تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 6 من 22 الأولىالأولى 12345678910111213141516 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 120 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #101
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 511 الى صـ 515
    الحلقة (101)

    [ ص: 511 ] وقال الحاكم: هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله! فيقول عليك نفسك....

    قال الزمخشري: ومنه رد قول الواعظ.

    وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير

    ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال، أتبعه بقسيمه المهتدي. ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول، والتخلق بنعوت الثاني فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [207] ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد .

    ومن الناس من يشري نفسه أي: يبيعها ببذلها في طاعة الله: ابتغاء مرضات الله أي: طلب رضاه: والله رءوف بالعباد حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة، مع كفرهم به، وتقصيرهم في أمره.

    لطيفة:

    قال بعضهم: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به. فإن من يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرى إلا العمل الصالح، وقول الحق والإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، [ ص: 512 ] ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا... وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه...

    وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن أبي حاتم ورزين عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش! لقد علمتم أني من أرماكم رجلا. وايم الله! لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم! فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: « ربح البيع، أبا يحيى! ربح، أبا يحيى...! » ونزلت: ومن الناس من يشري نفسه الآية.

    وأخرج الحاكم في " المستدرك " نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب موصولا. وأخرجه أيضا من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس. وفيه التصريح بنزول الآية، وقال: صحيح على شرط مسلم وروي أنها نزلت في صهيب وغيره، كما روي في نزول الأولى روايات ساقها بعض المفسرين.

    ولا تنافي في ذلك، لأن قولهم: نزلت في كذا، تارة يراد به أن حالا ما كان سببا لنزولها، بمعنى أنها ما نزلت إلا لأجله، وهذا يعلم إما من إشعار الآية بذلك، أو من رواية صح سندها صحة لا مطعن فيه. وتارة يراد به أنها نزلت بعد وقوع شأن ما تشمله بعمومها. فيقول الراوي عقيب حدوث ذلك الشأن: نزلت في كذا، والمراد: أنها تصدق عليه لا أن ذلك الشأن كان سببا للنزول... وما روي في هذه الآية من هذا القبيل.

    وإلى هذا النوع أشار الزركشي في " البرهان " بقوله: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع....

    [ ص: 513 ] وقد قدمنا أن سبب النزول مما يدخله الاجتهاد. وأن لا يعول منه إلا على ما صح سنده. وما نزل عنه وارتقى عن درجة الضعف بتفقه فيه.. فاحرص على هذا التحقيق. وقد أسلفنا في المقدمة البحث فيه مستوفى. وبالله التوفيق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [208] يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين .

    يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام، فيهما قراءتان سبعيتان - أي: في الإسلام. قال امرؤ القيس بن عابس:


    فلست مبدلا بالله ربا ولا مستبدلا بالسلم دينا


    ومثله قول أخي كندة:


    دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا


    قال الرازي: أصل هذه الكلمة من الانقياد. قال الله تعالى: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين والإسلام إنما سمي إسلاما لهذا المعنى. وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب. وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى، لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه.

    ومعنى الآية: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه: كافة حال من الضمير في ادخلوا: ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي: طرقه التي يأمركم بها فـ: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ ص: 514 ] و: إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وضم الطاء من خطوات وإسكانها لغتان: حجازية وتميمية. وقد قرئ بهما في السبع إنه لكم عدو مبين ظاهر العداوة أو مظهر لها. أي: بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه السلام وغيره، مما شواهده ظاهرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [209] فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم .

    فإن زللتم أي: عن الدخول في السلم: من بعد ما جاءتكم البينات أي: الآيات الظاهرة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق: فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام ممن زل، ولا يفوته من ضل: حكيم لا ينتقم إلا بحق. وقوله: فاعلموا إلخ نهاية في الوعيد ; لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب. وربما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي. فيكون هذا الكلام - في الزجر - أبلغ من ذكر الضرب وغيره. فظهر تسبب الجزاء في الآية بما أشعر به من الزجر والتهديد على الشرط المشير إلى ذنبهم وجرمهم.

    هذا، ومن الوجوه المحتملة في الآية، أن يكون السلم المذكور فيها معناه: الصلح والمسالمة وترك المنازعة والاختلاف. فمعنى: ادخلوا في السلم كونوا متوافقين ومجتمعين في نصرة الدين، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس. فتكون الآية حينئذ كقوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [ ص: 515 ] وقوله: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقوله: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه والله أعلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #102
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 516 الى صـ 520
    الحلقة (102)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [210] هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور

    هل ينظرون أي: ينتظرون، فـ " نظر " ك " انتظر "، يقال: نظرته وانتظرته إذا ارتقبت حضوره. وهذا الاستفهام إنكاري في معنى النفي ; أي: ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة - في الامتثال بما أمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه - بعد طول الحلم عنهم: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام جمع ظلة - كقلل في جمع قلة - أي: في ظلة داخل ظلة - وهي ما يستر من الشمس، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها: والملائكة عطف على الاسم الجليل، أي: ويأتي جنده الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو. هذا على قراءة الجماعة. وعلى قراءةأبي جعفر [ ص: 516 ] بالخفض. فهو عطف على ظلل أو الغمام: وقضي الأمر أي: أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه. قال الراغب: نبه به على أنه لا يمكن تلافي الفارط... وهو عطف على: يأتيهم داخل في حيز الانتظار. وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه، فكأنه قد كان. أو جملة مستأنفة جيء بها إنباء عن وقوع مضمونها وإلى الله ترجع الأمور أي: فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا، فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة وراجع إليه تعالى. يقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إليهم. أو عنى بـ: الأمور الأرواح والأنفس دون الأجسام، وسماها أمورا من حيث إنها إبداعات مشار إليها بقوله: ألا له الخلق والأمر فهي من الإبداع الذي لا يمكن من البشر تصوره ; فنبه أن الأرواح كلها مرجوعة إليه وراجعة. وعلى نحو ذلك قال: كما بدأكم تعودون ويكون رجوعها إما بربح وغبطة، وإما بندامة وحسرة. قاله الإمام الراغب.

    قال أبو مسلم: إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا، امتحانا، فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده. وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم - كما أمر - ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.

    وقد قرئ في السبع ترجع بضم التاء بمعنى ترد، وبفتحها بمعنى تصير، كقوله تعالى: [ ص: 517 ] ألا إلى الله تصير الأمور

    قال القفال: والمعنى في القراءتين متقارب، لأنها ترجع إليه تعالى، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة.

    تنبيهان:

    الأول: لهذه الآية أشباه ونظائر تدل على أن هذا الوعيد أخروي.

    ولذا قال ابن كثير في معنى الآية: يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة يعني: يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزى كل عامل بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر...! ولهذا قال تعالى: وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور

    كما قال تعالى: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى

    وقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك الآية.

    [ ص: 518 ] الثاني: وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقول في جميع ذلك من جنس واحد.

    وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها: إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. والقول في صفاته كالقول في ذاته. والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه أو كيف يأتي..؟ فليقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا أعلم كيفية ذاته! فليقل له: وكذلك لا تعلم كيفية صفاته..! فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف. وقد أطلق غير واحد، ممن حكى إجماع السلف، منهم الخطابي: مذهب السلف أن صفاته تعالى تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وبعض الناس يقول: مذهب السلف إن الظاهر غير مراد. ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد. وهذه العبارة خطأ إما لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى ; لأن لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك. فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد ; ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ; فهذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى جعله محتاجا إلى تأويل، وحيث حكى عن السلف ما لم يريدوه. وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها. والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، أن ظاهر ذلك مراد - كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا.

    وكذلك لما اتفقوا على أنه حي عالم حقيقة، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير. فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون [ ص: 519 ] شيء من ظاهر ذلك مرادا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا إلا بدليل يدل على النفي. وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا.

    وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير. وبالجملة، فمن قال: إن الظاهر غير مراد - بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة - قلنا له: أصبت في المعنى ولكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقا إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه. ومن قال: الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني: وهو مراد الجهمية ومن تبعهم ; فقد أخطأ. وإنما أتي من أخطأ من قبل أنه يتوهم - في بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها أو كلها - أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:

    أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.

    الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله. فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.

    الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب.

    الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات - من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات - فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله [ ص: 520 ] بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته.

    وحاصل الكلام: أن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته.

    هذا ملخص ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في رسالتيه " التدمرية " و " المدنية ".

    قال الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ; إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعم أن من أقر بها شبه. وهم، عند من أقر بها، نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة.

    وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل ": لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها ; والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها.

    وقال عبد الله بن المبارك: إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه. واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ولا في النقل الصريح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية. والمخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة، من المتأولين لهذا الباب، في أمر مريج، وسبحان الله! بأي عقل يوزن الكتاب والسنة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #103
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 521 الى صـ 525
    الحلقة (103)


    ورضي الله عن الإمام مالك حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لجدل هذا؟ وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر. وهو من وجوه:

    [ ص: 521 ] أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك.

    والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.

    الثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان. فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات، على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية. فإذا كان هكذا، فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

    قال البقاعي: وتجلي الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف. منه ما في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: « تلك السكينة تنزلت بالقرآن» !.

    وعن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس. فسكت فسكتت. فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس. فانصرف. وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه. فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها. فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: « اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير » . قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي فانصرفت إليه. فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها. [ ص: 522 ] قال: « وتدري ما ذاك؟ » قال: لا. قال: « تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها. لا تتوارى منهم» .

    وقال البقاعي أيضا: لما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك - على ما نقل إليهم - من وفور الهيئة وتعاظم الجلال، قال تعالى جوابا لمن كان قال: كيف يكون هذا؟
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [211] سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب

    سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة المراد بهذا السؤال: تقريع بني إسرائيل وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات، لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم أمر. كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد، يقول لمن حضره: سله كم أنعمت عليه؟ أي: كم شاهدوا المعجزات الظاهرة على أيدي أنبيائهم، القاطعة بصدقهم عليهم السلام فيما جاءوهم به: كعصا موسى، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق. ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدلوا نعمة الله عليهم بها كفرا كما أشعر بذلك قوله تعالى: ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب فالمراد بنعمة الله: آياته، فهو من وضع الظاهر موضع المضمر بغير اللفظ السابق، لتعظيم الآيات ; ولا يخفى أنها من أجل أقسام نعم الله تعالى ; لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: استبدالهم [ ص: 523 ] بالإيمان بها، الكفر بها والإعراض عنها. كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وقوله: من بعد ما جاءته أي: وصلت إليه وتمكن من معرفتها أو عرفها، والتصريح بذلك - مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء - للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، وفيه تقبيح عظيم بهم، ونعي على شناعة حالهم، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا، بعد المعرفة..!.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [212] زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب .

    زين للذين كفروا حتى بدلوا النعمة: الحياة الدنيا لحضورها، فألهتهم عن غائب الآخرة.

    قال الحرالي: ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ; فأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى: كذلك زينا لكل أمة عملهم

    [ ص: 524 ] وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين، مسندا إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى، في عدة آيات من التنزيل الكريم.

    وللراغب كلام بديع ينحل به مثل هذا الإشكال وهو قوله:

    إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى ما هو سببه ومسهله، وعلى هذا يصح أن ينسب فعل واحد تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره، نحو قوله: قل يتوفاكم ملك الموت وفي موضع آخر: الله يتوفى الأنفس فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له، وفي الثاني إلى الآمر به ; وهكذا، يتصور ما ذكر، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوبا إلى الله تعالى، منفيا عن الله تعالى، نحو قوله: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وقوله: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقوله: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك

    ويسخرون - أي: يهزأون -: من الذين آمنوا وهذا كما قال تعالى: [ ص: 525 ] إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون الآيات: والذين اتقوا وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها، وإيذانا بترتب الحكم عليها: فوقهم يوم القيامة لأنهم في عليين وهم في أسفل سافلين، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما قال تعالى: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون

    ولذا قال الراغب: يحتمل قوله تعالى: فوقهم يوم القيامة وجهين:

    أحدهما: أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا.

    والثاني أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار. انتهى.

    لطائف:

    قال السيلكوتي: اعلم أن قوله تعالى: زين للذين كفروا إلخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب ; يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها ; وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مركوزا في طبيعتهم. وعطف عليه بالفعل المضارع - أعني: {يسخرون } - لإفادة الاستمرار، وعطف قوله: والذين اتقوا لتسلية المؤمنين.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #104
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 526 الى صـ 530
    الحلقة (104)


    وقوله تعالى: والله يرزق من يشاء بغير حساب يعني: ما يعطي الله هؤلاء [ ص: 526 ] المتقين من الثواب بغير حساب أي: رزقا واسعا رغدا لا فناء له ولا انقطاع، كقوله سبحانه: فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب.

    وقد استقصى الراغب: ما تحتمله الآية من وجوهها - وتلك سعة - وعبارته: أعطاه بغير حساب: إذا أعطاه أكثر مما يستحق، أو أقل مما يستحق ; والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان، وقد فسر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه.

    الأول: يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد، كقول الشاعر:


    عطاياه يحصى قبل إحصائها القطر


    الثاني: يعطيه أكثر مما يستحقه.

    الثالث: يعطيه ولا منة.

    الرابع: يعطيه بلا مضايقة. من قولهم: حاسبه.

    الخامس: يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه - وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة.

    السادس: أن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة وتنبيها أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه، [ ص: 527 ] ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه ; ولهذا قال تعالى: أيحسبون أنما نمدهم الآية.

    السابع: يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذلك لأن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب فلا يحاسب، ولهذا روي: من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة. وعلى هذا قال تعالى لسليمان: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب

    الثامن: أن الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه، كما قال: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة الآية.

    التاسع: وهو يقارب ذلك: أن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: وفيها ما تشتهيه الأنفس الآية، وقوله: {يدخلون الجنة } الآية.

    وأما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير، يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا.
    [ ص: 528 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [213] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنـزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

    كان الناس أمة واحدة أي: وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد. وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم، أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، كما قال في الآية الأخرى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا أي: انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق، الذي يثمر كل خير لهم وسعادة، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل، ولما كانوا لم يخلقوا سدى من الله عليهم بما يبصرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء وما نزل معهم من الكتاب الفصل، كما أشارت تتمة الآية: فبعث الله النبيين الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره، وأرسلهم إلى خلقه: مبشرين لمن آمن وأطاع: ومنذرين لمن كفر وعصى: وأنـزل معهم الكتاب أي: كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة ; لكونه متلبسا: بالحق من جميع الوجوه: ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة، فسلكوا بهم، بعد جهد، السبيل الأقوم، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب: وما اختلف فيه أي: الكتاب الهادي الذي [ ص: 529 ] لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف: إلا الذين أوتوه أي: علموه فبدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف. ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل: من بعد ما جاءتهم البينات أي: الدلائل الواضحة -: بغيا بينهم أي: حسدا وقع بينهم: فهدى الله الذين آمنوا بالكتاب: لما اختلفوا أي: أهل الضلالة: فيه من الحق أي: للحق الذي اختلفوا فيه. وفي إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا، ما لا يخفى من التفخيم: بإذنه أي: بتيسيره ولطفه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم تقرير لما سبق. وفي " صحيح مسلم " عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان - إذا قام من الليل يصلي يقول: « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم...! » .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [214] أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .

    أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم أي: من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين، أي: والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة، سنة الله التي لا تتبدل: مستهم استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف كان مثلهم؟ [ ص: 530 ] فقيل: مستهم البأساء والضراء أي: الشدائد والآلام: وزلزلوا أي: أزعجوا، مما دهمهم من الأهوال والإفراغ، إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة التي تكاد تهد الأرض وتدك الجبال: حتى يقول الرسول أي: انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول - وهو أعلم الناس بشؤون الله تعالى، وأوثقهم بنصره، وداعيهم إلى الصبر -: والذين آمنوا معه - وهم الأثبت بعده، العازمون على الصبر، الموقنون بوعد النصر -: متى نصر الله - استبطاء له، واستطالة لمدة الشدة والعناء - فيقال لهم: ألا إن نصر الله قريب كما قال تعالى: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا أي: فاصبروا كما صبروا تظفروا..!. وقد حصل من هذا الابتلاء جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا الآيات.

    وروى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: « قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها. فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» ...

    [ ص: 531 ] وفي رواية: وهو متوسد بردة، وقد لقينا من المشركين شدة...

    ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم! قال: فكيف كانت الحرب بينكم قال: سجالا، يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة!.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #105
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 531 الى صـ 535
    الحلقة (105)


    وهذه الآية كآية: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [215] يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم .

    يسألونك ماذا ينفقون أي: أي شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟: قل ما أنفقتم من خير فللوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة: والأقربين بعدهما ليكون صلة وصدقة: واليتامى بعدهم لأن فيهم الفقر مع العجز: والمساكين بعدهم لاحتياجهم: وابن السبيل بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله. فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف؟ فالجواب: أن قوله: ما أنفقتم من خير قد تضمن بيان ما ينفقونه - وهو كل مال عدوه خيرا - وبني الكلام على ما هو أهم، وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر:


    إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع

    فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها
    لله أو لذوي القرابة أو دع



    [ ص: 532 ] فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى: يسألونك عن الأهلة فيما تقدم هذا.

    وقال القفال: إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ ما إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية، لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى. وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال: أن مصرفه أي شيء هو؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال. ونظيره قوله تعالى: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا. فقوله: ما هي لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا: إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال. فكذا ههنا، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو - وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم: ماذا ينفقون ؟ ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف، فلهذا حسن هذا الجواب...!.

    وأجاب الراغب بجوابين:

    أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق؟ وعلى من ننفق؟ ولكن حذف [ ص: 533 ] حكاية السؤال، أحدهما: إيجازا ودل عليه بالجواب بقوله: ما أنفقتم من خير كأنه قيل: المنفق الخير، والمنفق عليهم هؤلاء ; فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة.

    الجواب الثاني: أن السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه. لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه. وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه - طلبه المريض أو لم يطلب. فلما كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق من المال، بين لهم الأمرين جميعا. إن قيل: كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم..؟ قيل: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم، لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكر في غير هذا الموضع.

    ولما بين تعالى وجه المصرف وفصله هذا التفصيل الحسن الكامل، أردفه بالإجمال فقال: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم أي: وكل ما فعلتموه من خير - إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم - حسبة لله، وطلبا لجزيل ثوابه، وهربا من أليم عقابه، فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالما، يعني: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه، كما قال: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
    [ ص: 534 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [216] كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

    كتب أي: فرض: عليكم القتال أي: قتال المتعرضين لقتالكم، كما قال: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم.

    قال بعض الحكماء: سيف الجهاد والقتال هو آية العز، وبه مصرت الأمصار، ومدنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وأيدت الشرائع والقوانين ; وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر ; وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالا، وخط الاستواء جنوبا، وجدران الصين شرقا، وجبال البيرنه غربا..!

    قال: فيجب على المسلمين أن لا يتملصوا من قول بعض الأوربيين: إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف! فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئا ; فإن المنصفين من الأوربيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة. وإنما التملص منه يضر المسلمين ; لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل، فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها: السيف أو القوة..!

    قال: يجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى: [ ص: 535 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة لعلهم يتحفزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة..!.

    وقوله تعالى: وهو كره لكم من الكراهة، فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقول الخنساء:


    فإنما هي إقبال وإدبار


    كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، أو هو فعل بمعنى مفعول - كالخبز بمعنى المخبوز - أي: وهو مكروه لكم، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال - لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف - فلا ينافي الإيمان ; لأن كراهة الطبع جبلية، لا تنافي الرضاء بما كلف به، كالمريض الشارب للدواء البشع.

    وفي القاموس وشرحه: الكره بالفتح ويضم: لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #106
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 536 الى صـ 540
    الحلقة (106)



    [ ص: 536 ] قال ثعلب: قرأ نافع، وأهل المدينة في سورة البقرة: وهو كره لكم بالضم في هذا الحرف خاصة، وسائر القرآن بالفتح. وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف: حملته أمه كرها ووضعته كرها ويقرأ سائرهن بالفتح. وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ثم قرأو ا كل شيء سواها بالفتح. قال الأزهري: ونختار ما عليه أهل الحجاز: أن جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة، فإن القراء أجمعوا عليه!. قال ثعلب: ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقا في العربية، ولا في سنة تتبع، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر.

    قال الأزهري: وقد أجمع كثير من أهل اللغة: أن الكره والكره لغتان، فبأي لغة وقع فجائز، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأن الكره بالضم: ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه. تقول: جئتك كرها، وأدخلتني كرها، وقال ابن سيده: الكره: الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها، وبالضم: المشقة تحتملها من غير أن تكلفها. يقال: فعل ذلك كرها وعلى كره. قال ابن بري: [ ص: 537 ] ويدل لصحة قول الفراء قول الله عز وجل: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ولم يقرأ أحد بضم الكاف. وقال سبحانه: كتب عليكم القتال وهو كره لكم ولم يقرأ أحد بفتح الكاف. فيصير الكره بالفتح، فعل المضطر، والكره بالضم: فعل المختار.

    وعسى أن تكرهوا شيئا - كالجهاد في سبيل الله تعالى -: وهو خير لكم إذ فيه إحدى الحسنين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة: وعسى أن تحبوا شيئا - كالقعود عن الغزو -: وهو شر لكم لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر: والله يعلم ما هو خير لكم: وأنتم لا تعلمون ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم، فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير.

    قال الحرالي: فنفي العلم عنهم بكلمة لا أي: التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. قال: من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون - أي: الراسخون - فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم.

    حتى إن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، [ ص: 538 ] ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه..! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أشيروا علي أيها الناس » ! فقال له سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه: والله! لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: « أجل » . قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [217] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

    [ ص: 539 ] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قال الراغب: السائل عن ذلك، قيل: أهل الشرك قصدا إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام. وقيل: هم أهل الإسلام.

    وقد أخرج الطبراني في " الكبير " والبيهقي في " سننه "، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا، وبعث عليهم عبد الله بن جحش، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله الآية.

    وأخرجه ابن منده من الصحابة عن ابن عباس.

    وملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وابن هشام في " السيرة " في الكلام على هذه السرية ونزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه. فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - بين مكة والطائف - فترصد بها عيرا لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعا وطاعة! وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن [ ص: 540 ] أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، فأما أنا فناهض! فنهضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا في طلبه. فبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على مقاتلتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس - وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام - فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام الآية.

    وقوله تعالى: قتال فيه بدل من الشهر، بدل الاشتمال، لأن القتال يقع في الشهر.

    وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، يريد أن التقدير: عن قتال فيه وهو معنى قول الفراء: مخفوض بـ " عن " مضمرة. وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار...! وقال أبو عبيدة هو مجرور على الجوار. وهو أبعد من قولهما، لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ، ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة. وفيه: يجوز أن يكون نعتا لقتال، ويجوز أن يكون متعلقا به كما يتعلق بقاتل.

    وقد قرئ بالرفع في الشاذ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام، تقديره: أجائز قتال فيه؟.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #107
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 541 الى صـ 545
    الحلقة (107)


    قل في جوابهم: قتال فيه كبير أي: أمر كبير مستنكر، وقد كانت العرب لا تسفك دما ولا تغير على عدو في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وسنذكر في تنبيه يأتي التحقيق في كون تحريم القتال فيها محكما أو منسوخا.

    قال الراغب: إن قيل: لم لم يقل: القتال فيه كبير، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرفا، نحو: سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا؟ قيل: في ذكره منكرا تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، فقد قال: « أحلت لي ساعة من نهار ولم تكن تحل لأحد قبلي» .

    وصد عن سبيل الله أي: عن دينه الموصل إلى رضوانه، أو عن البيت الحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: سمى الحج: سبيل الله.

    قال الحرالي: والصد: صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل: طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه. وصد مبتدأ.

    [ ص: 542 ] وكفر به أي: بالسبيل - أعني الدين - أو بالله، عطف عليه والمسجد الحرام عطف على: سبيل الله أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في: ( به ) أي: كفر به وبالمسجد الحرام وإخراج أهله أي: أهل المسجد الحرام - وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه - وهو عطف على: صد أيضا: منه من المسجد الحرام ; وخبر الأسماء الثلاثة: أكبر عند الله جرما مما فعلته السرية: من قتلهم إياهم في الشهر الحرام ; لأن الإخراج فتنة: والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام، أي: فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه، وحرمة المسجد كحرمة الشهر..! هذا، وقيل: خبر: صد و: كفر محذوف لدلالة ما تقدم عليه.

    وأشار الرازي إلى إعراب آخر وهو: إن: صد و: كفر معطوفان على: كبير أي: قتال فيه، موصوف بهذه الصفات. وعليه فأكبر خبر إخراج فقط.

    وقد جنح لهذا المهايمي حيث قال في " تفسيره ":

    قل قتال فيه كبير من المعاصي الكبائر، كيف وهو: وصد عن سبيل الله أي: عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده، ولو استبيح هذا القتل فهو: وكفر به وصد عن: المسجد الحرام إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر، ولكن: {إخراج أهله } أي: إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم: النبي والمؤمنون: منه أكبر عند الله إلى آخره، وهذا الوجه من الإعراب بديع، والأكثرون على الأول.

    قال ابن القيم في " زاد المعاد " في تأويل هذه الآية: يقول الله سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم - وإن كان كبيرا - فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصد عن سبيله وعن بيته، وإخراج المسلمين - الذين هم أهله - منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت [ ص: 543 ] منكم به ; أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام. ومما نسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المعنى هذه الأبيات، ويقال هي لعبد الله بن جحش:


    تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

    صدودكم عما يقول محمد
    وكفر به، والله راء وشاهد

    وإخراجكم من مسجد الله أهله
    لئلا يرى لله في البيت ساجد

    فإنا وإن عيرتمونا بقتله
    وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

    سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
    بنخلة لما أوقد الحرب واقد

    دما، وابن عبد الله عثمان بيننا
    ينازعه غل من القد عاند



    قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": وأكثر السلف فسروا الفتنة هنا بالشرك، كقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويدل عليه قوله: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أي: لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه. وحقيقتها: أنه الشرك الذي يدعو صاحبه إليه، ويقاتل عليه، ويعاقب من لم يفتتن به. ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها: ذوقوا فتنتكم

    قال ابن عباس: تكذيبكم. وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها، كقوله: ذوقوا ما كنتم تكسبون وكما فتنوا عباده عن الشرك، فتنوا على النار وقيل لهم: [ ص: 544 ] ذوقوا فتنتكم ومنه قوله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فسرت الفتنة - هنا - بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار، واللفظ أعم من ذلك. وحقيقته، عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم. فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين. وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض وقول موسى: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب. فهذه لون، وفتنة المشركين لون. وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر. والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا - لون آخر - وهي الفتنة التي قال فيها محمد صلى الله عليه وسلم: « ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير [ ص: 545 ] من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي.... » . وأحاديث الفتنة - التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين - هي هذه الفتنة. وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية، كقوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني يقوله الجد بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر، فإني لا أصبر [ ص: 546 ] عنهن..!




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #108
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 546 الى صـ 550
    الحلقة (108)



    قال تعالى: ألا في الفتنة سقطوا أي: وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر.

    والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام، بل أخبر الله أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم، والعيب والعقوبة، لا سيما أولياؤه. كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم. في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:


    وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع


    فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن؟!.

    تنبيه:

    اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية: حرمة القتال في الشهر الحرام. ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ؟!.

    قال ابن القيم في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده: لما كان في غزوة خبير من الأحكام الفقهية. ما نصه: منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة. فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك. قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور، وكذلك قال الواقدي: خرج في أول سنة سبع من الهجرة. ولكن في الاستدلال بذلك نظر. فإن خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر. وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا. وكانت في ذي القعدة. ولكن لا دليل في ذلك ; لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة. ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعا، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء. فالجمهور جوزوه وقالوا: تحريم القتال فيه منسوخ، وهو مذهب الأئمة [ ص: 547 ] الأربعة رحمهم الله. وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ; وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريمه شيء..! وأقوى من هذين الاستدلالين، الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف. فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، فبعضها كان في ذي القعدة. فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة، فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوما، ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها. ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة. وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك. وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك. وهذا عجيب منه. فمن أين له هذا التصحيح والجزم به..؟ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال: فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنعوا، وذكر الحديث. فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب. ومع هذا، فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان في تمام غزوة هوازن. وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال. ولما انهزموا دخل ملكهم - وهو مالك بن عوف النضري - مع ثقيف في حصن الطائف. فحاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها، والله أعلم.

    وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ: [ ص: 548 ] يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد وقال في سورة البقرة: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله فهاتان آيتان مدنيتان. بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمها. ولا اجتمعت الأمة على نسخه. ومن استدل على النسخ بقوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة ونحوها من العمومات، فقد استدل على النسخ بما لا يدل. ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام.

    ولا يزالون - يعني أهل مكة -: يقاتلونكم - أيها المؤمنون -: حتى يردوكم عن دينكم أي: يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر: إن استطاعوا أي: قدروا على ردتكم. وفيه استبعاد لاستطاعتهم. فهو كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي [ ص: 549 ] فلا تبق علي. وهو واثق أنه لا يظفر به. وجملة: ولا يزالون إما معطوفة على: يسألونك أو معترضة. والمقصود: تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين.

    وفي الآية إشعار بأنكم أحق بأن لا تزالوا تقاتلونهم، لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون، وأنهم على الباطل وهم مخذولون، ولا بد وإن طال المدى ; لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم. ومن وكل إلى نفسه ضاع. فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام. فينبغي الاستعداد له بعدته، والتأهب له بأهبته، فضلا عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعنا في الدين، وصدا عن السبيل. أشار لذلك البقاعي. ثم حذر تعالى عن الارتداد بقوله: ومن يرتدد منكم عن دينه وهو الإسلام. وبناء صيغة الافتعال من الردة المؤذنة بالتكلف، إشارة إلى أن من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه، فهو متكلف في ذلك: فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم أي: بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم، وردت: في الدنيا - إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم -: والآخرة - إذ يسقط ثوابهم، فلا يجزون ثمة بحسناتهم: {و } لا يقتصر عليه بل: أولئك أصحاب النار أي: أهل النار: هم فيها خالدون مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [218] إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم .

    إن الذين آمنوا بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه: والذين هاجروا تركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام: وجاهدوا في سبيل الله ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم: أولئك وإن باشروا القتال [ ص: 550 ] في الشهر الحرام: يرجون رحمت الله أي: جنته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم. وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه، لا لأن في فوزهم اشتباها: والله غفور لهتكهم حرمة الشهر: رحيم بما تجاوز عن قتالهم، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [219] يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .

    يسألونك عن الخمر والميسر هذه الآية أول آية نزلت في الخمر، على ما قاله ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #109
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 551 الى صـ 555
    الحلقة (109)



    وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر أنه قال - لما نزل تحريم الخمر -: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! فنزلت هذه الآية التي في البقرة: يسألونك عن الخمر والميسر الآية. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت [ ص: 551 ] الآية التي في النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة - نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: فهل أنتم منتهون قال عمر: انتهينا انتهينا.

    وحقيقة الخمر: ما أسكر من كل شيء، وروى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة » .

    وأما الميسر: فهو القمار - بكسر القاف - مصدر من يسر - كالموعد والمرجع من فعلهما. يقال: يسرته إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره.

    وصفته: أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي:

    الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككتف - والنافس، والمسبل - كمحسن - والمعلى - كمعظم، والمنيح - كأمير، والسفيح - بوزن ما قبله، والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء كما قاله أبو عمر أو ثمانية وعشرين جزءا كما قال الأصمعي وهو الأكثر، إلا ثلاثة منها وهي المنيح والسفيح والوغد فلا أنصباء لها. وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة. ولبعضهم:


    لي في الدنيا سهام ليس فيهن ربيح

    وأساميهن: وغد
    وسفيح ومنيح



    [ ص: 552 ] فللفذ سهم - أي: فرض واحد - وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج. باسم رجل رجل، قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه: البرم بفتحتين كذا في " الكشاف " بزيادة.

    وفي " القاموس وشرحه ": الميسر: اللعب بالقداح، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزورا نسيئة ونحروه وقسموه ثمانية وعشرين قسما، أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل. وإنما سمي الجزور ميسرا، لأنه يجزأ أجزاء. وكل شيء جزأته فقد يسرته ; ويسرت الناقة جزأت لحمها، ويسر القوم الجزور أي: اجتزروها واقتسموا أجزاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعي:


    أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم


    كان وقع عليه سباء فضرب عليهم بالسهام. وقوله ييسرونني هو من الميسر، أي: يجزونني ويقتسمونني. وقاللبيد:


    واعفف عن الجارات وامنحهن ميسرك السمينا


    فجعل الجزور نفسه ميسرا. ونقل الصاغاني، أن الميسر: النرد. وقال مجاهد: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر. حتى لعب الصبيان بالجوز.

    قل فيهما إثم كبير أي: عظيم - وقرئ بالمثلثة - وذلك لما فيها من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع. من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير: ومنافع للناس [ ص: 553 ] دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر. وإصابة المال بلا كد في الميسر. وفي تقديم بيان إثمه، ووصفه بالكبر، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس، من الدلائل على غلبة الأول - ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما أي: المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه. أي: لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين. وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى. ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة ; ولهذا، قال عمر لما قرأت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون

    تنبيه:

    ألف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرات المسكرات.

    ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات، وعيافها، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأرواح، وما ينشأ عنها من الخسران المالي، ومما قرره خمسون طبيبا منهم هذه الجمل:

    1 - إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده.

    2 - إنها لا تفيد شيئا في قضاء الأعمال.

    3 - إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد.

    4 - إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات، وتجر إلى الفقر والشقاء.

    5 - هي من المسكنات كالبنج والإيثر.

    [ ص: 554 ] 6 - إنها تعد للأمراض المعدية.

    7 - إنها تعد بنوع خاص للتدرن والسل.

    8 - إنها تضر في ذات الرئة والحمى التيفودية أكثر مما تنفع.

    9 - إنها تقرب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت، وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة.

    10 - إنها تعد لضربة الشمس والرعن في أيام الحر.

    11 - إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد.

    12 - إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية.

    13 - إنها كثيرا ما تسبب التهاب الأعصاب، والآلام المبرحة.

    14 - إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم.

    15 - إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم.

    16 - إن الامتناع عنها مما يقضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري.

    ويسألونك ماذا ينفقون أي: يتصدقون به من أموالهم: قل العفو وهو ما يفضل عن النفقة، أي: الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه.

    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» .

    وأخرج مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل [ ص: 555 ] شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» .

    وروى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي دينار، قال: « أنفقه على نفسك » . قال عندي آخر، قال: « أنفقه على ولدك» . قال: عندي آخر، قال: « أنفقه على أهلك» . قال: عندي آخر، قال: « أنفقه على خادمك» . قال: عندي آخر، قال: « أنت أعلم» .

    كذلك - أي: كما بين لكم ما ذكر -: يبين الله لكم الآيات أي: الأمر والنهي وهوان الدنيا: لعلكم تتفكرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [220] في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم .

    في الدنيا أنها فانية - والآخرة - أنها باقية، وفي أمورهما لتصلحوها ولا تتحملوا مفسداتهما، فلا تتركوا اللذائذ الباقية للذائذ الفانية.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #110
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 556 الى صـ 560
    الحلقة (110)


    [ ص: 556 ] ويسألونك عن اليتامى أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم، عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن اليتامى الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقوله تعالى: قل إصلاح لهم خير أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم. وإنما أقيم غاية المداخلة - أعني الإصلاح - مقامها، تنبيها على أن المأمور به مداخلة يكون ترتب الإصلاح عليها ظاهرا، كأنها عين الإصلاح: وإن تخالطوهم تعاشروهم ولم تجانبوهم: فإخوانكم فهم إخوانكم في الدين - الذي هو أقوى من العلاقة النسبية. ومن حقوق الأخوة: المخالطة بالإصلاح والنفع.

    قال الأصبهاني: وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعا، كان في غيرهم أوسع. وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار. يخرجون النفقات بالسوية، ويتباينون في قلة المطعم وكثرته.

    [ ص: 557 ] والله يعلم المفسد لأموالهم: من المصلح لها، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح: ولو شاء الله لأعنتكم لحملكم على العنت - وهو المشقة - وأحرجكم، فلم يطلق لكم مداخلتهم، ولا يمنعه من ذلك شيء إن الله عزيز أي: غالب على ما أراد: حكيم أي: فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة.

    هذا، وقد حمل القاضي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير على جهات المصالح والخيرات العائدة إلى الولي واليتيم. قال رحمه الله: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، لأن هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة. ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة. ويدخل أيضا معنى قوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ومعنى قوله: خير يتناول حال المتكفل. أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصرا في حق اليتيم. ويتناول حال اليتيم أيضا. أي: هذا العمل خير لليتيم من حيث إنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله. فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.

    وقد روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. وروى نحوه مسلم أيضا في صحيحه.
    [ ص: 558 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [221] ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون .

    ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن أي: لا تتزوجوا الوثنيات حتى يؤمن بالله تعالى.

    قال ابن كثير: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مرادا، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين

    وقد بسط العلامة الرازي ههنا الكلام على أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب؟ فانظره.

    والتحقيق: أن المشرك لا يتناول الكتابي، لأن آيات القرآن صريحة في التفرقة بينهما. وعطف أحدهما على الآخر في مثل: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وسر ذلك أن المشرك هو من يتدين بالشرك. أي: يكون أصل دينه الإشراك، والكتابي - وإن طرأ في دينه الشرك - فلم يكن من أصله وجوهره.

    وقوله تعالى: ولأمة مؤمنة خير من مشركة تعليل للنهي عن مواصلتهن، وترغيب في مواصلة المؤمنات ; أي: ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر ; خير من مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن. فإن نقصان الرقية فيها مجبور بالإيمان الذي هو أجل كمالات الإنسان: ولو أعجبتكم أي: المشركة بحسنها ونسبها [ ص: 559 ] وغيرهما. فإن نقصان الكفر لا يجبر بها: ولا تنكحوا المشركين بضم التاء - من الإنكاح، وهو التزويج أي: لا تزوجوا الكفار - بأي كفر كان - من المسلمات: حتى يؤمنوا ويتركوا ما هم فيه من الكفر: ولعبد مؤمن مع ما به من ذل الرقية: خير من مشرك ولو أعجبكم بداعي الرغبة فيه الدنيوية، فإن ذهاب الكفاءة بالكفر غير مجبور بشيء منها. وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى، مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما، إعلاما بأن خيريتهما أمر مقطوع به وأن المفاضلة إنما هي بين من كانوا يعدونه دنيا فشرفه الإيمان، ومن يعدونه شريفا فحقره الكفران. ولذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدل على أنه - وإن كان دنيا - موضع التفضيل لعلو وصفه. وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصرا عليه، لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه - أفاده البقاعي.

    ثم أشار إلى وجه الحظر بقوله تعالى: أولئك أي: المذكورون من المشركات والمشركين: يدعون من يقارنهم ويعاشرهم: إلى النار أي: إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق ; فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا..!: والله يدعو أي بما يأمر به على ألسنة رسله: إلى الجنة والمغفرة أي: العمل المؤدي إليهما. وتقديم الجنة هنا على المغفرة مع سبقها عليها، لرعاية مقابلة النار ابتداء: بإذنه بأمره: ويبين آياته أمره ونهيه في التزويج: للناس لعلهم يتذكرون لكي يتعظوا وينتهوا عن تزويج الحرام، ويوالوا أولياء الله - وهم المؤمنون - بالمعاشرة والمصاهرة فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران.

    هذا وقد قيل: معنى: والله يدعو وأولياء الله يدعون، وهم المؤمنون، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ; تشريفا لهم، وتفخيما لشأنهم، حيث جعل فعلهم فعل نفسه صورة، وملحظه رعاية المقابلة، كأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار، وأولياء الله [ ص: 560 ] يدعون إلى الجنة والمغفرة. إلا أن فيه فوات رعاية تناسب الضمائر، فإن الضمير في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى: ويبين لله تعالى، فيلزم التفكيك.

    تنبيه:

    قال الراغب: حقيقة التذكر، الاستذكار عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب. قال: إن قيل: إلى أي شيء أشار بهذا التذكر؟ قيل: إن الله عز وجل ركب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه. والإنسان - باستفادة العلم - يتذكر ما ذكر فيه، فهذا معنى التذكر. ثم قال: وقد قيل: الرجاء من الله واجب، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجانا. قال: وهذه مسألة لا يمكن تصورها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى. فلذلك صعب إدراكها لنا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #111
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 561 الى صـ 565
    الحلقة (111)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [222] ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين .

    ويسألونك عن المحيض وهو الدم الخارج من الرحم على وجه مخصوص في وقت مخصوص. ويسمى الحيض أيضا. أي: هل يسبب ويقتضي مجانبة مس من رأته؟: قل هو أذى أي: الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه، نفرة منه وكراهة له فاعتزلوا النساء في المحيض أي: فاجتنبوا مجامعتهن في زمنه.

    قال الراغب: في قوله تعالى: هو أذى تنبيه على أن العقل يقتضي تجنبه، كأن قيل: الحيض أذى وكل أذى متحاشى منه. ولما كان الإنسان قد يتحمل الأذى ولا يراه محرما، صرح بتحريمه بقوله: فاعتزلوا النساء

    روى الإمام أحمد ومسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت [ ص: 561 ] المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى إلى آخر الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » . فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول! إن اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما. فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.

    ولا تقربوهن حتى يطهرن تأكيد لحكم الاعتزال، وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهن، لا عدم القرب منهن، وكنى بقربانهن، المنهي عنه، عن مباضعتهن. فدل على جواز التمتع بهن حينئذ فيما دون الفرج.

    ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض.

    وفيهما عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن.

    وروى مسلم عنها أيضا قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 562 ] فيضع فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في.

    وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ميمونة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض.

    وفي لفظ له: كان يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب.

    وقوله: حتى يطهرن بيان لغاية الاعتزال. وقد قرئ في السبع: بفتح الطاء والهاء مع التشديد، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة. والقراءة الأولى تدل صريحا على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال، كما ينبئ عنه قوله تعالى: فإذا تطهرن إلخ. والقراءة الثانية وإن دلت على أن الغاية هو انقطاع الدم - بناء على ما قيل: إن الطهر انقطاع الدم، والتطهر الاغتسال - إلا أنه لما ضم إليها قوله تعالى: فإذا تطهرن صار المجموع هو الغاية ; وذلك بمنزلة أن يقول الرجل: لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار، فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه! فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعا، وكذلك الآية - لما دلت على وجوب الأمرين - وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين، فمرجع القراءتين واحد كما بينا.

    وقد روى مسلم عن عائشة: أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض؟ فقال: [ ص: 563 ] « تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها - والفرصة بالكسر: قطعة من صوف أو قطن أو غيره - تتبع بها أثر الدم » .

    ثم آذن تعالى أن التطهر شرط في إباحة قربانهن، لا يصح بدونه، بقوله سبحانه: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله أي: فجامعوهن من المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل، ولا تتعدوه إلى غيره إن الله يحب التوابين من الذنوب: ويحب المتطهرين أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإتيان فيغير المأتى. وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها - بارتكاب بعض الناس لما نهوا عنه - وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [223] نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين .

    نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم روى الشيخان عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول. قال: فأنزلت: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم

    [ ص: 564 ] وعند مسلم عن الزهري: إن شاء مجبية، وإن شاء غير مجبية، غير أن ذلك في صمام واحد.

    قال الحافظ ابن حجر في الفتح: هذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهري، لخلوها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر، مع كثرتهم.

    والمجبية كملبية: المنكبة على وجهها، والصمام الواحد: الفرج، وقوله تعالى: حرث لكم الحرث: إلقاء البذر في الأرض، هذا أصله ; والكلام إما بحذف المضاف، أي: مواضع حرث، أو المصدر بمعنى المفعول، أي: محروثات. وإنما شبهن بذلك لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة. من حيث إن كلا منهما مادة لما يحصل منه. ولما عبر تعالى عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان كما تقدم، فقال: فأتوا حرثكم أنى شئتم أي: فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة. والمعنى: جامعوهن من أي جهة شئتم ولا تبالوا بقول اليهود. وفي تخصيص الحرث بالذكر تعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه.

    قال الزمخشري: وقوله تعالى: هو أذى فاعتزلوا النساء -: من حيث أمركم الله -: فأتوا حرثكم أنى شئتم من الكنايات اللطيفة، والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.

    وقد ورد - في سبب نزول هذه الآية - رواية أخرى أخرجها أبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب أنهم لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة. فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. وكان هذا الحي من قريش [ ص: 565 ] يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار. فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك، وإلا فاجنبني، حتى سرى أمرهما. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.

    تنبيه:

    ما ذكرناه من الروايات هو المعول عليه عند المحققين.

    وثمة روايات أخر تدل على أن هذه الآية إنما أنزلت رخصة في إتيان النساء في أدبارهن.

    قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ: نساؤكم حرث لكم ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاوي نقلها ابن كثير.

    وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: قال ابن القاسم: ولم أدرك أحدا أقتدي به في ديني يشك فيه، والمدنيون يروون فيه الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم. يشير بذلك إلى ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد.

    أما حديث ابن عمر فله طرق. رواه عنه نافع، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، وزيد بن أسلم، وسعيد بن يسار، وغيرهم.

    أما نافع فاشتهر عنه من طرق كثيرة جدا، منها: رواية مالك، وأيوب، وعبيد الله بن عمر العمري، وابن أبي ذئب، وعبد الله بن عون، وهشام بن سعد، وعمر بن محمد بن زيد، وعبد الله بن نافع، وأبان بن صالح، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #112
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 566 الى صـ 570
    الحلقة (112)


    قال الدارقطني، في أحاديث مالك التي رواها خارج الموطأ: نا أبو جعفر الأسواني المالكي بمصر. ثنا محمد بن أحمد بن حماد. نا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهري نا أبو ثابت [ ص: 566 ] محمد بن عبيد الله. حدثنا الدراوردي عن عبيد الله بن عمر بن حفص عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك علي المصحف يا نافع. فقرأ حتى أتى على هذه الآية: نساؤكم حرث لكم فقال: تدري يا نافع فيمن أنزلت هذه الآية؟ قال: قلت: لا؟ قال، فقال لي: في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها. فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله: نساؤكم حرث لكم الآية. قال نافع: فقلت لابن عمر: من دبرها في قبلها؟ قال: لا. إلا في دبرها.

    قال أبو ثابت: وحدثني به الدراوردي عن مالك وابن أبي ذئب. وفيهما عن نافع مثله.

    وفي تفسير البقرة من صحيح البخاري: حدثنا إسحاق. حدثنا النضر. حدثنا ابن عون عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه. فأخذت عليه يوما، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان، فقال: تدري فيم أنزلت؟ فقلت: لا! قال: نزلت في كذا وكذا. ثم مضى.

    وعن عبد الصمد: حدثني أبي - يعني عبد الوارث - حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم قال: يأتيها في... قال: ورواه محمد بن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، هكذا وقع عنده.

    والرواية الأولى - في تفسير إسحاق بن راهويه مثل ما ساق، لكن عين الآية وهي: نساؤكم حرث لكم وعين قوله كذا وكذا. فقال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وكذا رواه الطبري من طريق ابن علية عن ابن عون. وأما رواية عبد الصمد فهي في تفسير إسحاق أيضا عنه، وقال فيه: يأتيها في الدبر.

    وأما رواية محمد: فأخرجها الطبراني في " الأوسط " عن علي بن سعيد، عن أبي بكر الأعين، عن محمد بن يحيى بن سعيد بلفظ: إنما أنزلت: نساؤكم حرث لكم رخصة في إتيان الدبر. وأخرجها الحاكم في " تاريخه " من طريق عيسى بن مثرود عن [ ص: 567 ] عبد الرحمن بن القاسم، ومن طريق سهل بن عمار عن عبد الله بن نافع. ورواه الدارقطني في " غرائب مالك " من طريق زكريا الساجي عن محمد بن الحارث المدني عن أبي مصعب. ورواه الخطيب في " الرواة " عن مالك من طريق أحمد بن الحكم العبدي. ورواه أبو إسحاق الثعلبي في " تفسيره " والدارقطني - أيضا - من طريق إسحاق بن محمد الفروي. ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " من طريق محمد بن صدقة الفدكي، كلهم عن مالك. قال الدارقطني: هذا ثابت عن مالك.

    وأما زيد بن أسلم: فروى النسائي والطبري من طريق أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عنه، عن ابن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله عز وجل: نساؤكم حرث لكم الآية. وأما عبيد الله بن عبد الله بن عمر فروى النسائي من طريق يزيد بن رومان عنه: أن ابن عمر كان لا يرى به بأسا. موقوف.

    وأما سعيد بن يسار: فروى النسائي والطحاوي والطبري من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك: إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: إنا نشتري الجواري فنحمض لهن، والتحميض: الإتيان في الدبر، فقال: أف! أويفعل هذا مسلم؟ قال ابن القاسم: فقال لي مالك: أشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال: لا بأس به.

    وأما حديث أبي سعيد: فروى أبو يعلى وابن مردويه في " تفسيره " والطبري والطحاوي من طرق: عن عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأة في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا: أثفرها! فأنزل الله عز وجل: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم . ورواه أسامة بن أحمد التجيبي من طريق يحيى بن أيوب عن هشام بن سعد، ولفظه: كنا [ ص: 568 ] نأتي النساء في أدبارهن، ويسمى ذلك: الإثفار، فأنزل الله الآية. ورواه من طريق معن بن عيسى عن هشام - ولم يسم أبا سعيد - قال: كان رجال من الأنصار...

    هذا، وقد روي في تحريم ذلك آثار كثيرة نقلها الحافظ ابن كثير في " تفسيره "، وابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي. وكلها معلولة.

    ولذا قال البزار: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، لا في الحظر ولا في الإطلاق وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه، فغير صحيح.

    وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي علي النيسابوري، ومثله عن النسائي، وقاله قبلهما البخاري.

    وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء. والقياس أنه حلال.

    وروى أحمد بن أسامة التجيبي من طريق معن بن عيسى قال: سألت مالكا عنه، فقال: ما أعلم فيه تحريما.

    وقال ابن رشد في كتاب " البيان والتحصيل في شرح العتبية " روى العتبي عن ابن القاسم عن مالك أنه قال له - وقد سأله عن ذلك مخليا به - فقال: حلال ليس به بأس.

    وأخرج الحاكم عن محمد بن عبد الحكم قال: قال الشافعي كلاما كلم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها، قال: سألني محمد بن الحسن فقلت له: إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات - وإن لم تصح - فأنت أعلم، وإن تكلمت بالمناصفة كلمتك. قال: على المناصفة. قلت: فبأي شيء حرمته؟ قال: بقول الله عز وجل: فأتوهن من حيث أمركم وقال: فأتوا حرثكم أنى شئتم والحرث لا يكون إلا في الفرج. قلت: أفيكون محرما لما سواه؟ قال: نعم. قلت: فما تقول لو وطئها بين ساقيها، أو في أعكانها، أو تحت إبطها، أو أخذت ذكره بيدها، أوفي ذلك حرث...؟ قال: لا! [ ص: 569 ] قلت: أفيحرم ذلك؟ قال: لا! قلت: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟ قال: فإن الله قال: والذين هم لفروجهم حافظون الآية.

    قال: فقلت له: إن هذا مما يحتجون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه، فقلت: أنت تتحفظ من زوجته وما ملكت يمينه. قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول بذلك في القديم. فأما في الجديد، فالمشهور أنه حرمه. فقد روى الأصم عن الربيع قال: قال الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه... وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال: قال الشافعي قال الله: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم احتملت الآية معنيين: أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها، لأن: أنى شئتم يأتي بمعنى أين شئتم. ثانيهما: أن الحرث إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه. فاختلف أصحابنا في ذلك. فأحسب كلا من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية. قال: فطلبنا الدلالة من السنة، فوجدنا حديثين مختلفين: أحدهما ثابت ; وهو حديث خزيمة في التحريم. قال: فأخذنا به.

    وعليه، فيكون الشافعي رجع عن القديم. وحديث خزيمة. رواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وأبو نعيم بالسند إلى خزيمة بن ثابت: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: حلال. فلما ولى الرجل دعاه - أو أمر به فدعي - فقال: « كيف قلت؟ في أي: الخرزتين؟ أمن دبرها في قبلها؟ فنعم! أم من دبرها في دبرها فلا؟ إن الله لا يستحيي من الحق. لا تأتوا النساء في أدبارهن » .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #113
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 571 الى صـ 575
    الحلقة (113)



    قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير ": وفي إسناده عمرو بن أحيحة وهو مجهول الحال واختلف في إسناده اختلافا كثيرا. ثم قال الحافظ: وقد قال الشافعي: [ ص: 570 ] غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة - يعني حيث رواه. وتقدم قول البزار: وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت، من طريق فيه، فغير صحيح.

    وقال الرازي في تفسيره: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية: أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها. فقوله: فأتوا حرثكم أنى شئتم محمول على ذلك. ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن. وهذا قول مالك. واختيار السيد المرتضى من الشيعة. والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه.

    وبالجملة: فهذا المقام من معارك الرجال، ومجاول الأبطال. وقد استفيد مما أسلفناه: أن من جوز ذلك وقف مع لفظ الآية. فإنه تعالى جعل الحرث اسما للمرأة.

    قال بعض المفسرين: إن العرب تسمي النساء حرثا قال الشاعر:


    إذا أكل الجراد حروث قوم فحرثي همه أكل الجراد


    يريد: امرأتي، وقال آخر:


    إنما الأرحام أرض ولنا محترثات


    فقلبنا الزرع فيها وعلى الله النبات


    وحينئذ ففي قوله: فأتوا حرثكم أنى شئتم إطلاق في إتيانهن على جميع الوجوه. فيدخل فيه محل النزاع. واعتمد أيضا من سبب النزول ما رواه البخاري عن ابن عمر كما تقدم. وقال في رواية جابر المروية في " الصحيح " المتقدمة. إن ورود العام على سبب لا يقصره عليه. وأجاب عن توهيم ابن عباس لابن عمر، رضي الله عنهم، المروي في " سنن أبي داود " بأن سنده ليس على شرط البخاري فلا يعارضه. فيقدم الأصح سندا. ونظر إلى أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث.

    قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري ": ذهب جماعة من أئمة الحديث - كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري - إلى أنه لا يثبت فيه شيء.

    [ ص: 571 ] وأما من منع ذلك: فتأول الآيات المتقدمة على صمام واحد. ونظر إلى أن الأحاديث المروية - من طرق متعددة - بالزجر عن تعاطيه وإن لم تكن على شرط الشيخين في الصحة، إلا أن مجموعها صالح للاحتجاج به.

    وقد استقصى الأحاديث الواردة في ذلك، الحافظ الذهبي في جزء جمعه في ذلك. وساق جملة منها الحافظ ابن كثير في " تفسيره " وكذا الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وقد هول - عليه الرحمة - في شأنه تهويلا عظيما. فقال في كتابه المذكور، في الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع، ما نصه:

    وأما الدبر، فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء. ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة من دبرها فقد غلط عليه. ثم ساق أخبار النهي عنه - وقال بعد: وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين: أحدهما: أنه إنما أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد، لا في الحش الذي هو موضع الأذى. وموضع الحرث هو المراد من قوله: من حيث أمركم الله الآية فأتوا حرثكم أنى شئتم وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا لأنه قال: أنى شئتم أي: من أين شئتم: من أمام أو من خلف: قال ابن عباس: فأتوا حرثكم يعني الفرج، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.

    وأيضا، فللمرأة حق على الرجل في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصل مقصودها. وأيضا فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا. وأيضا: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن، وراحة الرجل منه. والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب [ ص: 572 ] جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي... وأيضا يضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة، وأيضا فإنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه. وأيضا: فإنه يضر بالمرأة جدا، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة. وأيضا: فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول. وأيضا: فإنه يسود الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء، يعرفها من له أدنى فراسة. وأيضا: فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ولا بد. وأيضا: فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح. وأيضا: فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدهما. كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا. وأيضا: فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه، فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه.

    أقول: أخذ هذا ابن القيم من أحاديث وردت في لعن فاعل ذلك، وعدم نظر الحق إليه، بيد أنها ضعيفة.

    [ ص: 573 ] ثم قال ابن القيم: وأيضا فإنه يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده. وأيضا: فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره. وأيضا فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه. وأيضا: فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره. وأيضا: فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس. فصلوات الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به. اهـ.

    ولما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة، نبه على أن لا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة، فقال تعالى: وقدموا لأنفسكم أي: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة، كقوله: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوا الله فلا تجترئوا على المعاصي: واعلموا أنكم ملاقوه صائرون إليه فاستعدوا [ ص: 574 ] للقائه: وبشر المؤمنين بالثواب. وإنما حذف لكونه كالمعلوم، فصار كقوله: وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [224] ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم

    ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم العرضة بضم العين، فعلة بمعنى مفعول - كالقبضة والغرفة - وهي اسم ما تعرضه دون الشيء، من عرض العود على الإناء. فيعترض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات - من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد - ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البر إرادة البر في يمينه. فقيل لهم: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي: حاجزا لما حلفتم عليه. وسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين كحديث: « من حلف على يمين » الآتي ذكره، أي: على شيء مما يحلف عليه. وقوله: أن تبروا وتتقوا عطف بيان لـ: أيمانكم أي: للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. أفاده الزمخشري.

    وعلى هذا التأويل: الآية: كقوله تعالى: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والمعنى المتقدم في الآية اتفق عليه جمهور السلف. ورواه [ ص: 575 ] علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني، والله! إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها » . وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» .

    وفي الآية وجه آخر ذكره كثير من المفسرين. وهو النهي عن الجراءة على الله تعالى بكثرة الحلف به. وذلك لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له. يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك. وقال الشاعر:


    ولا تجعليني عرضة للوائم





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #114
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 576 الى صـ 580
    الحلقة (114)

    وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: ولا تطع كل حلاف مهين وقال تعالى: واحفظوا أيمانكم والعرب كانوا يمدحون المرء بالإقلال من الحلف كما قال كثير:


    قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت


    والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أن من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك. ولا يبقى لليمين في قلبه وقع. فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة. فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين. وأيضا، كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله تعالى كان أكمل في العبودية. ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية. وأما قوله تعالى بعد ذلك: أن تبروا وتتقوا فهو علة للنهي. أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلاف مجترئ على الله، غير معظم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم، والله أعلم.
    [ ص: 577 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [225] لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم .

    لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية - إذا لم تقصدوا هتك حرمته - وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا قصد إليها. كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وهو المعني بقوله عز وجل: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم أي: تعمدته قلوبكم فاجتمع فيه، مع اللفظ، النية. يعني: ربط القلب به لفوات تعظيم أمره، ولهتك حرمته بنقض اليمين المقصودة.

    روي عن عائشة أنها قالت: أنزلت هذه الآية في قول الرجل: لا والله، وبلى والله! أخرجه البخاري ومالك وأبو داود، وهذا لفظ البخاري.

    وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة والتابعين. ولفظ رواية ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل: لا والله! وبلى والله! فذاك لا كفارة فيه. إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله.

    [ ص: 578 ] ويروى في تفسير لغو اليمين: هو أن يحلف على الشيء يظنه، ثم يظهر خلافه. ويروى: أن يحلف وهو غضبان: ويروى غير ذلك، كما ساقها ابن كثير، مسندة.

    وقد ظهر - للفقير - أن لا تنافي بين هذه الروايات، لأن كل ما لا عقد للقلب معه من الأيمان فهو لغو بأي صورة كانت وحالة وقعت. فكل ما روي في تفسير الآية فهو مما يشمله اللغو. والله أعلم.

    والمراد من المؤاخذة: إيجاب الكفارة. كما بين ذلك في آية المائدة: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته والله غفور يعني: لعباده فيما لغوا من أيمانهم فلم يؤاخذهم به: حليم يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة تربصا بالتوبة. والجملة تذييل للحكمين السابقين. فائدته الامتنان على المؤمنين، وشمول مغفرته وإحسانه لهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [226 - 227] للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم .

    للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم اشتملت هذه الآية على حكم الإيلاء، وهو لغة: الامتناع باليمين، وخص في عرف الشرع: بالامتناع باليمين من وطء الزوجة. ولهذا عدى فعله بأداة من تضمينا له معنى، يمتنعون من نسائهم: وهو أحسن من إقامة " من " مقام " على ". وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإما أن يفيء وإما أن يطلق.

    [ ص: 579 ] وقد اشتهر عن علي وابن عباس رضي الله عنهم: أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه وظاهر القرآن مع الجمهور. وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر. فاحتج على محمد بقول علي كرم الله وجهه، فاحتج عليه محمد بالآية فسكت. وقد اتفق الأئمة على أن المولى إذا فاء إلى المواصلة لزمته كفارة يمين، وإنما ترك ذكرها هنا ; لأنها معلومة من موضع آخر في التنزيل العزيز. فعموم وجوب التكفير ثابت على حالف.

    قال العلامة صديق خان في " تفسيره ": اعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لا يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي أي: يحلف من امرأته أربعة أشهر ثم قال مخبرا لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدة: فإن فاءوا أي: رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح: فإن الله غفور رحيم أي: لا يؤاخذهم بتلك اليمين، بل يغفر لهم ويرحمهم ; وإن عزموا الطلاق أي: وقع العزم منهم عليه والقصد له: فإن الله سميع لذلك منهم: عليم به. فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة. فمن حلف أن لا يطأ امرأته - ولم يقيد بمدة، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر - كان علينا إمهاله أربعة أشهر. فإذا مضت فهو بالخيار: إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء. وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر: فإن أراد [ ص: 580 ] أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهرا. فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر. وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة. وكان ممتثلا لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: « من حلف على يمين فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه » .

    قال الحرالي: وفي قوله تعالى: فإن الله سميع عليم تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر. ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال، كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء. فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه.

    قال الإمام ابن كثير: وقد ذكر الفقهاء وغيرهم - في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر - الأثر الذي رواه مالك عن عبد الله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:


    تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني إلا خليل ألاعبه

    فوالله! لولا الله، أني أراقبه
    لحرك من هذا السرير جوانبه





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #115
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 581 الى صـ 585
    الحلقة (115)





    فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنهما: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك. وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول:

    [ ص: 581 ]
    تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني إلا ضجيع ألاعبه


    ألاعبه طورا وطورا كأنما بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه


    يسر به من كان يلهو بقربه لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه


    فوالله! لولا الله، لا شيء غيره لنقض من هذا السرير جوانبه


    ولكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفاسنا، لا يفتر الدهر كاتبه


    مخافة ربي، والحياء يصدني وإكرام بعلي، أن تنال مراكبه


    ثم ذكر بقية ذلك - كما تقدم أو نحوه - وقد روي هذا من طرق، وهو من المشهورات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [228] والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم .

    " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " ، هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج إن شاءت. وأريد بالمطلقات: المدخول بهن من ذوات الأقراء، لما دلت الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر. أما غير المدخولة فلا عدة عليها لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة وأما التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: [ ص: 582 ] واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأما الحامل فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن

    فهذه الآية من العام المخصوص.

    قال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر، وأصل الكلام وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله. فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه موجودا. ونحوه قولهم في الدعاء: " رحمك الله " أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة. كأنما وجدت الرحمة، فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فضل توكيد. ولو قيل: ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة.. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل تربص أربعة أشهر، وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن. وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.

    و (القرء): من الأضداد. يطلق على الحيض والطهر. نص عليه من أئمة اللغة: أبو عبيدة والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم. والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل، استوفاه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فانظره. ولمن نظر إلى موضوعه اللغوي أن يقول: تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض. فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به. والله أعلم ولا يحل لهن - أي: المطلقات -: أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن [ ص: 583 ] من الحيض أو الولد، استعجالا في العدة أو إبطالا لحق الزوج في الرجعة: إن كن يؤمن بالله أي: إن جرين على مقتضى الإيمان به، المخوف من ذاته: واليوم الآخر المخوف من جزائه. ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة على ذلك. فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق. وهذه الآية دالة على أن كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه، فأمره عند الله شديد وبعولتهن - أي: أزواجهن -: أحق بردهن أي: برجعتهن، والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها: في ذلك أي: في زمان التربص، وهي أيام الأقراء. أما إذا انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها، ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد. ولا خلاف في ذلك: إن أرادوا أي: بالرجعة: إصلاحا لما بينهم وبينهن، وإحسانا إليهن، ولم يريدوا مضارتهن. وإلا فالرجعة محرمة لقوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف أي ولهن على الرجال مثل ما للرجال عليهن. فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. كما ثبت في " صحيح مسلم ": عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: « فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» .

    [ ص: 584 ] وعن معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: « أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت» . رواه أبو داود وقال: معنى لا تقبح: لا تقل قبحك الله.

    وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه » متفق عليه.

    وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

    والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»
    . متفق عليه.

    وعن طلق بن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور» . رواه الترمذي والنسائي.

    [ ص: 585 ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح » . متفق عليه.

    وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، لأن الله يقول: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف

    تنبيه:

    المعروف: ما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره، مما قبله العقل، ووافق كرم النفس، وأقره الشرع. وقد قال بعض الفقهاء: لا يجب عليها خدمة زوجها في عجن وخبز وطبخ ونحوه، لأن المعقود عليه منفعة البضع، فلا يملك غيرها من منافعها..! ولكن مفاد الآية يرد هذا ويدل على وجوب المعروف من مثلها لمثله ; وبه أفتى الإمام ابن تيمية وفاقا للمالكية. وإليه ذهب أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني، واحتجا بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت وعلى ما كان خارجا من البيت من عمل. رواه الجوزجاني من طرق.

    واستدل بالآية أيضا على وجوب إخدامها، إذا كان مثلها لا يخدم نفسها.

    وللرجال عليهن درجة أي: زيادة في الحق وفضيلة. كما قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #116
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 586 الى صـ 590
    الحلقة (116)





    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح والله عزيز حكيم أي: غالب في انتقامه ممن عصاه، حكيم في أمره وشرعه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [229] الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون .

    الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، وهو مبتدأ بتقدير مضاف، خبره ما بعده. أي: عدد الطلاق الذي يستحق الزوج فيه الرد والرجعة مرتان، أي: اثنتان، وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأن حقهما أن يقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة، وإن كان حكم الرد ثابتا حينئذ أيضا.

    قال ابن كثير: هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام: من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم الله تعالى على ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة الثانية، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: الطلاق مرتان الآية.

    [ ص: 587 ] قال الإمام أبو داود في " سننه ": باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث. ثم أسند عن ابن عباس في هذه الآية قال: إن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا. فنسخ ذلك، فقال: الطلاق مرتان الآية. ورواه النسائي وغيره. وروى الترمذي عن عائشة قالت: كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبينين مني ولا أؤويك أبدا..! قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلقك. فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن: الطلاق مرتان الآية. قالت عائشة فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا. من كان طلق ومن لم يكن طلق. ثم أسند عن عروة ولم يذكر عائشة، وقال: هو أصح.

    وقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أي: فالحكم بعد تطليق الرجل امرأته تطليقتين: أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ; أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء، ولا ينفر الناس عنها.

    قال الرازي: الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر. فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين; وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك [ ص: 588 ] الباب. فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف. وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه. وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده.

    ولا يحل لكم - أي: أيها المطلقون: أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا - من المهر وغيره -: إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله أي: فيما يلزمها من حقوق الزوجية -: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به أي: نفسها عن ضرره ; أي: لا إثم على الزوج في أخذ ما افتدت به، ولا عليها في إعطائه. وهذه الآية أصل في الخلع.

    وقد ذكر ابن جرير: أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس وكانت زوجته لا تطيقه بغضا. ففي " صحيح البخاري " عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ما أعيب عليه في خلق ولا دين. ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتردين عليه حديقته؟ » قالت: نعم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقبل الحديقة وطلقها تطليقة » . وقد بسط طرق هذا الحديث مع أحكام الخلع الإمام ابن كثير في " تفسيره "، وكذا شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " فلتنظره ثمة.

    تلك - أي: الأحكام العظيمة المتقدمة للطلاق والرجعة والخلع وغيرها... -: حدود الله - شرائعه -: فلا تعتدوها - بالمخالفة والرفض -: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون أي: لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه. وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.
    [ ص: 589 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [230] فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون .

    فإن طلقها - أي: بعد التطليقتين -: فلا تحل له - برجعة ولا بنكاح جديد: من بعد - أي: - من بعد هذا الطلاق -: حتى تنكح زوجا غيره أي: حتى تذوق وطء زوج آخر، وهي العسيلة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح صحيح. وفي جعل هذا غاية للحل، زجر لمن له غرض ما في امرأته عن طلاقها ثلاثا، لأن كل ذي مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر.

    فروع مهمة تتعلق بهذه الآية:

    الأول: قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني. ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإن ما معه مثل الهدبة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ [ ص: 590 ] لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » . وفي " سنن النسائي ". عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « العسيلة الجماع ولو لم ينزل» . وفيها عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها؟ قال: « لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر » . فتضمن هذا الحكم أمورا:

    أحدها: أنه لا يقبل قول المرأة على الرجل: أنه لا يقدر على جماعها.

    الثاني: أن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، خلافا لمن اكتفى بمجرد العقد، فإن قوله مردود بالسنة التي لا مرد لها.

    الثالث: أنه لا يشترط الإنزال بل يكفي مجرد الجماع الذي هو ذوق العسيلة.

    الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد العقد المقصود - الذي هو نكاح رغبة - كافيا، ولا اتصال الخلوة به وإغلاق الأبواب وإرخاء الستور حتى يتصل به الوطء.... وهذا يدل على أنه لا يكفي مجرد عقد التحليل الذي لا غرض للزوج والزوجة فيه سوى صورة العقد وإحلالها للأول بطريق الأولى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #117
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 591 الى صـ 595
    الحلقة (117)


    فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام [ ص: 591 ] غير كاف حتى يوجد فيه الوطء، فكيف يكفي عقد تيس مستعار ليحلها، لا رغبة له في إمساكها، وإنما هو عارية كحمار الفرس المستعار للضراب!.

    وقال - عليه الرحمة - قبل ذلك: وأما نكاح المحلل، ففي " الترمذي " و " المسند " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: « لعن الله المحلل والمحلل له » ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي " المسند " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: « لعن الله المحلل والمحلل له» ، وإسناده حسن. وفيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وفي " سنن ابن ماجه" من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ » قالوا: بلى يا رسول الله! قال: « هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له » . فهؤلاء الأربعة من سادات الصحابة رضي الله عنهم، وقد شهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعنه أصحاب التحليل، وهم المحلل والمحلل له. وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق. وإما دعاء مستجاب قطعا. وهذا يفيد أنه من الكبائر الملعون فاعلها. ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ والقصد. فإن القصود في العقود عندهم معتبرة. والأعمال بالنيات. والشرط المتواطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم. والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني، فإذا ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ، لأنها وسائل قد تحققت غاياتها فترتب عليها أحكامها.

    [ ص: 592 ] وقد ساق ابن كثير الأحاديث الواردة في ذلك: منها ما قدمناه، ومنها ما رواه الحاكم في " مستدركه ": عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر. فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له، من غير مؤامرة منه، ليحلها لأخيه: هل تحل للأول؟ فقال لا. إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وروى البيهقي: أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، ففرق بينهما. وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.

    وبالجملة: فالتحليل غير جائز في الشرع. ولو كان جائزا لم يلعن فاعله والراضي به. وإذا كان لعن الفاعل لا يدل على تحريم فعله لم تبق صيغة تدل على التحريم قط. وإذا كان هذا الفعل حراما غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي ذكره الله تعالى في قوله: حتى تنكح زوجا غيره كما أنه لو قال: لعن الله بائع الخمر لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله: وأحل الله البيع والأمر ظاهر.

    فصل

    قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين ":

    إلزام الحالف بالطلاق والعتاق، إذا حنث، بطلاق زوجته وعتق عبده - مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة - فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا. وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء - الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط - كما في " صحيح البخاري " عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت. فقال ابن عمر: إن خرجت [ ص: 593 ] فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا. وأما من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب. فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور. وصح عنهم عدم الوقوع في صور. والصواب: ما أفتوا به في النوعين. ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها. فأما الوقوع: فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر، وما رواه الثوري عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، ففعلته. قال: هي واحدة وهو أحق بها. على أنه منقطع. وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة. قال: يتمتع بها إلى سنة. ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر فقال: إن عدت سألتيني فأنت طالق. فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق. وأما الآثار عنهم في خلافه: فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة - رضي الله عنهم - فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما. رواه الأثرم في " سننه " والجوزجاني في " المترجم " والدارقطني والبيهقي.

    وقاعدة الإمام أحمد: أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه، يلزمه القول بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته. قال أبو محمد بن حزم: وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة - أمي المؤمنين - أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك،كفارة يمين واحدة. وإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف في قول الحالف: عبده حر إن فعل، أنه يجزيه كفارة يمين، ولم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله، فأن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى. كيف وقد أفتى علي بن أبي طالب [ ص: 594 ] رضي الله عنه: الحالف بالطلاق، أنه لا شيء عليه... ولم يعرف له في الصحابة مخالف؟. قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بريرة الأندلسي في شرحه لأحكام عبد الحق، الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك منه: وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشريح وطاوس: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث. ولا يعرف في ذلك مخالف من الصحابة - هذا لفظه بعينه - فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق.

    وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط - ولا تعارض بين ذلك - فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه.. إلى أن قال: وإذا دخلت اليمين بالطلاق في قول الحالف: أيمان البيعة تلزمني - وهي الأيمان التي رتبها الحجاج - فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فإن كانت يمين الطلاق يمينا شرعية - بمعنى أن الشرع اعتبرها - وجب أن تعطى حكم الأيمان. وإن لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع فلا يلزم الحالف بها شيء، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه: ليس الحلف بالطلاق شيئا. وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود في " تفسيره " عنه: إنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء. وصح عن شريح - قاضي علي - وابن مسعود: إنها لا يلزم بها الطلاق. وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه. فهذه أقوال أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. اهـ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #118
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 596 الى صـ 600
    الحلقة (118)

    فصل

    وقال الإمام ابن القيم - أيضا - في " أعلام الموقعين ":

    إن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس. فروى مسلم في " صحيحه" عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم ; فأمضاه عليهم. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا. قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقها؟ قال: طلقها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال نعم. قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت، قال: فرجعها. كان ابن عباس يرى: إنما الطلاق عند كل طهر. وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه. ثم إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يخف عليه. أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة. وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع كله جملة واحدة. كاللعان فإنه لو قال: أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين، كان مرة واحدة. ولو حلف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يمينا إن هذا قاتله، كان يمينا واحدة. ولو قال المقر بالزنا: أنا أقر أربع مرات أني زنيت، كان مرة واحدة. فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك [ ص: 596 ] الإقرار إلا واحدا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» . فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة. وكذلك قوله: « من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره ثلاثا وثلاثين» .. الحديث، لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة، لا يجمع الكل بلفظ واحد.. وكذلك قوله: « من قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي» . لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة. وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء. كقوله تعالى: سنعذبهم مرتين إنما هو مرة بعد مرة. وكذا قول ابن عباس: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، إنما هو مرة بعد مرة. وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ص: 597 ] « لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . فهذا هو المعقول من اللغة والعرف. فالأحاديث المذكورة، وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى: الطلاق مرتان كلها من باب واحد ومشكاة واحدة. والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله تعالى: الطلاق مرتان فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر رضي الله عنه، على هذا المذهب، فلو عدهم العاد لزادوا على الألف قطعا. ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه. بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن، وإلى يومنا هذا. فأفتى به من الصحابة ابن عباس والزبير وابن عوف. وعن علي وابن مسعود روايتان، ومن التابعين عكرمة وطاوس. ومن تابعيهم: محمد بن إسحاق وغيره. وممن بعدهم داود إمام أهل الظاهر، وبعض أصحاب مالك، وبعض الحنفية، وأفتى بعض أصحاب أحمد - حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه - قال: وكان الجد يفتي به أحيانا.

    والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم. ولم يأت بعده إجماع يبطله. ولكن رأى أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم، إذا أوقعه جملة، بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق. فرأى عمر هذا مصلحة لهم في زمانه. ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدرا من خلافته - كان اللائق بهم، لأنهم لم يتتابعوا فيه. وكانوا يتقون الله في الطلاق. وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا. فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم. فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة. ولم يشرعه كله مرة واحدة. فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى [ ص: 598 ] حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله. فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد ضيعها على نفسه. ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، رحمة وإحسانا. واختار الأغلظ والأشد. فهذا ما تغيرت به البلوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به، ثم قال: فلما تغير الزمان، وبعد العهد بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس، فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل ويقللها ويخفف شرها. وإذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه. مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل، ووازن بينهما - تبين له التفاوت، وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين.

    ثم قال عليه الرحمة: ويمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر رضي الله عنه من وجهين:

    أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرما عند نفسه؟

    الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة رضي الله عنهم. والعقوبة - إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه - كان تركها أحب إلى الله ورسوله. ولا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل، والله الموفق.

    [ ص: 599 ] فصل

    وأما طلاق الغضبان ففي " أعلام الموقعين " ما نصه:

    إن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به. والله سبحانه رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة. ولهذا لم يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد، لفرح أو دهش أو غير ذلك، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد، وضرب مثل ذلك: من فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، ولم يؤاخذ بذلك وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ. ومن هذا قوله تعالى: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب، لو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه، ولكنه لا يستجيبه لعلمه أن الداعي لم يقصده. ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق. قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل: هو الغضب.

    [ ص: 600 ] وبذلك فسره أبو داود. وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق - أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم - وهي عنده من لغو اليمين أيضا. فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق. وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه - وهو ابن بريرة الأندلسي - قال: وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الصحابة: أن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم. وفي " سنن الدارقطني " بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه: لا يمين في غضب، ولا عتاق فيما لا يملك. وهو، إن لم يثبت رفعه، فهو قول ابن عباس. وقد فسر الشافعي (لا طلاق في إغلاق) بالغضب، وفسره مسروق به. فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسروا الإغلاق بالغضب. وهو من أحسن التفسير. لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد لشدة غضبه. وهو كالمكره. بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره، لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر الذي هو دونه، فهو قاصد حقيقة. ومن ههنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه. وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون. فإن غول العقل يغتاله الخمر بل أشد. وهو شعبة من الجنون، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه. ولهذا قال حبر الأمة - الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، بالفقه في الدين: إنما يقع الطلاق من وطر. ذكره البخاري في صحيحه، أي: عن غرض من المطلق في وقوعه. وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه، وإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ; إذ الألفاظ إنما تترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #119
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 601 الى صـ 605
    الحلقة (119)





    والله لم يؤاخذنا باللغو في أيماننا. ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجمهور السلف: إنه قول الحالف: لا والله، وبلى، والله. في عرض كلامه من غير عقد لليمين، كذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق كقول الحالف في عرض كلامه: علي الطلاق لا أفعل [ ص: 601 ] و (الطلاق يلزمني لا أفعل) من غير قصد لعقد اليمين. بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو، فيمين الطلاق أولى أن لا ينعقد، ولا تكون أعظم حرمة من الحلف بالله. وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وهو الصواب. فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه، فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به. فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال. وقد رفع الله المؤاخذة بهذا. وهذا كما قال المؤمنون: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ! فقال ربهم تبارك وتعالى: قد فعلت.

    وفي قال شيخنا: حقيقة الإغلاق: أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته.

    قال أبو العباس المبرد: الغلق ضيق الصدر وقلة الصبر حتى لا يجد له مخلصا.

    قال شيخنا: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.

    والغضب على ثلاثة أقسام:

    أحدها: ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال. وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.

    الثاني: ما يكون في مباديه، بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه.

    الثالث: أن يستحكم ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال. فهذا محل نظر. وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه.

    [ ص: 602 ] فصل

    وأما طلاق الحائض والنفساء والموطوءة في طهرها، ففي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب، عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: « مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها بعد ذلك وإن شاء طلقها قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . ولمسلم: « مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل » وفي لفظ: « إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى » . وفي لفظ للبخاري: « مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها » . وفي لفظ لأحمد وأبي داود والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض فردها عليه [ ص: 603 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئا وقال: « إذا طهرت فليطلق أو ليمسك» . وقال ابن عمر رضي الله عنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن في قبل عدتهن، فتضمن هذا الحكم أن الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلالان ووجهان حرامان.

    فالحلال: أن يطلق امرأته طاهرا من جماع. أو يطلقها حاملا مستبينا حملها. والحرام: أن يطلقها وهي حائض. أو يطلقها في طهر جامعها فيه. هذا في طلاق المدخول بها. وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضا وطاهرا.

    ثم إن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتا بين السلف والخلف. وقد وهم من ادعى الإجماع على وقوعه وقال بمبلغ علمه وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره. وقد قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وما يدريه لعل الناس اختلفوا؟ كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين..؟!.

    وقال محمد بن عبد السلام الخشني: ثنا محمد بن بشار: ثنا عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي. ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال، في رجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد بذلك. ذكره أبو محمد بن حزم في " المحلى " بإسناده إليه.

    وقال عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاق ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة. وكان يقول: وجه الطلاق أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو إذا استبان حملها.

    قال أبو محمد بن حزم: العجب من جراءة من ادعى الإجماع على خلاف هذا وهو لا يجد فيما يوافق قوله - في إمضاء الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي جامعها فيه - كلمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، غير رواية عن ابن عمر. وقد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر.

    [ ص: 604 ] وقال أبو محمد: بل نحن أسعد بدعوى الإجماع ههنا لو استجزنا ما يستجيزون - ونعوذ بالله من ذلك - وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة. فإذا لا شك في هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة؟ أليس بحكم المشاهدة، مجيز البدعة مخالفا لإجماع القائلين بأنها بدعة..؟!.

    قال أبو محمد: وحتى لو لم يبلغنا الخلاف لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذبا على جميعهم.

    هذا ما أفاده الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ". ثم ذكر حجج المانعين من وقوعه، وحجج من أوقعه، والمناقشة فيها، فراجعه إن شئت.

    وذكر في خلال البحث: أنه لا دليل في قوله: « مره فليراجعها » على وقوع الطلاق، لأن المراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان: منها: ابتداء النكاح كقوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق - ههنا - هو الزوج الثاني. وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول. وذلك نكاح مبتدأ. ومنها: الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولا كقوله لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاما خصه به دون ولده: رده. فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائرة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 605 ] جورا، وأخبر أنها لا تصح، وأنها خلاف العدل. ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع، فنهاه عن ذلك ورد البيع. وليس هذا الرد مستلزما لصحة البيع، فإنه بيع باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا. وهكذا الأمر، بمراجعة ابن عمر امرأته، ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة، وثمة وجوه أخرى، والله أعلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #120
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 606 الى صـ 610
    الحلقة (120)




    فصل

    وأما الخلع: فالتحقيق أنه فسخ لا طلاق. وأن العدة فيه حيضة، روى أبو داود في " سننه " عن ابن عباس ; أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة، ففي ذلك دليل على حكمين: أحدهما: أنه لا يجب عليها ثلاث حيض بل تكفيها حيضة. وهذا كما أنه صريح السنة فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والربيع بنت معوذ وعمها رضي الله عنهم - وهو من كبار الصحابة - فهؤلاء الأربعة من الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم - وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهويه والإمام أحمد، في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية. قال: هذا القول هو مقتضى قواعد الشريعة. فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة ويتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة. فإذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل. وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء. ولا ينتقض هذا بالمطلقة ثلاثا. فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحدا بائنة ورجعية. قالوا: وهذا دليل على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق. وهو مذهب ابن عباس وعثمان وابن عمر والربيع وعمها. ولا يصح [ ص: 606 ] عن صحابي أنه طلاق البتة. فروى الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن عمرو، عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه قال: الخلع تفريق وليس بطلاق. وذكر عبد الرزاق عن سفيان عن عمرو، عن طاوس: أن إبراهيم ابن سعد سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أينكحها؟ قال ابن عباس رضي الله عنه: نعم! ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك.

    والذي يدل على أنه ليس بطلاق، أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده، ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع:

    أحدها: أن الزوج أحق بالرجعة فيه.

    الثاني: أنه مسحوب من الثلاث فلا يحل بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة.

    الثالث: أن العدة فيه ثلاثة قروء.

    وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع. وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة. وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين ووقوع ثالثة بعده. وهذا ظاهر جدا في كونه ليس بطلاق ; فإنه سبحانه قال: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وهذا - وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين - فإنه يتناولها وغيرها. ولا يجوز أن يعود الضمير إلى من لم يذكر، ويخلى عنه المذكور، بل إما أن يختص بالسابق، أو يتناوله وغيره. ثم قال: فإن طلقها فلا تحل له من بعد وهذا يتناول من طلقت بعد فدية تطليقتين قطعا; لأنها هي المذكورة. فلا بد من دخولها تحت اللفظ. فهذا فهم ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يعلمه الله تأويل القرآن، وهي دعوة مستجابة بلا شك. وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق، دل على أنها غير جنسه. فهذا مقتضى النص والقياس وأقوال الصحابة. انتهى.

    [ ص: 607 ] هذه خلاصة الحجج في هذه الفروع المهمة معرفتها. ولا يعرف قدرها إلا من صغى فهمه عن التعصبات. ومن نظر إلى ما عمت به البلوى - من التفرقة بين المرء وزوجه بمجرد الانتحال للقيل والقال، وترك ما حققه بالدلائل الأئمة الأبطال - قضى العجب، وبالله التوفيق.

    فإن طلقها - أي: الزوج الثاني -: فلا جناح عليهما أي: على المرأة ومطلقها الأول: -: أن يتراجعا أي: إلى ما كانا فيه من النكاح بعقد جديد بعد عدة طلاق الثاني - المعلومة مما تقدم من قوله: والمطلقات يتربصن الآية -: إن ظنا أن يقيما حدود الله أي: التي أوجب مراعاتها على الزوجين من الحقوق: وتلك أي: الأحكام المذكورة: حدود الله أي: أحكامه المحمية من التغيير والمخالفة: يبينها لقوم يعلمون أي: يكشف اللبس عنها لقوم فيهم نهضة وجد في الاجتهاد، فيجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت، فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا واتقوا الله ويعلمكم الله - أفاده البقاعي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [231] وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنـزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم .

    [ ص: 608 ] وإذا طلقتم النساء أي: طلاقا رجعيا: فبلغن أجلهن أي: قاربن انقضاء العدة: فأمسكوهن أي: بالمراجعة إن أردتم: بمعروف من غير ضرار: أو سرحوهن بمعروف أي: بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن: ولا تمسكوهن أي: بالرجعة: ضرارا أي: مضارة بإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة: لتعتدوا اللام للعاقبة، أي: لتكون عاقبة أمركم الاعتداء ; أو للتعليل متعلقة بالضرار فيكون علة للعلة، أي: لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء: ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه أي: بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه.

    ولا تتخذوا آيات الله أي: أوامره ونواهيه: هزوا أي: مهزوا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها: واذكروا نعمت الله عليكم أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم: وما أنـزل عليكم من الكتاب والحكمة أي: السنة: يعظكم به أي: بما أنزل. أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على المخالفة: واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم تأكيد وتهديد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [232] وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

    وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي: انقضت عدتهن. وقد دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين، إذ الأول دل على المشارفة للأمر بالإمساك، وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل: فلا تعضلوهن أي: لا تمنعوهن: أن ينكحن أزواجهن [ ص: 609 ] الذين طلقوهن، والآن يرغبن فيهم: إذا تراضوا أي: النساء والأزواج: بينهم بالمعروف أي: بما يحسن في الدين من الشرائط: ذلك أي: النهي عن العضل: يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أي: الاتعاظ بترك العضل والضرار: أزكى لكم أي: أصلح لكم: وأطهر لقلوبكم وقلوبهن من الريبة والعدواة: والله يعلم وأنتم لا تعلمون أي: يعلم ما فيه صلاح أموركم فيما يأمر وينهى ومنه ما بينه هنا وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون. وقد روي: أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته.

    أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار: أنه زوج أخته رجلا من المسلمين، فكانت عنده، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها، حتى انقضت العدة فهويها وهويته. فخطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدا. فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه، فأنزل الله الآية، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة! ثم دعاه وقال: أزوجك وأكرمك. زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [233] والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير .

    [ ص: 610 ] والوالدات أي: من المطلقات: يرضعن أولادهن حولين كاملين أي: سنتين كاملتين: لمن أراد أن يتم الرضاعة أي: هذا الحكم لمن أراد أن يتم رضاع الولد، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك، وأنه لا رضاع بعد التمام.

    قال الحرالي: وهو - أي: الذي يكتفى به دون التمام - هو ما جمعه قوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فإذا كان الحمل تسعا كان الرضاع أحدا وعشرين شهرا. وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثا وثلاثين شهرا، فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود، فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع.

    وعلى المولود له - أي: الأب - وعبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه، لأن الوالدات إنما ولدن للآباء، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم. قال بعضهم:


    وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •