أنهم هم المفترون ، قال : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ففرق بين الإحاطة بعلمه ، وبين إتيان تأويله .

    فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله ، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام ، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به . وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به . فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن ، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #145
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 761 الى صـ 766
    الحلقة (145)



    إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابهه ، وإن لم يعلم تأويله ، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا فقد أخبر ، ذما للمشركين ، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : أن يفقهوه يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ، ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عني بها . وما استثني من ذلك لا متشابها ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات ، [ ص: 761 ] أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله ، يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن ، وهذا هو الذي جعل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله : والراسخون في العلم فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل ، لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين ، فبسبب الاشتراك في لفظ ( التأويل ) اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .

    ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

    وأما التأويل فشأن آخر . ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أهل العلم والإيمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك ، فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون وهؤلاء معتدون ، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة [ ص: 762 ] بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا ، خلافا للحشوية ، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عند المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما يجري على أصله ، فقال : هذا عبث ، والعبث على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح .

    ومثار الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، وكلام العرب ، علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن . فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وإن كان يغلب عليهم السـنة ، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه .

    والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزا وعيبا وقبيحا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك [ ص: 763 ] مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاما وجدالا ، ولكن بفرية على الله ، وقول عليه ما لا يعلمونه ، وإلحاد في أسمائه وآياته ، فهذا هذا .

    ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل ، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو : صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل . والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، ويترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع .
    وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :

    أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .

    والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل [ ص: 764 ] فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة .

    فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف .

    الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وقوله : ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وقول الملأ : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين [ ص: 765 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا

    فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : هذا تأويل رؤياي من قبل والعالم بتأويلها الذي يخبر به . كما قال يوسف : لا يأتيكما طعام ترزقانه أي : في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا إلى قوله : وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا

    فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم [ ص: 766 ] من خرق السفينة بغير إذن صاحبها . ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا ، مثل حول تحويلا ، وعول تعويلا . و ( أول يؤول ) تعدية ( آل يؤول أولا ) ، مثل حال يحول حولا وقولهم ( آل يؤول ) أي : عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المآل ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وأل ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : لن يجدوا من دونه موئلا

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #146
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 767 الى صـ 772
    الحلقة (146)



    ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فإن آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى الأولى ، وفي القصص : له الحمد في الأولى والآخرة ومن الناس من يقول فوعل ويقول ( أوله ) إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل . فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل : أكبر وكبرى وأصغر وصغرى ، لا من أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : من أول يوم وأنا أول المسلمين ولا تكونوا أول كافر به [ ص: 767 ] ومثل : هذا أول هؤلاء . .

    فهذا الذي فضل عليهم في الأول ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ؛ كلهم يؤول إليه . فإن من تقدم في فعل ، فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل إليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء . والمبتدي خلاف العائد ، لأنه إنما كان أولا لما بعده ، فإنه يقال : أول المسلمين ، وأول يوم ، فما فيه من معنى الرجوع والعود ، هو للمضاف إليه لا للمضاف . وإذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف ، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعا لغيره ، لأن كونه مفضلا دل عليه أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع ، إذ لا فضل في كون الشيء راجعا إلى غيره . آيلا إليه ، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعا ، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم .

    فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فإن التفضيل يجري على غير فعل كقوله : وتبتل إليه تبتيلا فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا ، والمصدر واقع موقع الصفة ، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل ، كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كـ: درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه ، أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون قال : حقيقة . فإن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع ، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذبا، وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع ، وإلا لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا ، ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا [ ص: 768 ] فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا هذه الآية : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد .

    فصل

    وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين :

    الأول : من قال إن هذا من المتشابه وإنه لا يفهم معناه ، ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في [ ص: 769 ] أحاديث الوعد . مثل : « من غشنا فليس منا » . وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمي تحريفه تأويلا ، بالعرف المتأخر .

    فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية . وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله ، فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .

    ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث - تفسيرها ، وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها .

    والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن تقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات ، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) ، و : ( على كل شيء قدير ) ، و : فإن الله يحب المتقين و : ( المقسطين ) ، و : ( المحسنين ) ، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، [ ص: 770 ] و : فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ولكن كره الله انبعاثهم الرحمن على العرش استوى ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إنني معكما أسمع وأرى [ ص: 771 ] وهو الله في السماوات وفي الأرض ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام يريدون وجهه ولتصنع على عيني إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا ، وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) . معنى . ونفهم من قوله : [ ص: 772 ] ( إن الله على كل شيء قدير ) معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : ورحمتي وسعت كل شيء معنى ، ونفهم من قوله : إن الله عزيز ذو انتقام معنى. وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا .

    وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : ولا يحيطون بشيء من علمه يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم ، وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر .

    ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود . أم لا ؟ فإن قال : لا ، كان معطلا محضا . وما أعلم مسلما يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث ، بخلاف الذات .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #147
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 773 الى صـ 778
    الحلقة (147)




    فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين [ ص: 773 ] باطل في أكثر المواضع ، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمان رحيم ودود سميع بصير علي عظيم ، كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .

    وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر : لم نفيت ، مثلا ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته ؟

    فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وإن قال ( وهو حقيقة قوله ) : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين ، لأن الفعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم ، والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه :

    أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .

    الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .

    الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها ، ومحذورا إن قال بحدوثها .

    [ ص: 774 ] وهنا اضطربت المعتزلة . فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم . ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم مع تناقضهم .

    فصاروا حزبين :

    البغداديون : وهم أشد غلوا في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة . وقال الحافظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .

    والبصريون : كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضا . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعل مسفسطا أو مقرمطا ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .

    ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره .

    ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده ، أو بوجود يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .

    [ ص: 775 ] ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى ، وانتفاء المانع . وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتض ولا مانع ، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجب به الإثبات . فإن كان المقتضى هناك حقا ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فإنه إن كان حقا نفاهما ، وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي ، فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة، وإن لم يعرف فسادها على التفضيل، وأما من حيث التفصيل ، فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غير مرة .

    فإن قال : من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي . فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها .

    فإن قال : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .

    فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية . قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال ، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .

    [ ص: 776 ] فإن قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .

    فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير . قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير .

    فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك ، وإن كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضا ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .

    وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب ، ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ، ومدلولا عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا ، تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي ، فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف . فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس . وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون إحالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض .

    فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، إذ كلامهم من [ ص: 777 ] عند غير الله ، وقد قال الله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا

    والصواب ما عليه أئمة الهدى ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والإيمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون من المتشابه .
    الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها ، ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، إما المتشابه ، وإما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران ، أنهم احتجوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( إنا ونحن ) ونحو ذلك ، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي سائر الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ، ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج وقال [ ص: 778 ] تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنـزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرهم . وقال أيضا : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئا . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقوله : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال علي عليه السلام لما قيل له : هل ترك عندكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #148
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 779 الى صـ 784
    الحلقة (148)


    فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : ففهمناها سليمان [ ص: 779 ] وكلا آتينا حكما وعلما وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « رب مبلغ أوعى من سامع » ، وقال : « بلغوا عني ولو آية » . وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها ، وفسروها بما يوافق دلالتها ، ورووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول : لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . [ ص: 780 ] وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة ، أصحاب زيد بن ثابت ، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل عمر ، وابن عمر ، وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه ، لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه ، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .

    قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيه من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئا من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول .

    فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك : الكيف معدوم ، وإنما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة ، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله : الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا [ ص: 781 ] من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضا فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا إخبار الله بالاستواء ، وإنما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة ، وأيضا فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : إنني معكما أسمع وأرى كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليما ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضا فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأن ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخره ، في كتاب الرد على الجهمية .

    وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضا قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في صحيح البخاري [ ص: 782 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : « يا عائشة ! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذين سمى الله ، فاحذريهم » ، وهذا عام . وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا ، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر ، فسأل عمر عن : والذاريات ذروا فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد . وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ... » . وكما قال تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن . وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقال : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم [ ص: 783 ] ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ، فكان مقصودهم مذموما ، ومطلوبهم متعذرا ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغا سأل عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده ، لكن علي كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه ، والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى . وكذلك في قوله : ( إنا ونحن ) ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فإن المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال مالك : والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . [ ص: 784 ] فإن قيل : فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » . قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل : تأويل كل القرآن . فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله وقوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، و تأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ - قدس سره - . ومع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #149
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الثالث
    صـ 785 الى صـ 790
    الحلقة (149)


    وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب ( إيثار الحق على الخلق ) في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه :

    وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين :

    أحدهما : في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم .

    وثانيهما : اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه .
    ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية، والأدلة السمعية، دلت على امتناع الاتفاق في تفصيل الحكم، وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل [ ص: 786 ] المائة نفس ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا . خصوصا من المقلدين . وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه السلام . وهذه فائدة نفيسة جدا ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وقال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف [ ص: 787 ] العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به و تأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز .

    أما الأمر الأول : وهو اختلافهم في ماهيتهما . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدا ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي ، وما عداه متشابه ، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة ، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ . ومنهم من قال : القصص والأمثال . ومنهم من عكس فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في ( الحاوي ) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي ، والمتشابه : ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة . وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجها آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو ، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء . والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلا له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فإن قوله : سأنبئك بتأويل ما لم [ ص: 788 ] تستطع عليه صبرا صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول إليه ، على ما فسره الشيخ . فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم ، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور :

    أحدها : أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل ، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى : ولا يحيطون به علما ولقوله تعالى : ليس كمثله شيء وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله - عز وجل - على العقول : امتنع منها بها ، وإليها حاكمها . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف [ ص: 789 ] لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء ، الجميع ، ومنهم الباطنية ، ودونهم الجهمية . ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية . فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه . والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعا إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم : أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا ؟ فغضب عليه السلام ونادى : ( الصلاة جامعة ) فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته ، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم ، وهم من ملكوت القدس كلهم . ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته . فاتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه [ ص: 790 ] ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عن أئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنه منتهى حق الله عليك . وقد روى السيد في ( الأمالي ) أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « ستكون فتنة » ! قلت : فما المخرج منها ؟ قال : « كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ،فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله » إلى قوله : « من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم » . ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #150
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 791 الى صـ 796
    الحلقة (150)



    [ ص: 791 ] ورواه ابن الأثير في ( الجامع ) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني ، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه ، وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى ، وما يؤدي إليه .

    الأمر الثاني : من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه ، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، وإليه الإشارة بقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال [ ص: 792 ] الله : كف عن عبادي ، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني - رواه الطبراني - .

    وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في ( الإحياء ) في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش ، وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا : إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ، ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزا ، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم .

    وقال في شرح ( أسماء الله الحسنى ) في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرا ، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرا محضا . والغبي الذي يرى القصاص شرا محضا ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا .

    وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في ( العواصم ) والسر في ذلك : أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدرة في الجملة . وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى [ ص: 793 ] القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في ( العواصم ) ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي . فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي ، وتبعه تلميذه ابن قيم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) ، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه . ومضمون كلامهم : أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرا ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معا . ونصر ذلك الغزالي في شرح ( الرحمن الرحيم ) . ولنورد في ذلك حديثا واحدا ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقي في كتابه ( الأسماء والصفات ) عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون . فانتهى موسى .

    ورواه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد فيه : فلما بعث الله عزيرا سأل الله مثل ما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصر صرة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع [ ص: 794 ] أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه ، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء ، فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى ، وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه .

    وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به . وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظرا ازداد تحيرا . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها والجواب الجملي عليهم كما مر .

    وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضهم ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في ( العواصم ) وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة .

    الأمر الثالث : من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فإن الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة ، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ، ونحو ذلك ضروري ، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ، ونحو ذلك ، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهما السلام ، وهو نص في تفسيرهما المجموع . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في ( الحاوي ) . وقولهم : [ ص: 795 ] إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها ؛ مقلوب .

    وصوابه : أن لا نفهمها ، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن .

    الأمر الرابع من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله : : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك

    وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجلي ، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا فوائد :

    الأولى : الصحيح في قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في ( الحاوي ) واحتج بأن ( أما ( للتفصيل على بابها ، والتقدير : و ( أما الراسخون ( بدليل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي : وأما عمرو فجاهل ، يوضحه أن المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف .

    [ ص: 796 ] وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ : (ويقول الراسخون ( وقال : صحيح . ورواه الزمخشري في كشافه قراءة عن أبي وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن علي عليه السلام ، ولم يتأوله ولم يطعن فيه . وهو في ( النهج ) أيضا ، وهو نص لا يمكن تأويله . فإن لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق ، فيما لم يكلفهم البحث عنه ؛ رسوخا . فاقتصر على ذلك . انتهى بحروفه .

    وأيضا فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، إذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم . وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ؛ جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله سبحانه أعلم .

    الفائدة الثانية : إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية ، وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين ، و تأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك .

    الفائدة الثالثة : إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بين وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد - إن شاء الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #151
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 797 الى صـ 802
    الحلقة (151)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 8 ] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

    ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا من مقال الراسخين ، أي : لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ، ولا تجعلها كالذين في قلوبهم زيغ . الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم : وهب لنا من لدنك رحمة تثبت بها قلوبنا : إنك أنت الوهاب كثير النعم والإفضال ، جزيل العطايا والنوال . وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى . وعن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يدعو : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » قلت : يا رسول الله ! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ! فقال : « ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه » . وهو في الصحيح والسنن .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 9 ] ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد .

    ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد وهذا [ ص: 798 ] من تتمة كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ، فإنها منقضية منقرضة . وإنما الغرض الأعظم منه : ما يتعلق بالآخرة فإنها القصد والمآل . فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبدا ، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبدا . فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ؛ ما يتعلق بالآخرة - أفاده الرازي - ثم قال : احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق . قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى : أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا والوعد والموعد والميعاد واحد . وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد . فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد . والجواب : لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد . أما قوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك ، كما في قوله : فبشرهم بعذاب أليم [ ص: 799 ] وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع .

    وذكر الواحدي في ( البسيط ) طريقة أخرى فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشاعر :


    إذا وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه


    وروى المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء ، وبين عمرو بن عبيد . قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا ، فهو منجز إيعاده ما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب . إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما . وعن الإيعاد كرما ، وأنشد :


    وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي


    واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام ، قال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك . قالوا : فانقطع عمرو بن العلاء .

    وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره [ ص: 800 ] فذلك هو اللؤم . فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك . وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق . فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط . وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 10 ] إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار

    إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار : ولا أولادهم الذين بهم يتناصرون في الأمور المهمة : من الله أي : من عذابه تعالى : شيئا من الإغناء ، أي : لن تدفع عنهم شيئا من عذابه . يقال : ما أغنى فلان شيئا ، أي : لم ينفع في مهم ، ولم يكف مؤنة . ورجل مغن ، أي : مجزئ كاف - قاله الأزهري . ونظير هذه الآية قوله تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأولئك هم وقود النار بفتح الواو أي : حطبها ، وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها ، وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر ، أي : التوقد ، والفتح للحطب . وقال الزجاج : المصدر مضموم ، ويجوز فيه الفتح ، وهذا كقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون

    [ ص: 801 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 11 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب

    كدأب آل فرعون خبر مبتدأ محذوف ، أي : دأب هؤلاء في الكفر كدأب آل فرعون . والدأب ( بالسكون ، ويحرك ) مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه ، فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ، مجازا ، يقال : هذا دأبك أي : شأنك وعملك . قال الأزهري : عن الزجاج في هذه الآية : أي : كأمر آل فرعون ، كذا قال أهل اللغة ، قال الأزهري : والقول عندي فيه - والله أعلم - أن دأبهم هنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتظاهر آل فرعون على موسى عليه الصلاة والسلام . يقال : دأبت أدأب دأبا ودؤوبا إذا اجتهدت في الشيء - انتهى - قال أبو البقاء : وفي ذلك تخويف لهم لعلمهم بما حل بآل فرعون : والذين من قبلهم أي : من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة ، فالموصول في محل جر عطف على ما قبله : كذبوا بآياتنا بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبني على السؤال المقدر : فأخذهم الله بذنوبهم أي : عاقبهم وأهلكهم بسببها والله شديد العقاب أي : الأخذ بالذنب . فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 12 ] قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد

    قل للذين كفروا بهذا الدين وهم اليهود ( للرواية الآتية( أو نصارى نجران ، لأن السورة نزلت لإحقاق الحق معهم ، أو أعم : ستغلبون أي : في الدنيا : وتحشرون أي : يوم القيامة : إلى جهنم وبئس المهاد الفراش ، أي : فكفركم ككفر آل فرعون بموسى ، وقد فعل بقريش لكفرهم ما رأيتم ، فسيفعل بكم ما فعل بهم ، [ ص: 802 ] وهو أنكم تغلبون كما غلبوا . وقد صدق الله وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم ، وهو من أوضح شواهد النبوة . وقد روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : « يا معشر يهود ! أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا » فقالوا : يا محمد ! لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش ، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله : قل للذين إلى قوله : لأولي الأبصار




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #152
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 803 الى صـ 808
    الحلقة (152)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 13 ] قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

    قد كان لكم أيها الكافرون المتقدم ذكرهم : آية عبرة ودلالة على أنكم ستغلبون ، وعلى أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومعل أمره : في فئتين أي : فرقتين : التقتا يوم بدر للقتال : التقتا يوم بدر للقتال : فئة تقاتل في سبيل الله أي : طاعته ، وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، [ ص: 803 ] وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، معهم فرسان وست أذرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة : وأخرى كافرة وهم مشركو قريش ، وكانوا قريبا من ألف : يرونهم مثليهم أي : يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين ، أراهم الله إياهم ، مع قلتهم ، أضعافهم ليهابوهم ، ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مددا لهم من الله تعالى ، كما أمدهم بالملائكة . فإن قلت : فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال : ويقللكم في أعينهم قلت : قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . ونظيره في المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وقوله تعالى : وقفوهم إنهم مسؤولون وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية - كذا في ( الكشاف ) - قلت : أو يجاب بأنهم كثروا أولا في أعينهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر ليقضي الله أمرا كان مفعولا : رأي العين يعني : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها ، معاينة كسائر المعاينات كذا في ( الكشاف ) : والله يؤيد أي : يقوي : بنصره من يشاء إن في ذلك أي : التكثير والتقليل ، وغلبة القليل ، مع عدم العدة ، على الكثير الشاكي السلاح : لعبرة أي : لاعتبارا وآية وموعظة : لأولي الأبصار لذوي العقول والبصائر .

    [ ص: 804 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 14 ] زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .

    زين للناس كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها ، وتزهيد الناس فيها ، وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى ، إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذين كانوا يتعززون بها . والمراد بالناس : الجنس - قاله أبو السعود : حب الشهوات أي : المشتهيات ، وعبر عنها بذلك مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها ، أو تخسيسا لها ، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية من النساء في تقديمهن إشعار بعراقتهن في معنى الشهوة ؛ إذ يحصل منهن أتم اللذات : والبنين للتكثر بهم ، وأمل قيامهم مقامهم من بعدهم ، والتفاخر والزينة : والقناطير أي : الأموال الكثيرة ، وقوله : المقنطرة مأخوذة منها للتوكيد كقولهم ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة : من الذهب والفضة قال الرازي : وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين : والخيل المسومة أي : المرسلة إلى المرعى ترعى حيث شاءت ، أو التي عليها السيمياء - أي : العلامة - قال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل ، وهي أن تكون الأفراس غرا محجلة : والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم لتحصيل الأموال النامية : والحرث أي : الأرض المتخذة للغراس والزراعة : ذلك أي : المذكور : متاع الحياة الدنيا يتمتع به فيها ثم يفنى : والله [ ص: 805 ] عنده حسن المآب أي : المرجع وهو الجنة ، فينبغي الرغبة فيه دون غيره . وفي إشعاره ذم من يستعظم تلك الشهوات ويتهالك عليها ، ويرجح طلبها على طلب ما عند الله ، وتزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .

    تنبيه :

    في تزيين هذه الأمور المذكورات للناس إشارة لما تضمنته من الفتنة :

    فأما النساء ، ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » .

    وأما البنون ، ففي مسند أبي يعلى عن أبي سعيد مرفوعا : الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة . أي : يجبن أبوه عن الجهاد خوف ضيعته ، ويمتنع أبوه من الإنفاق في الطاعة خوف فقره ، ويحزن أبوه لمرضه خوف موته ، وقد قال تعالى : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وقيل لبعض النساك : ما بالك لا تبتغي ما كتب الله لك ؟ قال : سمعا لأمر الله ، ولا مرحبا بمن إن عاش فتنني ، وإن مات أحزنني . يريد قوله تعالى : إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم

    وأما القناطير المقنطرة : ففيها الآية قبل ، وقوله تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وقال تعالى : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه [ ص: 806 ] فما يورث البطر مثل الغنى . وبه تستجمع أسباب السؤدد والرئاسة والمجد والتفاخر .

    وأما الخيل فقد تكون على صاحبها وزرا : إذا ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، كما في الصحيح وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعا : الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان . فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان : فالذي يقامر أو يراهن عليه . وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها فهي تستر من فقر .

    وأما الفتنة بالأنعام والحرث ففي معنى ما تقدم . والله أعلم .

    ولما ذكر تعالى ما عنده من حسن المآب إجمالا ، أشار إلى تفصيله مبالغة في الترغيب فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 15 ] قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد

    قل أأنبئكم بخير من ذلكم أي : الشهوات المزينة لكم : للذين اتقوا الله ولم ينهمكوا في شهواتهم : عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، و : ( للذين اتقوا ) خبر المبتدأ الذي هو : ( جنات ) و : ( تجري ) صفة لها ، و : ( عند ) إما متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار ، وإما صفة للجنات في الأصل ، [ ص: 807 ] قدم فانتصب على الحال . والعندية مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها : خالدين فيها أي : ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا : وأزواج مطهرة أي : من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية مما لا يخلو عنه نساء الدنيا غالبا : ورضوان من الله التنوين للتفخيم أي : رضوان لا يقدر قدره . وهذه اللذة الروحانية تتمة ما حصل لهم من اللذات الجسمانية وأكبرها ، كما قال تعالى في آية ( براءة ) : ورضوان من الله أكبر أي : أعظم ما أعطاهم من النعيم المقيم . روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا » والله بصير بالعباد أي : عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا . ثم وصف سبحانه الذين اتقوا ففازوا بتلك الكرامات بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 16 ] الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار

    الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار قال الحاكم : في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله ، ثم يدعو . ويؤيده [ ص: 808 ] ما في الصحيحين من حديث أصحاب الغار ، وتوسل كل منهم بصالح عمله ، ثم تفريج الباري تعالى عنهم ، وقوله تعالى :




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #153
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 809 الى صـ 814
    الحلقة (153)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 17 ] الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار .

    الصابرين أي : على البأساء والضراء وحين البأس : والصادقين في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم : والقانتين المطيعين لله الخاضعين له : والمنفقين أموالهم في سبيل الله تعالى من الأرحام ، والقرابات ، وسد الخلات ، ومواساة ذوي الحاجات : والمستغفرين بالأسحار جمع سحر ( بفتحتين وفتح وسكون ) وهو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر آخر الليل . وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت . قال الحرالي : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون

    وقال الرازي : واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء ، لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك . فقوله : والمستغفرين بالأسحار يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل - انتهى -

    وقد روى ابن أبي حاتم أن عبد الله بن عمر كان يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ! هل جاء السحر ؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة . وروى ابن جرير عن حاطب قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك ، وهذا السحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا هو ابن مسعود . وثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن [ ص: 809 ] من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ينزل ربنا ، تبارك وتعالى ، كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر . يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » وفي رواية لمسلم : « ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم » . وفي رواية : « حتى ينفجر الفجر » .

    قال الحافظ ابن كثير : وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءا على حدة ، فرواه من طرق متعددة . ويروى أن بعض الصالحين قال لابنه : يا بني ! لا يكن الديك أحسن منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم ، والحكمة في تخصيص الأسحار كونه وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية ، والألطاف السـبحانية ، وعند ذلك تكون العبادة أشق ، والنية خالصة ، والرغبة وافرة ، مع قربه ، تعالى وتقدس ، من عباده . قال السيوطي : في الآية فضيلة الاستغفار في السحر ، وأن هذا الوقت أفضل الأوقات . وقال الرازي : واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان ، وفي كمال العبودية .

    الأول : أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل ، وبسبب طلوع نور الصبح كان الأموات يصيرون أحياء ، فهناك وقت الجود العام ، والفيض التام ، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير ، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب .

    والثاني : أن وقت السحر أطيب أوقات النوام ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل .

    والثالث : نقل عن ابن عباس : والمستغفرين بالأسحار يريد المصلين صلاة الصبح ، انتهى .

    وهذا الثالث : أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم ، وعليه ، فإنما سميت الصلاة استغفارا لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة .

    لطيفة :

    قال الزمخشري : الواو المتوسطة بين الصفات ، للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها .

    [ ص: 810 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 18 ] شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم .

    شهد الله أنه لا إله إلا هو أي : علم ، وأخبر ، أو قال أو بين أنه لا معبود حقيقي سوى ذاته العلية . وشهد بذلك : والملائكة وأولو العلم بالإقرار ، وهذه مرتبة جليلة للعلماء ، لقرنهم في التوحيد بالملائكة المشرفين ، بعطفهم على اسم الله - عز وجل - : قائما بالقسط أي : بالعدل في أحكامه : لا إله إلا هو كرره تأكيدا ، وليبني عليه قوله : العزيز فلا يرام جنابه عظمة : الحكيم فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة - كذا في ( جامع البيان ) - .

    وقال في ( الانتصاف ) : هذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده ، وذلك أن الكلام مصدر بالتوحيد ، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين به ، ثم قوله : قائما بالقسط وهو التنزيه . فطال الكلام بذلك ، فجدد التوحيد تلو التنزيه ، ليلي قوله : إن الدين عند الله الإسلام ولولا هذا التجديد لكان التوحيد المتقدم ، كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به . والله أعلم .

    لطيفة :

    قال الرازي : فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهدا ؟

    الجواب : من وجوه :

    الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله ، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة . ثم بعد نصب تلك الدلائل ، هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة الوحدانية . ثم بعد حصول العلم بالوحدانية ، فهو تعالى وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى معرفة التوحيد . وإذا كان [ ص: 811 ] الأمر كذلك ، كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ثم ساق بقية الوجوه فانظره .

    وقال العارف الشعراني ، قدس سره ، في كتاب ( الجواهر والدرر ) : سألت أخي أفضل الدين : لم شهد الحق تعالى لنفسه بأنه لا إله إلا هو ؟ فقال - رضي الله عنه - : لينبه عباده على غناه عن توحيدهم له ، وأنه هو الموحد نفسه بنفسه . فقلت له : فلم عطف الملائكة على نفسه دون غيرهم ؟ فقال : لأن علمهم بالتوحيد لم يكن حاصلا من النظر في الأدلة كالبشر ، وإنما كان علمهم بذلك حاصلا من التجلي الإلهي ، وذلك أقوى العلوم وأصدقها ، فلذلك قدموا في الذكر على أولي العلم . وأيضا فإن الملائكة واسطة بين الحق وبين رسله ، فناسب ذكرهم في الوسط . فاعلم ذلك ، انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 19 ] إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب

    إن الدين عند الله الإسلام جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة - قاله أبو السعود - وفي الأخرى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وما اختلف الذين أوتوا الكتاب مطلقا ، أو اليهود ، في دين [ ص: 812 ] الإسلام : إلا من بعد ما جاءهم العلم أي : إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه . ولم يكن اختلافهم لشبهة عندهم ، بل : بغيا بينهم أي : حسدا كائنا بينهم ، وطلبا للرئاسة . وهذا تشنيع عليهم إثر تشنيع : ومن يكفر بآيات الله المنزلة : فإن الله سريع الحساب قائم مقام جواب الشرط ، علة له . أي : فإنه تعالى يجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب . فإنه سريع الحساب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 20 ] فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .

    فإن حاجوك في الدين وجادلوك فيه بعد إقامة تلك الآيات : فقل أسلمت وجهي لله أي : انقدت لآياته المنزلة ، وأخلصت نفسي وعبادتي له ، لا أشرك فيها غيره . قال أبو السعود : وإنما عبر عن النفس بالوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ، ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة ، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء : ومن اتبعن عطف على الضمير المتصل .

    لطيفة :

    هل قوله تعالى : فقل أسلمت وجهي لله إعراض على المحاجة أو هو محاجة وإظهار للدليل ؟ فمن قائل بالأول ، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات الجمة بالقرآن وغيره . فبعد هذا قال : فإن حاجوك فقل أسلمت إلخ . يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم مهتدين . وإن أعرضتم ، فإن الله [ ص: 813 ] تعالى من وراء مجازاتكم . وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام . فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له ، مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد .

    فهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . ومن قائل بالثاني ، أعني : أنه محاجة . وفي كيفية الاستدلال منها ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقا في قوله ، صادقا في دينه . فأمر الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يتبع ملته فقال : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ثم إنه تعالى أمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين فقول محمد - صلى الله عليه وسلم - : أسلمت وجهي كقول إبراهيم عليه السلام : وجهت وجهي أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة ، وأخلصت له . فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة . فكان هذا من باب التمسك بالالتزامات ، وداخلا تحت قوله : وجادلهم بالتي هي أحسن - نقله الرازي - : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أي : الذين [ ص: 814 ] لا كتاب لهم ، كمشركي العرب : أأسلمتم لهذه الآيات كما أسلمت ، أم أنتم بعد على الكفر . قال الزمخشري : يعني : أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم ، أم أنتم بعد على كفركم ؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته : هل فهمتها ؟ ومنه قوله عز وعلا : فهل أنتم منتهون بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان . وكذلك في : ( هل فهمتها ) توبيخ بالبلادة وقلة القريحة . وفي : فهل أنتم منتهون بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى فإن أسلموا فقد اهتدوا أي : خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم : وإن تولوا عن هداك وهديك : فإنما عليك البلاغ أي : تبليغ آيات الله ، لا الإكراه إذا عاندوك ، إذ ليس عليك هداهم : والله بصير بالعباد وعد ووعيد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #154
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 815 الى صـ 820
    الحلقة (154)


    قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث . فمن ذلك قوله تعالى : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وقال تعالى : تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وفي [ ص: 815 ] الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم ، من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك . [ ص: 816 ] وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أهل النار » . رواه مسلم . وقال - صلى الله عليه وسلم - : « بعثت إلى الأحمر والأسود » . وقال : « كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة » . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .

    [ ص: 817 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 21 ] إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم

    إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وهم اليهود . قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ، وقتلوا حزقيال عليه السلام ، قتله قاض يهودي لما نهاه عن منكر فعله ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم عليهما السلام . ولما كان المخاطبون راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم . وقوله تعالى : بغير حق إشارة إلى أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق ، في اعتقادهم أيضا ، فهو أبلغ في التشنيع عليهم : فبشرهم بعذاب أليم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 22 ] أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .

    أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة أي : بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين . أما الدنيا فإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن والخزي ، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة ، والاسترقاق لهم ، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم . وأما حبوطها في الآخرة ، فإبدال الثواب بالعذاب الأليم وما لهم من ناصرين ينصرونهم من عذاب الله . وقد دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف ، وعظم ذنب قاتله ، لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى ، وقتل الأنبياء .

    قال الحاكم : وتدل على صحة ما قيل : إنه يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه . وأن ذلك يكون أولى لما فيه من إعزاز الدين . ففي الحديث : « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر » .

    [ ص: 818 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 23 ] ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون

    ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب التوراة . والمراد بهم أحبار اليهود : يدعون إلى كتاب الله وهو القرآن : ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، إذ قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله : وهم معرضون حال من فريق ، أي : معرضون عن قبول حكمه . أو اعتراض ، أي : وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق ، والإصرار على الباطل . ومن المفسرين من حمل قوله : يدعون إلى كتاب الله على التوراة ، وأن الآية إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما زنا منهم اثنان ، فحكم عليهما بالرجم ، فأبوا وقالوا : لا نجد في كتابنا إلا التحميم ، فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم ، فرجما ، فغضبوا ، فشنع عليهم بهذه الآية . والله أعلم .

    [ ص: 819 ] قال بعض المفسرين : وللآية ثمرتان :

    الأولى : أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة . وقد قال العلماء رضي الله عنهم : يستحب أن يقول سمعا وطاعة ، لقوله تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون

    الثمرة الثانية : أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديين ، ونزلت الآية مقررة له . انتهى . أي : على القول بذلك ، والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 24 ] ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون

    ذلك إشارة إلى التولي والإعراض : بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات أي : بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم : وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون من قولهم ذلك ، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون . ثم رد قولهم المذكور ، وأبطل ما غرهم باستعظام ما أعد لهم ، وتهويله ، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 25 ] فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

    فكيف يصنعون ، وكيف تكون حالتهم : إذا جمعناهم ليوم أي : في يوم : [ ص: 820 ] لا ريب فيه أي : لا شك ، وهو يوم القيامة : ووفيت كل نفس ما كسبت أي : جزاء ما عملت من خير أو شر : وهم لا يظلمون الضمير لكل نفس على المعنى ، لأنه في معنى كل إنسان . أي : لا يظلمون بزيادة عذاب ، أو بنقص ثواب ، ثم علم تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كيف يدعوه ويمجده بقوله : القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 26 ] قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .

    قل اللهم مالك الملك أي : مالك جنس الملك على الإطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء : إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة ، من غير مشارك ولا ممانع : تؤتي الملك من تشاء بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك ، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة ، وكون مالكية غيره بطريق المجاز ، كما ينبئ عنه إيثار ( الإيتاء ) الذي هو مجرد الإعطاء على ( التمليك ) المؤذن بثبوت المالكية حقيقة - أفاده أبو السعود - . وفي التعبير بـ ( من ) العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله ، وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب ، كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي ، إلى من نال الملك بسببها ، وعن الاستناد إليها ، من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم ، وصنوف أهل الأقطار ، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض بظهور ملك يوم الدين - كذا في البقاعي - : وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #155
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 821 الى صـ 826
    الحلقة (155)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 27 ] تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب

    تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل أي : تدخل أحدهما في الآخر ، إما بالتعقيب أو بالزيادة والنقص : وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي كالحيوان من النطف والنطف منه ، والبيض من الطير وعكسه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر وبالعكس . قال القفال : والكلمة محتملة للكل ، أما الكفر والإيمان فقال تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه يريد : كان كافرا فهديناه ، فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعلها قبل ذلك ميتة ، فقال : يحيي الأرض بعد موتها وقال : فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها وقال : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون وترزق من تشاء بغير حساب أي : رزقا واسعا غير محدود .

    [ ص: 822 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 28 ] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير

    لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء جمع ولي ، ومعانيه كثيرة ، منه : المحب والصديق والنصير . قال الزمخشري : نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام ، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر . وقد كرر ذلك في القرآن : ومن يتولهم منكم فإنه منهم لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لا تجد قوما يؤمنون بالله الآية ، والمحبة في الله ، والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان . وقوله تعالى : من دون المؤمنين حال . أي : متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا ، وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة ، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة : ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء أي : ومن يوال الكفرة فليس من [ ص: 823 ] ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية ، يعني : أنه منسلخ من ولاية الله رأسا . وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان ، قال :


    تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب


    أفاده الزمخشري إلا أن تتقوا منهم تقاة أي : تخافوا منهم محذورا . فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه ، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم . وأصل : تقاة وقية ، ثم أبدلت الواو تاء ، كتخمة وتهمة ، وقلبت الياء ألفا . وفي المحكم : تقاة : يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون جمعا ، والمصدر أجود ، لأن في القراءة الأخرى : تقية .

    تنبيه :

    قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار ، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله : ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ثم استثنى تعالى التقية فرخص في موالاتهم لأجلها ، فتجوز معاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة لهم والبغضاء وانتظار زوال المانع . وقد قال الحاكم : في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة اتقاء لشرهم. قال : وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب ، وقال الصادق : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني . وعن الحسن : تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان .

    [ ص: 824 ] واعلم أن الموالاة ، التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار ، لا تجوز . فإن قيل : قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة ، وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف ، فجواب ذلك : أن المراد موالاتهم في أمر الدين ، وفيما فيه تعظيم لهم . فإن قيل . في سبب نزول الآية أنه - صلى الله عليه وسلم - منع عبادة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش ! وقد حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود على حرب قريش ، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم . وقد ذكر الراضي بالله أنه يجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين. قال : وقد حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود على حرب قريش وغيرها ، إلى أن نقضوه يوم الأحزاب . وحد - صلى الله عليه وسلم - الحلف بينه وبين خزاعة . قال الراضي بالله : وهو ظاهر عن آبائنا عليهم السلام ، وقد استعان علي عليه السلام بقتلة عثمان . ولعل الجواب - والله أعلم - أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها . ويحمل على هذا استعانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لليهود . وممنوعة مع عدم الحاجة ، أو خشية مضرة منهم . وعليه يحمل حديث عبادة بن الصامت . فصارت الموالاة المحظورة تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين ، والمودة للكفار على كفرهم ، ولا لبس في تحريم ذلك ، ولا يدخله استثناء والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمصادقة بإظهار الأسرار ونحو ذلك ، فلا لبس في تحريم ذلك ولا يدخله استثناء ، والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين ، فظاهر كلام الزمخشري أنه لا يجوز إلا للتقية . فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاص ، ولكن أين تبلغ معصيته ؟ يحتاج إلى تفصيل : إن كانت الموالاة بمعنى الموادة ، وهي أن يوده لمعصيته كان ذلك كالرضا بالمعصية . وإن كانت الموالاة كفرا ، كفر . وإن كانت فسقا ، فسق . وإن كانت لا توجب كفرا ولا فسقا ، لم يكفر ولم يفسق ، وإن كانت المولاة بمعنى المحالفة والمناصرة ، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب ، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم ، ويخالفونهم على ذلك ، فهذا لا حرج فيه ، بل هو واجب . وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين والتحكم عليهم ، فهذه معصية [ ص: 825 ] بلا إشكال ، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المسلمين ويحب سلامة الكافرين لا لكفرهم ، بل ليد لهم عليه أو لقرابة أو نحو ذلك ، فهذا معصية بلا إشكال . لكن لا تبلغ حدها الكفر ، لأنه لم يرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة .

    [ ص: 826 ] وقال الراضي بالله : إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس : « ظاهرك علينا » . وقد اعتذر بأنه خرج مكرها . وأما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز لا ليستعين به على المسلمين ، ولا لإيناسه . وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز ، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس الروم ، فصار تحقيق المذهب أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضا بالكفر . والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضا بالفسق . إن قيل : فما حكم من يجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات وأنواع الظلم ؟ قلنا : عاص بلا إشكال ، وفاسق بلا إشكال ، لأنه صار من جملتهم . وفسقهم معلوم . فإن قيل : فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين ؟ قلنا : صار باغيا ، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم . فإن قيل : حكي عن المهدي علي بن محمد عليه السلام أنه كفر من تجند مع سلطان اليمن وقضى بردته، قلنا : هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعي . وإن ساغ أن نقول : ذلك اصطلاح لأمر الإمام كما رد الهادي عليه السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام كان ذلك محتملا - انتهى كلامه رحمه الله .

    ومن هذه الآية استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف . وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه : ( إيثار الحق على الخلق ) فقال ما نصه :




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #156
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 827 الى صـ 832
    الحلقة (156)

    وزاد الحق غموضا وخفاء أمران :

    أحدهما : خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام . وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوا لأكثر الخلق . وقد صح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين ، فأما أحدهما : فبثثـته في الناس ، وأما الآخر : فلو بثثـته لقطع هذا البلعوم . وما زال الأمر في ذلك [ ص: 827 ] يتفاحش . وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة ( المقصد الأسنى ) ولوح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح ( الرحمن الرحيم ) فأثبت حكمة الله ورحمته ، وجود الكلام في ذلك ، وظن أنهم لا يفهمون المخالفة ، لأن شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة ، ولذلك طوى ذلك ، وأضرب عنه في موضعه ، وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار .

    وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات ( البرهان ) في مسألة قدم القرآن . والرازي في كتابه المسمى بـ ( الأربعين في أصول الدين ) إلى آخر ما ساقه المرتضي فانظره .

    ويحذركم الله نفسه أي : ذاته المقدسة ، فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه ، وموالاة أعدائه . وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي في القبح ، وذكر النفس ، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى ، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة : وإلى الله المصير أي : المنقلب والمرجع ليجازي كل عامل بعمله .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 29 ] قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير

    قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قديرهذا توعد . وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم وإظهارها . أو تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - . أو الكفر . وفي هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه ، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال بعد هذا :

    [ ص: 828 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 30 ] يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد .

    يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا بصور تناسبه ، أو في صحف الملائكة ، أو المعنى : جزاء ما عملت : ( و ) تجد : ( ما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه ) أي : عملها السوء : أمدا بعيدا أي : غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر ، وتود في موضع الحال . والتقدير : وتجد ما عملت من سوء محضرا ، وادة ذلك ويحذركم الله نفسه كرره ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه كذا في ( الكشاف ) .

    وقال أبو السعود : تكرير لما سبق وإعادة له ، لكن لا للتأكيد فقط ، بل لإفادة ما يفيده قوله - عز وجل - : والله رءوف بالعباد من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ، ورحمته الواسعة ، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه ، وأن تحذيره ليس مبنيا على تناسي صفة الرأفة ، بل هو متحقق مع تحققها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 31 ] قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم

    قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه تلك ، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » .

    [ ص: 829 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 32 ] قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين .

    قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا أعرضوا عن الطاعة : فإن الله لا يحب الكافرين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 33 ] إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين .

    إن الله اصطفى أي : اختار بالنبوة : آدم فخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها عما له في ذلك من الحكمة : ( و ) واصطفى : ( نوحا ) فجعله أول رسول إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه : ( و ) اصطفى : آل إبراهيم أي : عشيرته وذوي قرباه ، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية . وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة ، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية . ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : « أنا دعوة أبي إبراهيم » ( و ) اصطفى : ( آل عمران ) إذ جعل فيهم عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أوتي البينات ، وأيد بروح القدس ، والمراد بعمران هذا : والد مريم أم عيسى عليهما السلام : على العالمين أي : عالمي زمانهم . أي : [ ص: 830 ] اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه . قال السيوطي في ( الإكليل ) : يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 34 ] ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .

    ذرية أي : نسلا . نصب على البدلية من الآلين ، أو على الحالية منهما .

    لطيفة :

    الذرية مثلثة ، ولم تسمع إلا غير مهموزة . اسم لنسل الثقلين . وقد تطلق على الآباء والأصول أيضا . قال الله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون

    قال الصاغاني : وفي اشتقاقها وجهان : أحدهما : أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة . والثاني : أنها من الذر بمعنى التفريق ، لأن الله ذرهم في الأرض . ووزنها فعيلة أو فعولة أيضا . وأصلها : ذرورة ، فقلبت الراء الثالثة ياء كما في : تقضت العقاب . كذا في القاموس وشرحه .

    [ ص: 831 ] بعضها من بعض في محل النصب على أنه صفة لذرية . أي : اصطفى الآلين ، حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء والله سميع لأقوال العباد : عليم بضمائرهم وأفعالهم . وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا . ونظيره قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته وقوله : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 35 ] إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم .

    إذ قالت امرأت عمران في حيز النصب على المفعولية ، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران ، وبيان كيفيته . أي : اذكر لهم وقت قولها... إلخ . وامرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام .

    فائدة :

    قال العلامة النوري في ( غيث النفع ) : امرأت عمران رسمت بالتاء ، وكل ما في كتاب الله جل ذكره من لفظ امرأة فبالهاء . سبعة مواضع ، هذا الأول ، والثاني والثالث بيوسف امرأت العزيز تراود امرأت العزيز الآن والرابع بالقصص (امرأت [ ص: 832 ] فرعون ) والخامس والسادس والسابع بالتحريم امرأت نوح وامرأت لوط و امرأت فرعون فلو وقف عليها ، فالمكي والنحويان يقفون بالهاء ، والباقون بالتاء . انتهى .

    رب إني نذرت لك ما في بطني محررا أي : مخلصا للعبادة ، عن الشعبي . أو خادما يخدم في متعبداتك ، حرره جعله نذيرا في خدمة المعبد ما عاش ، لا يسعه تركه في دينه عن الزجاج . وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها ، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها ، لذلك جعلته للغير . والمعنى : نذرته وقفا على طاعتك ، لا أشغله بشيء من أموري . قال أبو منصور في ( التأويلات ) : جعلت ما في بطنها لله خالصا ، لم تطلب منه [ ص: 833 ] الاستئناس به ، ولا ما يطمع الناس من أولادهم ، وذلك من الصفوة التي ذكر - عز وجل - وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا حيث قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة وما سأل إبراهيم : رب هب لي من الصالحين وكقوله : والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما هكذا الواجب أن يطلب الولد ، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم . انتهىفتقبل مني إنك أنت السميع العليم أي : تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصا ، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #157
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 833 الى صـ 838
    الحلقة (157)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 36 ] فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم

    فلما وضعتها الضمير لما في بطني ، وإنما أنث على المعنى ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة : قالت رب إني وضعتها أنثى أي : وكنت رجوت أن يكون ذكرا ، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها : والله أعلم بما وضعت قرئ في السبع بسكون التاء وضمها ، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى ، إما لدفع ما يتراءى من أن قولها : رب إني وضعتها أنثى قصدت بها إعلام [ ص: 834 ] الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها ، فأزيلت الشبهة بقوله : والله أعلم بما وضعت هذا ما يتراءى لي . وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها ، وتفخيم لشأنه ، وتجهيل لها بقدره ، أي : والله أعلم بالنفس التي وضعتها ، وما علق بها من عظائم الأمور ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، وهي غافلة عن ذلك . وعلى القراءة الثانية أعني : ضم التاء ، فالاعتراض من كلامها ، إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته ، أو لما ذكروه من قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته ، أو تسلية نفسها على معنى : لعل لله تعالى فيه سرا وحكمة ، ولعل هذا الأنثى خير من الذكر : وليس الذكر كالأنثى جملة معترضة أيضا ، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى ، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لا سيما في هذا المقام ، أعني : مقام قصد إخلاص النذير للعبادة . فإن الذكر يفضلها من وجوه : منها : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان .

    ومنها : أن الذكر يصلح - لقوته وشدته - للخدمة دون الأنثى ، فإنها ضعيفة ، لا تقوى على الخدمة . ومنها : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ، وليس كذلك الأنثى . ومنها : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى . فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام . واللام في ( الذكر والأنثى ) على هذا الملحظ ، للجنس - كذا ظهر لي - وعلى قولهم : اللام للعهد فيهما ، أي : ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالا ، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار ، كالأنثى التي وهبت لها . فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور . هذا ، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها ، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية ، وصلاحية خدمة المتعبدات ، فإنهن بمعزل عن ذلك ، فاللام للجنس .

    لطيفة :

    قيل : قياس كونه من قولها أن يكون ( وليست الأنثى كالذكر ( فإن مقصودها تنقيص [ ص: 835 ] الأنثى بالنسبة إلى الذكر . والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل ، لا العكس . قال الناصر في ( الانتصاف ) : وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا ، فلم يثبت عين ما قيل . ألا ترى إلى قوله تعالى : لستن كأحد من النساء فنفى عن الكامل شبه الناقص ، مع أن الكمال لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت بالنسبة إلى عموم النساء ، وعلى ذلك جاءت عبارة ( امرأة عمران ) ، والله أعلم . ومنه أيضا : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون انتهى .

    وإني سميتها مريم قال المفسرون : هي في لغتهم بمعنى العابدة ، سمتها بذلك رجاء وتفاؤلا أن يكون فعلها مطابقا لاسمها . لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معـناه : ( مرارة أو مر البحر ( ، فلينظر . قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع ، لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع ، كما فيها مشروعية التسمية للأم ، وأنها لا تختص بالأب . ثم طلبت عصمتها فقالت : وإني أعيذها بك أي : أجيرها بحفظك : وذريتها من الشيطان الرجيم أي : المطرود لمخالفتك ، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطانا يكون سببا لطردهما .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 37 ] فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب

    فتقبلها ربها بقبول حسن أي : قبلها أو تكفل بها . ولم يقل : ( بتقبل )، [ ص: 836 ] للجمع بين الأمرين : التقبل الذي هو الترقي في القبول ، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة ، قال المهايمي : بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء وأنبتها نباتا حسنا بجعل ذريتها من كبار الأنبياء - انتهى - وقال الزمخشري : نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها ، أي : كالصلاح والسداد والعفة والطاعة : وكفلها زكريا أي : ضمها إليه ، وقرئ بالتشديد . ونصب زكريا ممدودا أو مقصورا ، والفاعل الله . أي : جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ، وقائما بتدبير أمورها . وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وأحب كل أن يحظى بتربيتها ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فأبوا إلا القرعة ، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيها أقلامهم ، على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها ، فطفا قلم زكريا ، ورسبت أقلامهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى : إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم فأخذها زكريا ورباها في حجر خالتها ، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء ، انزوت في محرابها تتعبد فيه ، وصارت بحيث : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب

    في الآية مسائل :

    الأولى : في معنى المحراب : في القاموس وشرحه ما نصه : والمحراب : الغرفة والموضع العالي ، نقله الهروي في غريبه عن الأصمعي ، قال وضاح اليمن :


    ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما


    وقال أبو عبيدة : المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها . قال : وكذلك هو من المساجد ، [ ص: 837 ] وعن الأصمعي : العرب تسمي القصر محرابا لشرفه . وقال الأزهري : المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد . قال ابن الأنباري : سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه ، وبعده من القوم . ومنه يقال : فلان حرب لفلان ، إذا كان بينهما بعد وتباغض . وفي المصباح : ويقال هو مأخوذ من المحاربة ؛ لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه ، ثم قال : ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها . انتهى .

    الثانية : في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى ، كما وجد ، عند خبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - المستشهد بمكة ، قطف عنب ، كما في البخاري . وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة ، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعراني في ( اليواقيت ) عن العارف أبي الحسن الشاذلي - قدس سره - أنه قال : إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بداياتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلا ليقينها ، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه ، فقيل لها : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا انتهى .

    الثالثة : قوله تعالى : إن الله يرزق إلخ تعليل لكونه من عند الله . إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب ، وإما من كلامه - عز وجل - فهو مستأنف ، ومعنى : بغير حساب أي : بغير تقدير لكثرته . وإما بغير استحقاق تفضلا منه تعالى .

    الرابعة : زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما السلام ، ومعنى زكريا : تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل .

    [ ص: 838 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 38 ] هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء

    هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء كلام مستأنف ، وقصة مستقلة ، سيقت في تضاعيف حكاية مريم ، لما بينهما من قوة الارتباط ، وشدة الاشتباك ، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عمران . فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين ، و : ( هنا ) ظرف مكان ، أي : في ذلك المكان ، حيث هو عند مريم في المحراب ، أو ظرف زمان أي : في ذلك الوقت ، إذ يستعار ( هنا وثمت وحيث ) للزمان ، دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى ، رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى . وإن كانت عاقرا عجوزا كذا في أبي السعود والذرية هنا الولد . قال الزمخشري : تقع على الواحد والجمع ، وقد سبق الكلام عليها قريبا عند قوله تعالى : ذرية بعضها من بعض قوله : طيبة بمعنى : مطيعة لك ، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية : رب إني نذرت لك إلخ . وقوله تعالى : إنك سميع الدعاء أي : مجيبه ، وقد أجابه الحق تعالى ، فأرسل إليه الملائكة مبشرة كما قال تعالى :




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #158
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 839 الى صـ 844
    الحلقة (158)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 39 ] فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين

    فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك أي : على ألسنتنا : بيحيى وقد قرئ في السبع بكسر : ( إن ) وفتحها ، ولفظ يحيى معرب عن يوحنا [ ص: 839 ] اسمه في العبرانية . ومعنى يوحنا : نعمة الرب ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل : مصدقا بكلمة من الله أي : بنبي خلق بكلمة ( كن ) من غير أب . يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو . وذلك عيسى عليه السلام : وسيدا أي : يسود قومه ويفوقهم : وحصورا أي : لا يقرب النساء حصرا لنفسه ، أي : منعا لها عن الشهوات عفة وزهدا واجتهادا في الطاعة : ونبيا من الصالحين أي : ناشئا منهم ؛ لأنه من أصلابهم . أو كائنا من جملتهم ، كقوله : وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 40 ] قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء

    قال رب أنى أي : كيف ، أو من أين : يكون لي غلام وقد بلغني الكبر أي : أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني : وامرأتي عاقر أي : ذات عقر ، فهو على النسب ، وهو في المعنى مفعول أي : معقورة ، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث : قال كذلك يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها ؛ لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب ، بل : الله يفعل ما يشاء لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر . وفي إعراب : كذلك أوجه . منها : أنه خبر لمحذوف أي : الأمر كذلك . وقوله تعالى : الله يفعل ما يشاء بيان له . ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف . أي : الله يفعل ما يشاء فعلا من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر .

    [ ص: 840 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 41 ] قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار .

    قال زكريا : رب اجعل لي آية أي : علامة أعرف بها حصول الحمل . وإنما سألها لكون العلوق أمرا خفيا لا يوقف عليه ، فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها ، ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا : قال الله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس أي : أن لا تقدر على تكليمهم : ثلاثة أيام إلا رمزا أي : إشارة بيد أو رأس . وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكرا على ما أنعم به عليه . وقيل : كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه - حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين - : واذكر ربك كثيرا أي : ذكرا كثيرا : وسبح أي : وسبحه : بالعشي وهو آخر النهار . ويقع العشي أيضا على ما بين الزوال والغروب : والإبكار وهو الغدوة ، أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس . قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان . قال محمد بن كعب : لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ؛ لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر - أخرجه ابن أبي حاتم - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 42 ] وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين

    وإذ قالت الملائكة يا مريم شروع في تتمة فضائل آل عمران . قال المهايمي : فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الولي ، ويفارق النبي في دعوى النبوة : إن الله اصطفاك بالتقريب والمحبة : وطهرك عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه : واصطفاك على نساء العالمين [ ص: 841 ] بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولدا من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء . وفي ( الإكليل ) : استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم . كما استدل بها من فضلها على بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه . وجوابه : أن المراد عالمي زمانها قاله السدي - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 43 ] يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين

    يا مريم اقنتي لربك أي : اعبديه شكرا على اصطفائه : واسجدي واركعي مع الراكعين أي : لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قربا . قال البقاعي : الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره ، وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ، ولتكن صلاتك مع المصلين ، أي : في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال . ثم قال : وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة ، فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم السلام ، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد ، لا يحسن جعله فيه على ظاهره . ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء :

    الأول : إطلاق لفظها من غير بيان كيفية .

    والثاني : إطلاق لفظ السجود مجردا .

    والثالث : إطلاقه مقرونا بركوع أو حبو أو خرور على الوجه ، ونحو ذلك .

    ثم ساق البقاعي ما وقع من النصوص في ذلك ، وقال بعد : فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها : أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك ، وحينئذ يسمى صلاة . وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم . وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع ، والخضوع : التطامن ، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع ، فالظاهر أن معناه : فعل الشعب كله ساجدا لله ، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان ، منها الصلاة . يقال : ركع أي : صلى ، وركع إذا انحنى كثيرا ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته [ ص: 842 ] في الركوع - والله أعلم - واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة ، التي وقعت لي ، في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها . على أني سألت عن صلاة اليهود الآن ، فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في قوله تعالى : واركعوا مع الراكعين بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا ابن عطية وغيرهما . انتهى كلام البقاعي .

    لطيفة :

    قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة ، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 44 ] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون

    ذلك إشارة إلى ما سبق : من أنباء الغيب أي : الأنباء المغيبة عنك : نوحيه إليك مطابقا لما في كتابهم . وتذكير الضمير في : نوحيه بجعل مرجعه ذلك : وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم أي : وما كنت معاينا لفعلهم ، وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم ، أي : سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة : وما كنت لديهم إذ يختصمون بسببها تنافسا في كفالتها . وقد روي عن قتادة وغيره : أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم ، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها . فألقوا أقلامهم ، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ، فإنه ثبت . ويقال إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء ، والله أعلم .

    قال أبو مسلم : معنى يلقون [ ص: 843 ] أقلامهم ، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : فساهم فكان من المدحضين وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور . وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما . وقال السيوطي في ( الإكليل ) : هذه الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع . وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية ، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس .

    لطيفة :

    قال الزمخشري : فإن قلت : لم نفيت المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها ، وهو موهوم ؟ قلت : كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة . ونحوه : وما كنت بجانب الغربي وما كنت بجانب الطور وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم - انتهى - وبالجملة : فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحيا على طريقة التهكم بمنكريه .

    [ ص: 844 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 45 ] إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين

    إذ قالت الملائكة شروع في قصة عيسى عليه السلام : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أي : بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب : اسمه ذكر الضمير الراجع إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر . أي : اسمه الذي يميزه لقبا : المسيح وعلما : عيسى معرب يسوع بالسين المهملة ، كلمة يونانية معناها ( مخلص ) ويرادفها ( يشوع ) بالمعجمة ، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل ، وفيها أن المسيح بمعنى : الممسوح أو المدهون . قال البقاعي : وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم : من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهرا متأهلا للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركا ، فدل سبحانه على أن عيسى عليه السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح ، وإن لم يمسح . انتهى . وإنما قال : ابن مريم مع كون الخطاب لها ، تنبيها على أنه يولد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه ، وبذلك فضلت على نساء العالمين : وجيها في الدنيا والآخرة أي : سيدا ومعظما فيهما : ومن المقربين أي : من الله - عز وجل - .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #159
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 845 الى صـ 850
    الحلقة (159)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 46 ] ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين

    ويكلم الناس في المهد في محل النصب على الحال : وكهلا عطف عليه بمعنى ويكلم الناس ، حال كونه طفلا وكهلا ، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين ، وذلك لا شك أنه غاية في المعجز . وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا . والمهد : الموضع الذي يهيأ للصبي ويوطأ لينام فيه . والكهل : من وخطه الشيب ، أو من جاوز الثلاثين إلى [ ص: 845 ] الأربعين أو الخمسين . قال ابن الأعرابي : يقال للغلام مراهق ، ثم محتلم ، ثم يقال : تخرج وجهه ، ثم اتصلت لحيته ، ثم مجتمع ، ثم كهل ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . قال الأزهري : وقيل له كهل حينئذ : لانتهاء شبابه وكمال قوته . وقوله تعالى : ومن الصالحين قال ابن جرير : يعني : من عدادهم وأوليائهم ؛ لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 47 ] قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

    قالت مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر أي : لست بذات زوج : قال كذلك أي : على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر : الله يخلق ما يشاء ولا يحتاج إلى سبب ، ولا يعجزه شيء ، وصرح ههنا بقوله : ( يخلق ما يشاء ) ولم يقل : ( يفعل ) كما في قصة زكريا ، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكون أنسب بهذا المقام ؛ لئلا يبقى لمبطل شبهة ، وأكد ذلك بقوله :

    إذا قضى أمرا من الأمور أي : أراد شيئا كما في قوله تعالى : إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر أي : إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر . وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة .

    [ ص: 846 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 48 ] ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل

    ويعلمه الكتاب أي : الكتابة أو جنس الكتب الإلهية : والحكمة أي : تهذيب الأخلاق : والتوراة والإنجيل إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة ، لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما .

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 49 ] ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين

    ورسولا إلى بني إسرائيل منصوب بمضمر يقود إليه المعنى ، معطوف على ( يعلمه ) أي : ويجعله رسولا إلى جميع الإسرائيليين . وقيل : معطوف على الأحوال السابقة : أني قد جئتكم معمول لـ ( رسولا ) لما فيه من معنى النطق . أي : رسولا ناطقا بأني قد جئتكم : بآية من ربكم التنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا أي : متلبسا ومحتجا بآية : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه الضمير للكاف ، أي : في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير : فيكون طيرا حقيقيا ذا حياة : بإذن الله أي : أمره ، لا باستقلال مني : وأبرئ الأكمه الذي ولد أعمى : والأبرص المبتلى بالبرص ، وهو بياض يظهر في البشرة لفساد مزاج . وفي ( الإكليل ) : هذه الآية أصل لما يقوله الأطباء : إن الأكمه - الذي ولد أعمى - والأبرص لا يمكن برؤهما ، كإحياء الموتى : وأحيي الموتى بإذن الله لا باستقلال مني . نفيا لتوهم [ ص: 847 ] الألوهية ، فهذه معجزات قاهرة فعلية : وأنبئكم أي : أخبركم : بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم مما لم أعاينه : إن في ذلك لآية أي : دلالة : لكم على صدقي في دعوى الرسالة : إن كنتم مؤمنين مصدقين بآيات الله . وقد ذكر في الإنجيل أنه عليه السلام رد بصر أعميين في كفر ناحوم ، وأعمى في بيت صيدا ، ورجل ولد أعمى في أورشليم ، وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة ، وأبرأ أبرص في كفر ناحوم ، وأقام ابن الأرملة من الموت في بلدة نايين ، وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم ، والعازر في بيت عينا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 50 ] ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون

    ومصدقا حال معطوفة على قوله " بآية " أي : جئتكم بآية ومصدقا : لما بين يدي من التوراة أي : مقررا لهما ومثبتا : ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين . ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه والله أعلم . انتهى .

    أقول : من البعض الذي أحله عيسى عليه السلام لهم : فعل الخير في السبوت ، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت ، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيليين مرة ، أبصر مريضا فسألوه : هل يحل أن يشفي في السبت ؟ فقال لهم عليه السلام : أي إنسان منكم يكون له خروف ، فيسقط في حفرة يوم السبت [ ص: 848 ] ولا يمسكه ويرفعه ؟ والإنسان كم يفضل الخروف ؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت ، ثم أبرأ ذلك المريض - كذا في الإصحاح الثاني عشر ، من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل متى - وفيه في الإصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول المسيح عليه السلام : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل - انتهى - .

    وقد اتفقوا على أن المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها ، ثم جاء بولس ومن بعده من الرهبان ، فادعوا أن المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم ، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه . وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه ، وأغناهم بشريعته الروحانية ، فنقضوا الناموس الذي جاء لإكماله المسيح . فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسوي ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية ، وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس ، إذ قال لهم : لا شيء نجس العين ، كما في رسالته إلى أهل رومية . ومما نقضوه تعظيم السبت ، فقد كان حكما أبديا في الشريعة الموسوية ، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل ، وكان من عمل فيه عملا واجب القتل . ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة . ومنه حكم الختان الذي كان أبديا في شريعة إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة موسى ، وقد ختن عيسى عليه السلام ، فنسخ حكمه الرهبان بعده ، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة ، إلا الزنى ، كما بين في ( إظهار الحق ) ، في الباب الثالث في إثبات النسخ ، وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى : وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا فانظرها وجئتكم بآية من ربكم كرره تأكيدا ، وليبنى عليه قوله : فاتقوا الله وأطيعون

    [ ص: 849 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 51 ] إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم

    إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا أي : ما آمركم به : صراط مستقيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 52 ] فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون

    فلما أحس عيسى منهم أي : من بني إسرائيل : الكفر أي : علمه ووجده منهم : قال من أنصاري إلى الله جمع نصير . والجار متعلق بمحذوف وقع حالا ، أي : من أنصاري متوجها إلى الله ملتجئا إليه : قال الحواريون وهم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام فوازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه - جمع حواري - وهو الناصر أو المبالغ في النصرة ، والوزير والخليل والخالص كما في ( التوشيح ) : نحن أنصار الله أي : أنصار دينه ورسوله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون أي : منقادون لرسالتك . ولما أشهدوه عليه السلام أشهدوا الله تعالى الآمر بما أنزل من الإيمان به وبأوامره فقالوا :القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 53 ] ربنا آمنا بما أنـزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين

    ربنا آمنا بما أنـزلت واتبعنا الرسول فأشهدناك على ما نحن عليه من تصديقنا دعواه : فاكتبنا أي : جزاء على إشهادنا إياك : مع الشاهدين أي : مع الذين يشهدون بوحدانيتك . وهم المتقدمون في آية : شهد الله أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم .

    [ ص: 850 ] لطيفة :

    جاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر ما يأتي :

    1 - ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف .

    2 - وأما أسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه : الأول : سمعان ، الذي يقال له بطرس وأندراوسأخوه ، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه .

    3 - فيلبس وبرثو لماوس ، توما ومتى العشار ، يعقوب بن حلفى ، ولباوس الملقب تداوس .

    4 - سمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه .

    وكانوا يسمون رسل عيسى عليه السلام ، لأنه بعثهم إلى الإسرائيليين الضالين يدعونهم إلى الحق الذي جاء به ، فبذلوا الجهد في بثه وانتشاره وإقامته ، إلى أن جاء بولس فسلبهم بخداعه ، دين المسيح الصحيح ، فلم يسمعوا له بعد من خبر ، ولا وقفوا له على أثر ، وطمس لهم رسوم التوراة ، وحلل لهم كل محرم ، كما بين ذلك في غير هذا الموضع .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #160
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,469

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 851 الى صـ 856
    الحلقة (160)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 54 ] ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين

    ومكروا أي : الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ، بأن هموا بالفتك به وإرادته بالسوء ، حيث تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملكهم : ومكر الله أي : بهم بعد ذلك فانتقم منهم ، وأورثهم ذلة مستمرة وأباد ملكهم : والله خير الماكرين أي : أقواهم مكرا ، وأنفذهم كيدا ، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب . وقال البقاعي كغيره في قوله تعالى : ومكر الله أي : بأن رفعه إليه ، وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه ، وإنما صلبوا أحدهم ، ويقال : إنه الذي دلهم . وأما هو عليه السلام ، فصانه عنده بعد رفعه [ ص: 851 ] إلى محل أوليائه وموطن قدسه ، لينـزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضربت عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر ، فكان تدميرهم في تدبيرهم . ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 55 ] إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون

    إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك أي : مستوف مدة إقامتك بين قومك . والتوفي ، كما يطلق على الإماتة ، كذلك يطلق على استيفاء الشيء . كما في كتب اللغة . ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول ، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول : لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة . وهذا الوجه ظاهر جدا ، وله نظائر في الكتاب العزيز ، قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها قال الزمخشري : يريد : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفاها حين تنام ، تشبيها للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل حيث لا يميزون ولا [ ص: 852 ] يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك - انتهى كلامه - . ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا أي : من مكرهم وخبث صحبتهم . وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته ، كقوله تعالى : بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وقوله تعالى : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقوله تعالى : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور وهو مذهب السلف قاطبة ، كما نقله الإمام الذهبي في كتاب ( العلو ) .

    قال أبو الوليد بن رشد في ( مناهج الأدلة ) : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة ( الفوق ) حتى نفتها المعتزلة ، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال : والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء ، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ، وأن من السماوات نزلت الكتب ، وإليها كان الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء ، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول . وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم - إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل . وأن إبطاله إبطال الشرائع . قال الدارمي : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته . وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب ( العلو ) فانظره ، [ ص: 853 ] هذا ، ولما كان لذوي الهمم العوال أشد التفات إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال ، بشره تعالى في ذلك بما بشره فقال : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا ، فلا يبقى منهم أحد : ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ثم فسر الحكم الواقع بين الفريقين بقوله : فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 56 ] فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 57 ] وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين

    وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين أي : يبغضهم ، فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات ، جارية مجرى الحقيقة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 58 ] ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم

    ذلك إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وهو مبتدأ وخبره : نتلوه عليك أي : من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . وقوله تعالى : من الآيات حال [ ص: 854 ] من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر : والذكر الحكيم أي : المشتمل على الحكم ، أو المحكم المعصوم من تطرق الخلل إليه ، والمراد به : القرآن .

    تنبيه :

    في قوله : إني متوفيك وجوه في التأويل كثيرة ، إلا أن الذي فتح المولى به مما أسلفناه هو أرجح التأويلات والله أعلم ، وبه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية حجة علينا ، لإفادتها وفاته عليه السلام ، أي : بالصلب ، ثم رفعه إلى السماء ، أعني : قيامه حيا بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن في أول ساعة من ليلة السبت ، وأقام في القبر إلى صبيحة الأحد ، ثم انبعث حيا ، وتراءى للنسوة اللائي جئن إلى قبره زائرات ، وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أناجيلهم الأربع ، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم ، ثم أتباعهم ، وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتيا . ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب . وقد بين علماؤنا بطلان معتقدهم هذا في تآليف وتحارير فانظره في ( حواشي تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ) تأليف الشيخ : عبد الله بك .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 59 ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون

    إن مثل عيسى أي : شأنه العجيب في إنشائه بالقدرة من غير أب : عند الله أي : في تقديره وحكمه : كمثل آدم أي : كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب : خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون جملة مفسرة للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما . وحسم لمادة شبه الخصوم ، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه السلام بغير أب وأم ، مما لا يكاد يصح - قاله أبو السعود - وقوله : خلقه أي : صور [ ص: 855 ] جسد آدم من تراب ثم قال له : كن أي : بشرا كاملا روحا وجسدا ، فإن أمره تعالى يفيد قوة التكون . قال البقاعي : وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في : فيكون دون الماضي ، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويرا لها ؛ إشارة إلى أنه كان الأمر من غير تخلف ، وتنبيها إلى أن هذا هو الشأن دائما يتجدد مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلا ، كما تقدم التصريح به في آية إذا قضى أمرا

    لطيفة :

    قال الرازي : الحكماء قالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه :

    الأول : ليكون متواضعا .

    الثاني : ليكون ستارا .

    الثالث : ليكون أشد التصاقا بالأرض . وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض . قال تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة

    الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية .

    الخامس : خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة والغضب . انتهى ملخصا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 60 ] الحق من ربك فلا تكن من الممترين

    الحق من ربك خبر مبتدأ محذوف ، أي : الذي قصصنا عليك من نبأ عيسى الحق ، وقيل : الحق مبتدأ ، والظرف خبر ، أي : الحق المذكور . وقيل : الحق فاعل لمضمر ، أي : جاءك الحق . وفي الحق تأويلان :

    الأول : قال أبو مسلم : المراد أن هذا الذي أنزلت [ ص: 856 ] عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلها ، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف النجار ، فالله تعالى بين أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .

    والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل ، وهو قصة آدم عليه السلام ، فإنه لا بيان أقوى منها . والله أعلم .

    فلا تكن من الممترين خطاب إما للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقة التهييج لزيادة الثبات ، أو لكل سامع .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •