تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 7 من 22 الأولىالأولى 1234567891011121314151617 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 121 إلى 140 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #121
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 611 الى صـ 616
    الحلقة (121)





    رزقهن وكسوتهن أي: على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع، أي: طعامهن ولباسهن: بالمعروف وهو قدر الميسرة كما فسره قوله تعالى: لا تكلف نفس إلا وسعها [ ص: 611 ] يعني طاقتها. والمعنى: أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا قدر ما تتسع به مقدرته، ولا يبلغ إسراف القدرة: لا تضار والدة بولدها أي: يأخذ ولدها منها بعد رضاها بإرضاعه ورغبتها في إمساكه وشدة محبتها له: ولا مولود له يعني الأب: بولده بطرح الولد عليه. يعني: لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها، تضاره بذلك. وهذا التأويل على تقدير كون تضار مبنيا للمفعول، وأما على بنائه للفاعل، فالمفعول محذوف والتقدير. لا تضارر - بكسر الراء الأولى - والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد أن ألفها الصبي: اطلب له ظئرا، وما أشبه ذلك، ولا يضارر مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه. والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد: وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه: وعلى الوارث مثل ذلك أي: على وارث الأب أو وارث الصبي مثل ما على الأب من النفقة وترك الضرار إذا لم يكن الأب: فإن أرادا يعني الزوج والمرأة: فصالا أي: فصال الصبي عن اللبن قبل الحولين - يعني: فطاما: عن تراض منهما بتراضي الأب والأم: وتشاور بمشاورتهما: فلا جناح عليهما أي: على الأب والأم إن لم يرضعا ولدهما سنتين: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها أو إرادتها أن تتزوج: فلا جناح عليكم إذا سلمتم - يعني إلى المراضع -: ما آتيتم أي: ما أردتم إيتاءه إليهن من الأجرة: بالمعروف متعلق بسلمتم أي: سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور. والمقصود: ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع، حتى يؤمن من تفريطهن بمصالح الرضيع: واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير فيه من الوعيد والتحذير عن مخالفة أحكامه ما لا يخفى.
    [ ص: 612 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [234] والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير .

    والذين يتوفون منكم أي: يموتون من رجالكم: ويذرون أي: يتركون: أزواجا بعد الموت: يتربصن أي: ينتظرن: بأنفسهن في العدة: أربعة أشهر وعشرا يعني عشرة أيام: فإذا بلغن أجلهن أي: انقضت عدتهن: فلا جناح عليكم أي: على الأولياء في تركهن: فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب والتزين: بالمعروف أي: بوجه لا ينكره الشرع. وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع، فعليهم أن يكفوهن عن ذلك. وإلا فعليهم الجناح: والله بما تعملون خبير

    اعلم أن في هذه الآية مسائل:

    الأولى: خص من عموم الآية الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ولما في الصحيحين عن سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن [ ص: 613 ] شهد بدرا - فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل. فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب. فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال: ما لي أراك تجملت للخطاب، لعلك ترجين النكاح؟ وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي. وأمرني بالتزويج إن بدا لي. وفيه قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا بأن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها حتى تطهر.

    الثانية: المراد من تربصها بنفسها: الامتناع عن النكاح، والامتناع عن التزين، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه. فالأول مجمع عليه.

    والثاني: روي فيه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وعائشة - أمهات المؤمنين - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا » . متفق عليه. وعن أم سلمة أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا. كل ذلك يقول: لا. مرتين أو ثلاثا - ثم قال: « إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة » . متفق عليه.

    وعن نافع: أن صفية بنت عبد الله اشتكت عينها - وهي حاد على زوجها ابن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان، أخرجه مالك في " الموطأ ".

    [ ص: 614 ] وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تلبس المتوفى عنها زوجها، المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب» أخرجه أبو داود والممشقة: المصبوغة بالمشق وهي: المغرة.

    وقد استنبط بعضهم وجوب الإحداد من قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن أي: من زينة وتطيب - كما قدمنا - فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو الإحداد.

    وأما الامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي فيه زوجها: فروى فيه أحمد وأهل السنن حديث فريعة بنت مالك قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه، فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة عن دار أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي، ولم يدع نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني؟ قال: تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني - أو أمر بي فدعيت - فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. وفي بعض ألفاظه: أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته، فأخذ به. وقد أعل هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به.

    [ ص: 615 ] الثالثة: أكثر الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداء بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة، فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول، بل هو توفيقي. وذهب مجاهد إلى أنهما محكمتان. كما سيأتي بيانه.

    الرابعة: أبدى المهايمي الحكمة في تحديد عدة المتوفى عنها بهذا القدر، فقال: لئلا يتعارض في قلبها حب المتوفى وحب الجديد، فأخذت مدة صبرها - وهو أربعة أشهر - وزيد عليه العشر، إذ بذلك ينقطع صبرها فتميل إلى الجديد ميلا كليا، فينقطع عن قلبها حب المتوفى، على أنه يظهر في حق المدخول بها حركة الحمل إذ تكون بعد أربعة أشهر، لكنها تبتدئ ضعيفة وتتقوى بمضي عشر أخر. ثم قال: ولم يكتف بالأقراء الدالة على عدمه ههنا، بخلاف الفراق حال الحياة، لأن الفراق الاختياري شاهد عدمه مع شهادة الأقراء، فثمة شاهدان، وههنا واحد، وعدم الحركة بعد هذه المدة يقوي شهادة الأول فيكون كالشاهد مع اليمين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [235] ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم .

    ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أي: لا حرج عليكم أيها الخاطبون، في التعريض بخطبتكم النساء المتوفى عنهن أزواجهن قبل انقضاء العدة لتتزوجوهن بعد انقضائها. والتعريض: إفهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا. كأن يقال لها: إنك جميلة أو صالحة، أو رب راغب فيك، أو من يجد مثلك. والخطبة - بالكسر -: طلب المرأة ( أو ) - فيما: أكننتم أي: أضمرتم من نكاحهن: في أنفسكم أي: [ ص: 616 ] قلوبكم، وإن كان حقه التحريم فضلا عن التعريض باللسان، لكن أباحه الله لكم، إذ: علم الله أنكم ستذكرونهن أي: لا تصبرون عن النطق برغبتكم فيهن، فرخص لكم في التعريض دون التصريح، وفيه طرف من التوبيخ على قلة التثبت، كقوله تعالى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ولكن لا تواعدوهن سرا هذا الاستدراك من قوله: فيما عرضتم به و: سرا مفعول به، لأنه بمعنى النكاح. أي: لا تواعدوهن نكاحا. أو هو بمعنى ضد الجهر والإعلان، فيكون مصدرا في موضع الحال تقديره: مستخفين بذلك والمفعول محذوف تقديره: لا تواعدوهن النكاح سرا. أو صفة لمصدر محذوف، أي: مواعدة سرا، أو التقدير في سر فيكون ظرفا. وإنما نهى عن ذلك ; لأن المواعدة بذكر الجماع والرفث بين الأجنبي والأجنبية غير جائز إجماعا، كالمواعدة بينهما على وجه السر إذ لا تنفك ظاهرا عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات.

    قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وقال أيضا: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته.

    وقوله تعالى: إلا أن تقولوا قولا معروفا أي: لا يستحيي منه عند أحد من الناس. فآل الأمر إلى أن المعنى: لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيى من ذكره فيسر، وهو التعريض ; فنصت هذه الآية على تحريم التصريح. بعد إفهام الآية الأولى لذلك، اهتماما به لما للنفس من الداعية إليه - أفاده البقاعي.

    وقال الرازي: لما أذن تعالى في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعا للريبة والغيبة، استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف. وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض. والله أعلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #122
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 617 الى صـ 622
    الحلقة (122)



    تنبيه:

    ما قدمناه من أن قوله تعالى: ولكن إلخ، استدراك من قوله: فيما عرضتم قاله أبو البقاء.

    وجعل الزمخشري المستدرك محذوفا دل عليه: ستذكرونهن أي: فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا.

    قال الناصر: وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف ; لأن المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الإباحة عقيبها. ونظير هذا النظم قوله تعالى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن الآية، ولهذا الحذف سر - والله أعلم - وهو أنه اجتنب ; لأن الإباحة لم تنسحب على الذكر مطلقا، بل اختصت بوجه واحد من وجوهه، وذلك الوجه المباح عسر التميز عما لم يبح. فذكرت مستثناة بقوله: إلا أن تقولوا قولا معروفا تنبيها على أن المحل ضيق والأمر فيه عسر، والأصل فيه الحظر. ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم. فإنه أبيح مطلقا غير مقيد ; فلذلك صدر الكلام بالإباحة والتوسعة. وجاء النهي عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلوا للإباحة وتبعا في الذكر ; لأنها حالة فاذة. والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم ولكن الأمر يتعلق به من حيث المصاحب، وهو الاعتكاف. فتفطن لهذا السر فإنه من غرائب النكت.

    ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله العقدة بالضم من النكاح وكل شيء من البيع ونحوه، وجوبه. قال الفارسي: هو من الشد والربط، وقال الرازي: أصل العقد الشد. وسميت العهود والأنكحة عقودا ; لأنها تعقد كما يعقد الحبل. وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح ; لأن العزم على الفعل يتقدمه. فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. ومعناه: ولا تعزموا وجوب النكاح لأن القصد إليه حال العدة يفيد مزيد تحريك [ ص: 618 ] من الجانبين، بحيث لا يطاق معه الصبر إلى انقضاء العدة.

    وقوله: حتى يبلغ الكتاب أجله أي: العدة المكتوبة المفروضة آخرها واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم من الميل إليهن قبل الأجل: فاحذروه واعلموا أن الله غفور يغفر ذلك الميل إذ لم يتعد العزم عقدة النكاح: حليم لا يعاجل بالعقوبة، فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة....
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [236] لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين .

    لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ( ما ) شرطية، أي: إن لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة. يعني: ولم تعينوا لهن صداقا. فـ: ( أو ) بمعنى الواو - وحينئذ فلا مهر لهن، ولكن المتعة بالمعروف كما قال تعالى: ومتعوهن أي: من مالكم جبرا لوحشة الفراق: على الموسع أي: الغني الذي يكون في سعة من غناه: قدره - بسكون الدال وبفتحها قراءتان سبعيتان - أي: يجب على الموسر قدر ما يليق بيساره: وعلى المقتر أي: المعسر الذي في ضيق من فقره، وهو المقل الفقير، يقال: اقتر إذا افتقر: قدره أي: قدر ما يليق بإعساره: متاعا بالمعروف تأكيد لـ: {متعوهن } يعني: متعوهن تمتيعا بالمعروف - أي: بالوجه المستحسن، فلا يزاد إلى نصف مهر المثل ولا ينقص إلى ما لا يعتد به -: حقا أي: ثبت ذلك ثبوتا مستقرا: على المحسنين أي: المؤمنين لأنه بدل المهر ; وذكرهم بهذا العنوان ترغيب وتحريض لهم على الإحسان إليهن بالمتعة. وإنما كانت إحسانا لأن ملاك القصد فيها ما تطيب به نفس المرأة [ ص: 619 ] ويبقى باطنها وباطن أهلها سلما ذا مودة، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. أفاده الحرالي.

    وروى الثوري عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق. ودون ذلك الكسوة. وعنه: إن كان موسرا متعها بخادم ونحوه، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب.

    وروى عبد الرزاق أن الحسن بن علي - عليهما السلام - متع بعشرة آلاف. فقالت المرأة: متاع قليل من حبيب مفارق.

    تنبيه:

    أخذ بعض المفسرين يحاول البحث بأن عنوان نفي الجناح - عما ذكر هنا - يفيد ثبوته فيما عداه، مع أنه لا جناح أيضا فيه. وتكلف للجواب - سامحه الله - ولا يخفاك أن مثل هذا العنوان كثيرا ما يراد به في التنزيل الترخيص والتسهيل، كما تكلف بعض بجعل أو بمعنى إلا أو حتى ; وجعل الحرج بمعنى المهر، مع أن الآية بينة بنفسها لا حاجة إلى أن تتجاذبها أطراف هذه الأبحاث. وعدولهم عن أقرب مما سلكوه - أعني: كون أو بمعنى الواو - مع شيوعها في آيات كثيرة - عجيب. وأعجب منه تخطئة من جنح لهذا الأقرب، مع أن مما يرشحه مساق الآية بعدها.

    وما روي في سبب نزول هذه الآية: قال الخازن: نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت: لا جناح عليكم الآية. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمتعها ولو بقلنسوتك» . وهذه الرواية - إن ثبتت - كانت شاهدة لما اعتمدناه، والله أعلم.
    [ ص: 620 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [237] وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير .

    وإن طلقتموهن - أي: الزوجات: من قبل أن تمسوهن أي: تجامعوهن. قال أبو مسلم: وإنما كنى تعالى بقوله: تمسوهن عن المجامعة، تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به وقد فرضتم أي: سميتم: لهن فريضة أي: مهرا مقدرا: فنصف ما فرضتم أي: فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك: إلا أن يعفون أي: المطلقات عن أزواجهن، فلا يطالبنهم بنصف المهر. وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا أستمتع بي فكيف آخذ منه شيئا..؟: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج، فيسوق إليها المهر كاملا، أو الولي، يعني: إذا كانت صغيرة - أو غير جائزة التصرف - فيترك نصيبها للزوج.

    قال مالك في " موطئه " في هذه الآية: هو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، وكلا التأويلين مروي عن عدة من الصحابة والتابعين.

    قال الحرالي: إذا قرن هذا الإيراد بقوله: ولا تعزموا عقدة النكاح خطابا للأزواج قوي فسر من جعل: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج معادلة للزوجات، ومن خص عفوهن بالمالكات - أي: الرشيدات - خص هذا بالأولياء.

    ونقل ابن جرير: أن الشعبي رجع إلى أنه الزوج، وكان يباهل عليه.

    وقال الزمخشري: القول بأنه الولي ظاهر الصحة.

    وقال الناصر في " حواشيه ": وصدق الزمخشري أنه قول ظاهر الصحة، عليه رونق الحق وطلاوة الصواب لوجوه ستة. ساقها بألطف بيان، فانظرها، والله أعلم.

    [ ص: 621 ] وأن تعفوا أقرب للتقوى هذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب التذكير نظرا للأشرف، وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو، وذلك لأن من سمح بترك حقه كان محسنا، وذلك عنوان التقوى: ولا تنسوا الفضل بينكم أي: التفضل بالإحسان لما فيه من الألفة وطيب الخاطر، فهو حث على العفو، فمن عفا منهما فله الفضل على الآخر، ومعلوم أن النسيان ليس في الوسع حتى ينهى عنه، فالمراد منه الترك، أي: لا تتركوه ترك المنسي، فالتعبير بالنسيان آكد في النهي، والخطاب هنا أيضا للقبيلين بالتغليب، كالذي قبله، وخصه الحرالي بالرجال، قال:

    فمن حق الزوج - الذي له فضل الرجولة - أن يكون هو العافي، وأن لا يؤخذ النساء بالعفو، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهن ولا تحريض، فمن أقبح ما يكون حمل الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها بما يصرح به قوله: وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به.

    وقد حكى الزمخشري عن جبير بن مطعم، أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها، فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو..! وعنه: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتا له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده. قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل.

    وقوله تعالى: إن الله بما تعملون بصير أي: فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم. ولما كانت الحقوق المشروعة قبل، مما قد يشق القيام بها على بعض الناس، أمروا بما يخفف عنهم عبئها ويحبب إليهم أداءها، وذلك بالمحافظة على الصلوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذا أمر بها تعالى - إثر ما تقدم - بقوله سبحانه:
    [ ص: 622 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [238] حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين .

    حافظوا على الصلوات أي: داوموا على أدائها لأوقاتها مع رعاية فرائضها وسننها من غير إخلال بشيء منها: والصلاة الوسطى أي: الوسطى بين الصلوات بمعنى المتوسطة أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط. فعلى الأول: يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين. وهل هي الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء؟! أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين. وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر. أقوال أيضا عن كثير من الأعلام، والقول الأخير جيد جدا كما لو قيل بأنها ذات الخشوع لآية: الذين هم في صلاتهم خاشعون

    وأما علماء الأثر فقد ذهبوا إلى أن المعني بالآية صلاة العصر لما في (الصحيحين) عن علي رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب (وفي رواية، يوم الخندق): « ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس » . وفي رواية: « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر » . وذكر نحوه وزاد في أخرى: ثم صلاها بين المغرب والعشاء. أخرجاه في (الصحيحين) ورواه أصحاب السنن والمسانيد والصحاح من طرق يطول ذكرها...

    وأجاب عن هذا الاستدلال من ذهب إلى غيره بأنه لم يرد الحديث مورد تفسير الآية حتى يعينها، وإنما فيه الإخبار عن كونها وسطى، وهو كذلك لأنها متوسطة وفضلى من الصلوات.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #123
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 623 الى صـ 628
    الحلقة (123)



    وما رواه مسلم عن أبي يونس - مولى عائشة - قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قال: فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن جرير عن حفصة نحو ذلك. قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو. وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير، أنهما قرآ كذلك.

    فهذا من عائشة رضي الله عنها إعلام بالمراد من (الوسطى) عندها. ضمت التأويل إلى أصل التنزيل لأمن اللبس فيه، لأن القرآن متواتر مأمون أن يزاد فيه أو ينقص. وكان في أول العهد بنسخه ربما ضم بعض الصحابة تفسيرا إليه، أو حرفا يقرؤه. ولذا لما خشي عثمان رضي الله عنه أن يرتاب في كونه من التنزيل - مع أنه ليس منه - أمر بأن تجرد المصاحف في عهده مما زيد فيها من التأويل وحروف القراءات التي انفرد بعض الصحب، وأن يقتصر على المتواتر تنزيله وتلقيه من النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال القاضي أبو بكر في " الانتصار ": لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته، كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد....

    هذا وقد أيد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر، بأنها خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة عليها، والتغليظ لمن ضيعها، فقد قال أبو المليح: كنا مع بريدة في غزوة، فقال في يوم ذي غيم: بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من ترك صلاة العصر فقد [ ص: 624 ] حبط عمله » . أخرجه البخاري. وقوله: « بكروا بصلاة العصر » ، أي: قدموها في أول وقتها.

    وروى الشيخان عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله..! » أي: نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا فاقدهما. والمعنى: ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله.

    وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطي في كتابه " كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى " ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل، قال عليه الرحمة:

    فمنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم.

    ومنها: حبوط عمل تاركها المضيع لها في الحديث السالف أيضا.

    ومنها: أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم.

    ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: « من حافظ عليها كان له أجرها مرتين » . رواه مسلم.

    ومنها: أن انتظارها بعد الجمعة كعمرة - رواه أبو يعلى. وروى الحاكم: كمن أتى بحجة وعمرة.

    ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم [ ص: 625 ] ولهم عذاب أليم.. - إلى أن قال - ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا، فجاء رجل فصدقه فاشتراها » . متفق عليه. ثم قال: قلت: وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله

    قال عامة المفسرين: بعد صلاة العصر، ولذلك غلظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر لشرفه ومزيته.

    ومنها: أن سليمان - عليه السلام - أتلف مالا عظيما من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس، فمدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه بقوله تعالى: نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الآية.

    ومنها: أن الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل: إنها بعد العصر.

    ومنها: أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال.

    [ ص: 626 ] ومنها: الحديث المرفوع: إن الله تعالى يوحي إلى الملكين: لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة.

    ومنها: ما جاء في قوله تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر

    قال مقاتل: العصر: هي الصلاة الوسطى، أقسم بها - حكاه ابن عطية.

    ومنها: ما روي في الحديث، أن الملائكة تصف كل يوم بعد العصر يكتبها في السماء الدنيا فينادي الملك: ألق تلك الصحيفة، فيقول: وعزتك ما كتبت إلا ما عمل، فيقول الله عز وجل: لم يرد به وجهي. وينادي الملك الآخر: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول الملك: وعزتك إنه لم يعمل ذلك. فيقول الله عز وجل: إنه نواه.

    ومنها: أن وقتها وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم في الغالب.

    وقد أفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات، وذكر العلامة الفاسي - شارح " القاموس " - فيما نقله عنه الزبيدي، أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين، فرضي الله عن العلماء المجتهدين وأرضاهم.

    سنح لي وقوي بعد تمعن - في أواخر رمضان سنة 1323 - احتمال قوله تعالى : والصلاة الوسطى بعد قوله: حافظوا على الصلوات لأن يكون إرشادا وأمرا بالمحافظة على أداء الصلاة أداء متوسطا لا طويلا مملا ولا قصيرا مخلا. أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيده الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك، قولا وفعلا.

    ثم مر بي في " القاموس " - في 23 ربيع الأول سنة 1324 - حكاية هذا قولا. حيث ساق في مادة " و س ط " الأقوال في الآية، ومنها قوله: (أو المتوسطة بين الطول والقصر) قال شارحه الزبيدي: وهذا القول رده أبو حيان في " البحر ".

    [ ص: 627 ] ثم سنح لي احتمال وجه آخر: وهو أن يكون قوله: والصلاة الوسطى أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنه فضلى، أي: ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط. وتوسيط الواو بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشري واستدل له بكثير من الآيات، وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى، وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلا قطرة من بحر، ولعل هذا الوجه هو ملحظ من قال: هي الصلوات الخمس، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فكأنه أشار إلى أن المعطوف عين المعطوف عليه، إلا أنه أتى بجملة تفيد التوصيف.

    وقوله تعالى: وقوموا لله - في الصلاة: قانتين خاشعين ساكتين. روى الشيخان عن زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.

    وروى أبو يعلى عن ابن مسعود قال: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في نفسي إنه نزل في شيء، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: « وعليك السلام - أيها المسلم - ورحمة الله، إن الله يحدث في أمره ما يشاء، فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلموا » .

    [ ص: 628 ] وروى الطبراني في " الأوسط " والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في " مسنديهما " وابن حبان في " صحيحه " عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل حرف ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة » .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [239] فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون

    فإن خفتم أي: فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره: فرجالا أي: فصلوا راجلين، أي: ماشين على الأقدام - يقال: رجل - كفرح - فهو راجل، ورجل - بضم الجيم - ورجل - بكسرها - ورجل - بفتحها - ورجيل ورجلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه. والجمع رجال ورجالة ورجال - كرمان -: أو ركبانا أي: راكبين، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة. وهذا من رخص الله تعالى التي رخص لعباده، ووضعه الآصار والأغلال عنهم. وقد رويت صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات مختلفة مفصلة في كتب السنة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى في كل موطن ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.

    قال الرازي: صلاة الخوف قسمان:

    أحدهما: أن تكون في حال القتال - وهو المراد بهذه الآية.

    والثاني: في غير حال القتال، وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #124
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 629 الى صـ 634
    الحلقة (124)





    وقد روى مالك عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف، وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.

    قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الشيخان.

    ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال: فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء.

    وأخرج الإمام أحمد وأبو داود، بإسناد جيد، عن عبد الله بن أنيس الجهني قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي - وكان نحو عرنة وعرفات - فقال: « اذهب فاقتله» . قال: فرأيته - وحضرت صلاة العصر - فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذلك، قال: [ ص: 630 ] إني لفي ذلك، فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. وهذا نص أبي داود.

    وأخرج الطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فشغلنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك. وذلك قوله: وكفى الله المؤمنين القتال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام لكل صلاة إقامة، وذلك قبل أن ينزل عليه: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا

    تنبيه:

    هذه الآية قد أطلقت الخوف، فيدخل فيه أي مخافة من عدو أو سبع أو جمل صائل، وهذا قول الأكثر. وشذ قول الوافي وبعض الظاهرية: إن الخوف مختص بأن يكون من آدمي. وقد أفادت هذه الآية أن فعلها بالإيماء هو فرضهم، فلا قضاء عليهم بعد الأمن. قال في (التهذيب) خلاف ما يقوله بعضهم، ولكن هذا إذا أتوا بما يسمى صلاة، فإن لم يمكنهم شيء من الأفعال، وإنما أتوا بالذكر فقط. فقال الناصر زيد وابن أبي الفوارس وأبو جعفر: هذا لا يسمى صلاة فيجب القضاء. وقال الراضي بالله والأمير الحسين: هو بعض الصلاة، فلا قضاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . وإذا ثبت الترخيص [ ص: 631 ] في هذه الصلاة - بترك كمال الفروض - رخص فيها بفعل ما تحتاج إليه، وبلباس ما فيه نجس إذا احتيج إليه - كذا في تفسير بعض علماء الزيدية.

    فإذا أمنتم أي: زال خوفكم: فاذكروا الله أي: فصلوا صلاة الأمن. عبر عنها بالذكر ؛ لأنه معظم أركانها. وقوله: كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون أي: مثل ما علمكم من صلاة الأمن، أو لأجل إنعامه عليكم، فالكاف للتعليل. وهذه الآية كقوله تعالى: فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا والفائدة في ذكر المفعول فيه، وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم: التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقلوا عنها، فإنه أوضح في الامتنان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [240] والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم

    والذين يتوفون منكم أي: يقبضون من رجالكم: ويذرون أي: يتركون: أزواجا بعد الموت: وصية لأزواجهم خبر (الذين) أي: يوصون، أو ليوصوا، [ ص: 632 ] أو كتب الله عليهم وصية. وفي قراءة بالرفع، أي: عليهم وصية لأزواجهم في أموالهم: متاعا إلى الحول بدل من وصية، على قراءة من نصبها. وعلى قراءة الرفع فمنصوب بـ وصية أو بفعله: غير إخراج حال من أزواجهم، أي: غير مخرجات. والمعنى: يجب على الذي يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى من غير أن يخرجن من مسكن زوجهن: فإن خرجن عن منزل الأزواج من قبل أنفسهن: فلا جناح عليكم على أولياء الميت: في ما فعلن في أنفسهن من معروف لا ينكره الشرع - كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب - وفيه دلالة على أن المحظور إخراجها عند إرادتها القرار، وملازمة مسكن الزوج، والحداد من غير أن يجب عليها ذلك، وأنها مخيرة بين الملازمة مع أخذ النفقة، وبين الخروج مع تركها: والله عزيز حكيم ثم ليعلم أن اختيار جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهو قوله تعالى: يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدت زوجته حولا، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة، وليس لها من الميراث شيء، ولكنها تكون مخيرة. فإن شاءت اعتدت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى ؛ وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك. فدلت هذه الآية على مجموع أمرين، أحدهما: أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة. والثاني: أن عليها عدة سنة، ثم نسخ هذان الحكمان.

    [ ص: 633 ] أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخت بآية الميراث، فجعل لها الربع أو الثمن عوضا عن النفقة والسكنى، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.

    وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها..؟ قال: يا ابن أخي! لا أغير شيئا منه من مكانه.

    وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا.

    هذا، وقد ذهب مجاهد إلى أن هذه الآية محكمة كالأولى. أخرجه عنه البخاري. قال مجاهد: دلت الآية الأولى وهي: يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها، ودلت هذه الآية، بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول، أن ذلك من باب الوصية بالزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا، ولا يمنعن من ذلك، لقوله: غير إخراج فإذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله: فإن خرجن إلخ. قال الإمام ابن كثير: وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له. وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية.

    ومنهم أبو مسلم الأصفهاني قال: معنى الآية: من يتوفى منكم ويذرون أزواجا، [ ص: 634 ] وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج: في ما فعلن في أنفسهن من معروف أي: نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة. قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، واحتج على قوله بوجوه ساقها الفخر الرازي عنه - إلى أن قال: فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، ثم قال: وإذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية، فالشرط هو قوله: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فهذا كله شرط، والجزاء هو قوله فإن خرجن فلا جناح عليكم إلخ، هذا تقرير قول أبي مسلم.

    قال الرازي: وهو في غاية الصحة، والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [241] وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين .

    وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين أي: للمطلقات متعة من جهة الزوج بقدر الإمكان، جبرا لوحشة الفراق، وأما المهر فهو حق البضع.

    قال ابن كثير: وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة، أو مفروضا لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولا بها.

    وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف، واختاره ابن جرير.

    وقد أخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: لكل مؤمنة طلقت، حرة أو أمة، متعة. وقرأ الآية.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #125
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 635 الى صـ 640
    الحلقة (125)





    وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة، أتت [ ص: 635 ] النبي صلى الله عليه وسلم. فقال لزوجها: « متعها» . قال: لا أجد ما أمتعها قال: « فإنه لا بد من المتاع، متعها ولو نصف صاع من التمر» .

    وأخرج البيهقي عن قتادة قال: طلق رجل امرأته عند شريح، فقال له شريح: متعها! فقالت المرأة: إنه ليس لي عليه متعة. إنما قال الله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المحسنين } . وليس من أولئك!!.

    وأخرج البيهقي عن شريح أنه قال لرجل فارق امرأته: لا تأبى أن تكون من المتقين. لا تأبى أن تكون من المحسنين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [242] كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون .

    كذلك أي: مثل ذلك البيان الشافي: يبين الله لكم في جميع المواضع: آياته الدالة على أحكامه: لعلكم تعقلون لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [243] ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون .

    ألم تر إلى الذين خرجوا أي: ممن تقدمكم من الأمم: من ديارهم أي: التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت. ولفظة: ألم تر قد تذكر لمن تقدم علمه، فتكون للتعجيب والتقرير والتذكير - كالأحبار وأهل التاريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك، فتكون لتعريفه وتعجيبه.

    [ ص: 636 ] قال الراغب: "رأيت" يتعدى بنفسه دون الجار، لكن لما استعير " ألم تر " لمعنى " ألم تنظر " عدي تعديته بـ " إلى " وفائدة استعارته: أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال: رأيت إلى كذا.

    وهم ألوف أي: في العدد جمع ألف، أو وهم مؤتلفون ومجتمعون جمع آلف، بالمد - كشاهد وشهود - أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن: حذر الموت مفعول له - أي: فرارا منه. وقوله: فقال لهم الله موتوا معناه: فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك مشيئة خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

    ثم أحياهم عطف. إما على مقدر يستدعيه المقام، أي: فماتوا ثم أحياهم - وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، وإما على " قال " لما أنه عبارة عن الإماتة: إن الله لذو فضل على الناس قاطبة. أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة، وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضل على الجميع ليشكروه: ولكن أكثر الناس لا يشكرون أي: فضله كما ينبغي.

    تنبيه:

    روي عن ابن عباس: أن الآية عني بها قوم كثيرو العدد، خرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله

    [ ص: 637 ] ومعلوم أن سورة البقرة مما نزل في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأمر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وقص لهم من الأنباء ما فيه بعث لهم على الجهاد وتبشير لهم بالفوز والعاقبة، وإن يكونوا في قلة وضعف، ما داموا مستمسكين بحبل الوفاق والصبر والمصابرة. وقد ذهب بعض الرواة إلى أن هذه الآية عني بها ما قص في التوراة عن حزقيل - أحد أنبياء بني إسرائيل - أنه أوحي إليه أن يخرج إلى فلاة واسعة قد ملئت عظاما يابسة من موتى بني إسرائيل، وأن يناديها باسمه تعالى، فجعلت تتقارب ثم كسيت لحما، ثم نادى أرواحها فعادت إلى أجسامها واستووا أحياء على أقدامهم بأمره تعالى. وهم جيش كثير جدا. وأوحي إلى (حزقيل) أنهم سيعودون إلى وطنهم بعد أن أجلوا عنه. وهذه القصة مبسوطة في توراتهم في الفصل السابع والثلاثين من نبوة (حزقيل).

    وممن روي عنه أنه عني بهذه الآية نبأ (حزقيل)، وهب بن منبه وأشعث بن أسلم البصري والحجاج بن أرطاة والسدي وهلال بن يساف وغيرهم. أخرجه عنهم ابن جرير. فإن صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات (حزقيل) في إحياء الموتى له، كما أحيي لعيسى عليه السلام، فيرى قومه ما لا ييأسون معه من جهاد عدوهم ليسترجعوا وطنهم الذي أجلاهم عنه عدوهم، لأن (حزقيل) كان فيمن أجلي إلى بابل. قالوا: ونبوته تتضمن القضاء المنزل على بني إسرائيل وبشرى السلام الذي يعقب ذلك القضاء. وقد نقل ابن كثير عن عطاء أنه قال في هذه الآية: إنها مثل. ولعل مراده: أنها مثل في تكوينه تعالى أمة قوية تقهر وتغلب وتسوس غيرها بعد بلوغها غاية الضعف والخمول، فكان حياتها وموتها تمثيلا لحالتيها قبل وبعد. فيكون إشعارا بما ستصير إليه العرب من القوة العظيمة والمدنية الفخيمة، وتنبيها على أن الوصول إلى ذلك إنما يكون بجهاد الظالمين واتفاق المتقين على دحر المتغلبين الباغين والله أعلم.

    [ ص: 638 ] ثم إنه لا خفاء في أن ما قص من حوادث الإسرائيليين كان معروفا في الجملة لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة.

    قال ولي الله الدهلوي في " الفوز الكبير ": واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله، يعني: الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى: كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة، ما قرع سمعهم، وذكر لهم إجمالا مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقاها أبا عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود العرب في قرون كثيرة، وانتزع من القصص المشهورة جملا تنفع في تذكيرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها. والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات، يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصلي فيها. ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [244] وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم .

    وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم

    قال المفسرون: في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال، دليل على أنها سيقت بعثا على الجهاد. فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني، كما قال تعالى: الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وأصل السبيل هو الطريق، وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى، ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله، فالقتال: دفاع في سبيل الله لإزالة الضرر العام. [ ص: 639 ] وهو منع الحق وتأييد الشرك، وذلك بتربية الذين يفتنون الناس عن دينهم وينكثون عهودهم لا لحظوظ النفس وأهوائها، والضراوة بحب التسافك وإزهاق الأرواح، ولا لأجل الطمع في الكسب. وفي قوله تعالى: واعلموا أن الله سميع عليم بعث على صدق النية والإخلاص. كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [245] من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون .

    من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة - هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع.

    قال القرطبي: طلب القرض في هذه الآية لما هو تأنيب وتقريب للناس بما يفهمون. والله هو الغني الحميد. لكنه تعالى شبه إعطاءه المؤمنين، وإنفاقهم في الدنيا الذي يرجون ثوابه في الآخرة، بالقرض. كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة، بالبيع والشراء. حسبما يأتي بيانه في سورة براءة، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن [ ص: 640 ] الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المرض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة، ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى: « يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي » وكذا فيما قبله. أخرجه الشيخان. وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به. وقد أخرج سعيد بن منصور والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله! وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: « نعم يا أبا الدحداح » قال: أرني يدك، يا رسول الله! فناوله يده.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #126
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 641 الى صـ 646
    الحلقة (126)






    قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي (وحائط له، فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيها وعيالها) فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « قد [ ص: 641 ] قبله منك » . فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اليتامى الذين في حجره. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « رب عذق لأبي الدحداح مدلى في الجنة » وفي رواية: « كم من عذق »
    إلخ. وقوله تعالى: حسنا أي: طيبة به نفسه من دون من ولا أذى. وقوله سبحانه: فيضاعفه له أضعافا كثيرة كما قال سبحانه: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ولما رغب سبحانه في إقراضه أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال: والله يقبض ويبسط أي: يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين. أي: فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم، لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق.

    وإليه ترجعون أي: يوم القيامة فيجازيكم.

    قال المهايمي: وكيف ينكر بسط الله وقبضه، وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله، ويقوي الضعفاء من الجمع القليل ويضعف الأقوياء من الجمع الكثير؟! يعني كما قصه تعالى في قوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [246] ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين .

    ألم تر إلى الملإ وهم القوم ذو الشارة والتجمع: من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم إنما نكر لعدم مقتض لتعريفه، وزعم الكتابيون أنه صموئيل: [ ص: 642 ] ابعث لنا ملكا أي: أقم لنا أميرا: نقاتل أي: معه عن أمره: في سبيل الله وذلك حين ظهرت العمالقة، قوم جالوت على كثير من أرضهم: قال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا

    قال الزمخشري: خبر (عسيتم) ألا تقاتلوا. والشرط فاصل بينهما. والمعنى: هل قاربتم ألا تقاتلوا: يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل (هل) مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى: هل أتى على الإنسان معناه التقرير. وقرئ (عسيتم) بكسر السين، وهي ضعيفة.

    قالوا وما لنا ألا نقاتل أي: وأي سبب لنا في ترك قتال عدونا: في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أي: والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجابا قويا من أخذ بلادنا وسبي أولادنا: فلما كتب عليهم القتال بعد إلحاحهم في طلبه: تولوا أي: أعرضوا عن قتال عدوهم جبنا: إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وترك الجهاد وعصيانا لأمره تعالى.

    قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على أحكام:

    الأول: وجوب الجهاد، لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيرا من سلوك طريقهم. وأيضا: شرائع من قبلنا تلزمنا.

    الثاني: أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميرا. قال في " الكشاف ": [ ص: 643 ] وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميرا عليهم.

    الثالث: وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب، لأن سياق الآية يقضي بذلك، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: « أطيعوا الأمير ولو كان عبدا حبشيا » . وقد ذكر أهل علم المعاملة: أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميرا ودليلا وإماما، وهذا محمود؛ إذ بذلك ينقطع الجدال وتنتظم أمورهم. ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء، نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل مسجد ونحو هذا.

    قال الحاكم: وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم ووجه ذلك أنه قال: هل عسيتم وهذا نوع من التأكيد عليهم، وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [247] وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم .

    [ ص: 644 ] وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم. أي: قال لهم (بعد ما أوحى إليه ما أوحى) إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا أي: ملكه عليكم، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم. وطالوت اسم أعجمي كجالوت وداود، ولذلك لم ينصرف، وزعم قوم أنه عربي من (الطول) لما وصف به من البسطة في الجسم. ولكنه ليس من أبنية العرب، فمنع صرفه للعلمية وشبه العجمة. وقد زعم الكتابيون أن طالوت هو المعروف عندهم بشاول قالوا معترضين على نبيهم بل على الله تعالى: أنى يكون له الملك علينا أي: من أين يكون أو كيف يكون ذلك: ونحن أحق بالملك منه أي: لأن فينا من هو سبط الملوك دونه.

    قال الحرالي: فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم. فكان فيه حظ من فخر إبليس، حيث قال حين أمر بالسجود لآدم: أنا خير منه

    ولم يؤت سعة من المال أي: فصار له مانعان:

    أحدهما: أنه ليس من بيت الملك.

    والثاني: أنه مملق. والملك لا بد له من مال يعتضد به.

    قال الحرالي: فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال، وأنه مما يقام به ملك. وإنما الملك بإيتاء الله. فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم.

    قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم لما استبعدوا [ ص: 645 ] تملكه بسقوط نسبه وبفقره، رد عليهم ذلك أولا: بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانيا: بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب، وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر. قاله أبو السعود.

    والله يؤتي ملكه من يشاء في الدنيا من غير إرث أو مال ؛ إذ لا يشترط في حقه تعالى شيء، فهو الفعال لما يريد: والله واسع يوسع على الفقير ويغنيه: عليم بمن يليق بالملك ممن لا يليق به، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.

    قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث وأن الغنى والصيانة من الحرف الدنيئة، لا تشترط في أمير ولا إمام ولا قاض. أي: لما روي أن طالوت كان دباغا أو سقاء مع فقره. قال الحاكم: فيبطل قول الإمامية إنها وراثة، والمعروف من قولهم أن الإمامة طريقها النص، وتدل الآية أيضا على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولاه، فيكون سليما من الآفات عالما بما يحتاج إليه، لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم ردا على ما اعتبروا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #127
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 647 الى صـ 652
    الحلقة (127)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [248] وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .

    وقال لهم نبيهم إن آية أي: علامة: ملكه أنه من الله تعالى: أن يأتيكم التابوت أي: يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة، على ما سنذكره: فيه سكينة من ربكم أي: وقار وجلال وهيبة، أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل يتقوون به على [ ص: 646 ] الحرب: وبقية أي: فضلة جملة، ذهب جلها: مما ترك آل موسى وآل هارون أي: من آثارهم الفاضلة: تحمله الملائكة إن في ذلك أي: في رد التابوت إليكم: لآية لكم أن ملكه من الله تعالى: إن كنتم مؤمنين بآيات الله وأنبيائه.

    قال العلامة البقاعي عليه الرحمة: التابوت والله أعلم، الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات، ويسمى تابوت الشهادة، وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم، موظفون لحمله، ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم. وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم، وكان عهدهم به قد طال. فذكرهم بمآثره ترغيبا فيه وحملا على الانقياد لطالوت، فقال: فيه سكينة الآية.

    وفي الإصحاح الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه:

    * 1 * وكلم الرب موسى قائلا.

    * 2 * كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة من كل من يحثه قلبه تأخذون تقدمتي.

    * 3 * وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم: ذهب وفضة ونحاس.

    * 4 * وأسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص وشعر معزى. (5) وجلود كباش محمرة وجلود نخس وخشب سنط. * 6 * وزيت للمنارة وأطياب لدهن المسحة وللبخور العطر. * 7 * وحجارة جزع، وحجارة ترصيع للرداء والصدرة. * 8 * فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم. * 9 * بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته، هكذا تصنعون.

    * 10 * فتصنعون تابوتا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. * 11 * وتغشيه بذهب نقي من داخل ومن خارج تغشيه، وتصنع عليه إكليلا من ذهب حواليه. * 12 * وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع؛ على جانبه الواحد حلقتان، وعلى جانبه الثاني حلقتان. * 13 * وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب. * 14 * وتدخل العصوين في الحلقات على جانب التابوت ليحمل التابوت [ ص: 647 ] بهما. * 15 * تبقى العصوان في حلقات التابوت، لا تنزعان منها. * 16 * وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك.

    وفي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج:

    * 18 * ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة: لوحي حجر مكتوبين بأصبع الله.

    وفي الإصحاح الرابع والثلاثين منه: أن موسى لما كسر اللوحين أمره الله أن ينحت لوحين مثل الأولين، وأمره أن يكتب عليهما كلمات العهد الكلمات العشر. ونصه:

    * 1 * ثم قال الرب لموسى: انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين، فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما.

    وفي حواشي التوراة: أن تابوت الشهادة هو التابوت الذي كان فيه لوحا الشريعة الإلهية المسماة: شهادة.

    وزعموا أن السكينة معربة عن (شكينا) في اللغة العبرانية. وفي سفر صموئيل من سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع وما بعده نبأ انكسار الإسرائيليين أمام الفلسطينيين، وأخذ التابوت من الإسرائيليين، وأنه بقي التابوت في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر، في قصص مسهبة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [249] فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين

    [ ص: 648 ] وقوله تعالى:

    فلما فصل طالوت بالجنود أي: خرج بالجيش، لما رد إليهم التابوت وقبلوا ملكه، وخرجوا معه، وكان طالوت أخذ بهم في أرض قفرة، فأصابهم حر وعطش شديد: قال لهم طالوت: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ، أي: من أشياعي الذين يقاتلون معي عدوي، ولا يجاوزه: ومن لم يطعمه فإنه مني أي: لم يذقه. من: طعم، كعلم الشيء، إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا وفي إيثاره على لم يشربه إشعار بأنه محظور تناوله ولو مع الطعام. ذكره الراغب: إلا من اغترف غرفة بيده الواحدة فإنه لا يخرج بذلك عن كونه مني، لأنه في معنى من لم يذقه.

    قال الحرالي في قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها، آخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم، إعلام بملئها.

    فشربوا منه أي: إلى حد الارتواء: إلا قليلا منهم لم يشربوا إلا كما أذن الله تعالى: فلما جاوزه أي: النهر: هو أي: طالوت: والذين آمنوا معه قالوا أي: المفرطون في الشراب: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده لأنه سلبت شجاعتهم

    وجاء في التوراة تسميته بجليات. على ما سنذكره: قال الذين يظنون أي: يعلمون: أنهم ملاقو الله يرجعون إليه بعد الموت: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [250] ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .

    ولما برزوا ظهروا: لجالوت وجنوده إذ دنوا منه: قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا أي: أفضه علينا وأكرمنا به لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولا لأنه [ ص: 649 ] ملاك الأمر: وثبت أقدامنا في ميدان الحرب فلا نهرب منه: وانصرنا لأنا مؤمنون بك: على القوم الكافرين بك. وهم: جالوت وجنوده، وهذا الآية تدل على أن من حزبه أمر، فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله، والتوفيق، والانقطاع إليه تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [251] فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .

    فهزموهم أي: هؤلاء القليلون، أولئك الكثيرون: بإذن الله بنصره إذ شجع القليلين وجبن الكثيرين: وقتل داود وكان في جيش طالوت: جالوت الذي هو رأس الأقوياء: وآتاه الله الملك أي: أعطى الله داود ملك بني إسرائيل: والحكمة أي: الفهم والنبوة: وعلمه مما يشاء من صنعة الدروع وغيرها: ولولا دفع الله الناس بعضهم من أهل الشر: ببعض من أهل الخير: لفسدت الأرض أي: بغلبة الكفار وظهور الشرك والمعاصي، كما قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا الآية.

    ولكن الله ذو فضل على العالمين أي: من عليهم بالدفع. ولذلك قوى سبحانه هؤلاء الضعفاء وأعطى بعضهم الملك والحكمة ومن سائر العلوم، ليدفع فساد الأقوياء بالسيف.
    [ ص: 650 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [252] تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين .

    تلك أي: المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام جالوت وقتل داود إياه وتملكه: آيات الله إذ هي أخبار غيوب تدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته ولطفه: نتلوها عليك أي: ننزل عليك جبريل بها: بالحق أي: اليقين الذي لا يرتاب فيه: وإنك لمن المرسلين بما دلت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير معلم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر. وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة، كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين، فكأنه قيل: قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم. وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم، والوبال في ذلك يرجع عليهم. وقوله: وإنك لمن المرسلين كالتنبيه على ذلك. أشار له الرازي.

    قال البقاعي: ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة، لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة رسالته، لأنه مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل.

    قلت: يرحم الله البقاعي، فإنه لم يطلع على هذه القصة من التوراة، مع أنها مسوقة في الإصحاح السابع عشر من سفر صموئيل الأول ونصه:

    * 1 * وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب فاجتمعوا في سوكوه التي ليهوذا ونزلوا بين سوكوه وعريقة في أفس دميم.

    * 2 * واجتمع شاول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي [ ص: 651 ] البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين. * 3 * وكان الفلسطينيون وقوفا على جبل من هنا وإسرائيل وقوفا على جبل من هناك والوادي بينهم. * 4 * فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جت طوله ست أذرع وشبر. * 5 * وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابسا درعا حرشفيا ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس. * 6 * وجرموقا نحاسا على رجليه، ومزراق نحاس بين كتفيه.

    * 7 * وقناة رمحه كنول النساجين، وسنان رمحه ست مائة شاقل حديد، وحامل الترس كان يمشي قدامه. * 8 * فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم: لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب؟ أما أنا الفلسطيني وأنتم عبيد لشاول. اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إلي. * 9 * فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيدا. وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيدا وتخدموننا.

    * 10 * وقال الفلسطيني: أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم. أعطوني رجلا فنتحارب معا. * 11 * ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جدا.

    * 12 * وداود هو ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا الذي اسمه: يسى وله ثمانية بنين، وكان الرجل في أيام شاول قد شاخ وكبر بين الناس.

    * 13 * وذهب بنو يسى الثلاثة الكبار وتبعوا شاول إلى الحرب، وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب أليآب البكر، وأبيناداب ثانيه، وشمة ثالثهما.

    * 14 * وداود هو الصغير، والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاول. * 15 * وأما داود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم.

    * 16 * وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحا ومساء أربعين يوما. * 17 * فقال يسى لداود ابنه خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك، وهذه العشر الخبرات واركض إلى المحلة إلى إخوتك. * 18 * وهذه العشر القطعات من الجبن قدمها لرئيس الألف، وافتقد سلامة إخوتك وخذ منهم عربونا.

    * 19 * وكان شاول وهم وجميع رجال إسرائيل في وادي البطم يحاربون الفلسطينيين.

    * 20 * فبكر داود صباحا وترك الغنم مع حارس وحمل، وذهب كما أمره يسى وأتى إلى المتراس [ ص: 652 ] والجيش خارج إلى الاصطياف وهتفوا للحرب. * 21 * واصطف إسرائيل والفلسطينيون صفا مقابل صف. * 22 * فترك داود الأمتعة التي معه بيد حافظ الأمتعة وركض إلى الصف وأتى وسأل عن سلامة إخوته. * 23 * وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز اسمه جليات الفلسطيني من جت صاعد من صفوف الفلسطينيين، وتكلم بمثل هذا الكلام فسمع داود. * 24 * وجميع رجال إسرائيل لما رأوا الرجل هربوا منه وخافوا جدا.

    * 25 * فقال رجال إسرائيل: أرأيتم هذا الرجل الصاعد. ليعير إسرائيل هو صاعد، فيكون أن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلا، ويعطيه بنته ويجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل.

    * 26 * فكلم داود الرجال الواقفين معه قائلا: ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل، لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحي.

    * 27 * فكلمه الشعب بمثل هذا الكلام قائلين: كذا يفعل بالرجل الذي يقتله.

    * 28 * وسمع أخوه الأكبر أليآب كلامه مع الرجال، فحمي غضب أليآب على داود وقال: لماذا نزلت وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك نزلت لكي ترى الحرب.

    * 29 * فقال داود: ماذا عملت الآن؟ أما هو كلام؟

    * 30 * وتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام، فرد له الشعب جوابا كالجواب الأول.

    * 31 * وسمع الكلام الذي تكلم به داود وأخبروا به أمام شاول، فاستحضره.

    * 32 * فقال داود لشاول: لا يسقط قلب أحد بسببه. عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني.

    * 33 * فقال شاول لداود: لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه.

    * 34 * فقال داود لشاول: كان عبدك يرعى لأبيه غنما فجاء أسد مع دب وأخذ شاة من القطيع.

    * 35 * فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه، ولما قام علي أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته.

    * 36 * قتل عبدك الأسد والدب جميعا. وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #128
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 653 الى صـ 658
    الحلقة (128)





    * 37 * وقال داود: الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب [ ص: 653 ] هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني. فقال شاول لداود: اذهب وليكن الرب معك.

    * 38 * وألبس شاول داود ثيابه، وجعل خوذة من نحاس على رأسه وألبسه درعا.

    * 39 * فتقلد داود بسيفه فوق ثيابه، وعزم أن يمشي لأنه لم يكن قد جرب. فقال داود لشاول: لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها. ونزعها داود عنه.

    * 40 * وأخذ عصاه بيده، وانتخب له خمسة حجارة ملس من الوادي وجعلها في كنف الرعاة الذي له أي: في الجراب ومقلاعه بيده وتقدم نحو الفلسطيني.

    * 41 * وذهب الفلسطيني ذاهبا واقترب إلى داود والرجل حامل الترس أمامه.

    * 42 * ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره لأنه كان غلاما وأشقر جميل المنظر.

    * 43 * فقال الفلسطيني لداود: ألعلي أنا كلب حتى أنك تأتي إلي بعصي؟ ولعن الفلسطيني داود بآلهته.

    * 44 * وقال الفلسطيني لداود تعال إلي فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية.

    * 45 * فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس. وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذي عيرتهم.

    * 46 * هذا اليوم يحبسك الرب في يدي، فأقتلك وأقطع رأسك، وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل.

    * 47 * وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا.

    * 48 * وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني.

    * 49 * ومد داود يده إلى الكنف وأخذ منه حجرا ورماه بالمقلاع، وضرب الفلسطيني في جبهته، فارتز الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض.

    * 50 * فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله، ولم يكن سيف بيد داود.

    * 51 * فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده وقتله وقطع به رأسه، فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا.

    * 52 * فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين حتى مجيئك إلى الوادي وحتى أبواب عقرون... إلخ.

    [ ص: 654 ] وتتمة شأن داود بعد ذلك إلى أن آتاه الله الملك مذكور في الفصول بعد هذا الفصل من التوراة. فانظره إن شئت.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [253] تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد .

    تلك الرسل إشارة إلى من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبي صلى الله عليه وسلم: فضلنا بعضهم على بعض بأن خص بمنقبة ليست لغيره: منهم من كلم الله تفصيل التفضيل أي: منهم من فضله الله، بأن كلمه من غير سفير، وهو موسى عليه السلام: ورفع بعضهم درجات كإبراهيم اتخذه الله خليلا. وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك.

    قال الزمخشري: أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة.

    والظاهر: أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشبه والمتميز الذي لا يلتبس؛ يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم. تريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. [ ص: 655 ] وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيرا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه. ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره.

    ثم قال: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولي العزم.

    وآتينا عيسى ابن مريم البينات كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى: وأيدناه بروح القدس سبق الكلام فيه.

    قال الزمخشري: فإن قلت: فلم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين الله وجه التفضيل، حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات، خصا بالذكر في باب التفضيل، وهذا دليل بين أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع.

    ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم أي: من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضا: من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد

    قال الزمخشري: كرره للتأكيد. قال الناصر في حواشيه: ووراء التأكيد سر أخص منه، وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول، قصدت ذكره: إما بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك. وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى، منها قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا [ ص: 656 ] ومنها قوله تعالى: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم إلى قوله: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم وهذه الآية من هذا النمط. لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص، وهو اقتتال هؤلاء، فهي نافذة في كل فعل واقع، وهو المعنى المعبر عنه في قوله: ولكن الله يفعل ما يريد طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام، ويعرف كل بشكله. فهذا سر ينشرح له الصدر، ويرتاح له السر. والله الموفق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [254] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون .

    يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال. قيل: هو أمر إيجاب وأنه أراد بذلك: الإنفاق الواجب وهو الزكاة، لأنه تعالى عقبه بالوعيد بقوله: والكافرون إلخ. حيث عني بهم مانعوها كما يأتي. وقال الأصم وأبو علي: أراد النفقة في الجهاد. وقال أبو مسلم وابن جريج: أراد الفرض والنفل. وهو المتجه. وقوله تعالى: من قبل أن يأتي يوم هو يوم القيامة: لا بيع فيه أي: فتحصلون ما تنفقونه [ ص: 657 ] أو تفتدون به من العذاب: ولا خلة حتى يعينكم الأخلاء الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ولا شفاعة حتى تتكلوا على شفعاء: إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا والكافرون هم الظالمون أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد، كما في قوله تعالى في آخر آية الحج: ومن كفر مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار. قال تعالى: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ذكره الزمخشري.

    ويحتمل أن يكون المعنى: والكافرون هم الظالمون لأنفسهم، بوضع الأموال في غير مواضعها، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم، في أن لا تنفقوا فتضعوا أموالكم في غير مواضعها. وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يخشى معه الفوت، من موت أو غيره.
    [ ص: 658 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [255] الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم .

    الله لا إله إلا هو الحي أي: الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء: القيوم الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، وقرئ: القيام والقيم.

    لا تأخذه سنة ولا نوم تأكيد للقيوم. أي: لا يغفل عن تدبير أمر الخلق تعالى وتقدس. والسنة كعدة والوسن محركة، وبهاء والوسنة: شدة النوم أو أوله، أو النعاس. كذا في القاموس.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #129
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 659 الى صـ 664
    الحلقة (129)






    قال المهايمي: السنة: فتور يتقدم النوم. والنوم: حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه من رطوبات أبخرة متصاعدة تمنع الحواس الظاهرة عن الإحساس، فهما منقصان للحياة منافيان للقيومية، لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم، ونفي النوم أولا التزاما، ثم تصريحا، ليدل كمال نفيه على ثبوت كمال ما ينافيه. ومن كمال قيوميته: اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليه بقوله: له ما في السماوات من الملائكة والشمس والقمر والكواكب: وما في الأرض من العوالم المشاهدات. وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه. كقوله: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا من ذا من الأنبياء والملائكة، فضلا عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام: الذي يشفع عنده فضلا عن أن يقاومه أو يناصبه: [ ص: 659 ] إلا بإذنه أي: بتمكينه تحقيقا للعبودية، كما قال تعالى: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى وكقوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة: « آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة » .

    قال أبو العباس بن تيمية: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع. وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: « من قال: [ ص: 660 ] لا إله إلا الله خالصا من قلبه» . فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبتت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص يعلم ما بين أيديهم أي: ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسه، وما علمه أيضا، فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه: وما خلفهم وهو ما لم ينله علمهم، لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا. أفاده الحرالي. فهذه الجملة كقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء أي: لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل. كما قال تعالى: فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول أي: ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلا على نبوته وسع كرسيه السماوات والأرض روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المعني بالكرسي: العلم. وذلك لدلالة قوله تعالى: ولا يئوده حفظهما أي: لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فأخبر أن علمه وسع كل شيء، فكذلك [ ص: 661 ] قوله: وسع كرسيه السماوات والأرض قال ابن جرير: وقول ابن عباس هذا يدل على صحة ظاهر القرآن لما ذكر. ولأن أصل الكرسي العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة. ومنه قول الراجز في صفة قانص:


    حتى إذا ما احتازها تكرسا


    يعني: علم، ومنه يقال للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم. كما يقال: أوتاد الأرض، يعني أنهم الذي تصلح بهم الأرض. ومنه قول الشاعر:


    يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب


    يعني بذلك: علمه بحوادث الأمور ونوازلها، وروى ابن جرير أيضا عن الحسن أن الكرسي في الآية هو العرش، وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان، ولذلك قال تعالى على لسان سليمان: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين فالعرش والكرسي هما شيء واحد، وإنما سماه هنا كرسيا، إعلاما باسم له آخر ولا يئوده [ ص: 662 ] أي: لا يثقله ولا يشق عليه. يقال: آده الأمر أودا وأوودا كقعود بلغ منه المجهود والمشقة حفظهما أي: السماوات والأرض فلا يفتقر إلى شريك ولا ولد. وكيف يشق عليه: وهو العلي قال ابن جرير قال بعضهم: يعني بذلك: علوه عن النظير والأشباه. وقال آخرون: معناه العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه، وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم العظيم أي: أعظم كل شيء بالجلال والكبرياء والقهر والقدرة والسلطان.

    تنبيه:

    آية الكرسي هذه لها شأن عظيم وفضل كبير. وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم آية في كتاب الله، وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم، وقد ساق ما ورد في فضلها الإمام ابن كثير في " تفسيره " والجلال السيوطي في " الدر المنثور " فانظرهما.

    قال الزمخشري: فإن قلت: لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد؟!. قلت: لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة، فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار.

    [ ص: 663 ] وقد حكى السيوطي في " الإتقان " عن الأشعري والباقلاني وابن حبان المنع من أن يقال في القرآن فاضل وأفضل. قالوا: وما ورد مما يفيد ذلك محمول على الأعظمية في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض، وقد رد ذلك غير واحد، حتى قال ابن الحصار: العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل. وقال الغزالي في " جواهر القرآن ": لعلك أن تقول: قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكلام كلام الله، فكيف يتفاوت بعضها بعضا. وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع على اعتقاد نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال: « يس قلب القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن » .

    [ ص: 664 ] وآية الكرسي سيدة آي القرآن. وقل هو الله أحد، تعدل ثلث القرآن. والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [256] لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم .

    لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال ابن كثير: أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرها مقسورا، فالنفي بمعنى النهي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #130
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 665 الى صـ 670
    الحلقة (130)



    [ ص: 665 ] وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير، وذهب آخرون إلى أنه خبر محض، أي: أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكين والاختيار. قال القفال - موضحا له - لما بين تعالى دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للعذر، أخبر بعد ذلك أنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان. ونظير هذه الآية قوله تعالى: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وقوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وقوله تعالى: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين

    تنبيه:

    علم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين، ولكن لحماية الدعوة إلى الدين والإذعان لسلطانه وحكمه العدل.

    فمن يكفر بالطاغوت أي: بالشيطان. أي: بما يدعو إليه من عبادة الأوثان: ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أي: فقد تمسك من الدين بأقوى سبب. وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم. هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي [ ص: 666 ] شديد. وجملة: (لا انفصام لها) إما استئناف مقرر لما قبلها، وإما حال من (العروة)، والعامل (استمسك) أو من الضمير المستتر في (الوثقى) وإما صلة لموصول محذوف أي: (التي). نقله الرازي.

    وقد روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال: رأيت رؤيا على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت كأني في روضة خضراء وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه. فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف (أي وصيف) فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة. فقال: استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال: « أما الروضة: فروضة الإسلام، وأما العمود: فعمود الإسلام، وأما العروة: فهي العروة الوثقى. أنت على الإسلام حتى تموت » والله سميع عليم اعتراض تذييلي حامل على الإيمان، رادع عن الكفر والنفاق، بما فيه من الوعد والوعيد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [257] الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

    الله ولي الذين آمنوا أي: حافظهم وناصرهم: يخرجهم تفسير للولاية أو خبر ثان: من الظلمات أي: ظلمات الكفر والمعاصي: إلى النور أي: نور الإيمان الحق الواضح. وإفراد النور لوحدة الحق. كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال، كما قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقونوالذين كفروا أولياؤهم الطاغوت أي: [ ص: 667 ] الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق: يخرجونهم بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء: من النور أي: الإيمان الفطري الذي جبل عليه الناس كافة. أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم: إلى الظلمات أي: ظلمات الكفر والغي: أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    ثم استشهد تعالى على ما ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [258] ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين .

    ألم تر إلى الذي حاج أي: جادل: إبراهيم في ربه أي: كيف أخرجه الطاغوت من نور نسبة الإحياء والإماتة إلى ربه، إلى ظلمات نسبتهما إلى نفسه: أن آتاه الله الملك أي: لأن آتاه الله. يعني: أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر، فحاج لذلك، أو حاجه لأجله. وضعا للمحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه الشكر، كما يقال: عاداني فلان لأني أحسنت إليه. تريد: أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون

    قال الحرالي: وفي إشعاره أن الملك بلاء وفتنة على من أوتيه.

    إذ قال إبراهيم حين سأله من ربك الذي تدعونا إليه ربي الذي يحيي ويميت أي: بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه: قال أنا أحيي وأميت أي: بالقتل [ ص: 668 ] والعفو عنه. ولما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، كان بطلان جوابه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد، والتصدي لإبطاله من قبيل السعي في تحصيل الحاصل، انتقل إبراهيم عليه السلام، إرسالا لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج مكابرة أو مشاغبة أو تلبيس على العوام. وهو ما قصه تعالى بقوله: قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب أي: إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته. فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلها كما ادعيت فأت بها من المغرب:فبهت الذي كفر تحير ودهش وغلب بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام.

    والله لا يهدي القوم الظالمين أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانا بل حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [259] أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير

    [ ص: 669 ] أو كالذي مر على قرية استشهاد على ما ذكر تعالى من ولايته للمؤمنين وتقرير له، معطوف على الموصول السابق، وإيثار (أو) الفارقة على (الواو) الجامعة للاحتراز عن توهم اتحاد المستشهد عليه من أول الأمر، والكاف: إما اسمية جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر، وإما زائدة، والمعنى: أو لم تر إلى مثل الذي. أو إلى الذي مر على قرية، كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود: وهي خاوية على عروشها خالية ساقطة حيطانها على سقوفها: قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها أي: كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها، فكان منه كالوقوع في الظلمات، فأراه الدليل على الإحياء الحقيقي في نفسه مبالغة في قلع الشبهة، إخراجا له منها إلى النور: فأماته الله مائة عام ليندرس بالكلية: ثم بعثه أي: أحياه ببعث روحه إلى بدنه وبعض أجزائه إلى بعض بعد تفرقها: قال الله له: كم لبثت أي: مكثت ميتا: قال لبثت يوما أو بعض يوم قاله بناء على التقريب والتخمين، أو استقصارا لمدة لبثه: قال الله: بل لبثت مائة عام وإنما سأله تعالى ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشؤونه، وأن إحياءه ليس بعد مدة يسيرة، ربما يتوهم أنه هين في الجملة، بل بعد مدة طويلة، وينحسم به مادة استبعاده بالمرة. ويطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى، وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع، على ما كان عليه دهرا طويلا، من غير تغير ما، كما قال سبحانه: فانظر لتعاين أمرا آخر من دلائل قدرتنا: إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي: لم يتغير في هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد. والهاء يجوز أن تكون هاء سكت زيدت في الوقف. وأصل الفعل على هذا فيه وجهان:

    أحدهما: يتسنن من قوله: حمإ مسنون فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الأخيرة ياء كما قلبت في تظنيت ثم أبدلت الياء ألفا ثم حذفت للجزم، والثاني: أن يكون أصل الألف واوا من قولهم: أسنى يسني إذا مضت عليه السنون. وأصل سنة سنوة، لقولهم: سنوات، أي: لم تمر عليه السنون. والمعنى على التشبيه. أي: كأنه لم تمر [ ص: 670 ] عليه المائة سنة لبقائه على حاله وعدم تغيره، ويجوز أن تكون الهاء أصلا ويكون اشتقاقه من السنة، بناء على أن لام السنة هاء وأصلها سنهة. لقولهم: سنهاء وعاملته مسانهة. فعلى هذا تثبت الهاء وصلا ووقفا ؛ إذ الفعل مجزوم بسكونها. وعلى الأول تثبت في الوقف دون الوصل، ومن أثبتها في الوصل أجراه مجرى الوقف. وقد قرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وصلا وإثباتها وقفا والباقون بإثباتها وصلا ووقفا. فإن قيل: ما فاعل يتسنى؟ قيل: يحتمل أن يكون ضمير الطعام والشراب ؛ لاحتياج كل واحد منهما إلى الآخر، فكانا بمنزلة شيء واحد، فلذلك أفرد الضمير في الفعل، ويحتمل أن يكون جعل الضمير لـ " ذلك " و " ذلك " يكنى به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد، ويحتمل أن يكون الضمير للشراب فقط، لأنه أقرب، وثم جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنه، وإلى شرابك لم يتسنه، ويجوز أن يكون أفرد في موضع التثنية كما قال الشاعر:


    فكأن في العينين حب قرنفل أو سنبلا كحلت به فانهلت


    أشار لذلك أبو البقاء: وانظر إلى حمارك كيف هو، فرآه صار عظاما نخرة: ولنجعلك آية للناس عطف على مقدر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق. أي: فعلنا ما فعلنا، من إحيائك بعد ما ذكر، لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل. ولنجعلك آية للناس على البعث. أو متعلق بفعل مقدر بعده. أي: ولنجعلك آية للناس، فعلنا ما فعلنا: وانظر إلى العظام أي: عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء: كيف ننشزها قرئ بالزاي، أي: نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه. من (النشز) وهو المرتفع من الأرض، وفيها على هذا وجهان: ضم النون وكسر الشين من (أنشزته) وفتح النون وضم الشين من (نشزته) وهما لغتان، وقرئ بالراء. وفيها وجهان:

    الأول: فتح النون وضم الشين وماضيه (نشر) فيكون إما مطاوع أنشر الله الميت فنشر، وحينئذ نشر بمعنى أنشر. فاللازم والمتعدي بلفظ واحد، وإما من النشر الذي هو ضد الطي، أي: يبسطها بالإحياء. والثاني: ضم النون [ ص: 671 ] وكسر الشين، أي: نحييها، كقوله: ثم إذا شاء أنشره قاله أبو البقاء ثم نكسوها لحما أي: نسترها به: فلما تبين له أي: اتضح له إعادته مع طعامه وشرابه وحماره، بعد التلف الكلي، وظهر له كيفية الإحياء: قال أعلم أن الله على كل شيء قدير فخرج من الظلمات إلى النور.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #131
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 671 الى صـ 676
    الحلقة (131)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [260] وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم .

    وإذ قال إبراهيم قال المهايمي: واذكر لتمثيل قصة المار على القرية، في الإخراج من الظلمات إلى النور، بالإحياء، قصة إبراهيم.

    وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا.

    قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أي: بلى آمنت ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فوق سكونه بالوحي. فإن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكا في إحياء الموتى قط. وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس الخبر كالمعاينة » . وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك، لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 672 ] في الصحيحين وغيرهما من قوله: « نحن أحق بالشك من إبراهيم » . وبما روي عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن عندي آية أرجى منها ؛ إذ رضي الله من إبراهيم قوله: بلى قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. أخرجه عنه الحاكم في المستدرك وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له.

    قال ابن عطية: وهو عندي مردود. يعني قول هذه الطائفة. ثم قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: « نحن أحق بالشك من إبراهيم » فمعناه: أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، وأطال ابن عطية البحث في هذا، وأطاب.

    قال القرطبي: ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام مثل هذا الشك. وقد أخبر الله سبحانه [ ص: 673 ] أن أصفياءه ليس للشيطان عليهم سبيل، فقال: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين وإذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم؟ وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين.

    وقال الناصر في " الانتصاف ": الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها، من المباحث الممتحنة بالفكر المحرر، والنكت المفصحة بالرأي المخمر، فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له: كيف تحي الموتى فليس عن شك، والعياذ بالله، في قدرة الله على الإحياء، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه، لا ثبوته. ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخاطر فيطرق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية، وقد قطع النبي عليه الصلاة والسلام دابر هذا الوهم بقوله: « نحن أحق بالشك من إبراهيم » أي: ونحن لم نشك، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى، فإن قلت: إذا كان السؤال مصروفا إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالإيمان ولا تخل به، فما موقع قوله تعالى: أولم تؤمن ؟ قلت: قد وقعت لبعض الحذاق فيه على لطيفة، وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما مر، وقد تستعمل في الاستعجاز. مثاله: أن يدعي مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال، وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا؟ فلما كانت هذه الصيغة [ ص: 674 ] قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم الله تعالى بأن إبراهيم مبرأ منه - أراد بقوله: أولم تؤمن أن ينطق إبراهيم بقوله: بلى آمنت. ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى.

    ليكون إيمانه مخلصا، نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه شك. فإن قلت: قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين. فما موقع قول إبراهيم: ولكن ليطمئن قلبي ؟ وذلك يشعر ظاهرا بأنه كان عند السؤال فاقدا للطمأنينة. قلت: معناه: ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة، لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد، فهذا أحسن ما يجري لي في تفسير هذه الآية. وربك الفتاح العليم. انتهى.

    قال أي: إذا أردت الطمأنينة: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك بضم الصاد وكسرها، بمعنى: فأملهن واضممهن إليك. يقال: صاره يصوره ويصيره، إذا أماله، لغتان.

    قال الزمخشري: وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: فصرهن، بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من: صره يصره ويصره إذا جمعه، وعنه: فصرهن (من التصرية) وهي الجمع أيضا: وقال اللحياني: قال بعضهم: معنى صرهن: وجههن. ومعنى صرهن: قطعهن وشققهن. والمعروف أنهما لغتان بمعنى واحد. وكلهم فسروا فصرهن: أملهن، والكسر فسر بمعنى قطعهن. وقال الفيروزآبادي في " البصائر ": قال بعضهم: صرهن بضم الصاد وتشديد الراء وفتحها، من الصر أي: الشد. قال: وقرئ فصرهن بكسر الصاد وفتح الراء المشددة (من الصرير) أي: الصوت، أي: صح بهن. وقال أبو البقاء: ويقرأ بضم الصاد وتشديد الراء، ثم منهم من يضمها اتباعا ومنهم من يفتحها تخفيفا ومنهم من يكسرها على أصل التقاء الساكنين.

    أقول: قد تقرر في العربية أن المضاعف إذا لحقته هاء الضمير يلزم وجه واحد في المؤنث، وهو فتح ما قبلها، نحو ردها مراعاة للألف اتفاقا، وفي المذكر ثلاثة أوجه:

    أفصحها الضم، ويليه الكسر وهو ضعيف، ويليه الفتح وهو أضعفها.

    وممن ذكره ثعلب في " الفصيح " [ ص: 675 ] لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي: ثم اذبحهن وجزئهن وضع على كل جبل منهن بعضا: ثم ادعهن أي: بأسمائهن: يأتينك سعيا أي: مسرعات: واعلم أن الله عزيز حكيم

    قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت: ليتأملها ويعرف أشكالها وهيآتها وحلاها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك. ولذلك قال: يأتينك سعيا أي: ولم يقل طيرانا، لأنه إذا كانت ساعية كانت أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [261] مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم .

    مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أي: في طاعته: كمثل حبة أي: مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة، فالحذف إما من جانب المشبه أو المشبه به لتحصيل المناسبة، أي: وتلك الحبة ألقيت في الأرض ثم: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة أي: أنبتت ساقا انشعب سبع شعب، خرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة، فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها. قال ابن كثير: وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة. انتهى.

    أقول: مصداق هذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من [ ص: 676 ] تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل » .

    والله يضاعف أي: هذا التضعيف أو أكثر منه: لمن يشاء والله واسع عليم وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به » وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة » . وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله. الدرهم بسبعمائة ضعف » . وثمة آثار أخرى في (ابن كثير) و(الدر المنثور)، ثم مدح تعالى من حفظ نفسه من المن والأذى فيما أنفق بقوله:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #132
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 677 الى صـ 682
    الحلقة (132)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [262] الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون أي: لا يعقبون: ما أنفقوا منا وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقا: ولا أذى وهو [ ص: 677 ] ذكره لغيره، فيؤذيه بذلك أو التطاول عليه بسببه: لهم أجرهم عند ربهم الموعود به قبل: ولا خوف عليهم أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة: ولا هم يحزنون على فائت من زهرة الدنيا، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك.

    لطائف:

    الأولى: قال الزمخشري: معنى (ثم) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى. وفي حواشيه للناصر ما نصه: (ثم) في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك، كهذه الآية، وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها، وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى: ثم استقاموا أي: داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك قوله: ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى أي: يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية، وتقليد المنن بسببه، ثم يتوبون. والله أعلم. وقريب من هذا أو مثله، أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه، ثم ورد قوله تعالى حكاية [ ص: 678 ] عن الخليل عليه السلام: إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية: الذي خلقني فهو يهدين فليس إلى حمل السين على تراخي زمان وقوع الهداية له من سبيل. فيتعين المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها. انتهى.

    الثانية: قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فرق بين قوله: لهم أجرهم وقوله فيما بعد: فلهم أجرهم ؟! (قلت): الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط، وضمنه ثمه، والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة.

    وقال أبو السعود: وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها، للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى - أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [263] قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم .

    قول معروف أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم: ومغفرة أي: غفر عن ظلم قولي أو فعلي: خير من صدقة يتبعها أذى إذ لا يحصل للصدقة ثواب ويحصل إثم الأذى، وقد دخل في قوله (قول معروف) الرد الجميل للسائل. و (مغفرة) العفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول والله غني عن طلب صدقة لعبيده مع الأذى لهم أو المن عليهم: حليم عن معالجة من يمن ويؤذي بالعقوبة.
    [ ص: 679 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [264] يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين .

    يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أي: لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما، فإنهما إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة، والمنافي مبطل كالرياء.

    فيصير المان والمؤذي: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلان صدقته، و (رئاء) إما مفعول له أو حال. أي: مرائيا. والهمزة الأولى في (رئاء) عين الكلمة لأنه من: راءى، والأخيرة بدل من الياء لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة كالقضاء، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرئ به. قاله أبو البقاء.

    فمثله أي: هذا المنفق رياء، في إنفاقه مقارنا لما يفسده. ومثل نفقته: كمثل صفوان وهو حجر أملس: عليه تراب فأصابه وابل أي: مطر كثير: فتركه صلدا أي: أجرد لا شيء عليه: لا يقدرون على شيء مما كسبوا أي: المرائي والمان والمؤذي، لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لبطلانه. كقوله: فجعلناه هباء منثورا

    فلا يجدون ثواب صدقاتهم كما لا يوجد على الصفا التراب بعد ما أصابه الوابل: والله لا يهدي القوم الكافرين إلى الخير والرشاد. وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها، وقد ورد في وعيد المن بالصدقة أحاديث متواترة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة [ ص: 680 ] لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب » . وفي سنن النسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان » .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [265] ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير .

    ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله مفعول له: و وتثبيتا معطوف عليه، ويجوز أن يكونا حالين. أي: مبتغين ومتثبتين: من أنفسهم قال أبو البقاء: يجوز أن يكون (من) بمعنى اللام أي: تثبيتا لأنفسهم، كما تقول: فعلت ذلك كسرا من شهوتي، ويجوز أن تكون على أصلها أي: تثبيتا صادرا من أنفسهم، والتثبيت مصدر فعل متعد، فعلى الوجه الأول: يكون: من أنفسهم مفعول المصدر، وعلى الثاني: يكون المفعول محذوفا. تقديره: [ ص: 681 ] ويثبتون أعمالهم بإخلاص النية، ويجوز أن يكون تثبيتا بمعنى (تثبت) فيكون لازما، والمصادر قد تختلف ويقع بعضها موقع بعض، ومثله قوله تعالى: وتبتل إليه تبتيلا أي: تبتلا. انتهى. وعن الشعبي: تثبيتا تصديقا ويقينا: كمثل جنة أي: بستان: بربوة أي: موضع مرتفع: أصابها وابل مطر كثير: فآتت أكلها أي: أخرجت ثمرها: ضعفين أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان: فإن لم يصبها وابل فطل وهو المطر الضعيف، أو أخف المطر، أو أضعفه أو الندى، ولا بد من تقدير مضاف هنا كما تقدم: إما من جانب المشبه أو المشبه به، أي: ومثل نفقة الذين... إلخ، أو كمثل غارس جنة إلخ ؛ رعاية للتناسب.

    قال الشهاب: وفي التشبيه وجهان:

    أحدهما: أنه مركب، والتشبيه لحال النفقة بحال الجنة بالربوة في كونها زاكية متكثرة المنافع عند الله، كيفما كانت الحال.

    والثاني: أن تشبيه حالهم بحال الجنة على الربوة في أن نفقتهم، كثرت أو قلت، زاكية زائدة في حسن حالهم، كما أن الجنة يضعف أكلها قوي المطر وضعيفه، وهذا أيضا تشبيه مركب، إلا أنه لوحظ الشبه فيما بين المفردات، وحاصله: أن حالهم في اتباع القلة والكثرة تضعيف الأجر، كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل تضعيف ثمارها، ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون من تشبيه المفرد بالمفرد، بأن تشبه حالهم بجنة مرتفعة في الحسن والبهجة، والنفقة الكثيرة والقليلة بالطل والوابل، والأجر والثواب بالثمرات، والربوة مثلثة الراء، وأكل بضمتين، وتسكن للتخفيف. وبه قرئ: ( والله بما تعملون بصير ) تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص.
    [ ص: 682 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [266] أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .

    أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر أي: كبر السن، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب: وله ذرية ضعفاء صغار لا قدرة لهم على الكسب: فأصابها إعصار أي: ريح شديدة: فيه نار فاحترقت تلك الجنة، وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال، والمعنى: تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة، ويضم إليها ما يحبطها، كرياء وإيذاء، في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة، واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه: كذلك أي: مثل هذا البيان: يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون أي: فيها، فتعتبرون بها. وروى البخاري في التفسير عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: أيود أحدكم أن تكون له جنة قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي، [ ص: 683 ] حتى أغرق أعماله. (قال ابن كثير وهو من أفراد البخاري) ولابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس معناه: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير، حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء، فأفسد ذلك فأحرقه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #133
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 683 الى صـ 688
    الحلقة (133)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [267] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد .

    يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم هذا بيان لحال ما ينفق منه، إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته، أي: أنفقوا من جياد ما كسبتم، لقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فمقتضى الإيمان الإنفاق من الجيد، سيما ما يطلب به رضا الله وتثبيت النفس، وفي الأمر إشعار بأنه إنما يمثل بالزرع المنبت سبع سنابل، أو بالجنة بربوة، ما أنفق من الجيد: ومما أي: ومن طيبات ما: أخرجنا لكم من الأرض من الحبوب والثمار: ولا تيمموا أي: لا تقصدوا: الخبيث أي: الرديء من أموالكم منه تنفقون ولستم بآخذيه أي: بقابليه يعني الرديء إذا أهدي إليكم: إلا أن تغمضوا فيه أي: إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه. من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره، ويقال للبائع: أغمض، أي: لا تستقص، كأنك لا تبصر. كذا في " الكشاف ".

    قال الرازي: الإغماض في اللغة غض البصر وإطباق جفن على جفن، والمراد ههنا: المساهلة، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك، ثم [ ص: 684 ] كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا. فقوله: ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه يعني: لو أهدي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟!: واعلموا أن الله غني عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم: حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك، مع ظهور علمهم به، توبيخ على إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى، ولما رغب تعالى في إنفاق الجيد حذر من وسوسة الشيطان في ذلك فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [268] الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم .

    الشيطان يعدكم الفقر في الإنفاق: ويأمركم بالفحشاء أي: يغريكم على البخل ومنع الصدقات، إغراء الآمر للمأمور، والفاحش عند العرب: البخيل. قال طرفة:


    أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد


    قال الحرالي: الفحشاء: كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة، ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله.

    والله يعدكم بالإنفاق لا سيما من الجيد: مغفرة منه للذنوب: وفضلا خلفا وثوابا في الآخرة: والله واسع قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه: عليم بصدقاتكم، فلا يضيع أجركم.
    [ ص: 685 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [269] يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب .

    يؤتي الحكمة من يشاء قال كثيرون: الحكمة إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى معرفة الحق والعمل به. قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي، وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيم، أي: محكم، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم

    ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا إذ بها انتظام أمر الدارين، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها، وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله هو من آتاه الله الحكمة: وما يذكر أي: يتعظ بأمثال القرآن والحكمة: إلا أولو الألباب أي: ذوو العقول من الناس، الخالصة من شوائب الهوى، وهم الحكماء، والمراد به: الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [270] وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار .

    وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر أي: يؤول إلى الإنفاق: فإن الله يعلمه لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه: وما للظالمين أي: الذين ينفقون رئاء الناس، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه، أو بضم المن والأذى إليه، أو بالإنفاق من الخبيث، [ ص: 686 ] أو يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور: من أنصار أي: من أعوان ينصرونهم من عقاب الله.

    قال الحرالي: ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر، فيجد له نصيرا، ولا يجد الظالم، بوضع القهر موضع البر، ناصرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [271] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .

    إن تبدوا الصدقات فنعما هي نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية، وبيان له، ولذلك ترك العطف بينهما، أي: إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها، لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع من محتاج وغيره، ويفيد اتباع الناس إياه: وإن تخفوها أي: تسروها مخافة الرياء، وسترا لعار الفقراء: وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم أي: من العلانية، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات: ويكفر عنكم من سيئاتكم ذنوبكم بقدر صدقاتكم: والله بما تعملون خبير ترغيب في الإسرار. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه » . وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله [ ص: 687 ] أي الصدقة أفضل؟ قال: « سر إلى فقير، أو جهد من مقل » .

    لطائف:

    قال أبو البقاء في قوله تعالى: (فنعما هي): نعم فعل جامد لا يكون فيه مستقبل، وأصله نعم، كعلم، وقد جاء على ذلك في الشعر، إلا أنهم سكنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون، ليكون دليلا على الأصل، ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل، ومنهم من يكسر النون والعين اتباعا، وبكل قد قرئ، وفاعل (نعم) مضمر و (ما) بمعنى شيء، ثم قال: (ونكفر عنكم) يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضا، وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء. ويقرأ (وتكفر) بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة. ويقرأ بجزم الراء عطفا على موضع: فهو خير وبالرفع على إضمار مبتدأ أي: ونحن أو وهي، و (من) هنا زائدة عند الأخفش، فيكون (سيئاتكم) المفعول، وعند سيبويه: المفعول محذوف، أي: شيئا من سيئاتكم، والسيئة فيعلة، وعينها واو لأنها من: ساء يسوء، فأصلها سيوئة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها. انتهى.

    وفي " غيث النفع ": قرأ (فنعما) الشامي والأخوان بفتح النون، والباقون بالكسر، وقرأ قالون والبصري وشعبة بإسكان العين، واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين، يريدون الاختلاس فرارا من الجمع بين الساكنين، والباقون بكسر العين، واتفقوا على تشديد الميم، ثم ناقش الشاطبي في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضا، ثم قال: وقد صرح المحقق في نشره أن الداني روى الوجهين جميعا، ثم قال: والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن، وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين، وهو جائز قراءة ولغة، ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة، والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى: ( فما استطاعوا ) . بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلا بلا شك ؛ إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله. [ ص: 688 ] والله أعلم. وبه يعلم رد ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكانا، فإنه غفلة عن جوازه لغة، كما حكاه أبو عبيد، وعن القراءة بنظيره في (استطاعوا) وبالله التوفيق.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #134
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 689 الى صـ 694
    الحلقة (134)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [272] ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون

    ليس عليك هداهم أي: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمن والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل: ولكن الله يهدي من يشاء بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاختيار، أفاده المهايمي.

    قال أبو السعود: والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين، مبالغة في حملهم على الامتثال، فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أي: بالحقيقة، لأن المنفق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبدي، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم؟ ونظائر هذا في القرآن كثيرة، كقوله: من عمل صالحا فلنفسه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله نفي في معنى النهي. أي: فلا تستطيلوا به على الناس [ ص: 689 ] ولا تراءوا به وما تنفقوا من خير يوف إليكم ثوابه أضعافا مضاعفة: وأنتم لا تظلمون أي: لا تنقصون من حسناتكم، كما لا يزاد على سيئاتكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [273] للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .

    للفقراء متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام. أي: اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو صدقاتكم للفقراء، أي: المحتاجين إلى النفقة: الذين أحصروا في سبيل الله أي: حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره: لا يستطيعون ضربا أي: ذهابا: في الأرض لاكتساب أو تجارة: يحسبهم الجاهل بحالهم: أغنياء من التعفف أي: من أجل تعففهم عن السؤال، والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم، ورضا عنه، وشرف نفس: تعرفهم بسيماهم بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى: سيماهم في وجوههم وقال: ولتعرفنهم في لحن القول وفي الحديث الذي في السنن: [ ص: 690 ] « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ثم قرأ: إن في ذلك لآيات للمتوسمين قاله ابن كثير.

    قال الغزالي: ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل، ممن يكون مستترا مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى، أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته، فهو يتعيش في جلباب التجمل، فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال، كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة، كأن يكون أهل علم، فإن ذلك إعانة له على العلم، والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية، وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم. فقيل له: لو عممت؟! فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء، فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم، فتفريغهم للعلم أفضل.

    لطيفة:

    السيما مقصور، كالسيمة، والسيماء والسيمياء (ممدودين بكسرهن). والسومة (بالضم): العلامة. قال أبو بكر بن دريد: قولهم: عليه سيما حسنة، معناه علامة، وهي مأخوذة من وسمت أسم، والأصل في (سيما) وسمى، فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين، كما قالوا: ما أطيبه وأيطبه، فصار سومى. وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، قال السمين: فوزن سيما عفلا، وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق، إما واو أو ياء، فهي كعلباء، ملحقة بسرداح، فالهمزة للإلحاق، لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك. انتهى.

    لا يسألون الناس إلحافا مصدر في موضع الحال، أي: ملحفين. يقال: ألحف عليه إلخ. قال الزمخشري: الإلحاف الإلحاح وهو اللزوم، وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه. أي: أعطاني من فضل ما عنده. قيل: معنى الآية: إن سألوا سألوا [ ص: 691 ] بتلطف ولم يلحوا، فيكون النفي متوجها إلى القيد وحده، والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعا، فمرجع النفي إلى القيد ومقيده، كقوله: ولا شفيع يطاع وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا، واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم: لا يسألون الناس إلحافا » . وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم » . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا » . وأخرج أحمد عن ابن عمر: [ ص: 692 ] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء استبقى على وجهه » . وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر » . وأخرج أحمد وأبو داود، وابن خزيمة عن سهل ابن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: « ما يغديه أو يعشيه » . وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ولا تسألوا الناس، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه.

    وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه » . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الله يحب المؤمن المحترف » . وأخرج أحمد والطبراني وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من استغنى [ ص: 693 ] أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف » . وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: « خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت كله وإن شئت تصدق به. وما لا فلا تتبعه نفسك » .

    قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا، ولا يرد شيئا أعطيه: وما تنفقوا من خير أي: ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم: فإن الله به عليم أي: بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره، فيجازي بحسبه، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يختص الإنفاق بوقت أو حال بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [274] الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار.

    قال الحرالي: فأفضلهم المنفق ليلا سرا، وأنزلهم المنفق نهارا علانية، فهم بذلك أربعة أصناف.

    لطائف:

    لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيبا وترهيبا، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله.

    [ ص: 694 ] قال الإمام الغزالي عليه الرحمة في " الإحياء " ما نصه: في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معان: الأول: أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد، وشهادة بإفراد المعبود، وشرط تمام الوفاء به، أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب، والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت، مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم، ولذلك قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك بالجهاد، وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل، والمسامحة بالمال أهون، ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم، فلم يدخروا دينارا ولا درهما، وقسم درجتهم دون من قبلهم، وهم الممسكون أموالهم، المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم، وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها، وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة، وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقا سوى الزكاة، كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد. قال الشعبي: (بعد أن قيل له: هل في المال حق سوى الزكاة؟) قال: نعم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #135
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 695 الى صـ 700
    الحلقة (135)




    أما سمعت قوله عز وجل: وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية ، واستدلوا بقوله [ ص: 695 ] عز وجل: ومما رزقناهم ينفقون وبقوله تعالى: أنفقوا مما رزقناكم وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على الموسر، مهما وجد محتاجا، أن يزيل حاجته فضلا عن مال الزكاة. وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، وهي أقل الرتب، وقد اقتصر جميع العوام عليه؛ لبخلهم بالمال وميلهم إليه، وضعف حبهم للآخرة. قال الله تعالى: إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم يحفكم أي: يستقصي عليكم. فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة، وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله، فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال.

    المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل، فإنه من المهلكات. قال صلى الله عليه وسلم: « ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه » . وقال تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وإنما تزول صفة البخل بأن نتعود [ ص: 696 ] بذل المال، فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتيادا، والزكاة، بهذا المعنى: طهرة. أي: تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى.

    المعنى الثالث: شكر النعمة. فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير، وقد ضيق عليه الرزق، وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه.

    فصل

    وللغزالي رحمه الله أيضا بحث في المن والأذى المتقدم ذكرهما. يجدر ذكره هنا، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة.

    قال رحمه الله: الوظيفة الخامسة (يعني من وظائف مريد طريق الآخرة بصدقته) أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى، قال الله تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى واختلفوا في حقيقة المن والأذى، فقيل: المن أن يذكرها، والأذى أن يظهرها. وقال [ ص: 697 ] سفيان: من من فسدت صدقته، فقيل له: كيف المن؟ فقال: أن يذكره ويتحدث به. وقيل: المن أن يستخدمه بالعطاء، والأذى أن يعيره بالفقر، وقيل: المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه، والأذى: أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « لا يقبل الله صدقة منان » . وعندي أن المن له أصل ومغرس، وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح، فأصله: أن يرى نفسه محسنا إليه ومنعما عليه، وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه، الذي هو طهرته ونجاته من النار، وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهنا به، فحقه أن يتقلد منة الفقير؛ إذ جعل كفه نائبا عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل » . فليتحقق أنه مسلم إلى الله عز وجل حقه، والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل، ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه، لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا، فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه، أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه، فهو ساع في حق نفسه، فلم يمن به على غيره؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل، أو أحدها، لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه، إما ببذل ماله إظهارا لحب الله، أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل، أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد، وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه، ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسنا إليه تفرع منه على ظاهره. ما ذكر في معنى المن، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة [ ص: 698 ] منه بالشكر والدعاء، والخدمة والتوقير والتعظيم، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس، والمتابعة في الأمور، فهذه كلها ثمرات المنة، ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه، وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار، وفنون الاستخفاف وباطنه، وهو منبعه أمران: أحدهما كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة، والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه، وكلاهما منشؤه الجهل. أما كراهيته تسليم المال فهو حمق، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوي ألفا فهو شديد الحمق، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل، والثواب في الدار الآخرة، وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل، أو شكره لطلب المزيد، وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها، وأما الثاني فهو أيضا جهل، لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام.

    وقد أطال الغزالي رحمه الله من هذا النفس العالي. فليراجع.

    فصل

    في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة والصدقة

    قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في " زاد المعاد ": هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هدي في وقتها، وقدرها ونصابها، ومن تجب عليه، ومصرفها، ويراعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه، وقيد النعمة به على الأغنياء، فما أزال النعمة بالمال على من أدى زكاته، بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات، ويجعلها سورا عليه وحصنا له وحارسا له.

    [ ص: 699 ] ثم قال في (هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع): كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله، ولا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه، قليلا أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه وتارة بلباسه، وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء شيء، ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل بجابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه، وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان [ ص: 700 ] بكل ممكن، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها وبحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى، وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدور، وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها، وشرح صدره حسا وإخراج حظ الشيطان منه.

    ولما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #136
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 701 الى صـ 706
    الحلقة (136)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [275] الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

    الذين يأكلون الربا وهو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم، كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع لا يقومون أي: يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين: إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس في القاموس خبطه: ضربه شديدا، كتخبطه واختبطه. وفي " العباب ": كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه. وأصله : المس [ ص: 701 ] باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، والجار يتعلق إما بـ (لا يقومون) أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بـ (يقوم) أي: كما يقوم المصروع من جنونه، أو بـ (يتخبطه) أي: من جهة الجنون. والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين. تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكا لهم وفضيحة.

    قال الحرالي: في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل. يقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال.

    قال البقاعي: وهو مؤيد بالمشاهدة، فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم.

    تنبيه:

    قال في الكشاف: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والمس: الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك: جن الرجل، معناه: ضربته الجن.

    وتبعه البيضاوي في قوله وهو: أي: التخبط والمس، وارد على ما يزعمون إلخ.

    قال الناصر في " الانتصار ": معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي: كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار: وقال بعده: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم. من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن، وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة، وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لهم.

    [ ص: 702 ] وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في " شرح المقاصد ": وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء، ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء.

    وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية، ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الإنسان، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات.

    قال العلامة البقاعي، بعد نقله ما ذكرنا: وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم » . وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب. ونحو ذلك. وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك، وأما مشاهدة المصروع، يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع - فكثير جدا، لا يحصى مشاهدوه. إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين. وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق.

    روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة [ ص: 703 ] جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن ابني به جنون، وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا، فيخبث علينا. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثع ثعة، وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى. وقوله: (ثع بمثلثة ومهملة، أي: قاء).

    وللدارمي أيضا وعبد بن حميد بسند حسن أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير، تظلنا، فعرضت له امرأة معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار. فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل، ثم قال: اخسأ، عدو الله! أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها.

    وأخرجه الطبراني من وجه آخر، وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأن ذلك كان في حرة واقم. قال جابر: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان، فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما. فقالت: يا رسول الله! اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق! ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدا، وردوا عليها الآخر.

    ورواه البغوي في " شرح السنة " عن يعلى بن مرة رضي الله عنه.

    ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل. قال: وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك، وبعد أن ساق ذلك قال: وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافيا، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.

    وقد أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة:

    [ ص: 704 ] فصل

    في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع

    أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء. أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. فقال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك » . فقالت: أصبر. قالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها.

    قلت: الصرع صرعان:

    صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الردية.

    والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، في سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج، وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع: المرض الإلهي. وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ. وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها. [ ص: 705 ] وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم، وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعا، بكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.

    والثاني: من جهة المعالج بأن يكونوا فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه. أو بقول: بسم الله، أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « اخرج عدو الله! أنا رسول الله » . وشاهدت شيخنا (يعني الإمام ابن تيمية رضي الله عنه) يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي، فإن هذا لا يحل لك. فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة، فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع، ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا، وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم. ومد بها صوته. قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى مجلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب، ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه. فقلت لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحج به. فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك. فقالت: أنا أدعه كرامة لك. قال قلت: لا. ولكن طاعة لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه.

    قال: فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ ولم يشعر بأنه وقع ضرب البتة. [ ص: 706 ] وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين. وبالجملة، فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم، من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا، ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة. وبالله المستعان.

    وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم. ووقوعها خلال ديارهم، كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد أعداء هذا الصرع! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا، بل صار، لكثرة المصروعين، عين المستنكر المستغرب خلافه. فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #137
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 707 الى صـ 712
    الحلقة (137)


    ثم قال: وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام. وسببه: خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ، سدة غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا ما، من غير انقطاع بالكلية، وقد يكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا، وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار [ ص: 707 ] وقت وجود المؤلم خاصة، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمسا وعشرين سنة. وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازما، قال بقراط: إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا. إذا عرف هذا، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع، فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تنكشف، وخيرها بين الصبر والجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان، فاختارت الصبر والجنة. وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي، وإن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء، وإن تأثيره وفعله وتأثير الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها، وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا. وعقلاء الأطباء معترفون بأن في فعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب، وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم. والظاهر أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع، ويجوز أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبر والستر. والله أعلم.

    ذلك أي: القيام المخبط: بأنهم قالوا أي: بسبب قولهم: إنما البيع مثل الربا أي: نظيره في أن كلا منهما معاوضة. فإن قلت: هلا قيل: إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، وحل البيع متفق عليه، فيقاس عليه الربا، وحق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؟ أجيب: بأنه جيء به على طريق المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل، حتى شبهوا به البيع. كذا أجاب الزمخشري.

    قال الناصر في " حواشيه ": وعندي وجه في الجواب غير ما ذكر، وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوي بينهما طردا. فيقول مثلا: الربا مثل البيع. وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال، فالربا حلال، وله أن يسوي بينهما [ ص: 708 ] في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حراما كان البيع حراما، ضرورة المماثلة. ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالا اتفاقا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله. والأول: على طريقة قياس الطرد. والثاني: على طريقة العكس. ومآلهما إلى مقصد واحد. فلا حاجة، على هذا التقرير، إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره. وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح. وإن كان قياسا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحا فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم، وهو الإسكار، والخمر حرام، فالنبيذ حرام. وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ، فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا، وليست حلالا اتفاقا، فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه. والله أعلم. وقوله: وأحل الله البيع وحرم الربا إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فأنى يتماثلان؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه.

    قال الرازي: إن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف. قالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة. فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس. وذكر القفال رحمه الله الفرق بين البابين فقال: من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين، فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل، صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض، أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل، لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين. وقد أخرج أبو نعيم في " الحلية " عن جعفر بن محمد أنه سئل: لم حرم الله [ ص: 709 ] الربا؟ قال: لئلا يتمانع الناس المعروف. أي: الإحسان الذي في القرض ؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله.

    فمن جاءه موعظة أي: بلغه وعظ وزجر، كالنهي عن الربا: من ربه متعلق بـ (جاءه) أو بمحذوف وقع صفة لـ (موعظة). والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية: فانتهى عطف على (جاءه) أي: فاتعظ بلا تراخ، وتبع النهي: فله ما سلف أي: ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه: وأمره إلى الله إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه، لأن الفرق، وإن ظهر لأرباب النظر، يجوز أن يخفى على العوام: ومن عاد أي: إلى تحليل الربا بعد النص: فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لكفرهم بالنص، وردهم إياه بقياسهم الفاسد، بعد ظهور فساده. ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر، فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق، حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة، ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به، فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم، كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها، مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات، بما يتوهمه من الخيالات - فقد كفر ثم ازداد كفرا. وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل إذا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية. والله الموفق. أشار لذلك في " الانتصاف ".

    قال في فتح البيان: والمصير إلى هذا التأويل واجب، للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.
    [ ص: 710 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [276] يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم .

    يمحق الله الربا أي: يذهب ريعه ويمحو خيره، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وقال تعالى: ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ويربي الصدقات أي: يكثرها وينميها،إن كانت نقصانا في الشاهد.

    فوائد:

    الأولى: قال القاشاني: لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين، والمال الحاصل من الربا لا بركة له ؛ لأنه حصل من مخالفة الحق، فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي ؛ إذ كل طعام يولد في آكله دواعي وأفعالا من جنسه، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة، وإن كان مباحا فإلى مباحة، وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرعا متفضلا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا، ويتلف الله ماله في الدنيا، فلا ينتفع به أعقابه وأولاده، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكلي. وأما المتصدق فلكون ماله مزكى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل، وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به. وذلك [ ص: 711 ] هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة. وأي زيادة أفضل مما تبقى عند الله؟! ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا. وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله؟!

    الثانية: قال القاشاني عليه الرحمة قبل ذلك: آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر، فإن كل مكتسب له توكل ما فيه كسبه، قليلا كان أو كثيرا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب، فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم » . وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه. سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه، وعن رزقه بتعيينه. لا توكل له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله. وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه الجن وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان فتخبطه، لا يهتدي إلى مقصد.

    الثالثة: قال بعض العلماء العمرانيين: يشترط لجواز التمول أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة، وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها، وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا، قصدا لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية، لأن الربا هو كسب بدون مقابل مادي ؛ ففيه معنى الغصب، وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق، وبدون تعرض لخسائر طبيعية، كالتجارة والزراعة والأملاك، ومن الشاهد: أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس.

    ثم قال: وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا: إن المعتدل منه نافع [ ص: 712 ] بل لا بد منه. أولا: لأجل قيام المعاملات الكبيرة. وثانيا: لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا؟! وثالثا: لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح، أو لا يقدرون عليها. كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان.

    فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم، أما السياسيون والأخلاقيون فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأن هذه الثروات الأفرادية تمكن الاستبداد الداخلي، فتجعل الناس صنفين: عبيدا وأسيادا. وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالا وعدة، وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة. ولذلك حرمت الأديان الربا تحريما مغلظا. انتهى.

    الرابعة: قال الرازي: لما بالغ تعالى في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخيرات، فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وإن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى. ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما.

    وقال القفال: ونظير قوله: يمحق الله الربا المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا. ونظير قوله: ويربي الصدقات المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

    والله لا يحب كل كفار أثيم صيغتا مبالغة من الكفر والإثم، لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك. وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار، لا من فعل المسلمين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #138
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 713 الى صـ 718
    الحلقة (138)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [277] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    إن الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه وبتحريم الربا، ورجح إيمانهم أمر الله بالإنفاق، على جمعهم للمال: وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم التي من جملتها الجود وترك الربا: وأقاموا الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كالشح والربا: وآتوا الزكاة أعطوا زكاة أموالهم التي هي أجل أسباب فضيلة الجود: لهم أجرهم ثوابهم الكامل: عند ربهم في الجنة: ولا خوف عليهم يوم الفزع الأكبر

    ولا هم يحزنون لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [278] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين .

    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أي: اخشوا الله في الربا، لأن فيه إبطال حكمته تعالى في خلق الأموال: وذروا ما بقي من الربا أي: اتركوا ما بقي لكم من الربا على الغرماء: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة، فإن ذلك مستلزم لما أمرتم به البتة.

    قال الحرالي: فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [279] فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .

    فإن لم تفعلوا أي: لم تتركوا ما بقي: فأذنوا أي: اعلموا: بحرب من الله ورسوله [ ص: 714 ] قال المهايمي: أي: إن لم تفعلوا ترك ما بقي كنتم متهاونين بأمره، ومن تهاون بأمر ملك حاربه.

    والحرب نقيض السلم، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا. وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله وإن تبتم من الربا: فلكم رءوس أموالكم أي: أصولها: لا تظلمون بطلب الزيادة: ولا تظلمون بالنقص والمطل. بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص فيه، ثم أمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [280] وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .

    وإن كان ذو عسرة أي: بالكل أو البعض: فنظرة أي: فالواجب إمهال بقدر ما أعسر: إلى ميسرة أي: بذلك القدر. لا كما كان أهل الجاهلية، يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي. ثم ندب تعالى إلى الوضع من المعسر ووعد عليه الخير والثواب الجزيل فقال: وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أي وأن تتركوا للمعسر قدر ما أعسر بإبرائه منه، لأنه ربما لا يحصل البدل في الحال، فيأخذ ما يساويه في الآخرة. والصدقة تتضاعف الأضعاف المذكورة.

    وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه » . وأخرج مسلم والترمذي نحوه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

    [ ص: 715 ] وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة » . رواه الإمام أحمد ومسلم. وعن بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة. قال: ثم سمعته يقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة » . فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: « له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين. فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة » . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: « من أنظر معسرا أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم » . رواهما الإمام أحمد، ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [281] واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .

    واتقوا يوما أي: اخشوا عذاب يوم: ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت ما عملت من خير أو شر.

    قال المهايمي: فإن استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون استوفى الله منه حقوقه بالتضييق، وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة، والمديون، إن لم يوف حق الدائن مع قدرته على [ ص: 716 ] الأداء استوفى الله منه حقه، وأما من لا يقدر، فيرجى أن يعفو الله عنه، ويرضى خصمه بعوض من عنده: وهم لا يظلمون لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.

    تنبيه:

    من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبر جرمه وإثمه، فقد ترتب عليه قيامهم في المحشر مخبلين وتخليدهم في النار ونبزهم بالكفر، والحرب من الله ورسوله واللعنة. وكذا الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة ودعاء من ظلم بأخذ ماله على ظالمه. وذلك سبب لزوال الخير والبركة، فما أقبح هذه المعصية وأزيد فحشها. وأعظم ما يترتب من العقوبات عليها! وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة. فمنها: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اجتنبوا السبع الموبقات أي: المهلكات. قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات » . وأخرج البخاري [ ص: 717 ] عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم: « رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي [ ص: 718 ] رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا » . وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: « هم سواء » . وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله. وثمة آثار وافرة، ساقها السيوطي في الدر المنثور.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #139
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 719 الى صـ 724
    الحلقة (139)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [282] يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم .

    يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة، أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا وفي قوله: تداينتم دليل على جواز السلم، لأن المداينة فعل اثنين وهو السلم نفسه، لأنه دين من الجانبين جميعا. وعلى ذلك [ ص: 720 ] روي عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، أن الله تعالى أحله وأذن فيه ثم قرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم الآية. رواه البخاري.

    وقال آخرون: قوله: إذا تداينتم بدين هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى التداين. كما يسمى البائع والمشتري المتبايعين، لأن كل واحد منهما بائع في وجه، فعلى ذلك، المداينة: التداين. وإنما لم نؤمر بالكتابة في بيع الأعيان، لأنه في المداينات، وصل أحدهما إلى حاجته يقبض رأس المال والآخر لم يصل، فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود. فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود، لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، ولا كذلك مع العين بالعين، لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر، فليس هنالك للإنكار معنى، وثمة وجه آخر: وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك، أو ينسى بعضه ويذكر بعضا، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك في بيع العين بالعين. فافترقا. كذا في التأويلات للماتريدي: وليكتب بينكم أي: الدين المذكور: كاتب بالعدل الجار متعلق إما بالفعل أي: وليكتب بالحق. أو بمحذوف صفة لـ كاتب، أي: وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقص، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين، حتى يجيء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع: ولا يأب أي: ولا يمتنع: كاتب من: أن يكتب كما علمه الله أي: كما بينه بقوله تعالى: بالعدل أو لا يأبى أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليم الكتاب، كقوله تعالى: وأحسن كما أحسن الله إليك وفي الحديث: « إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق » . [ ص: 721 ] وفي الحديث الآخر: « من كتم علما يعلمه، ألجم بلجام من نار » .

    قال الرازي: ظاهر هذا الكلام نهي لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة، وإيجابها على كل من كان كاتبا: فليكتب أي: تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيدا لها: وليملل الذي عليه الحق الإملال: الإملاء. وهما لغتان نطق القرآن بهما. قال تعالى: فهي تملى عليه أي: وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه: وليتق أي: وليخش المملي: الله ربه جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل، للمبالغة في التحذير: ولا يبخس أي: لا ينقص: منه أي: مما عليه: شيئا مما عليه من الدين: فإن كان المدين وهو: الذي عليه الحق سفيها أي: خفيف الحلم أو جاهلا بالإملاء لا يحسنه: أو ضعيفا صبيا أو شيخا هرما: أو لا يستطيع أن يمل هو أي: أو غير مستطيع للإملاء بنفسه - لعي به أو خرس أو عجمة، ولفظ (هو) هنا توكيد للفاعل المضمر - والجمهور على ضم الهاء لأنها كلمة منفصلة عما قبلها، فهي مبدوء بها. وقرئ بإسكانها على أن يكون أجرى المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام. نحو: وهو، فهو، لهو. قاله أبو البقاء،: فليملل وليه يعني الذي يلي أمره من قيم أو وكيل أو ترجمان: بالعدل من غير نقص ولا زيادة: واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ ص: 722 ] أي: اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة: فإن لم يكونا أي: الشاهدان: رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون أي: في العدالة: من الشهداء ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال، العدد من النساء، علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن، فقال: أن تضل إحداهما أي: تغيب عنها الشهادة: فتذكر إحداهما الأخرى الضالة: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا أي: لأداء الشهادة التي تحملوها أو لتحملها. وتسميتهم (شهداء) قبل التحمل من تنزيل المشارف منزلة الواقع: ولا تسأموا أن تكتبوه أي: الدين: صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أي: المذكور من الكتابة: أقسط أي: أعدل: عند الله وأقوم للشهادة أي: أعون لإقامتها ؛ إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ: وأدنى أي: أقرب: ألا ترتابوا أي: لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله بتشكيك أحد المتداينين: إلا أن تكون تجارة حاضرة أي: حالة: تديرونها أي: تكثرون إدارتها: بينكم فتصعب عليكم كتابتها مع قلة الحاجة إليها: فليس عليكم جناح ألا تكتبوها لأنها مناجزة فيبعد فيها التنازع والنسيان. قال أبو البقاء: (تجارة) يقرأ بالرفع على أن تكون التامة و(حاضرة) صفتها. ويجوز أن تكون الناقصة، واسمها تجارة، وحاضرة صفتها، وتديرونها الخبر. وقرئ بالنصب على أن يكون اسم الفاعل مضمرا فيه، تقديره إلا أن تكون المبايعة تجارة: وأشهدوا إذا تبايعتم أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا، لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع. يعني التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الضحاك. هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل. كذا في الكشاف. وأخرج ابن المنذر عن جابر بن زيد أنه اشترى سوطا فأشهد وقال: قال الله: وأشهدوا إذا تبايعتم

    قال أبو القاسم بن سلامة في كتابه (الناسخ والمنسوخ): قد كان جماعة من التابعين [ ص: 723 ] يرون أنهم يشهدون في كل بيع وابتياع، فمنهم الشعبي وإبراهيم النخعي. كانوا يقولون: إنا نرى أن نشهد ولو في جزرة بقل.

    ولا يضار كاتب ولا شهيد يحتمل البناء للفاعل والمفعول، ويدل عليه أنه قرئ: ولا يضارر بالكسر والفتح والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم. قال الحرالي: في الإحنة تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده، ويعينه على الائتمار لأمره بما يدفع من ضرر، عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه.

    وإن تفعلوا أي: ما نهيتم عنه من الضرار: فإنه فسوق بكم أي: خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم. قال الحرالي: وفي صيغة (فعول) تأكيد فيه وتشديد في النذارة.

    واتقوا الله أن يعذبكم بالخروج عن طاعته: ويعلمكم الله أحكامه المتضمنة لمصالحكم: والله بكل شيء عليم ولما كان التقدير: هذا إذا كنتم حضورا يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [283] وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم .

    وإن كنتم على سفر أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى: ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ ص: 724 ] أي: فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق، وثيقة لدينه. هذا إذا لم يأمن البعض البعض بلا وثيقة: فإن أمن بعضكم بعضا لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان: فليؤد الذي اؤتمن وهو المدين. وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام، ولحمله على الأداء: أمانته أي: دينه. وإنما سمي أمانة: لائتمانه عليه بترك الارتهان به: وليتق الله ربه في رعاية حقوق الأمانة. وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى:ولا تكتموا أيها الشهود: الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #140
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 725 الى صـ 730
    الحلقة (140)


    قال الزمخشري: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله فإنه آثم. وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول، إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله. فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، [ ص: 725 ] واللسان ترجمان عنه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب، وقرئ (قلبه) بالنصب. كقوله: سفه نفسه. وقرأ ابن أبي عبلة: أثم قلبه. أي: جعله آثما: والله بما تعملون أي: بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم: عليم
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [284] لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .

    لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا أي: تظهروا: ما في أنفسكم من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح: أو تخفوه يحاسبكم به الله قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة: والله بما تعملون عليم ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال: لله ما في السماوات وما في الأرض ومعنى هذا الملك، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه، ومن كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالما بها. إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به، فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان، على كونه تعالى عالما بها محيطا بأجزائها وجزئياتها.

    قال الشعبي: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه، بين أن له ملك السماوات والأرض، فيجازي على الكتمان والإظهار. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر [ ص: 726 ] وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى: وإن تبدوا إلخ نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.

    وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا » . قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: قد فعلت: ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال: قد فعلت: واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا قال: قد فعلت. وفي مسند عبد الله بن حميد والطبراني: قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل، أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة، فإنما جاءه من عمومها ومن قوله: يحاسبكم إذ حمله على حساب المؤاخذة، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه، إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولا وبالذات، وغيرها ثانيا وبالعرض، وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفيا أو لغويا فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره، كنفاق وريب في الدين، ولا إشكال في الآية، وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده، ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز على الصدر، لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما، وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيرا أو شرا وإراءته عاقبته الحسنى أو السوأى، وهو الذي يظهر، فلا إشكال أيضا. فما روي عن بعض الصحب عليهم الرضوان منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن [ ص: 727 ] يخفق له فؤاد كل مؤمن، ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع، أن قولهم: نزلت في كذا، قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره. وهكذا هنا، فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها، ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم، وقوله في الرواية: فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها، بل المراد، كما أسلفنا في سبب النزول، أن لفظ: لا يكلف الله إلخ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها، فافهم فإنه نفيس جدا، وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات. وبالله التوفيق.

    هذا وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما وسوست بها صدورها، ما لم تعمل أو تكلم » . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا » فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي: فهو يغفر إلخ. وبجزمهما عطفا على جواب الشرط. وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه: والله على كل شيء قدير قال الرازي: قد بين بقوله: لله ما في السماوات وما في الأرض أنه كامل الملك والملكوت، وبين بقوله: وإن تبدوا إلخ. أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بين بقوله: والله على كل شيء قدير أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام، ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات، والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدا منقادا له، خاضعا لأوامره، ونواهيه، محترزا عن سخطه. وبالله التوفيق.
    [ ص: 728 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [285] آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .

    آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه أي: صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة: " كان خلقه القرآن " والترقي بمعانيه والتحقق: والمؤمنون أي: كذلك آمنوا.

    قال الزجاج رحمه الله: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين، ختمها بقوله: آمن الرسول لتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله، وغيره ليكون تأكيدا له وفذلكة.

    لطيفة:

    قوله: والمؤمنون إما مبتدأ والجملة بعده خبر. أعني: كل آمن، والعائد إلى المبتدأ التنوين القائم مقام الضمير في " كل "، لأن من جملة العائد إلى المبتدأ التنوين النائب مناب الضمير، وإما معطوف على الرسول، فيكون التنوين راجعا إلى الرسول والمؤمنين، وقد اختار كثيرون الأول، ومنهم العلامة أبو السعود، وأطال في توجيهه. وعندي أن الوجه هو الثاني، [ ص: 729 ] لأن المقام لتعداد المؤمن به، وذلك يشترك فيه الرسول وأتباعه، وإن كان كنه إيمان الرسول لا يشاركه فيه غيره، فالمقام ليس مقام الخصوصية. والله أعلم.

    كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق أي: يقولون: لا نفرق: بين أحد من رسله أي: برد بعض وقبول بعض، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق: وقالوا سمعنا أي: قولك وفهمناه: وأطعنا أي: امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه، ولما علموا أنهم لا يخلون من تقصير، وأن الرب يغفر لمن يشاء قالوا: غفرانك ربنا أي اغفر لنا غفرانك، أو نسألك غفرانك ذنوبنا، وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول: وإليك المصير أي: الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة، لما أن الرجوع للحساب والجزاء.
    [286] لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

    لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه.

    قال الرازي: يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله، ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها على نسق الكلام في قوله: وقالوا سمعنا وأطعنا وقالوا: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها

    ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله: ربنا لا تؤاخذنا فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل [ ص: 730 ] الصالح، وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

    ثم قال الرازي: في كيفية النظم: إن قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين، فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو تعالى، بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين، وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى، فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا ثم قالوا بعده: غفرانك ربنا دل ذلك على أن قولهم: غفرانك طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد، فلما كان قولهم (غفرانك)، طلبا للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم: غفرانك ربنا.

    قال زين العابدين بير محمد درة في " المدحة الكبرى ": وعلى احتمال أن يكون قوله: لا يكلف الله إلخ حكاية، فهو من قبيل العطف بلا عاطف، أو الكلام على تقدير قالوا. قال بعضهم: ولك أن تجعل: لا يكلف الله إلخ في حيز القول، وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين، ويكون مدحا لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه، حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم، وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير، بل هو لهم، ولا يتضرر بعملهم الشر، بل هو عليهم.

    وقال البقاعي: وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلبا للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك، خوفا من أن يكلفوا بما لله تعالى، أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •