تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 16 من 22 الأولىالأولى ... 678910111213141516171819202122 الأخيرةالأخيرة
النتائج 301 إلى 320 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #301
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2019 الى صـ 2026
    الحلقة (301)





    [ ص: 2019 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [49] وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون

    وأن احكم بينهم بما أنـزل الله عطف على (الكتاب) أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه. أو على (الحق) أي: أنزلناه بالحق وب (أن احكم) ويجوز أن يكون جملة، بتقدير: وأمرنا أن احكم. وفي التعرض لعنوان إنزاله تعالى إياه، تأكيد لوجوب الامتثال، وتمهيد لما يعقبه من قوله: ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك أي: يصرفوك عنه. وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب. كإعادة (ما أنزل الله).

    فإن تولوا أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره: فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم يعني بذنب التولي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع (ببعض ذنوبهم) موضع ذلك. وأراد: أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد. وأن هذا الذنب - مع عظمه - بعضها وواحد منها.. وهذا الإبهام لتعظيم التولي، واستسرافهم في ارتكابه، ونحو (البعض) في هذا الكلام ما في قول لبيد. [ ص: 2020 ] (أو يرتبط بعض النفوس حمامها..!) أراد نفسه. وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام. كأنه قال: نفسا كبيرة ونفسا أي نفس. فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض. كذا في "الكشاف".

    وفي "الحواشي": ومثل هذا قوله تعالى: ورفع بعضكم فوق بعض درجات أراد محمدا صلى الله عليه وسلم; وقيل: ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم; وقيل: أراد العذاب في الدنيا. وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب. ولقد تلطف القائل:


    وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة، وأنت كل الناس


    وإن كثيرا من الناس لفاسقون أي: المتمردون في الكفر معتقدون فيه; وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة. يعني: إن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر. والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله. ونظيرها قوله تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقوله تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله

    روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوما، [ ص: 2021 ] وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس; بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد! إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم. وإنا - إن اتبعناك - اتبعنا يهود، ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل فيهم: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [50] أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون

    أفحكم الجاهلية يبغون أي: يريدون منك.

    قال أبو السعود: إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم و (الفاء) للعطف على مقدر يقتضيه المقام. أي: أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية. وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكد الإنكار والتعجيب. لأن التولي عن حكمه صلى الله عليه وسلم. وطلب حكم آخر، منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب. والمراد ب (الجاهلية) إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام فيكون تعبيرا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم، يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي. وإما أهل الجاهلية، وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى. انتهى.

    ومن أحسن من الله حكما أي: قضاء: لقوم يوقنون أي: ينظرون بنظر اليقين إلى العواقب. والاستفهام إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساويا له.

    قال ابن كثير: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم - المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر - وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها [ ص: 2022 ] الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم (الياسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله. فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. قال الله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون.

    ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية. وكان طاوس إذا سأله رجل: أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ: أفحكم الجاهلية الآية. وروى الطبراني: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبغض الناس إلى الله عز وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه. ورواه البخاري بزيادة. انتهى كلام ابن كثير.

    قال بعض مفسري الزيدية: اشتمل قوله تعالى: وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق إلى قوله تعالى: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون على عشرين وجها من التأكيد في [ ص: 2023 ] ملازمة شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم التي أنزلها الله تعالى، واختاره لأمته، واستأثر بكثير من أسرارها فلم يطلع عليها، وما أشد امتثال ما تضمنته؟ وكيف الخروج عن عهدته خصوصا على الأئمة والحكام؟ ولن يحصل ذلك حتى يلوم نفسه بلجام الحق، ويعزل عن نفسه مطالعة الخلق، لهذه الجملة لا يقال: إنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتبع أهواءهم، فكيف نهي عما يعلم الله أنه لا يفعله؟ قال الحاكم: ذلك مقدور له، فيصح النهي وإن علم أنه لا يفعله. وقيل: الخطاب له والمراد غيره.

    كذلك لا يقال: قوله: فاحكم بينهم بما أنـزل الله يخرج من ذلك القياس. لأن ذلك - إن جعل خطابا له عليه الصلاة والسلام - فلم يكن متعبدا بالقياس. وإن كان خطابا للكل فالقياس ثابت بالدليل فهو بمثابة المنزل. هكذا ذكر الحاكم. والأكثر: أنه يجوز منه عليه الصلاة والسلام الاجتهاد، ومنعه آخرون. وقوله تعالى: فاستبقوا الخيرات قد يستدل به على أن الواجبات على الفوز. وهو محتمل؛ لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت. انتهى.

    وفي "الإكليل": استدل به على أن تقديم العبادات أول وقتها أفضل من تأخيرها. انتهى.

    وقد روى مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين.

    وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن أم فروة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها» .
    [ ص: 2024 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

    يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء أي: لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا، بمعنى: لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم.

    قال المهايمي: إذا كان تودد أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقصد افتتانه عن بعض ما أنزل الله مع غاية كماله، فكيف حال من يتودد إليهم من المؤمنين؟ انتهى.

    ووصفهم بعنوان (الإيمان) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه.

    فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين، من أقوى الزواجر عن موالاتهما.

    بعضهم أولياء بعض إيماء إلى علة النهي. أي: فإنهم متفوقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين. وإجماعهم على مضادتكم. فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم!!.

    ومن يتولهم منكم فإنه منهم أي: من جملتهم. وحكمه حكمهم وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة.

    قال الزمخشري: وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تراءى ناراهما. ومنه قول عمر [ ص: 2025 ] رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله. ولا تأمنوهم إذ خونهم الله. ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله. وروي أنه قال له أبو موسى: (لا قوام للبصرة إلا به) فقال: مات النصراني والسلام. يعني: هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ، فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره.

    إن الله لا يهدي القوم الظالمين يعني: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة.

    روى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الآية.

    ثم بين تعالى كيفية توليهم. وأشعر بسببه وبما يؤول إليه أمره. فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [52] فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين

    فترى الذين في قلوبهم مرض أي: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه: يسارعون فيهم أي: في مودتهم في الباطن والظاهر، من غير نظر فيما يلحقهم من الضرر في دين الله، والفضيحة بالنفاق: يقولون أي: في عذرهم: نخشى أن تصيبنا دائرة أي: من دوائر الزمان، وصرف من صروفه، فتكون الدولة لهم، فنحتاج إليهم، فنحن نتحفظ عن شرهم. ولا يتفكرون في أن الدائرة ربما تصيب من يوالونهم. والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وأصلها: الخط المحيط بالسطح. استعيرت لنوائب الزمان، بملاحظة إحاطتها واستعمالها في المكروه. و (الدولة) ضدها، وقد ترد بمعنى (الدائرة) أيضا، لكنه قليل. كذا في "العناية".

    [ ص: 2026 ] ثم رد تعالى عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بالظفر بقوله سبحانه: فعسى الله أن يأتي بالفتح أي: فتح مكة، عن السدي. أو فتح قرى اليهود من خيبر وفدك، عن الضحاك. وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وإظهار المسلمين: أو أمر من عنده يقطع شأفة اليهود، ويجليهم عن بلادهم: فيصبحوا أي: المنافقون: على ما أسروا في أنفسهم من الشك في ظهور الإسلام، أو من النفاق: نادمين لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين. وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه - لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة - لما أنه الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها. فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #302
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2037 الى صـ 2035
    الحلقة (302)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين

    ويقول الذين آمنوا قال الزمخشري: قرئ بالنصب عطفا على (أن يأتي) وبالرفع على أنه كلام مبتدأ. أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. وقرئ: (يقول) بغير (واو) وهي مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك. على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا؟ (فإن قلت): لمن يقولون هذا القول؟ (قلت): إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم، واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي: حلفوا لكم بأغلاظ الأيمان: إنهم لمعكم أي: إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار وإما أن يقولوه لليهود، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة. كما حكى الله عنهم: وإن قوتلتم لننصرنكم أي: فقد تباعدوا عنكم. فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين [ ص: 2027 ] ولا مع اليهود: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين أي: في الدنيا، إذ ظهر نفاقهم عند الكل. وفي الآخرة، إذ لم يبق لهم ثواب.

    قال الزمخشري: هذه الجملة من قول المؤمنين. أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس، وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم! أو من قول الله عز وجل، شهادة لهم بحبوط الأعمال، وتعجيبا من سوء حالهم. انتهى.

    وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين، ما لا يخفى.

    تنبيهات:

    الأول -: في سبب نزول هذه الآيات الكريمات:

    روي عن السدي، أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: وأما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الآيات.

    وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي: إنه الذبح. رواه ابن جرير. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول. روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي موالي من يهود كثير عددهم. وإني [ ص: 2028 ] أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود. وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر. لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: «يا أبا الحباب! ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه» . قال: قد قبلت. فأنزل الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا الآيتين.

    ثم روى ابن جرير عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن صيف: غركم إن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال! أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم. لم يكن لكم يد أن تقاتلونا. فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله! إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود. إني رجل لابد لي منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه. فقال إذا أقبل! قال: فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود - إلى قوله -: والله يعصمك من الناس .

    وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه. فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد! أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا محمد! أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني. وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم [ ص: 2029 ] قال: ويحك! أرسلني. قال: لا، والله! لا أرسلك حتى تحسن في موالي. أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني امرؤ أخشى الدوائر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك. قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبي، إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف من الخزرج، لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي - فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى عز وجل، وإلى رسوله من حلفهم وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم... ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود - إلى قوله -: فإن حزب الله هم الغالبون .

    وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كنت أنهاك عن حب يهود» . فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. وكذا رواه أبو داود.

    الثاني: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرات الآية أحكام:

    الأول: - أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى. قال الحاكم: والمراد موالاته في الدين. وجعل الزمخشري الموالاة في النصرة والمصافاة. وبين وجوب المجانبة للمخالف في الدين، كما تقدم. والبعد والمجانبة استحباب؛ إذ قد جازت المخالطة في مواضع بالإجماع، وذلك حيث لا يوهم محبتهم ولا بأنهم على حق.

    [ ص: 2030 ] الحكم الثاني: - أن للإمام أن يسقط الحد إذا خشي، أو يؤخره. وقد ذكر هذا، الأمير يحيى والراضي بالله والحاكم، وهذا مأخوذ من سبب النزول، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبي.

    الحكم الثالث: - صحة الموالاة منهم لبعضهم بعضا. وقد قال علي بن موسى القمي: الآية تدل على أنهم ملة واحدة: فتصح المناكحة بينهم والموارثة. والمذهب خلاف ذلك. والدلالة على ما ذكر محتملة؛ لأنها تحتمل أن المراد: بعضهم أولياء بعض في معاداة المسلمين; أو يعني: بعض اليهود وليا لبعض اليهود.

    الحكم الرابع: أن من تولاهم فهو منهم. ولا خلاف في أنه صار عاصيا لله كما عصوه. ولكن أين تبلغ حد معصيته؟ وقد اختلف في ذلك فقيل: معنى قوله: فإنه منهم أي: حكمه حكمهم في الكفر، وهذا حديث يقرهم على دينهم. فكأنه قد رضيه. وقيل: من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه. قال الحاكم: ودلالة الآية مجملة؛ فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين.

    الحكم الخامس: ذكره الحاكم، أنه لا يجوز الاستعانة بهم. قلنا: ذكر الراضي بالله: أنه صلى الله عليه وسلم قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرهما إلى أن نقضوه يوم الأحزاب، وجدد صلى الله عليه وسلم الحلف بينه وبين خزاعة. حتى كان ذلك سبب الفتح. وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم. مسلمهم وكافرهم. وقال الراضي بالله: وهو ظاهر قول آبائنا عليهم السلام. وقد استعان علي عليه السلام بقتلة عثمان، واستعان صلى الله عليه وسلم بالمنافقين. قال الراضي بالله: ويجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين، فتكون هذه الاستعانة غير موالاة.

    [ ص: 2031 ] التنبيه الثالث - في التفسير المتقدم ما نصه: وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه:

    الأول - النهي بقوله: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وسائر الكفار لاحق بهم.

    الثاني - قوله تعالى: بعضهم أولياء بعض والمعنى: أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر، والمؤمنون أعلى منهم.

    الثالث - قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا تراءى نارهما. ومثل قوله عليه السلام: لا تستضيئوا بنار المشركين.

    الرابع: ما أخبر الله به أنه لا يهديهم.

    الخامس: وصفهم بالظلم، والمراد: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.

    السادس: - أنه تعالى أخبر أن الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض، أي: شك ونفاق.

    السابع - ما أخبر الله تعالى به من علة الموالين، وأن ذلك خشية الدوائر. لا أنه بإذن من الله ولا من رسوله.

    الثامن: - قطع الله لما زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر فقال تعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح و (عسى) في حق الله تعالى لواجب الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك.

    التاسع - ما بشر الله تعالى به من إهانته بقوله: أو أمر من عنده قيل: إذلال الشرك بالجزية. وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير. وقيل: أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم.

    العاشر: - ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي يؤول إليه حالهم. وأنهم يصبحون نادمين على ما أسروا في أنفسهم [ ص: 2032 ] من غشهم للمسلمين ونصحهم للكافرين. وقيل: من نفاقهم. وقيل: من معاندتهم للكفار، وذلك حين معاينتهم للعذاب. وقيل: في الدنيا، بما صاروا فيه من الذلة والصغار.

    الحادي عشر: - ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله وخبثهم في إيمانهم بقوله تعالى: ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الآية.

    الثاني عشر: - ما أخبر الله من حالهم بقوله تعالى: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين قيل: خسروا حظهم من موالاتهم. وقيل: أهلكوا أنفسهم. وقيل: خسروا ثواب الله. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [54] يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم

    يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم لما نهى تعالى - فيما سلف - عن مولاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين بقوله: فإنه منهم وقوله: حبطت أعمالهم - شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق.

    ونوه بقدرته العظيمة. فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة، وأقوم سبيلا. كما قال تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم وقال تعالى: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين [ ص: 2033 ] وقال تعالى: إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز أي: بممتنع ولا صعب.

    وفي هذه الآية مسائل:

    الأولى: قال المحققون: هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقد وقع المخبر به على وفقها. فيكون معجزا. فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (بنو مدلج) ورئيسهم ذو الحمار - بحاء مهملة وضبطه بعضهم بالمعجمة - وهو الأسود العنسي - بالنون نسبة إلى عنس قبيلة باليمن - وكان كاهنا ثم تنبأ باليمن، واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن. فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي. بيته فقتله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل. فسر المسلمون. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في آخر شهر ربيع الأول.

    و (بنو حنيفة) قوم مسيلمة: تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله [ ص: 2034 ] إلى محمد رسول الله. أما بعد؛ فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه الصلاة والسلام: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي، قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام. أراد: في جاهليتي وإسلامي.

    و (بنو أسد) قوم طليحة بن خويلد: تنبأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر جمعه، ومات [ ص: 2035 ] صلى الله عليه وسلم وهو على ذلك. فبعث إليه أبو بكر خالدا رضي الله عنهما فقصده. فانهزم طليحة بعد القتال إلى الشام. ثم أسلم وحسن إسلامه.

    وسبع في عهد أبي بكر رضي الله عنه:

    (فزارة) قوم عيينة بن حصن.

    و (قوم غطفان) قوم قرة بن سلمة الشيري.

    و (بنو سليم) قوم الفجاءة بن عبد ياليل - بيائين ولامين كهابيل - صنم سمي هذا به.

    و (بنو يربوع) قوم مالك بن نويرة.

    و (بعض تميم) قوم سجاح بنت المنذر. كانت كاهنة ثم تنبأت وزوجت نفسها مسيلمة الكذاب ثم أسلمت وحسن إسلامها.

    و (كندة) قوم الأشعث بن قيس.

    و (بنو بكر بن وائل) بالبحرين، قوم الحطم - كزفر - بن زيد. وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه.

    وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه: (غسان) قوم جبلة بن الأيهم، نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه. والجمهور على أنه مات على ردته وقيل: إنه أسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #303
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2036 الى صـ 2046
    الحلقة (303)



    وروى الواقدي: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار الشام - لما لحق بهم – [ ص: 2036 ] كتابا فيه: أن جبلة ورد إلي في سراة قومه، فأسلم فأكرمته. ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه. (وقيل: قلع عينه، ويدل له ما سيأتي) فاستعدى الفزاري على جبلة إلي. فحكمت إما بالعفو أو بالقصاص. فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقلت: شملك وإياه الإسلام. فما تفضله إلا بالعافية.

    فسأل جبلة التأخير إلى الغد. فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا.

    وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد:


    تنصرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها، لو صبرت لها، ضرر

    فأدركني فيها لجاج حمية
    فبعت لها العين الصحيحة بالعور

    فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
    صبرت على القول الذي قاله عمر


    هذا ما في "الكشاف" و "العناية".

    وقال الخطابي: أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر. وهذه الفرقة طائفتان:

    إحداهما: - أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم [ ص: 2037 ] الذين صدقوه على دعواه في النبوة، أصحاب الأسود العنسي ومن استجابه من أهل اليمن. وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. مدعية النبوة لغيره. فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة، والعنسي بصنعاء. وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم.

    والطائفة الأخرى: - ارتدوا عن الدين. فأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يسجد لله في الأرض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس.

    قال; والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة، فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الإمام، وهؤلاء -على الحقيقة- أهل البغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصا، لدخولهم في غمار أهل الردة، وأضيف الاسم في الجملة إلى أهل الردة، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما.

    انظر تتمة هذا المبحث في "نيل الأوطار" في كتاب الزكاة.

    قال الشوكاني: فأما مانعو الزكاة منهم، المقيمون على أصل الدين، فإنهم أهل بغي. ولم يسموا على الانفراد كفارا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردة اسم لغوي. فكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه، فقد ارتد عنه. وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق. وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح، وعلق بهم الاسم القبيح، لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا.

    الثانية: قوله تعالى: يحبهم ويحبونه

    مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى. أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها. كما تقدم في الفاتحة في: الرحمن الرحيم

    فتأويل مثل الزمخشري لها - بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب، وتعظيمهم والثناء عليهم [ ص: 2038 ] والرضا عنهم - تفسير باللازم، منزع كلامي لا سلفي. وقد أنكر الزمخشري أيضا كون محبة العباد لله حقيقية، وفسرها بالطاعة وابتغاء المرضاة. فرده صاحب "الانتصاف" بأنه خلاف الظاهر. وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة، إلا بعد تعذرها، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد، لينظر: أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا؟ إذ المحبة، لغة: ميل المتصف بها إلى أمر ملذ. واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحسن: كلذة الذوق في المطعوم، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة، ولذة الشم في الروائح العطرة، ولذة السمع في النغمات الحسنة، وإلى لذة تدرك بالعقل: كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها. فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث، فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق. فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى، ومعرفة جلاله وكماله، تكون أعظم. والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات. فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد [ ص: 2039 ] ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك، وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها. ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل. ولكن حب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت. فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات؛ لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة، فالمحبة في اللغة. إذا تأكدت سميت عشقا، فمن تأكدت محبته لله تعالى، وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته - فلا تمنع أن تسمى محبته عشقا؛ إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة. انتهى.

    الثالث: قوله تعالى: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين

    قال ابن كثير: هذه صفات المؤمنين الكمل، أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم

    قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: أذلة للمؤمنين؟ قلت فيه وجهان:

    أحدهما: - أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.

    [ ص: 2040 ] والثاني: أنهم -مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين - خافضون لهم أجنحتهم.. وقرئ: (أذلة وأعزة) بالنصب على الحال.

    وفي "الحواشي": أن قوله تعالى: أعزة على الكافرين تكميل؛ لأنه لما وصفهم بالتذلل، ربما توهم أن لهم في نفسهم حقارة. فقال: ومع ذلك هم أعزة على الكافرين، كقوله:


    جلوس في مجالسهم رزان وإن ضيف ألم بهم خفوف


    واستدل بالآية على فضل التواضع للمؤمنين والشدة على الكفار.

    الرابعة: قوله تعالى: ولا يخافون لومة لائم

    قال الزمخشري: يحتمل أن تكون (الواو) للحال على معنى: أنهم يجاهدون، وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود. فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم; وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله. وأنهم صلاب في دينهم. إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - إنكار منكر أو أمر بمعروف - مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم. يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. و (اللومة) المرة من اللوم. وفيها وفي التنكير مبالغتان. كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. انتهى.

    وفيه وجوب التمسك بالحق وإن لامه لائم. وإنه مع تمسكه به صيره محلة أعلى ممن تمسك به من غير لوم؛ لأنه تعالى مدح من هذا حاله. وفيه أيضا، أن خوف الملامة ليس عذرا في ترك أمر شرعي.

    [ ص: 2041 ] روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله) فإنهن كنز تحت العرش.

    وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا، لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده. فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم» .

    وروي أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه، أن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول: مخافة الناس، فيقول: إياي أحق أن تخاف» .

    وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2042 ] على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وأن لا ننازع الأمر أهله. وأن نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.

    الخامسة: قوله تعالى: ذلك فضل الله

    الإشارة إلى ما ذكر من حب الله إياهم، وحبهم لله وذلتهم للمؤمنين، وعزتهم على الكافرين، وجهادهم في سبيل الله، وعدم مبالاتهم للوم اللوام. فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياءه.

    قال المهايمي: أما المحبتان فظاهر. وكذا العزة على الكفار والجهاد. وأما الذلة على المؤمنين فلأنه تواضع موجب للرفع. وأما عدم خوف الملامة فلما فيه من تحقيق المودة مع الله.

    وقوله تعالى: يؤتيه من يشاء أي: ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده والله واسع أي: كثير الفواضل، جل جلاله.

    ولما نهى عن موالاة اليهود والنصارى، أشار إلى من يتعين للموالاة، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [55] إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون

    إنما وليكم الله المفيض عليكم كل خير: ورسوله الذي هو واسطة: والذين آمنوا المعينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم، لأنهم: الذين يقيمون الصلاة التي هي أجمع العبادات البدنية: ويؤتون الزكاة القاطعة محبة المال الجالب للشهوات: وهم راكعون حال من فاعل الفعلين، أي: يعملون ما ذكر - من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة - وهم خاشعون ومتواضعون لله ومتذللون غير معجبين. فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يواليهم بالعون في موالاة الله ورسوله.
    [ ص: 2043 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [56] ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون

    ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فيعينهم وينصرهم: فإن حزب الله هم الغالبون في العاقبة على أعدائه.

    تنبيهات:

    الأول: إنما أفرد (الولي) ولم يجمع، مع أنه متعدد، للإيذان بأن الولاية لله أصل، ولغيره تبع لولايته عز وجل. فالتقدير: وكذلك رسوله والذين آمنوا.

    الثاني: ثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار.

    الثالث: قال ابن كثير: توهم بعض الناس أن هذه الجملة - يعني قوله تعالى: وهم راكعون - في موضع الحال من قوله: ويؤتون الزكاة أي: في ركوعهم. ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمهم من أئمة الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن علي بن أبي طالب، أن هذه الآية نزلت فيه: أنه مر به سائل في حال ركوعه، فأعطاه خاتمه. ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق وابن مردويه، ثم قال: وليس يصح شيء منها بالكلية. لضعف أسانيدها وجهالة رجالها.. انتهى.

    وقد اقتص ذلك الخفاجي في "حواشي البيضاوي" عن الحاكم وغيره بطول. ثم أنشد أبياتا لحسان بن ثابت فيها. ولوائح الضعف بل الوضع لا تخفى عليها. لا سيما ونفس حسان بن ثابت، العريق في العربية، بعيد مما نسب إليه. وأي حاجة للتنويه بفضل علي عليه السلام بمثل هذه الواهيات. وفضله أشهر من نار على علم.

    [ ص: 2044 ] قال البغوي: روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر، محمد بن علي الباقر عن هذه الآية: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا من هم؟ فقال: المؤمنون. فقلت: إن ناسا يقولون هو علي. فقال: علي من الذين آمنوا.

    قال ابن كثير: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها، أن هذه الآية كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه، حين تبرأ من حلف يهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين.

    الرابع: ذهب من رأى أن هذه الآية نزلت في علي عليه السلام وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع - كما قدمنا - إلى أن العمل القليل في الصلاة لا يبطلها، وأن صدقة النفل تسمى زكاة. نقله السيوطي في "الإكليل" عن ابن الفرس.

    وقال بعض الزيدية: ثمرة الآية تأكد موالاة المؤمنين، وبيان فضل من نزلت فيه، وأنه يجوز إخراج الزكاة في الصلاة، وتنوى. وكذا نية الصيام في الصلاة تصح. وإن الفعل القليل لا يفسد الصلاة. قال: وهذا مأخوذ من سبب نزولها، لا من لفظها. ومتى قيل: إن عليا عليه السلام لم تجب عليه زكاة؟ قلنا: إذا صح ما ذكر أنها نزلت فيه، كان أولى بالصحة، وأنها قد وجبت عليه.

    قال في "الغياضة": إن قيل: قد روي أنه كان من ذهب، والذهب محرم على الرجال; أجيب بأن ذلك كان في صدر الإسلام ثم نسخ، أو أن هذا من خواص علي عليه السلام. انتهى.

    قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلي رضي الله عنه، واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع، وإن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه. ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية [ ص: 2045 ] من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء. حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير - وهم في الصلاة - لم يؤخروه إلى الفراغ منها. انتهى.

    وإنما أوردنا هذا، على علاته، تعجيبا من غرائب الاستنباط. وقد توسع الرازي، عليه الرحمة، في المناقشة مع الشيعة هنا، فليراجع فإنه بحث بديع.

    الخامس: قوله تعالى: فإن حزب الله هم الغالبون معناه: فإنهم هم الغالبون.

    فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى (من) دلالة على علة الغلبة. وهو أنهم حزب الله. فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله. وحزب الله هم الغالبون. وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم. وتعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان. وأصل (الحزب) القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وقيل: الحزب جماعة فيهم شدة. فهو أخص من الجماعة والقوم.

    ثم أشار تعالى إلى أن موالاة غيرهم، إن كانت لجر نفع، فضررها أعظم. وإن كانت لدفع ضرر فالضرر الحاصل بها لا يفي بالمدفع، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [57] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين

    يا أيها الذين آمنوا أي: مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم أي: الذي هو رأس مال كمالاتكم، الذي به انتظام معاشكم ومعادكم، وهو مناط سعادتكم الأبدية، وسبب قربكم من ربكم: هزوا أي: شيئا مستخفا: ولعبا أي: سخرية وضحكا، مبالغة في الاستخفاف به حتى لعبوا بعقول أهله. [ ص: 2046 ] ثم بين المستهزئين وفصلهم بقوله تعالى: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار قرئ بالنصب والجر، يعني المشركين كما في قراءة ابن مسعود: ومن الذين أشركوا . أولياء في العون والنصرة. وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين هزوا ولعبا. تنبيها على العلة، وإيذانا بأن من هذا شأنه، جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة. فكيف بالموالاة؟: واتقوا الله أي: في ذلك، بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق. فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا: إن كنتم مؤمنين أي: حقا، فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة.

    ثم بين استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين، بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق، إظهارا لكمال شقاوتهم، بقوله سبحانه:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #304
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2047 الى صـ 2056
    الحلقة (304)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [58] وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون

    وإذا ناديتم إلى الصلاة أي: دعوتم إليها بالأذان: اتخذوها أي: الصلاة أو المناداة: هزوا ولعبا بأن يستهزئوا بها ويتضاحكوا: ذلك أي: الاتخاذ: بأنهم أي: بسبب أنهم: قوم لا يعقلون أي: معاني عبادة الله، فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة. فإن الصلاة أكرم القربات، وفي النداء معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته، باعتبار عدم مغايرة أسمائه وصفاته، ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد، ومن الصلاة من حيث هي وصلة ما بين العبد وبين الله، ومن حيث إفادته معالي الدرجات، ومن تعظيم مقصده وهو الفلاح في الظاهر والباطن، وما هو غاية مقصده من القرب من الله باعتبار عظمة ظاهره وباطنه، ومن الوصول إلى توحيده الحقيقي. أفاده المهايمي.

    [ ص: 2047 ] تنبيهات:

    الأول: في آثار رويت في هذه الآية:

    روى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث، قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادهما. فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الآية.

    وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا قال: كان رجل من النصارى من المدينة، إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: حرق الكاذب. فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار، وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.

    وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في "السيرة": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن. وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة. فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا. لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد علمت الذي قلتم. ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله. والله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن محيريز - وكان يتيما في حجر أبي محذورة - قال: [ ص: 2048 ] قلت لأبي محذورة: يا عم! إني خارج إلى الشام. أخشى أن أسأل عن تأذينك. فأخبرني; أن أبا محذورة قال له: نعم! خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون. فصرخنا نحكيه ونستهزئ به. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع» ؟ فأشار القوم كلهم إلي. وصدقوا. فأرسل كلهم وحبسني فقال: «قم فأذن» . فقمت، ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فألقى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو نفسه فقال: قل: «الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله» . ثم قال لي: «ارجع فامدد من صوتك» . ثم قال: «أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» ، ثم عادني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرها على وجهه مرتين. ثم مرتين على يديه. ثم على كبده. ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيك. فقلت: يا رسول الله! مرني بالتأذين بمكة. فقال: قد أمرتك به. وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقدمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    الثاني: دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار. والمراد به في أمر الدين، كما تقدم.

    [ ص: 2049 ] الثالث: دلت على أن الهزء بالدين كفر، وأن هزله كجده.

    قال في "الإكليل": الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة.

    الرابع: دلت على أن للصلاة نداء وهو الأذان، فهي أصل فيه.

    قال الزمخشري: قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب، لا بالمنام وحده. ولما نهى تعالى عن تولي المستهزئين، أمر أن يخاطبوا بأن الدين منزه عما يصح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويظهر لهم ما ارتكبوا ويلقموا الحجر، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وأن أكثركم فاسقون

    قل يا أهل الكتاب وصفوا بذلك تمهيدا لتبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم، أي: يا أصحاب الكتاب، العالمين بالنقائص والكمالات، التي يستحق على تحققها وفقدها الاستهزاء: هل تنقمون منا أي: ما تعيبون وتنكرون منا: إلا أن آمنا بالله وهو رأس الكمالات: وما أنـزل إلينا وهو أصل الاعتقادات والأعمال والأخلاق: وما أنـزل من قبل وهو يشهد لما أنزل إلينا: وأن أكثركم فاسقون أي: متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر.

    لطائف:

    الأولى: إنما فسر (تنقمون) ب (تعيبون) و (تنكرون) لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة - كما قاله الراغب - لأنه لا يعاقب إلا على المنكر فيكون على حد قوله:


    ونشتم بالأفعال لا بالتكلم


    فلذا حسن (انتقم منه) مطاوعه، بمعنى عاقبه وجازاه، وإلا فكيف يخالف المطاوع أصله؟ فافهم. و (نقم) ورد كعلم يعلم وضرب يضرب، [ ص: 2050 ] وهي الفصحى، ويعدى ب (من) و (على). وقال أبو حيان: أصله أن يتعدى ب (على). ثم (افتعل) المبني منه، يعدى ب (من) لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا (فعل) بمعنى (افتعل). كذا في "العناية".

    الثانية: في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس، حيث جعلوا الإيمان بما ذكر، موجبا لنقمه، مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه. فمعنى الآية: ليس شيء ينقم من المؤمنين. فلا موجب للاستهزاء. وهذا مما تقصد العرب في مثله، تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبدا. ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول نحو:


    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب


    ومن الثاني هذه الآية وشبهها. أي: ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئا إلا هذا، وهذا [ ص: 2051 ] لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا، فليس شيء ينقمونه، فينبغي أن يؤمنوا به ولا يكفروا. وفيه أيضا التعريض بكفرهم، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.

    الثالث: إسناد الفسق إلى أكثرهم؛ لأن من قال منهم ما قال وحمل غيره على العناد، طلبا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة، إنما هو أكثرهم، ولئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل

    قل هل أنبئكم بشر من ذلك المخاطب بكاف الجمع أهل الكتاب المتقدم ذكرهم، أو الكفار مطلقا، أو المؤمنون. والمشار إليه الأكثرون الفاسقون. وتوحيد اسم الإشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وفي الكلام مقدر؛ أي: بشر من حال هؤلاء. وقيل: المشار إليه المتقدمون الذين هم أهل الكتاب، يعني أن السلف شر من الخلف. وجعله الزمخشري إشارة إلى المنقوم.

    وقد جود في إيضاحه العلامة أبو السعود بقوله: لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم، ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على من يوجب ارتضاءه عنهم أيضا، وكفرهم بما هو مسلم لهم - أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة، ما هم عليه من الدين المحرف.

    وينعي عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، على منهاج التعريض؛ لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب [ ص: 2052 ] متن المكابرة والعناد. ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطيرا، لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر. وحيث كان مناط النقم شرية المنقوم حقيقة أو اعتقادا، وكان مجرد النقم غير مقيد لشريته البتة، قيل: (بشر من ذلك) ولم يقل: بأنقم من ذلك، تحقيقا لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها. وقيل: إنما قيل ذلك، لوقوعه في عبارة المخاطبين، حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام: «أومن بالله وما أنزل إلينا» .. - إلى قوله -: ( ونحن له مسلمون ) . فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام، قالوا: لا نعلم شرا من دينكم. وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين - وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية - مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته، ليثبت أن دينهم شر من كل شر. أي: هل أخبركم بما هو شر في الحقيقة مما تعتقدونه شرا، وإن كان في نفسه خيرا محضا؟ انتهى.

    وقوله: مثوبة عند الله أي: جزاء ثابتا عند الله. قال الراغب: الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله. سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه، كقوله: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ولم يقل: ير جزاءه. والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير. وكذا المثوبة، وهي مصدر ميمي بمعناه. وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة:


    تحية بينهم ضرب وجيع


    [ ص: 2053 ] في التهكم. ونصبها على التمييز من (بشر)

    وقوله تعالى: من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير بدل من: (شر) على حذف مضاف، أي: بشر من أهل ذلك من لعنه الله، أو بشر من ذلك دين من لعنه الله، أو خبر محذوف. أي: هو من لعنه الله وهم اليهود، أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وهم أصحاب السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة: وعبد الطاغوت عطف على صلة (من) والمراد من الطاغوت: العجل، أو الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى: أولئك أي: الملعونون الممسوخون: شر مكانا إثبات الشرارة للمكان كناية عن إثباتها لأهله، كقولهم: (سلام على المجلس العالي) و (المجد بين برديه) كأن شرهم أثر في مكانهم أو عظم حتى صار متجسما! وقيل: المراد بالمكان محل الكون والقرار الذي يؤول أمرهم إلى التمكن فيه، كقوله: شر مكانا وهو مصيرهم، يعني جهنم.

    وأضل عن سواء السبيل أي: أكثر ضلالا عن الصراط المستقيم.

    ثم بين تعالى علامات كمال شرهم وضلالهم بقوله:
    [ ص: 2054 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [61] وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون

    وإذا جاءوكم يعني سفلة اليهود، ويقال: المنافقون: قالوا آمنا أي: بك ونعتك أنه في كتابنا: وقد دخلوا إليكم متلبسين: بالكفر بكفر السر: وهم قد خرجوا أي: من عندكم متلبسين: به أي: بكفر السر، فهم مستمرون عليه: والله أعلم بما كانوا يكتمون أي: من الكفر، وفيه وعيد لهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [62] وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون

    وترى كثيرا منهم أي: اليهود: يسارعون في الإثم أي: الحرام، كالكذب والعصيان من غير مبالاة من الله ولا من الناس: والعدوان أي: الظلم والاعتداء على الناس: وأكلهم السحت أي: الحرام كالرشا. وخصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح، وفيه دلالة على تحريم الرشا؛ لأن ذلك ورد في كبرائهم أنهم يسترشون في تغيير الحكم: لبئس ما كانوا يعملون مما ذكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [63] لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون

    لولا أي: هلا: ينهاهم الربانيون أي: الزهاد منهم والعباد: والأحبار [ ص: 2055 ] أي: العلماء: عن قولهم الإثم أي: الكذب: وأكلهم السحت أي: الرشوة، المفسدة أمر العالم كله: لبئس ما كانوا يصنعون من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله. أو من تركهم نهيهم. وهذا الذم المقول فيهم، أبلغ مما قيل في حق عامتهم. أولا: لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله: لبئس ما كانوا يصنعون وعبر عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: لبئس ما كانوا يصنعون - كان هذا الذم أشد. لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم.

    وهذا معنى قول الزمخشري: كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وكأن المعنى في ذلك، أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها. وأما الذي ينهاه، فلا شهوة معه في فعل غيره. فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع. ثم قال الزمخشري: ولعمري! إن هذه الآية مما يقذ السامع وينعي على العلماء توانيهم. انتهى.

    وفي "الإكليل": في هذه الآية وجوب النهى عن المنكر على العلماء، واختصاص ذلك بهم.

    وقال البيضاوي: فيها تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، فإن (لولا) إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.

    روى ابن جرير عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية.

    وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى [ ص: 2056 ] عليه ثم قال: أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار. فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا.

    وروى الإمام أحمد عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع. ولم يغيروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب.

    ولفظ أبي داود عنه، مرفوعا: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا، إلا أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #305
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2057 الى صـ 2066
    الحلقة (305)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين

    وقالت اليهود يد الله مغلولة أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق. فنزلت.

    [ ص: 2057 ] وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه: نزلت في فنحاص، رأس يهود قينقاع، وتقدم أنه الذي قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

    فيكون أريد بالآية هنا، ما حكي عنه بقوله المذكور. والله أعلم.

    ولما لم ينكر على القائل قومه ورضوا به، نسبت تلك العظيمة إلى الكل، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا. وإنما القاتل واحد منهم. و (غل اليد وبسطها): مجاز مشهور عن البخل والجود. ومنه قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال. لا سيما لدفع المال ولإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب. وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل. فقيل للجواد: فياض الكف. مبسوط اليد، وسبط البنان نزه الأنامل. ويقال للبخيل: كز الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل. وقوله تعالى: غلت أيديهم دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة أو بغل الأيدي حقيقة. يغلون أي: تشد أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة: ولعنوا أي: أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة: بما قالوا من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقة ولا مجازا: بل يداه مبسوطتان أي: بأنواع العطايا المختلفة. وثنى (اليد) مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى، وإثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه: ينفق كيف يشاء تأكيد لما قبله، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته، المبنية على الحكم، التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد.

    وهاهنا مباحث:

    الأول: ما زعمه الزمخشري ومن تابعه - من أن إثبات اليد لا يصح حقيقة له تعالى - فإنه نزعة كلامية اعتزالية.

    قال الإمام ابن عبد البر في "شرح الموطأ": أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات [ ص: 2058 ] الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع، الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة. ويزعم أن من أقر بها شبه. وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله. وهم أئمة الجماعة.

    وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها. والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ثم قال: ويدل على إبطال التأويل، أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين، حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، ولو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة. وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى في كتاب "الإبانة" في باب (الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين) وذكر الآيات في ذلك. ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته. مثل قوله:

    فإن سئلنا: أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله: يد الله فوق أيديهم وقوله تعالى: لما خلقت بيدي وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ ص: 2059 ] إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية، وقد جاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده» . وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة. وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني به النعمة - بطل أن يكون معنى قوله عز وجل: بيدي النعمة. وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.

    وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الإبانة" له:

    [ ص: 2060 ] فإن قال: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وقوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فأثبت لنفسه وجها ويدا: فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذا كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب - إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما - أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه.

    وقال الشيخ تقي الدين في "الرسالة المدنية": مذهب أهل الحديث - وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف - أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف - منهم الخطابي - مذهب السلف أنها تجري على ظاهره مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وذلك، أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية. انتهى.

    ويرحم الله الإمام الصرصري الأنصاري حيث يقول من قصيدة:


    إن المقال بالاعتزال لخطة عمياء حل بها الغواة المرد

    هجموا على سبل الهدى بعقولهم
    ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا

    صم، إذا ذكر الحديث لديهم
    نفروا، كأن لم يسمعوه، وغردوا

    واضرب لهم مثل الحمير إذ رأت
    أسد العرين فهن منهم شرد


    [ ص: 2061 ] إلى أن قال:


    يدعو من اتبع الحديث مشبها هيهات ليس مشبها من يسند


    لكنه يروي الحديث كما أتى غير تأويل ولا يتأود


    الثاني: روى الإمام أحمد والشيخان في معنى الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة. سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه. وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال: يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك» .

    الثالث: في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود، ولا إشكال أن ذلك جائز.

    الرابع: هذه الآية أصل في تكفير من صدر منه، في جناب البارئ تعالى، ما يؤذن بنقص. وقوله تعالى: وليزيدن كثيرا منهم أي: من اليهود: ما أنـزل إليك من ربك من جوامع الخيرات: طغيانا أي: عدوانا على الناس، أو تماديا في الجحود: وكفرا أي: في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أولا. وهذا من إضافة الفعل إلى السبب. أي: يزدادون طغيانا وكفرا بما أنزل، كما قال: فزادتهم رجسا إلى رجسهم .

    [ ص: 2062 ] قال الحافظ ابن كثير: أي: يكون ما آتاك الله، يا محمد، من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم. فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك، طغيانا - وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء - وكفرا أي: تكذيبا كما قال تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وقال تعالى: وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا

    وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فكلمتهم أبدا مختلفة وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد.

    وقد ذكر الشهرستاني أنهم افترقوا نيفا وسبعين فرقة. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وبسط ماجرياتهم، وهديه صلى الله عليه وسلم في شأنهم، مبسوط في "زاد المعاد" لابن القيم. فراجعه.

    قال الرازي: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه تعالى بين أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة. ثم إنه تعالى بين أنهم، لما رجحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أن الله تعالى، كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته. يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات. تعظيما لنفسه وترويجا لمذهبه. فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا، ويغزو بعضهم بعضا.

    [ ص: 2063 ] وفي الآية وجهان:

    أحدهما - ما بين اليهود والنصارى؛ لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى: لا تتخذوا اليهود والنصارى وهو قول الحسن ومجاهد. لأنهم المحدث عنهم في قوله تعالى: وقالت اليهود

    والثاني - ما بين فرق اليهود خاصة.

    أقول: وهو الظاهر. فإن قلت: فهذا المعنى حاصل أيضا بين فرق المسلمين، فكيف يكون ذلك عيبا على الكتابيين حتى يذموا به؟ قلت: بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين، إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين.

    أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم; فحسن جعل ذلك عيبا على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن.

    كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أي: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة شر عليه، ردهم الله سبحانه وتعالى، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد، غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط. فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب؛ لأنه كان عادتهم ذلك. ونيران العرب مشهورة، منها هذه. وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم، وعلى الثاني غلبتهم. و (للحرب) إما صلة ل (أوقدوا)، أو متعلق بمحذوف وقع صفة (نارا) أي: كائنة للحرب ويسعون في الأرض فسادا أي: للفساد أو مفسدين، أي: يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن: والله لا يحب المفسدين أي: من كان الإفساد صفته. و (اللام) إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، أو للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل، وبيان كونهم راسخين في الإفساد.
    [ ص: 2064 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم

    ولو أن أهل الكتاب أي: مع ما عددنا من سيئاتهم: آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به: واتقوا مباشرة الكبائر: لكفرنا عنهم سيئاتهم أي: ذنوبهم: ولأدخلناهم جنات النعيم في الآخرة مع المسلمين. وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص، وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل. وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.

    قال الزمخشري: وفيه أن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود، فأين الأطناب؟ انتهى.

    قال ناصر الدين في "الانتصاف": هو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلا على قاعدته، في أن مجرد الإيمان لا ينجي من الخلود في النار، حتى ينضاف إليه التقوى. لأن الله تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطا للتكفير ولإدخال الجنة. وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة. وأنى له ذلك؟ والإجماع والاتفاق من الفريقين - أهل السنة والجماعة، والمعتزلة - على أن مجرد الإيمان يجب ما قبله ويمحوه كما ورد النص. فلو فرضنا موت الداخل في الإيمان عقيب دخوله فيه، لكان كيوم ولدته أمه - باتفاق - مكفر الخطايا محكوما له بالجنة. فدل على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط، هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال. وإن كانت التقوى - على أصل موضعها - الخوف من الله عز وجل، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض. [ ص: 2065 ] وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى أو سرق. كررها النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، ثم قال: وإن رغم أنف أبي ذر» . لما راجعه رضي الله عنه في ذلك، ونحن نقول: وإن رغم أنف القدرية. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون

    ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل أي: أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أصل الإقامة الثبات في المكان. ثم استعير إقامة الشيء لتوفية [ ص: 2066 ] حقه: وما أنـزل إليهم من ربهم أي: بينوا ما بين لهم ربهم في التوراة والإنجيل. ويقال: أقروا بجملة الكتب والرسل من ربهم، ويقال: هو القرآن: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم لوسع عليهم أرزاقهم، بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض، ويكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنونها من رأس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض. وجعل (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) بمعنى الأمطار والأنهار التي تحصل بها أقواتهم - بعيد من الأكل. والأقرب الوجوه الثلاثة المتقدمة. ونبه تعالى بذلك على أن ما أصابهم من الضنك والضيق، إنما هو بشؤم معاصيهم. وكفرهم، لا لقصور في فيض الكريم، تعالى. ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق، وهو كقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا الآيات. وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #306
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2067 الى صـ 2080
    الحلقة (306)



    [ ص: 2067 ] روى الإمام أحمد عن زياد بن لبيد أنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: «وذاك عند ذهاب العلم» . قال: قلنا: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: «ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة. أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل، لا ينتفعون مما فيهما بشيء» .

    وفي رواية ابن أبي حاتم: أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله؟ ثم قرأ: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل الآية.

    منهم أمة أي: طائفة: مقتصدة أي: عادلة مستقيمة، وهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان: وكثير منهم ساء أي: بئس: ما يعملون أي: من تحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة. والآية كقوله تعالى: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67] يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين

    يا أيها الرسول نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفا له وإيذانا بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ: بلغ ما أنـزل إليك من ربك مما يفصل مساوئ الكفار، ومن قتالهم، والدعوة إلى الإسلام، غير مراقب في التبليغ أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه: وإن لم تفعل أي: ما تؤمر به من تبليغ الجميع، سترا لبعض [ ص: 2068 ] مساوئهم: فما بلغت رسالته أي: شيئا مما أرسلت به. لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض. فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا. كما أن من لم يؤمن ببعضها، كان كمن لم يؤمن بكلها.

    قال في "الانتصاف": ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس، مستقرا في الأفهام أنه عظيم شنيع، ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول - استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء، للصوقها بالجزاء في الأفهام. وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله: وإن لم تفعل ولم يقل: فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة. حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية - وإن كان المعنى واحدا - أحسن رونقا وأظهر طلاوة، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء. وهذا الفصل كاللباب من علم البيان.

    وقوله تعالى: والله يعصمك من الناس عدة منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة، باعث له على الجد فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم: إن الله لا يهدي القوم الكافرين تعليل لعصمته، أي: لا يهديهم طريق الإساءة إليك، فما عذرك في مراقبتهم؟

    تنبيهات:

    الأول: لا خفاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام، وقام به أتم القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهد الصياصي. وهو، مع الضعف، يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإثخانه في الأعداء محذورا، وبالرعب منه منصورا، حتى أصبح سراج الدين وهاجا، ودخل الناس في دين الله أفواجا.

    [ ص: 2069 ] روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، قالت لمسروق: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك الآية.

    وفي "الصحيحين" عنها أيضا أنها قالت: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية: وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .

    وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.

    وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.

    [ ص: 2070 ] قال ابن كثير: وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا. كما ثبت في "صحيح مسلم" عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله [ ص: 2071 ] صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: يا أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ [ ص: 2072 ] قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم! هل بلغت؟

    [ ص: 2073 ] [ ص: 2074 ] وروى الإمام أحمد عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة [ ص: 2075 ] الوداع: «يا أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ثم أعادها مرارا. ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: اللهم! هل بلغت؟ مرارا (قال ابن عباس: والله! إنها لوصية إلى ربه عز وجل) ثم قال: إلا فليبلغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض..! » وقد روى البخاري نحوه.

    الثاني: تضمن قوله تعالى: والله يعصمك من الناس معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم.

    قال الإمام الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" في الباب الثامن في معجزاته، عصمته صلى الله عليه وسلم. ما نصه:

    أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن، واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار يحج به من قلت فطنته، ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا وإعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا واستظهارا، فيكون البليد مقهورا بوهمه وعيانه، واللبيب محجوجا بفهمه وبيانه؛ لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب، ولهم أجذب، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا، وأعم دليلا. فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفسه. وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرا، وترتد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة. ثم خرج عنهم. [ ص: 2076 ] سليما لم يكلم في نفس ولا جسد. وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعد الله تعالى بها فحققها حيث يقول: والله يعصمك من الناس فعصمه منهم.

    ثم قال الماوردي رحمه الله تعالى: وإن قريشا اجتمعت في دار الندوة. وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة، وكان زعيم القوم. وساعده عبد الله بن الزبعرى وكان شاعر القوم. فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم: الموت خير لكم من الحياة. فقال بعضهم: كيف نصنع؟ فقال أبو جهل: هل محمد إلا رجل واحد؟ وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش؟ فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا ويريح قومه؟ وأطرق مليا. فقالوا: من فعل هذا ساد. فقال أبو جهل: ما محمد بأقوى من رجل منا. وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر. فإن قتلت أرحت قومي، وإن بقيت فذاك الذي أوثر. فخرجوا على ذلك. فلما اجتمعوا في الحطيم، خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد جاء. فتقدم من الركن فقام يصلي. فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود، فقال أبو جهل: فإني أقوم فأريحكم منه، فأخذ مهراسا عظيما. ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه، وهو يراه. فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله. فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد، وقد دوخت أوداجه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم. فالتزموه وقد غشي عليه ساعة. فلما أفاق قال له أصحابه: ما الذي أصابك؟ قال: لما دنوت منه، أقبل علي من رأسه فحل فاغر فاه. فحمل علي أسنانه. فلم أتمالك. وإني أرى محمدا محجوبا. فقال له بعض أصحابه: يا أبا الحكم! رغبت وأحببت الحياة ورجعت. قال: ما تغروني عن نفسي. قال النضر بن الحارث: فإن رجع غدا فأنا له. قالوا له: يا أبا سهم! لئن فعلت هذا لتسودن. فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أشرف عليهم قاموا [ ص: 2077 ] بأجمعهم فواثبوه. فأخذ حفنة من تراب وقال: «شاهت الوجوه. وقال: حم لا ينصرون» ، فتفرقوا عنه.

    وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى. فصبر عليه حتى وقاه الله، وكان من أقوى شاهد على صدقه.

    (ومن أعلامه): أن معمر بن يزيد، وكان أشجع قومه، استغاثت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره، فلما شكوا إليه قال لهم: إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه. وعندي عشرون ألف مدجج فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي. وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات، ففي مالي سعة. وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر. وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس. فلبس، يوم وعده قريشا، سلاحه وظاهر بين درعين. فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي. وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في الصلاة. فقيل له: هذا محمد ساجد. فأهوى إليه، وقد سل سيفه وأقبل نحوه. فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد. فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام، وقد أدمى وجهه بالحجارة، يعدو كأشد العدو. حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف. فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ما أصابك؟ قال: ويحكم! المغرور من غررتموه. قالوا: ما شأنك؟ قال: ما رأيت كاليوم. دعوني ترجع إلي نفسي. فتركوه ساعة وقالوا: ما أصابك؟ يا أبا الليث! قال: إني لما دنوت من محمد، فأردت أن أهوي بسيفي إليه، أهوى إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران، وتلمع من أبصارهما. فعدوت. فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد.

    ومن أعلامه: أن كلدة بن أسد، أبا الأشد، وكان من القوة بمكان، خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم. فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال. فجاء كلدة ومعه المزراق. فرجع المزراق في صدره. فرجع فزعا. فقالت له قريش: ما لك يا أبا الأشد؟! فقال: ويحكم! [ ص: 2078 ] ما ترون الفحل خلفي؟ قالوا: ما نرى شيئا. قال: ويحكم! فإني أراه. فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف. فاستهزأت به ثقيف، فقال: أنا أعذركم، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم.

    ومن أعلامه: أن أبا لهب خرج يوما، وقد اجتمعت قريش فقالوا له: يا أبا عتبة! إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا. وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه. ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئا. وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك. فقال: فإني أكفيكم! ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم. فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفا عليه، نزل أبو لهب، وهو يصلي. وتسلقت امرأته أم جميل الحائط، حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد. فصاح أبو لهب فلم يلتفت إليه، وهما كانا لا ينقلان قدما ولا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو لهب: يا محمد، أطلق عنا. فقال: «ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني» ، قالا: قد فعلنا. فدعا ربه فرجعا.

    ومن أعلامه: أن قريشا اجتمعوا في الحطيم. فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال: إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرق جماعتنا وبدد شملنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا. وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأمية وأبي ابنا خلف، في جماعة من صناديد قريش. فقالوا له: قل ما شئت فإنا نطيعك. قال: سأقوم فأكلمه. فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه. وإلا رأينا فيه رأينا. فقالوا له: شأنك يا أبا عبد شمس! فقام وتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده. فقال: أنعم صباحا يا محمد! قال: «يا عبد شمس، إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة» . قال: يا ابن أخي! إني قد جئتك من عند صناديد قريش [ ص: 2079 ] لأعرض عليك أمورهم. إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا فيها الفسحة! ثم قال: يا ابن عبد المطلب! أنا زعيم قريش فيما قالت. قال: «قل» قال: يا ابن عبد المطلب! إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك. قال: «قل» . قال: إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك، فارجع عن ذلك. فسكت. ثم قال له: وإن كان ما تدعو إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك. فقال: لا قوة إلا بالله! ثم قال له: وإن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش. فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا. وإن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوى قيس بني ثعلبة مجنونهم.

    فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد.! ما تقول؟ وبم أرجع إلى قريش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حم تنـزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون - حتى بلغ إلى قوله: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قال عتبة: فلما تكلم بهذا الكلام، فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من أعجازها. وقام فزعا يجر رداءه. فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور. وقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. فقالت قريش: لقد ذهبت من عندنا نشيطا ورجعت فزعا مرعوبا فما وراءك؟ قال: ويحكم! دعوني. إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا. ولقد رعدت علي الرعدة حتى خفت على نفسي، وقلت: الصاعقة قد أخذتني.. فندموا على ذلك.


    ومن أعلامه: أنه لما أراد الهجرة، خرج من مكة ومعه أبو بكر. فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش. وقد طلبته وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره. وأنبت على باب الغار ثمامة (وهي شجرة صغيرة).

    وألهمت العنكبوت فنسجت [ ص: 2080 ] على باب الغار نسج سنين في طرفة عين. ولدغ أبو بكر هذه الليلة لدغة. فخرق ثيابه وجعلها في الشقوق. وسد بعضها بقدمه اتقاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه. فلقيه سراقة بن مالك بن جعشم. وهو من جملة من توجه لطلبه، فقال له أبو بكر: هذا سراقة قد قرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم! اكفنا سراقة» . فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها. فقال سراقة: يا محمد! ادع الله أن يطلقني ولك علي أن أرد من جاء يطلبك، ولا أعين عليك أبدا! فقال: «اللهم! إن كان صادقا فأطلق عن فرسه» . فأطلق الله عنه. ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه.


    هذا ما أورده الماوردي من الأعلام قبل الهجرة; ثم أورد ما وقع بعدها; وسننقلها عن ابن كثير، فإنه قال في هذه الآية:

    ومن عصمة الله لرسوله، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها; ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش. وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شرعية. ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #307
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2081 الى صـ 2093
    الحلقة (307)






    ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر، هابوه واحترموه. فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا. ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحمل إلى دارهم، وهي المدينة. فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود. وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد [ ص: 2081 ] كيده عليه. كما كاده اليهود بالسحر، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء. ولما سمه اليهود في ذراع الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه. ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها. فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:

    فقال ابن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو معشر، حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيقيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: الله عز وجل. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله عز وجل: والله يعصمك من الناس

    وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني [ ص: 2082 ] أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمدا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال: يا محمد! أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه. فرعدت يده حتى سقط السيف من يده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حال الله بينك وبين ما تريد» . فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس .

    قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. ثم قال: وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح. يريد ما أخرجه الشيخان عن جابر قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد. فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة. فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا. وإذا عنده أعرابي فقال: «إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم. فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال من يمنعك مني؟ فقلت: الله. ثلاثا. » ولم يعاقبه وجلس.

    وفي رواية أخرى قال جابر: كنا مع رسول الله بذات الرقاع. فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه [ ص: 2083 ] وسلم معلق بالشجرة. فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال لا! فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله. فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وزاد البخاري في رواية له: إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها. فينزل تحتها. فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها. فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك. ضع السيف. فوضعه. فأنزل الله عز وجل: والله يعصمك من الناس وكذا رواه ابن حبان. في "صحيحه".

    وروى الإمام أحمد عن جعدة بن خالد بن الصمة قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى رجلا سمينا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك. قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترع، لم ترع. ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي» .

    الثالث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس، كما روى الإمام أحمد عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه، قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة! قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله، قال: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه» . أخرجاه في "الصحيحين".

    [ ص: 2084 ] وفي لفظ: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.

    وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت: والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: أيها الناس! انصرفوا؛ فقد عصمني الله» . أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير.

    وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس. فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه. حتى نزلت عليه هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس» . ورواه الطبراني أيضا. وروى ابن جرير نحوه أيضا عن جابر.

    قال ابن كثير: وهذا حديث غريب وفيه نكارة. فإن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نزل بها، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية، والله أعلم! انتهى.

    أقول: بمراجعة ما أسلفنا في "المقدمة" من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال، فتذكر.

    [ ص: 2085 ] الرابع: قال العلامة أبو السعود: إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب، لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها. ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم. ولذلك أعيد الأمر فقيل خطابا للفريقين:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [68] قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين

    قل يا أهل الكتاب لستم على شيء أي: من الدين: حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي: تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.

    قال بعض المحققين:

    معنى قوله تعالى: حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي: تعملوا طبق الواجب بأحكامهما، وتحيوا شرائعهما، وتطيعوا أوامرهما، وتنتهوا بنواهيهما. فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه، كإقامة الصلاة مثلا. أي: فعلها على الوجه اللائق بها. ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية. والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة. فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفا، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة. ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب [ ص: 2086 ] فيها، ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى: وأنـزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى دينا. وإذا لم يقيموها وجروا على خلافهما، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينا. وكانوا مشاغبين معاندين، وبدينهم غير مؤمنين إيمانا كاملا. وهذا معنى صحيح، وهو المتبادر من الآية. فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما، وخصوصا بعد قوله تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به

    ثم قال: ولك أن تقول: معنى قوله تعالى: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل الحقيقيين. وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقدا عقليا تاريخيا صحيحا، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان، ونتيجة ذلك العناء كله، أن يكونوا على شيء من الدين الحق، وهذا أمر لا شبهة فيه. ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا. ولكنهم - كما أخبر تعالى عنهم - لا يزيدهم القرآن إلا طغيانا وكفرا حسدا وعنادا فلا يؤمنون به. ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب. فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك. فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبء ثقيل جدا من البحث والتمحيص، وبعد ذلك يكونون على شيء من الحق لا على الحق [ ص: 2087 ] كله ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلا لعدم وجودهما على حقيقتهما؟ فهم ليسوا على شيء مطلقا. ولا يمكن أن يكونوا عليه. فإن كتبهم قد صارت خلقة بالية. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، حينما رأى ورقة من التوراة بيده: ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي.

    (فإن قيل): وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم، ومنه ما جاء القرآن ناسخا له؟ (قلت): لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية؛ فإنهم حينئذ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى، وغير ذلك مما يعلمه الناس. فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم - إن أصروا على عدم الإيمان به - على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبي وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم. ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل; بل الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين، وهو - ولا شك - خير من لا شيء. ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه، فإن ذلك لا يكون إلا بالإسلام: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون انتهى.

    ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. لما تتقاضى إقامتهما الإيمان به. إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه. فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام البتة، بل هي هو، والله الموفق.

    وما أنـزل إليكم من ربكم أي: القرآن المجيد بالإيمان به. وفي التعبير بقوله تعالى: لستم على شيء من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه. كما تقول: هذا ليس بشيء! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء. أي: لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئا، لفساده وبطلانه.

    [ ص: 2088 ] ثم بين تعالى غلوهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال: وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا أي: تماديا: وكفرا أي: ثباتا على الكفر: فلا تأس على القوم الكافرين أي: فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم، فلا تحزن عليهم لغاية خبثهم في ذواتهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [69] إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

    إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم فيما يستقبلهم من العذاب: ولا هم يحزنون أي: في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر.

    لطائف:

    الأول: (الصابئون) رفع على الابتداء. وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها. كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصائبون كذلك، وأنشد سيبويه شاهدا له:


    وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق


    [ ص: 2089 ] أي: فاعلموا أنا بغاة، وأنتم كذلك. ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدة التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح. فما الظن بغيرهم؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها. أي: خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله: (وأنتم) تنبيها على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه. مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. انتهى.

    قال الناصر في "الانتصاف":

    ثمة سؤال، وهو أن يقال: لو عطف (الصابئين) ونصبه - كما قرأ ابن كثير - لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على (النصارى) ما يفهم من [ ص: 2090 ] الرفع من أن هؤلاء الصابئين - وهم أوغل الناس في الكفر - يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا، والعطف إفرادي. فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفرادي؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف. لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل. تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها. وهو بهذه المثابة؛ لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر، وفائدة التقديم على الخبر المحذوف من ذكره، بعد تقضي الكلام وتمامه، والله أعلم.

    الثانية: - فإن قلت: إن قوله تعالى: من آمن منهم كيف يقع خبرا عن: الذين آمنوا أو بدلا، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين؟

    أجيبك بأن المراد ب: الذين آمنوا الذي آمنوا باللسان فقط. وهم المنافقون. فالمعنى: الذين آمنوا باللسان ومن معهم، من أحدث منهم إيمانا خالصا. أو يؤول: من آمن بمن ثبت على الإيمان. فيصح في حق المؤمنين الخلص. وفي هذا شبه جمع بين الحقيقة والمجاز، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه. والوجه الأول؛ إذ في ضم المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم، قاله الخفاجي.

    قال أبو السعود: أما على تقدير كون المراد ب: الذين آمنوا مطلق المتدينين بدين الإسلام، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد ب: من آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه - كما هو شأن المخلصين. أو بطريق [ ص: 2091 ] إحداثه وإنشائه - كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف. وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام. انتهى.

    الثالثة: قال الرازي: لما بين تعالى أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية والقوة العملية. أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق. وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير. وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى. وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق. ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما: أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال: فلا خوف عليهم بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة: ولا هم يحزنون بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا؛ لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب. (فإن قيل): كيف يمكن خلو المكلف، الذي لا يكون معصوما، عن أهوال يوم القيامة؟ فالجواب من وجهين:

    الأول: - أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح. ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي.

    والثاني: أنه إذا حصل خوف، فذلك عارض قليل لا يعتد به. انتهى.

    ثم بين تعالى بعضا آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله:
    [ ص: 2092 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون

    لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل أي: على الإيمان بالله ورسله: وأرسلنا إليهم رسلا ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أي: بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من الأحكام الحقة. مع أن وضع الرسالة، الدعوة إلى مخالفة الهوى: فريقا منهم: كذبوا مع ظهور دلائل صدقهم: وفريقا يقتلون بعد التكذيب سدا لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم.

    لطيفتان:

    الأولى: قال الزمخشري: جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.

    قال الناصر في "الانتصاف": ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرا في الآية الأخرى، وهي توأمة هذه، قوله تعالى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون فأوقع قوله: استكبرتم جوابا. ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. فلو قدر الزمخشري ههنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، لكان أولى، لدلالة مثله عليه.

    [ ص: 2093 ] الثانية: قال الزمخشري: فأن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء: يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة، للتعجيب منها.

    قال في "الانتصاف": أو يكون حالا على حقيقته؛ لأنهم داروا حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في (البقرة); وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي، وتمثيله بقوله تعالى: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير فعدل عن (فأصبحت) إلى (فتصبح) تصويرا للحال واستحضارا لها في ذهن السامع، ومنه:


    بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان

    فأضربها بلا دهش فخرت
    صريعا لليدين وللجران


    وأمثاله كثيرة. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #308
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2094 الى صـ 2106
    الحلقة (308)



    [ ص: 2094 ] قال الخفاجي: اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم، لقرينة ضمائر الغيبة، وترك تلك الآية - يعني آية البقرة - على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين. ليكون توبيخا وتعبيرا للحاضرين بفعل آبائهم. ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه السلام. فتأمل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [71] وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون

    وحسبوا ألا تكون فتنة أي: ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل: فعموا وصموا عطف على (حسبوا)، و (الفاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها; أي: أمنوا بأس الله تعالى، فتمادوا في فنون الغي والفساد، وعموا عن الدين، بعدما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة، وصموا عن استماع الحق الذي ألقوه عليهم، ولذلك فعلوا ما فعلوا: ثم تاب الله عليهم أي: مما كانوا فيه.

    قال العلامة أبو السعود: لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى [ ص: 2095 ] والصمم، تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم. وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم، تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى:

    ثم عموا وصموا كرة أخرى: كثير منهم بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف، أي: أولئك كثير منهم: والله بصير بما يعملون أي: بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل. والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور. ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا، إشارة إجمالية، اكتفى بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة (بني إسرائيل) أفاده أبو السعود. وهو مأخوذ من كلام القفال، كما سيأتي:

    تنبيه:

    في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق بهم قبل عيسى وبعده. وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤساءهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم. ولا سيما في عبادتهم الأوثان. وينصحونهم أن يرجعوا إلى الله. وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا. كما أنبأهم إرميا عليه السلام بخراب بلدهم، وقضائه تعالى الهائل عليهم، إن أصروا على طغيانهم. فما استمعوا له. حتى روي أنه ختم له بالشهادة. إذ رجمته اليهود بمصر عتوا واستكبارا. ثم سلط الله عليهم بختنصر، ملك بابل، وسبى شعبهم وهدمت جنودهم مدينتهم بيت المقدس وهيكلها. وصار تلال خراب. وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم، وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم. فحل عليهم من البابلية الشقاء والويل. وأخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات. ولم يترك منهم إلا الفقراء فقط،. وبذلك انتهى ملكهم، وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانين سنة. ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس. بعد أن أقاموا في بابل سبعين سنة. وابتدأوا ببناء هيكلهم ثانية. وأرجعوا العبادة إليه. وقام حزقيال عليه [ ص: 2096 ] السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا. وهكذا كل نبي فيهم، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام. فعموا عن الاهتداء به وصموا عن وعظه، وكان ما كان من همهم بقتله. فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم. وطردوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه السلام. بنحو أربعين سنة. وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل. وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر.

    هذا، وما قيل بأن قوله تعالى: فعموا وصموا إشارة إلى عبادتهم العجل - فإنه بعيد؛ لأنها -وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم- لكنها في عصر موسى عليه السلام. ولا تعلق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار. وكذا ما قيل بأن قوله تعالى: ثم عموا وصموا إشارة إلى طلبهم الرؤية - فبعيد أيضا، لما ذكرنا. وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى. خلا أن انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام، يقضي بأن المراد ما ذكرناه. والله عنده علم الكتاب. كذا أفاده أبو السعود.

    ونحن نوافقه على ما رآه. بيد أن ما سقناه في التنبيه أظهر في ماجرياتهم، وأشد مطابقة لما في تواريخهم، مما ساقه هنا. فتثبت.

    ويرحم الله الإمام القفال حيث قال: ذكر الله تعالى في سورة (بني إسرائيل) ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا

    فهذا في معنى: (فعموا وصموا) ثم قال: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا فهذا في معنى قوله: ثم عموا وصموا كثير منهم انتهى.

    [ ص: 2097 ] ثم بين تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام، من التوحيد الخالص، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار

    لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم

    قال الرازي: هذا قول اليعقوبية منهم. يقولون: إن مريم ولدت إلها. قال: ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

    وقد سبق الكلام على مثل هذه الآية في هذه السورة مفصلا، فتذكر.

    ثم بين تعالى أنهم صموا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد، كما عموا عما فيه من أمارات الحدوث، بقوله سبحانه: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ولم يقل اعبدوني. ثم صرح بقوله: ربي وربكم قلعا لمادة توهم الاتحاد: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار كيف والشرك أعظم وجوه الظلم: وما للظالمين من أنصار أي: ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار، إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة. والجمع لمراعاة المقابلة ب (الظالمين); و (اللام) إما للعهد، والجمع باعتبار معنى: من ، كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها. وما للجنس، وهم داخلون فيه دخولا أوليا. ووضعه على الأول موضع الضمير، للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق. والجملة تذييل مقرر لما قبله. وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى، تأكيدا لمقالته عليه السلام، وتقريرا لمضمونها. أفاده أبو السعود.

    [ ص: 2098 ] ثم بين تعالى كفر طائفة أخرى منهم بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم

    لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة أي: أحد ثلاثة آلهة، بمعنى واحد منها، وهم الله ومريم وعيسى.

    وقال بعضهم: كانت فرقة منهم تسمى (كولي ري دينس) تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم.

    وجاء في كتاب "علم اليقين": أن فرقة منهم تسمى (المريميين) قال: يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان. قال: وكذلك البربرانيون وغيرهم. انتهى.

    وأسلفنا عن ابن إسحاق أن نصارى نجران، منهم من قال بهذا أيضا.

    أو المعنى: أحد ثلاثة أقانيم كما اشتهر عنهم. أي: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس. وزعموا، أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد. كما قدمنا عنهم في قوله تعالى: ولا تقولوا ثلاثة

    قال الرازي رحمه الله: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل؛ فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة. ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى. انتهى.

    وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا، وهي شهيرة متداولة، والحمد لله.

    لطيفة:

    اتفق النحاة واللغويون على أن معنى قولهم (ثالث ثلاثة ورابع أربعة) ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا. لا الوصف بالثالث والرابع.

    [ ص: 2099 ] وفي "التوضيح وشرحه": لك في اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما أن تستعمله على سبعة أوجه:

    أحدها: - أن تستعمله مفردا عن الإضافة، ليفيد الاتصاف بمعناه. فتقول: ثالث ورابع. ومعناه حينئذ واحد موصوف بهذه الصفة وهي كونه ثالثا ورابعا.

    الوجه الثاني: أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول: خامس خمسة أي: واحد من خمسة لا زائد عليها، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله. كما يجب إضافة البعض إلى كله. ك: يد زيد، قال تعالى: إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وزعم الأخفش وقطرب والكسائي وثعلب أنه يجوز إضافة الأول إلى الثاني، ونصبه إياه، فعلى هذا يجوز ثالث ثلاثة بجر (ثلاثة) ونصبها. كما يجوز في (ضارب زيد).

    الوجه الثالث: - أن تستعمله مع ما دون أصله الذي صيغ منه بمرتبة واحدة، ليفيد معنى التصيير، فتقول: هذا رابع ثلاثة؛ أي: جاعل الثلاثة بنفسه أربعة، قال تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم أي: إلا هو [ ص: 2100 ] مصيرهم أربعة ومصيرهم ستة. ويجوز حينئذ إضافته وإعماله، كما يجوز الوجهان في جاعل ومصير ونحوهما.

    وانظر تتمة الأوجه.

    وبما ذكرناه يعلم رد ما ذهب إليه المؤلف في "شرح الكافية" من اعتبار الصفة في نحو (ثالث ثالثة) حيث قال في شرح قول ابن الحاجب: ثالث ثلاثة أي: أحدها. لكن لا مطلقا بل باعتبار وقوعه في المرتبة الثالثة. قال: وإلا يلزم جواز إرادة الواحد الأول من عاشر العشرة وذلك مستبعد جدا. انتهى.

    فكتب عليه بعض المحققين ما نصه: الظاهر من عبارة (التوضيح) ومن كلام المصنف أنه لا يعتبر الوقوع في المرتبة الثانية أو الثالثة وهكذا.. إذ يبعد في الآيتين كون المراد ب (ثاني اثنين وثالث ثلاثة) كونه في المرتبة الثانية أو الثالثة بل المراد أنه بعض تلك العدة، بلا نظر لكونه في المرتبة الثانية والثالثة. إلا أن يكون هذا باعتبار الوضع، وإن كان الاستعمال بخلافه. ولذا كتب العلامة عبد الحكيم على قوله (وذلك مستبعد جدا) أي: عند العقل، وإلا فالاستعمال بخلافه. انتهى.

    وما من إله في نص الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل: إلا إله واحد لا يتعدد أفرادا ولا أجزاء: وإن لم ينتهوا عما يقولون من هذا الافتراء والكذب، بعد ظهور الدلالة القطعية، متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته: ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم في الآخرة. من عذاب الحريق والأغلال والنكال. قال الزمخشري: ولم يقل: (ليمسنهم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة. وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: لقد كفر الذين قالوا وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير: الذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.
    [ ص: 2101 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم

    أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده، فيه تعجيب من إصرارهم. ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معا. أو معناه: ألا يتوبون - بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد - مما هم عليه. فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة.

    قال ابن كثير: هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال: والله غفور رحيم فيغفر لهؤلاء إن تابوا، ولغيرهم.

    قال أبو السعود: الجملة حالية من فاعل: يستغفرونه مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار. أي: والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم، ويمنحهم من فضله.

    ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلهيتهما. بأن غايتهما الدلالة على نبوته وولايتها، استنزالا لهم عن الإصرار على ما تقولوا عليهما، وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [75] ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

    ما المسيح أي: المعلوم حدوثه من كونه: ابن مريم بالخوارق الظاهرة على [ ص: 2102 ] يديه. إلا رسول قد خلت أي: مضت: من قبله الرسل أولو الخوارق الباهرة. فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه، وفي الآية وجه آخر: أي: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم. فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية: وأمه صديقة أي: مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها وكتبه والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟

    تنبيه:

    قال ابن كثير:

    دلت الآية على أن مريم ليست بنبية. كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى - استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال. قال الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك. انتهى.

    [ ص: 2103 ] فائدة (في حقيقة الصديق والصدق):

    قال العارف القاشاني قدس الله سره في "لطائف الأعلام":

    الصديق الكثير الصدق. كما يقال: سكيت وصريع إذا كثر منه ذلك.

    الصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا، قولا وفعلا وليس يعلو على مقام الصديقية إلا مقام النبوة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة. قال الله تعالى:أولئك الذين أنعم الله عليهم الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بين قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال.

    فالأول: هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلا الكذب. وصدق الأفعال: هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من حاله؛ لأن كراهته لذلك دليل على أنه يجب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصديقين.

    وصدق الأحوال: اجتماع الهم على الحق، بحيث لا يختلج في القلب بفرقة عن الحق بوجه.

    وقوله تعالى: كانا يأكلان الطعام استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.

    قال الزمخشري: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة، مع شهوة وقرم وغير ذلك... مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.

    [ ص: 2104 ] لطيفة:

    إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام، ترقيا في باب الاستدلال من الجلي للأجلى، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.

    هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.

    وأما قول الخفاجي - ملخصا كلام البيضاوي - في سر ذلك: أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما، على حد قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم. انتهى - فبعيد.

    وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه، والله أعلم بأسرار كتابه.

    انظر كيف نبين لهم الآيات أي: على توحيد الله، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه، وبطلان شبهاتهم!: ثم انظر أنى يؤفكون أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان!

    قال أبو السعود: وتكرير الأمر بالنظر، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية، ولا يرعوون عن ذلك، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح. وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة، وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع.
    [ ص: 2105 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [76] قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم

    قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا هذا دليل آخر على فساد قول النصارى، والموصول كناية عن عيسى وأمه، أي: لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال. ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة البدن والسعة والخصب. ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبإقدار الله وتمكينه، فكأنهما لا يملكان منه شيئا. وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا. ببيان انتظامهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا; أي: وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته. وإنما قدم (الضر) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع والله هو السميع العليم بالأقوال والعقائد. فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهو وعد ووعيد.

    تنبيهات:

    الأول: جعل ابن كثير الخطاب في قوله تعالى: أتعبدون عاما للنصارى وغيرهم، أي: قل لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم.

    وفي "تنوير المقباس" أن (ما) عبارة عن الأصنام خاصة.

    وكلاهما مما يأباه السباق والسياق.

    الثاني: قال في "فتح البيان": إذا كان هذا في حق عيسى النبي، فما ظنك بولي من الأولياء؟ فإنه أولى بذلك.

    الثالث: جعل أكثر المفسرين (ما) كناية عن عيسى عليه السلام فقط، والمقام أنها كناية عنه وعن أمه عليهما السلام، كما أوضحه المهايمي واعتمدناه.

    [ ص: 2106 ] الرابع: دلت الآية على جواز الحجاج في الدين; فإن كان مع الكفار وأهل البدع، فذلك ظاهر الجواز; وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق، لا إن قصد العلو فمحظور. وحكي عن الشافعي أنه كان إذا جادل أحدا قال: اللهم ألق الحق على لسانه. أفاده بعض الزيدية.

    ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى، أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلو الباطل، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

    قل يا أهل الكتاب أي: الذي هو ميزان العدل: لا تغلوا في دينكم غير الحق أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقولتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقادا غير الحق بلا دليل عليه، مع تظاهر الأدلة على خلافه. ونصب (غير) أنه صفة لمصدر محذوف، أي: غلوا غير الحق. يعني غلوا باطلا. أو حال من ضمير الفاعل أي: مجاوزين الحق. و (الغلو) نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد; وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير.

    تنبيه:

    دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان: (غلو حق) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه; و (غلو باطل) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #309
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2107 الى صـ 2120
    الحلقة (309)



    [ ص: 2107 ] قال بعض الزيدية: دلت الآية على أن الغلو في الدين لا يجوز، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل. ومن هذا: الغلو في الطهارة مع كثير من الناس، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب. انتهى.

    ومن هذا القبيل الغلو في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيرها كالأوثان التي كانت تعبد.

    وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين » .

    وعن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . أخرجاه.

    ولمسلم عن ابن مسعود; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون » ! قالها ثلاثا. ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه:

    ولا تتبعوا قال المهايمي: أي: تقليدا: أهواء قوم تمسكوا بخوارقهما على إلهيتهما. فإن نظروا إلى سبقهم [ ص: 2108 ] فغايتهم أنهم: قد ضلوا من قبل إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم: أضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث: "و" إلى تمسكهم بمتشابهات الإنجيل، فغايتهم أنهم: ضلوا عن سواء السبيل إذ لم يردوها إلى المحكمات.

    تنبيهات:

    الأول: قال الرازي:

    الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله واتبع هواه فتردى وما ينطق عن الهوى أرأيت من اتخذ إلهه هواه . قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر. لا يقال: فلان يهوى الخير. إنما يقال: يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار.

    وأنشد في ذم الهوى:


    إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا


    وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل الهوى ضلالة.

    [ ص: 2109 ] الثاني: قال الرازي أيضا: إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال: فبين أنهم كانوا ضالين من قبل، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا. ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى، من هذه الحالة. نعوذ بالله منها. ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم، في ذلك الإضلال، أنه إرشاد إلى الحق. ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين، وبالضلال عن طريق الجنة. انتهى.

    وهذه الوجوه - مع ما أسلفناه عن المهايمي - كلها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعا عليهم.

    الثالث: دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل - مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول - لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالين، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام. وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب. وتمسكوا في ذلك بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علما، مما لا أصل له في شرع الإنجيل، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حوارييه. وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت، يكذب بعضه بعضا، ويعارضه ويناقضه، كما تبين من الكتب المصنفة في الرد عليهم.

    الرابع: جاء في "تنوير المقباس":

    إن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقوله: ولا تتبعوا أهواء قوم العاقب والسيد. والأول - كما قال ابن إسحاق - أمير القوم وذا رأيهم. والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم.

    والأظهر أن المعني ب (أهل الكتاب) عموم النصارى. والمذكورون يدخلون فيه دخولا أوليا.

    [ ص: 2110 ] الخامس: ذكر كثير من المفسرين: أن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: اليهود والنصارى. وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام: أما غلو اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة. وأما غلو النصارى فمعلوم. وأن الخطاب في قوله تعالى: ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم. انتهى.

    وظاهر أن ما نسب للفريقين - من الغلو والابتداع - مسلم. بيد أن الأقرب للسباق الداحض لشبهات النصارى، أن تكون هذه الآية فيهم زجرا لهم عما سلكوه، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة. على أن الغلو ألصق بالنصارى منه باليهود، كما لا يخفى. والله أعلم.

    ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام. بسبب عصيانهم وما عدد من كبائرهم. فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

    لعن الذين كفروا من بني إسرائيل أي: لعنهم الله عز وجل: على لسان داود وعيسى ابن مريم أي: لسانيهما. وأفرد لعدم اللبس، إن أريد باللسان الجارحة. وقيل: المراد به الكلام وما نزل عليهما. كذا في "العناية".

    ذلك أي: لعنهم الهائل: بما عصوا وكانوا يعتدون بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي.
    [ ص: 2111 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [79] كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

    كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب المآثم والمحارم. ثم ذمهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال: لبئس ما كانوا يفعلون مؤكدا بلام القسم. تعجيبا من سوء فعلهم، كيف وقد أداهم إلى ما شرح من اللعن الكبير.

    تنبيهات:

    الأول: دلت الآية على جواز لعنهم.

    الثاني: دلت الآية أيضا على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع. لما رواه أكثر المفسرين، أن الذين لعنهم داود عليه السلام أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. وستأتي قصتهم في (الأعراف).

    الثالث: دلت أيضا على وجوب النهي عن المنكر.

    قال الحاكم: وتدل على أن ترك النهي من الكبائر.

    الرابع: روى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله [ ص: 2112 ] صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، أو في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: «لا، والذي نفسي بيده! حتى تأطروهم على الحق أطرا» . أي: تعطفوهم عليه. ورواه الترمذي وقال: حسن غريب.

    وأخرجه أبو داود عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لعن الذين كفروا - إلى قوله -: فاسقون ثم قال: كلا والله! لتأمرن بالمعروف. ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا» .

    زاد في رواية: أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.

    وكذا رواه الترمذي وحسنه. وابن ماجه.

    والأحاديث في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كثيرة، ومما يناسب منها هذا المقام:

    ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» .

    [ ص: 2113 ] وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان» .

    وروى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم. وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» .

    وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت الناس» .

    قال الحافظ ابن كثير: تفرد به ابن ماجه. وإسناده لا بأس به.

    وروى الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه. قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق» .

    قال الترمذي: حسن غريب.

    [ ص: 2114 ] وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله! متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم. قلنا: يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: الملك في صغاركم، الفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» .

    قال زيد بن يحيى الخزاعي، أحد رواته: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق.

    تفرد به ابن ماجه. وله شاهد في حديث أبي ثعلبة يأتي إن شاء الله عند قوله تعالى: لا يضركم من ضل - أفاده ابن كثير.

    أقول: هذه الأحاديث إنما يتروح بها الضعفة، من نحو العلماء والقادة. وأما من كان لهم الكلمة النافذة والوجاهة التامة فهيهات أن تغني عنهم، وهذه المواعيد الهائلة تخفق فوق رؤوسهم؛ ولذا قال العلامة الزمخشري: فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به. كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء. مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب. وقد مر عند قوله تعالى: لولا ينهاهم الربانيون ما يؤيد ما هنا، فتذكر.

    الخامس: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرا للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أن الله تعالى أمر بالتناهي. فكان الإخلال به معصية، وهو اعتداء.

    ولما وصف تعالى أسلافهم بما مضى، وصف الحاضرين بقوله:
    [ ص: 2115 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [80] ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون

    ترى كثيرا منهم أي: من أهل الكتاب: يتولون الذين كفروا أي: يوالون المشركين، بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال الرازي: والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه، حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم: وذكرنا ذلك في قوله تعالى: ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا

    لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أي: لبئس شيئا قدموا لمعادهم. وقوله تعالى: أن سخط الله عليهم هو المخصوص بالذم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم. والمعنى: لبئس زادهم في الآخرة موجب سخطه تعالى عليهم: وفي العذاب أي: عذاب جهنم. هم خالدون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [81] ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنـزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون

    ولو كانوا أي: هؤلاء الذين يتولون عبدة الأوثان من أهل الكتاب: يؤمنون بالله والنبي أي: نبيهم موسى عليه السلام: وما أنـزل إليه أي: من التوراة: ما اتخذوهم أولياء إذ الإيمان بالله يمنع من تولي من يعبد غيره: ولكن كثيرا منهم فاسقون خارجون عن دينهم، أو متمردون في نفاقهم. يعني: أن موالاتهم [ ص: 2116 ] للمشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وأن إيمانهم ليس بإيمان، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق.

    وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: ولو كانوا - أي: منافقو أهل الكتاب المدعون للإيمان - يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن حق الإيمان، ما ارتكبوا ما ارتكبوه، من موالاة الكافرين في الباطن.

    والوجه الأول أقوم، والله أعلم.

    ثم أكد تعالى ما تقدم من مثالب اليهود بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون

    لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم; وعادهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء - أشار إليه المهايمي.

    وقال غيره: لشدة إبائهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيبهم، ومناصبتهم لهم. ولهذا قتلوا كثيرا منهم حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه، وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم (اليهود) على (المشركين)، بعد لزهما في قرن واحد، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، كما أن [ ص: 2117 ] في تقديمهم عليهم في قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى للين جانبهم وقلة غل قلوبهم.

    قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح، من الرقة والرأفة كما قال تعالى: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعا في ملتهم. انتهى.

    ولأن من مذهب اليهود، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان، من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام. فحصل الفرق.

    وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا: «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» .

    ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب، مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد، ولين العريكة، كما أشير إليه بقوله تعالى: ذلك أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين: بأن منهم أي: بسبب أن منهم: قسيسين أي: علماء: ورهبانا أي: عبادا متجردين: وأنهم لا يستكبرون أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود. وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر - محمود. وإن كان ذلك من كافر.

    [ ص: 2118 ] لطيفة:

    قال الناصر في "الانتصاف":

    إنما قال تعالى: الذين قالوا إنا نصارى ولم يقل (النصارى) تعريضا بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر، لأن اليهود قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فقابلوا ذلك بأن قالوا: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون والنصارى قالوا: نحن أنصار الله . ومن ثم سموا نصارى. وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به . فأسند ذلك إلى قولهم، والإشارة به إلى قولهم: نحن أنصار الله [ ص: 2119 ] لكنه ههنا ذكر تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من اليهود؛ لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالرد مكافحة اليهود. بل قالوا: نحن أنصار الله . واليهود قالت: فاذهب أنت وربك ... الآية. فهذا سره. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

    وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول عطف على (لا يستكبرون). قال أبو البقاء: ويجوز أن يكون مستأنفا في اللفظ وإن كان له تعلق بما قبله في المعنى. يعني: وإذا سمعوا القرآن: ترى أعينهم تفيض أي: تنصب: من الدمع الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف، مع برد اليقين: مما عرفوا من الحق أي: من كتابهم، فوجدوه أكمل منه وأفضل، أو من الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحق، أو من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم: يقولون أي: من عدم استكبارهم: ربنا آمنا أي: بك وبما أنزلت وبرسولك محمد: فاكتبنا مع الشاهدين أي: الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته. روى الحاكم، وصححه، ابن عباس قال: أي: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته هم الشاهدون. يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا.

    وقوله تعالى:
    [ ص: 2120 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [84] وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين

    وما لنا لا نؤمن بالله إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه - وهو الطمع - في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين: وما جاءنا من الحق أي: وبما جاءنا من القرآن. وفي إعرابه وجه آخر يأتي. ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم; أو المعنى: أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85] فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين

    فأثابهم الله بما قالوا أي: بما تكلموا به من قولهم: ربنا آمنا الصادر عن اعتقاد وإخلاص واعتراف بالحق: جنات تجري من تحتها أي: من تحت شجرها ومساكنها: الأنهار يعني أنهار الماء واللبن والعسل: خالدين فيها أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها: وذلك جزاء المحسنين يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم.

    تنبيهات:

    الأول: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله عليهم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #310
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2121 الى صـ 2131
    الحلقة (310)



    أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي. فقدم [ ص: 2121 ] على النجاشي. فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل إلى الرهبان والقسيسين. ثم أمر جعفر بن أبي طالب فقرأ عليهم سورة مريم. فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع. فهم الذين أنزل الله فيهم: ولتجدن أقربهم مودة - إلى قوله -: فاكتبنا مع الشاهدين

    وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي ثلاثين رجلا من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقرأ عليهم سورة (يس) فبكوا، فنزلت فيهم الآية.

    وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول

    وروى الطبراني عن ابن عباس ونحوه، بأبسط منه.

    - كذا في "أسباب النزول للسيوطي" -

    وقال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه، الذين، حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن، بكوا حتى أخضبوا لحاهم.

    قال ابن كثير: وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. انتهى.

    أقول: إن نظره مدفوع؛ فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها، ونظائره في التنزيل كثيرة، ولا إشكال فيه. وظاهر أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة. وهم يهود بني قريظة والنضير. وبعناد المشركين أيضا، وقساوة قلوب الفريقين، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه. وقال ابن كثير: هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: [ ص: 2122 ] وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله الآية. وهم الذين قال الله فيهم: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين إلى قوله -: لا نبتغي الجاهلين انتهى.

    وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة; أن قريشا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم.

    قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء - قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» .

    فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة. وفروا إلى الله بدينهم.
    فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.

    [ ص: 2123 ] فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها - ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.

    ثم روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي. أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين. وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم. فجمعوا له أدما كثيرا. ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية. ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص. وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم. ثم قدما إلى النجاشي هداياه. ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي - ونحن عنده بخير دار، عند خير جار - فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى - أي: لجأ - إلى بلد الملك منا، غلمان سفهاء، فارقوا دين قومه، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم. فإن قومهم أعلى بهم عينا. (أي: أبصر بهم) وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعم. [ ص: 2124 ] ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه بما كلما كل بطريق.

    قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا. أيها الملك! قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم. فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فقالت: فغضب النجاشي ثم قال: لاها الله! إذا لا أسلمهم إليهما. ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم. فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم لهما ورددتهم إلى قومهم. وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

    قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا. ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا نقول والله! ما علمنا. وما أمرنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك؟ كنا قوما أهل جاهلية. نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسئ الجوار. ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، [ ص: 2125 ] وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! قال: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه علي. قالت: فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) قالت: فبكى –والله- النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا، والله! لا أسلمهم إليكما ولا يكادون.

    قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله! لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم (أي: شجرتهم التي منها تفرعوا).

    قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله! لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.

    قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما. فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه.

    قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم. ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا نقول –والله- ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن. قال: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى [ ص: 2126 ] الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: -والله- ما عدا عيسى ابن مريم، مما قلت هذا العود. قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال: وإن نخرتم، والله! اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون - من سبكم، غرم. قالها ثلاثا.

    ثم قال: ما أحب أن لي دبرا - والدبر الجبل- من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها.

    قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

    ثم روى ابن إسحاق في قصته: أن النجاشي عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. انتهى.

    وإسلام النجاشي معروف. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مات صلى عليه مع تباعد الديار.

    وذكر شمس الدين بن القيم في "زاد المعاد": أنه كان مخرجهم إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث.

    التنبيه الثاني:

    في الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء. وفي الخبر: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا. أخرجه المنذري في "الترغيب والترهيب" عن عبد الله بن عمرو. وقال: رواه الحاكم مرفوعا وصححه. والمراد إشراب القلب والخوف المهابة لله تعالى.

    الثالث: في قوله تعالى: يقولون ربنا آمنا وقوله: فأثابهم الله بما قالوا دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هو مذهب الفقهاء. وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله تعالى: بما قالوا ، لكن الثناء بفيض الدمع في السباق، وبالإحسان في السياق، يدفع [ ص: 2127 ] ذلك; وأنى يكون مجرد القول إيمانا وقد قال الله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ؟ نفى الإيمان عنهم، مع قولهم: آمنا بالله لعدم التصديق بالقلب.

    وقال أهل المعرفة: الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدعاء على العطاء، والرضا بالقضاء. فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه..! أفاده النسفي.

    وقال الخازن: إنما علق الثواب بمجرد القول؛ لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا. وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب؛ لأن القول إذا اقترن بالمعرفة فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب.

    وقال الرازي: لما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد، ثم انضاف إليه القول، لا جرم كمل الإيمان.

    الرابع: قوله تعالى: وما جاءنا يجوز أن يكون في موضع جر، أي: وبما جاءنا، و: من الحق حال من الفاعل المستتر، أو لغو متعلق ب: جاء أي: وبما جاءنا من عند الله. ويجوز أن يكون مبتدأ و: من الحق الخبر، والجملة في موضع الحال. وقوله تعالى: ونطمع يجوز أن يكون معطوفا على: نؤمن أي: وما لنا لا نطمع. ويجوز أن يكون التقدير: ونحن نطمع، فتكون الجملة حالا من ضمير الفاعل في: نؤمن - أفاده أبو البقاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [86] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

    والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم أي: الذين جحدوا الحق الذي جاءهم وكذبوا بحجج الله وبراهينه أولئك أصحاب الجحيم، أي: النار الشديدة الحرارة. جزاء وفاقا.
    [ ص: 2128 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين

    يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم أي: ما طاب ولذ منه. كأنه - لما تضمن ما سلف مدح النصارى على الترهيب، والحث على كسر النفس. ورفض الشهوات - عقبه النهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية. ثم أشار إلى أنه اعتداء بقوله سبحانه: ولا تعتدوا أي: عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراما. أو: ولا تعتدوا في تناول الحلال فتجاوزوا الحد فيه إلى الإسراف كما قال تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا وقال: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما أو: ولا تعتدوا على النفس والأهل بمنع الحقوق. أو: ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم: إن الله لا يحب المعتدين في كل ما ذكر، وهو تعليل لما قبله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [88] وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون

    وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله. فيكون: حلالا مفعول: وكلوا و: مما حال منه، أو متعلقة ب: كلوا ، أو هو المفعول و: حلالا حال من: ما أو من عائده المحذوف، أو صفة لمصدر محذوف، أي: [ ص: 2129 ] أكلا حلالا. وقوله تعالى: واتقوا الله تأكيد للتوصية بما أمر به، وزاده تأكيدا بقوله: الذي أنتم به مؤمنون لأن الإيمان به يوجب التقوى، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.

    قال المهايمي: مقتضى إيمانكم أن لا تغيروا شيئا من أحكام دينكم، وأن لا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه.

    تنبيهات:

    الأول: فيما روي في سبب نزولها:

    أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا الآية.

    وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء. فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني. وروى ابن مردويه نحوه.

    وفي "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها، أن ناسا من أصحاب [ ص: 2130 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم. وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني » .

    وروى ابن أبي حاتم، أن عبد الله بن مسعود جاءه معقل بن مقرن فقال: إني حرمت فراشي. فتلا عليه هذه الآية.

    وأخرج أيضا عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود. فجيء بضرع فتنحى رجل. فقال عبد الله: ادن. فقال: إني حرمت أن آكله. فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفر عن يمينك. وتلا هذه الآية. ورواه الحاكم أيضا.

    [ ص: 2131 ] الثاني: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية النهي عن تحريم الطيبات من الحلال. وذكر الحاكم: أن هذا النهي يحتمل وجوها لا مانع من الحمل على جميعها: أحدهما لا تعتقدوا التحريم. ومنها: لا تحرموا على غيركم بالفتوى والحكم. ومنها: لا تجروه مجرى الحرمات في شدة الاجتناب. ومنها: لا تلتزموا تحريمه بنذر أو غيره.

    وقال القاضي: لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم، كالبياعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس.

    ثم قال: ويتعلق بهذا أمران: الأول إذا حرم الحلال، هل يجب عليه الحنث والرجوع؟ قلنا: ظاهر الآية يدل على ذلك، ويلزم مع ذلك التوبة.

    الأمر الثاني: هل يلزمه في ذلك كفارة؟ قلنا: هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء. انتهى.

    وقال ابن كثير: ذهب الشافعي إلى أنه من حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا، ما عدا النساء، أنه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا. لإطلاق هذه الآية. ولأن الذي حرم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة.

    وذهب آخرون - منهم الإمام أحمد - إلى أن من حرم شيئا - مما ذكر - فإنه يجب عليه كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين. فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ثم قال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم الآية. وكذلك هنا. لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التفكير. والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #311
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2132 الى صـ 2142
    الحلقة (311)




    [ ص: 2132 ] وفي "زاد المعاد" لابن القيم فصل مهم في حكم من حرم أمته أو زوجته أو متاعه؛ تنبغي مراجعته.

    الثالث: هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في التعبد - كذا في "الإكليل".

    قال ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء، مما أحل الله لعباده المؤمنين، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون. فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده. وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون. إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، إذا قدر على لباس ذلك من حله. وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.

    قال: فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا - في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة - فقد ظن خطأ. وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة؛ لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته.. انتهى.

    وللرازي هنا مبحث جيد في حكمة هذا النهي. مؤيد لما ذكر. فليراجع؛ فإنه نفيس.

    وقد أخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله يحب الحلواء والعسل. وله عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه – [ ص: 2133 ] فنهش منها. قالت عائشة: ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا، وكان يعجل إليه الذراع؛ لأنه أعجلها نضجا. أخرجه الترمذي. وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السبخي وأصحابه. فقعدوا على المائدة - وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك - فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد! أترى لعاب النحل، بلباب البر، بخالص السمن، يعيبه مسلم؟

    وعنه: أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدي شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم، قال: إنه جاهل. إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ.

    وعنه: أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال الله تعالى: لينفق ذو سعة من سعته ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا. ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه.

    الرابع: قال الرازي: لم يقل تعالى: كلوا ما رزقكم، ولكن قال: مما رزقكم الله وكلمة: "من" للتبعيض. فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات؛ لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال: ولا تسرفوا .
    [ ص: 2134 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [89] لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون

    لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم تقدم الكلام على اللغو في اليمين في (سورة البقرة) وإنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف، كقول الإنسان: لا، والله! وبلى والله! والمراد بالمؤاخذة: مؤاخذة الإثم والتكفير، أي: فلا إثم في اللغو ولا كفارة: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان أي: بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها عليه بأن حلفتم عن قصد منكم، أي: إذا حنثتم. أو بنكث ما عقدتم، فحذف للعلم به. وقرئ بالتخفيف، وقرئ (عاقدتم) بمعنى عقدتم: فكفارته أي: فكفارة نكثه، أي: الخصلة الماحية لإثمه: إطعام عشرة مساكين يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه: من أوسط ما تطعمون أهليكم أي: لا من أجوده فضلا عما تخصونه بأنفسهم. ولا من أردأ ما تطعمونهم فضلا عن الذي تعطونه السائل: أو كسوتهم أو تحرير رقبة أي: عتقها: فمن لم يجد أي: شيئا مما ذكر: فصيام ثلاثة أيام كفارته: ذلك أي: المذكور: كفارة أيمانكم أي: التي اجترأتم بها على الله تعالى: إذا حلفتم أي: وحنثتم: واحفظوا أيمانكم أي: عن الإكثار منها - أو عن الحنث - إذا لم يكن ما حلفتم عليه خيرا، لئلا يذهب تعظيم اسم الله عن قلوبكم: كذلك أي: مثل هذا البيان الكامل: يبين الله لكم آياته [ ص: 2135 ] أي: أعلام شرائعه: لعلكم تشكرون أي: نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج.

    قال المهايمي: أي: تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له، ومن جملتها صرف اللسان، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه، إلى ذلك. فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان، إذ به يتم تعظيمه. فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضا من تعظيمه. فافهم.

    وفي هذه الآية مباحث:

    الأول: معنى (أو) التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث. فإذا لم يجد انتقل إلى الصوم.

    فأما الإطعام فليس فيه تحديد بقدر. لا في وجبة ولا وجبتين، ولا في قدر من الكيل.

    ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه. جميعها مما يصدق عليه مسماه، فبأيها أخذ أجزأه. فمنها ما رواه ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: يغديهم ويعشيهم. كأنه ذهب - رضي الله عنه - إلى المراد بالإطعام الكامل - أعني قوت اليوم وهو وجبتان - وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة.

    ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية: يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزا ولحما. زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم يجد فخبزا وزيتا وخلا حتى يشبعوا.

    وعن عمر وعلي أيضا وعائشة وثلة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما.

    وعن ابن عباس: لكل مسكين مد من بر ومعه إدامه.

    [ ص: 2136 ] وفي "فتح القدير" من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز. إلا أنه إن كان برا لا يشترط الإدام، وإن كان غيره فبإدام. وحكي عن الهادي: اشتراط الأكل لإشعار (الإطعام) بذلك.

    والأكثرون: أن الأكل غير شرط. لأنه ينطلق لفظ (الإطعام) على التمليك.

    الثاني: إطلاق (المساكين) يشمل المؤمن والكافر الذمي والفاسق. فبعضهم أخذ بعموم ذلك. ومذهب الشافعية والزيدية: خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر. ولم يجوزه الهادي. وظاهر الآية اشتراط العدد في المساكين. وقول بعضهم: إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة، مفرعا عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام - عدول عن الظاهر، لا يثبت إلا بنص.

    الثالث: لم يبين في الآية حد الكسوة وصفتها; فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها.

    قال الشافعي، رحمه الله: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة - من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة - أجزأه ذلك.

    وقال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه، إن كان رجلا أو امرأة، كل بحسبه.

    وقال العوفي عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة.

    وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت.

    وعن ابن المسيب: عمامة يلف بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.

    وعن الحسن وابن سيرين: ثوبان ثوبان.

    وروى ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: أو كسوتهم قال: عباءة لكل مسكين. قال ابن كثير: حديث غريب.

    [ ص: 2137 ] أقول: لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة.

    الرابع: قال الرازي: المراد ب (الرقبة) الجملة. قيل: الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حل ذلك الحبل. فسمي (الإطلاق من الرقبة) فك الرقبة. ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال: تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون: لا بد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب، وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي - الذي هو في "موطأ مالك" و "مسند الشافعي" و "صحيح مسلم" – [ ص: 2138 ] أنه ذكر أنه عليه عتق رقبة. وجاء معه بجارية سوداء. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة... الحديث بطوله.

    قال الشعراني، قدس سره في "الميزان": قال العلماء: عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل؛ لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عز وجل. فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلصها لعبادة إبليس. وأيضا فإن العتق قربة، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر. انتهى.

    الخامس: للعلماء في حد الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال. وظاهر الآية هو أنه لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاثة - من الإطعام أو الكسوة أو العتق - فإن وجد قدر إحداهما كان ذلك مانعا من الصوم، اللهم إذا فضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك.

    وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام، وإلا صام.

    السادس: إطلاق قوله تعالى: فصيام ثلاثة أيام صادق على المجموعة والمفرقة. كما في قضاء رمضان، لقوله: فعدة من أيام أخر ومن أوجب التتابع استدل بقراءة [ ص: 2139 ] أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرآن: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات". وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.

    قال الأعمش: كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك.

    قال ابن كثير: وهذه، إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا. فلا أقل أن يكون خبر واحد أو تفسيرا من الصحابة. وهو في حكم المرفوع.

    وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله! نحن بالخيار؟ قال: «أنت بالخيار، إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت. وإن شئت أطعمت. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جدا.

    ونقل بعض الزيدية، رواية عن ابن جبير، أنه كان يصلي تارة بقراءة ابن مسعود وتارة بقراءة زيد.

    السابع: قال الناصر في "الانتصاف": في هذه الآية - يعني قوله تعالى: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - وجه لطيف المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث، وهو المشهور من مذهب مالك. وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفا لوقوع الكفارة المعتبرة شرعا. حيث أضاف: إذا إلى مجرد الحلف وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال: قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث. فتعين تقديره مضافا إلى الحلف. بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار. إذ لا يعطي قوله: ذلك كفارة أيمانكم إيجابا، إنما يعطي صحة واعتبارا. والله أعلم.

    [ ص: 2140 ] وهذا انتصار على منع التكفير قبل الحنث مطلقا، وإن كانت اليمين على بر.

    والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلا أن القول المنصور هو المشهور. انتهى.

    وقال الرازي: احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز؛ لأنها دلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف. فإذا أداها بعد الحلف، قبل الحنث، فقد أدى الكفارة. وقوله تعالى: إذا حلفتم فيه دقيقة؛ وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز. انتهى.

    وفي "الصحيحين" من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير. وعند أبي داود: فكفر عن يمينك ثم أت الذي هو خير.

    الثامن: قال السيوطي في "الإكليل": في قوله تعالى: واحفظوا أيمانكم استحباب ترك الحنث إلا إذا كان خيرا، أي: لما تقدم من حديث ابن سمرة. وهذا على أحد وجهين في الآية. والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق. قال كثير:


    قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت!


    [ ص: 2141 ] التاسع: حكمة تقديم الإطعام على العتق - مع أنه أفضل - من وجوه:

    أحدها: التنبيه من أول الأمر على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب. وإلا لبدئ بالأغلظ.

    ثانيها: كون الطعام أسهل؛ لأنه أعم وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف.

    وثالثها: كون الإطعام أفضل، لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام، فيقع في الضر. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته، أفاده الرازي.

    العاشرة: سر إطعام العشرة، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام؛ العدد الكامل، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى. وسر الكسوة كونه يجزي بستر العورة سر المعصية. وسر التحرير فك رقبة عن الإثم. وسر صوم الثلاثة، أن الصيام لما كان ضيرا بنفسه اكتفى فيه بأقل الجمع. أفاده المهايمي، قدس سره.

    [ ص: 2142 ] الحادي عشر: قال شمس الدين بن القيم في "زاد المعاد": كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة، ويكفرها تارة، ويمضي فيها تارة. والاستثناء يمنع عقد اليمين. والكفارة تحلها بعد عقدها. ولهذا سماها الله: تحلة . وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعا. وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع: فقال تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين وقال تعالى: وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم وقال تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه. فتحاكم إليه يوما هو وخصم له. فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود. فتهيأ للحلف. فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف؟ وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه. قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #312
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2143 الى صـ 2154
    الحلقة (312)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90] يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون

    يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر أي: الشراب الذي خامر العقل، أي: خالطه [ ص: 2143 ] فستره: والميسر أي: القمار: والأنصاب أي: الأصنام المنصوبة للعبادة: والأزلام أي: القداح: رجس من عمل الشيطان أي: خبيث من تزيين الشيطان، وقذر تعاف عنه العقول.

    قال المهايمي: لأن الخمر تضيع العقل، وما دون السكر داع إلى ما يستكمله، فأقيم مقامه في الشرع الكامل. والميسر يضيع المال. والأنصاب تضيع عزة الإنسان بتذلله لما هو أدنى منه. والأزلام تضيع العلم للجهل بالثمن والمثمن. انتهى.

    وما ذكره هو شذرة من مفاسدها.

    فاجتنبوه أي: اتركوه، يعني: ما ذكر. أو (الرجس) الواقع على الكل: لعلكم تفلحون أي: رجاء أن تنالوا الفلاح فتنجوا من السخط والعذاب وتأمنوا في الآخرة.

    ثم أكد تعالى تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية. فالأولى في قوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [91] إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون

    إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة أي: المشاتمة والمضاربة والمقاتلة: والبغضاء القاطعة للتعاون الذي لا بد للإنسان منه في معيشته: في الخمر أي: إذا صرتم نشاوى: والميسر إذا ذهب مالكم. وقد حكي أنه ربما قامر الرجل بأهله وولده فإذا أخذه الخصم وقعت العداوة بينهما أبدا. ثم أشار إلى مفاسدهما الدينية بقوله: ويصدكم عن ذكر الله إذ يغلب السرور والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية فيلهي عن ذكر الله. والميسر، إن كان صاحبه غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلبة عن ذكر الله. وإن كان مغلوبا، مما حصل من الانقباض أو الاحتيال إلى أن يصير غالبا [ ص: 2144 ] لا يخطر بباله ذكر الله: وعن الصلاة أي: ويصدكم عن مراعاة أوقاتها. وقوله تعالى: فهل أنتم منتهون من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع. فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ أفاده الزمخشري.

    تنبيهات:

    الأول: سبق الكلام على الخمر والميسر في سورة البقرة في قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر وسلف أيضا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله: وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام فتذكر.

    الثاني: إنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا، ثم أفردا آخرا، وخصصا بشرح ما فيهما من الوبال - للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما. وذكر الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة. كأنه لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب، وبين من شرب خمرا أو قامر.

    روى الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" عن ابن عمرو مرفوعا: «شارب الخمر كعابد وثن، وشارب الخمر كعابد اللات والعزى» . وإسناده حسن.

    وتخصيص الصلاة بالإفراد، مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان، لما أنها عماده.

    الثالث: هذه الآية دالة على تأكيد تحريم الخمر والميسر من وجوه:

    (ومنها): تصدير الجملة ب (ما) وذلك لأن هذه الكلمة للحصر، فكأنه تعالى قال: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا الخمر والميسر وما ذكر معهما.

    و (منها): أنه قرنهما بعبادة الأوثان.

    [ ص: 2145 ] و (منها): أنه جعلها رجسا كما قال تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان

    و (منها): أنه جعلها من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت.

    و (منها): أنه أمر بالاجتناب، وظاهر الأمر للوجوب.

    و (منها): أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة ومحقة.

    و (منها): أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال - وهو وقوع التعادي والتباغض - وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.

    و (منها): إعادة الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف بقوله سبحانه: فهل أنتم منتهون فآذن بأن الأمر في الزجر والتحذير، وكشف ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية. وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية.

    و (منها): قوله تعالى بعد ذلك:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [92] وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين

    وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي: في جميع ما أمرا به ونهيا عنه: واحذروا أي: مخالفتهما في ذلك. فيدخل فيه مخالفة أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا.

    و (منها): قوله تعالى:

    فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين أي: إن أعرضتم عن الامتثال [ ص: 2146 ] بما أمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر، فقد قامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار. والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ إذ أداه بما لا مزيد عليه. فما بقي بعد ذلك إلا العقاب. وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف وأعرض عن حكم الله وبيانه.

    الرابع: قال الرازي: اعلم أن من أنصف وترك الاعتساف، علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام؛ وذلك لأنه تعالى رتب النهي عن شرب الخمر على كونها مشتملة على تلك المفاسد الدينية والدنيوية، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر. وهذا يفيد القطع بأن علة قوله: فهل أنتم منتهون هي كون الخمر مؤثرا في الإسكار. وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام. قال: ومن أحاط عقله بهذا التقرير، وبقي مصرا على قوله، فليس لعناده علاج. انتهى.

    ثم بين تعالى رفع الإثم عمن مات وهو يشرب الخمر قبل التحريم - كما سنفصله - بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [93] ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين

    ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح أي: إثم: فيما طعموا مما حرم بعد تناولهم: إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين

    وهنا مسائل:

    الأولى: قال بعض المفسرين: إن قيل: لم خص المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا [ ص: 2147 ] ما اتقوا، والكافر كذلك؟ قال الحاكم: لأنه لا يصح نفي الجناح عن الكافر، وأما المؤمن فيصح أن يطلق عليه، ولأن الكافر سد على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام. انتهى.

    وفي "العناية": تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها، فإن عدم الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط. بل على سبيل المدح والثناء والدلالة على أنهم بهذه الصفة.

    قال الزمخشري: ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمر مباح - ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمنا محسنا، تريد: إن زيدا تقي مؤمن محسن، وأنه غير مؤاخذ بما فعل.

    وقال العلامة أبو السعود: ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة، لا دخل لها في انتفاء الجناح. وإنما ذكرت في حيز (إذا) شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها، ومدحا لهم بذلك، وحمدا لأحوالهم. وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تمييزا بينها وبين ما له دخل في الحكم؛ فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة - وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من المنعوت فيما سيأتي بقضية كلمة (إذ ما) - لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها، فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى. مع ما لهم من الصفات الحميدة - بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال - وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك. ولو حرما في عصرهم، لاتقوهما بالمرة.

    وقال الطيبي: المعنى أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات. وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال. وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك، وعلى الإيمان بما يجب [ ص: 2148 ] الإيمان به، وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج (أن تعبد الله كأنك تراه) وهو المعني بقوله تعالى: وأحسنوا إلخ. وبه ينتهى للزلفى عند الله ومحبته. والله يحب المحسنين.

    قال الخفاجي: وهذا دفع للتكرير وأنه ليس لمجرد التأكيد، لأنه يجوز فيه العطف ب (ثم) كما صرح به ابن مالك في قوله: كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون بل به باعتبار تغاير ما علق به مرة بعد أخرى. والله أعلم.

    الثانية: الإحسان المذكور في الآية: إما إحسان العمل، أو الإحسان إلى الخلق، أو إحسان المشاهدة المتقدم، ولا مانع من الحمل على الجميع.

    الثالثة: روي في سبب نزولها عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. فنزل تحريم الخمر فأمر صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى. فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت. قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال: فجرت في سكك المدينة.

    قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ. فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم. [ ص: 2149 ] قال: فأنزل الله: ليس على الذين آمنوا الآية.
    رواه البخاري في "التفسير".

    روى الترمذي عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر. فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال فنزلت: ليس على الذين الآية. وقال: حسن صحيح.

    وعن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله! أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ (لما نزل تحريم الخمر)، فنزلت: ليس على الذين الآية. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

    وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2150 ] المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما؟ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرمت علينا. إنما قال: فيهما إثم كبير وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين. أم أصحابه في المغرب. خلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى قوله -: فهل أنتم منتهون فقالوا: انتهينا. ربنا؟ فقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان؟ فأنزل الله: ليس على الذين آمنوا ... الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم.

    قال ابن كثير: انفرد به أحمد.

    وعن أبي ميسرة قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في البقرة: يسألونك عن الخمر والميسر الآية. فدعي عمر [ ص: 2151 ] فقرئت عليه فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في سورة النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا قال: حي على الصلاة - نادى: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة. فلما بلغ قوله تعالى: فهل أنتم منتهون قال عمر: انتهينا! انتهينا! رواه الإمام أحمد. وأصحاب السنن.

    ورواه البيهقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار. شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض. فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول: صنع بي هذا أخي فلان. وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله! لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا. حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: إنما الخمر - إلى قوله -: فهل أنتم منتهون

    فقال ناس من المتكلفين: هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل في أحد. فأنزل الله تعالى: ليس على الذين الآية. ورواه النسائي في "التفسير".

    وأخرج أبو بكر البزار عن جابر رضي الله عنه قال: اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد، فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم، فنزلت: ليس على الذين الآية. قال البزار: إسناده صحيح.

    قال ابن كثير: هو كما قال.

    وقد ساق ابن كثير - أحاديث كثيرة في تحريم الخمر مما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، فمن شاء فليرجع إليه. ولا يخفى أن تحريمها معلوم من الدين بالضرورة.

    [ ص: 2152 ] وقد روى السيوطي في "الجامع الكبير" عن ابن عساكر بسنده إلى سيف بن عمر عن الربيع وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما: إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب. منهم ضرار وأبو جندل. فسألناهم فتأولوا وقالوا: خيرنا فاخترنا. قال: فهل أنتم منتهون ؟ ولم يعزم. فكتب إليه عمر: فذلك بيننا وبينهم: فهل أنتم منتهون يعني: فانتهوا. وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا ثمانين جلدة ويضمنوا النفس، ومن تأول عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. وقالوا: من تأول على ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، يزجر بالفعل والقتل. فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم. فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم. وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الأشهاد فقالوا: حرام. فجلدهم ثمانين. وحد القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم - يا أهل الشام! - حادث، فحدث الرمادة.

    ورواه سيف بن عمر أيضا عن الشعبي والحكم بن عيينة.
    [ ص: 2153 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم

    يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد أي: يرسله إليكم وأنتم محرمون: تناله أيديكم لتأخذوه، وهو الضعيف من الصيد وصغيره: ورماحكم لتطعنوه، وهو كبار الصيد: ليعلم الله من يخافه بالغيب فيمتنع عن الاصطياد لقوة إيمانه.

    قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية. فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.

    قال ابن كثير: يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرا وجهرا، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره، كما قال تعالى: إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير

    وقوله تعالى: فمن اعتدى أي: بالصيد: بعد ذلك يعني بعد الإعلام والإنذار: فله عذاب أليم لمخالفته أمر الله وشرعه.

    لطيفة:

    قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير في قوله: بشيء من الصيد ؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين - كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال - وإنما هو شبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده، فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه...؟

    [ ص: 2154 ] قال الناصر في "الانتصاف": قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر؛ لأنه صبر عظيم. فقول الزمخشري: إنه قلل وصغر تنبيها على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام - مدفوع باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها. والظاهر - والله أعلم - أن المراد بما أشعر به اللفظ من التقليل والتصغير، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل، بالنسبة إلى مقدور الله تعالى. وأنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول. وأنه مهما اندفع عنهم مما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل، لطفا بهم ورحمة. ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر، وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى أن هذا مراد، أن سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه. فيكون أيضا باعثا على تحمله. لأن مفاجأة المكروه بغتة أصعب. والإنذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه. وحاصل ذلك لطف في القضاء... فسبحان اللطيف بعباده. وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا، وجد المندفع عنه منها أكثر، إلى ما لا يقف عند غاية. فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور.. انتهى.

    وللزمخشري أن يجيب بأن الآية: ولنبلونكم شاهدة له لا عليه؛ لأنه المقصود فيه أيضا بالنسبة إلى ما دفعه الله عنهم - كما صرح به الناصر - مع أنه لا يتم دفعه بالآية إلا إذا كان: ونقص معطوفا على مجرور (من)، ولو عطف على (شيء) لكان مثل هذه الآية بلا فرق.. كذا في "العناية".



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #313
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2155 الى صـ 2166
    الحلقة (313)



    [ ص: 2155 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [95] يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام

    يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم أي: محرمون بحج أو عمرة.

    قال المهايمي: لأن قتله تجبر. والمحرم في غاية التذلل. انتهى.

    وذكر القتل دون الذبح والذكاة، للتعميم. أو للإيذان بكونه في حكم الميتة. والصيد: ما يصاد مأكولا أو غيره. ولا يستثنى إلا ما ثبت في "الصحيحين" عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» . وفي رواية: (الحية) بدل (العقرب).

    قال زيد بن أسلم وابن عيينة: الكلب العقور يشمل السباع العادية كلها. ويستأنس لهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال: «اللهم سلط عليه كلبك» . فأكله السبع بالزرقاء.

    ومن قتله منكم أيها المحرمون: متعمدا ذاكرا [ ص: 2156 ] لإحرامه: فجزاء بالتنوين ورفع ما بعده، أي: فعليه جزاء هو: مثل ما قتل من النعم أي: شبهه في الخلقة. وفي قراءة بإضافة (جزاء): يحكم به أي: بالمثل مجتهدان: ذوا عدل منكم لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به. وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة. وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة. وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة. وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام؛ لأنه يشبهها في العب: هديا حال من (جزاء): بالغ الكعبة أي: يبلغ به الحرم. فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه. فلا يجوز أن يذبح حيث كان: أو عليه: كفارة غير الجزاء. وإن وجده. هي: طعام مساكين من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء. لكل مسكين مد. وفي قراءة بإضافة (كفارة) لما بعده، وهي للبيان: أو عليه: عدل مثل: ذلك الطعام: صياما يصوم، عن كل مد يوما: ليذوق أي: هاتك حرمة الله: وبال أمره أي: شدة وثقل هتكه لحرمة الإحرام. و (وليذوق) متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور. أي: فعليه جزاء ليذوق أو بفعل يدل عليه الكلام. أي: شرع ذلك عليه ليذوق: عفا الله عما سلف من قتل الصيد قبل تحريمه ومن عاد إليه: فينتقم الله منه بطلب الجزاء في الدنيا والمعاقبة في الآخرة. وكيف يترك ذلك: والله عزيز غالب على أمره. ومقتضى عزته الانتقام من هاتك حرمته، فهو لا محالة: ذو انتقام ممن عصاه.

    تنبيهات:

    الأول: - روى ابن أبي حاتم عن طاوس قال: لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ، إنما يحكم على من أصابه متعمدا.

    قال ابن كثير: وهذا مذهب غريب. وهو تمسك بظاهر الآية.

    ورأيت في بعض تفاسير الزيدية نسبة هذا القول إلى ابن عباس وعطاء ومجاهد وسالم وأبي ثور وابن جبير والحسن (في إحدى الروايتين)، والقاسم والهادي والناصر وغيرهم. انتهى.

    [ ص: 2157 ] والجمهور: أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه.

    وقال الزهري: دل الكتاب على العابد. وجرت السنة على الناسي.

    الثاني: إذا لم يكن الصيد مثليا حكم ابن عباس بثمنه يحمل إلى مكة. رواه البيهقي.

    الثالث: ذهب معظم الأئمة إلى التخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، لأنه بلفظ (أو) وحقيقتها التخيير.

    وعن بعض السلف أن ذلك على الترتيب. قالوا: إنما دخلت (أو) لبيان أن الجزاء لا يعدو أحد هذه الأشياء، ولأنا وجدنا الكفارات من الظهار والقتل على الترتيب. قلنا: هذا معارض بكفارة اليمين وبدم الأذى، فلا يخرج عن حقيقة اللفظ وهو التخيير.

    الرابع: تعلق بظاهر قوله تعالى: ومن عاد فينتقم الله منه من قال: لا كفارة على العائد؛ لأنه تعالى لم يذكرها. هو مروي عن ابن عباس وشريح. والجمهور: على وجوبها عليه؛ لأن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه. وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى. مع أن الآية يحتمل أن معناها: من عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله.

    الخامس: قال الحاكم: كما دلت الآية على الرجوع إلى ذوي العدل في المماثلة. ففي ذلك دلالة على جواز الاجتهاد وتصويب المجتهدين. وجواز تعليق الأحكام بغالب الظن. وجواز رجوع العامي إلى العالم، وأن عند التنازع في الأمور يجب الرجوع إلى أهل البصر... انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون

    أحل لكم خطاب للمحرمين: صيد البحر وطعامه قال المهايمي: إذ ليس فيه التجبر المنافي للتذلل الإحرامي. و: صيد البحر ما يصطاد منه طريا، و: وطعامه ما يتزود [ ص: 2158 ] منه مملحا يابسا، كذا في رواية عن ابن عباس. والمشهور عنه أن صيده ما أخذ منه حيا، وطعامه ما لفظه ميتا. قال ابن كثير: وهذا ما روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم، وعن غير واحد من التابعين.

    وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر قال: طعامه: كل ما فيه.

    وعن ابن المسيب: طعامه: ما لفظه حيا أو حسر عنه فمات.

    متاعا لكم أي: تمتيعا للمقيمين منكم يأكلونه طريا: وللسيارة منكم يتزودونه قديدا.

    و (السيارة) القوم يسيرون. أنث على الرفقة والجماعة.

    تنبيهان:

    الأول: قال ابن كثير: استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية، وبما رواه الإمام مالك عن ابن وهب وابن كيسان عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل. فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة - قال: وأنا فيهم - قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد. فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش. فجمع ذلك فكان مزودي تمر، قال: فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فقدت. قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب. فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا. ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتها ولم تصبها.

    وهذا الحديث مخرج من "الصحيحين" وله طرق عن جابر. وفي "صحيح مسلم" [ ص: 2159 ] عن جابر: وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم. هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله.

    وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة. فقال بعضهم: هي واقعة أخرى. وقال بعضهم: هي قضية واحدة، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة. فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة. والله أعلم؟

    وعن أبي هريرة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا. أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . رواه مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن. وصححه البخاري والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم.

    [ ص: 2160 ] وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» . رواه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وله شواهد. وروي موقوفا. فهذه حجج الجمهور.

    الثاني: احتج بهذه الآية أيضا من ذهب من الفقهاء إلى أنه يؤكل دواب البحر، ولم يستثن من ذلك شيئا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال: طعامه: كل ما فيه. وقد استثنى بعضهم الضفادع، وأباح ما سواها، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي عبد الرحمن التيمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع. وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال: نقيقها تسبيح»

    وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما أي: محرمين; فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدا أثم وغرم. أو مخطئا غرم وحرم عليه أكله؛ لأنه في حقه كالميتة: واتقوا الله في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام، ثم حذرهم بقوله سبحانه: الذي إليه تحشرون أي: تبعثون فيجازيكم على أعمالكم.

    [ ص: 2161 ] لطيفة:

    قال المهايمي: إنما حرم الصيد على المحرم، لأنه قصد الكعبة التي حرم صيد حرمها، فجعل كالواصل إليه. وإنما حرم صيد حرمها لأنها مثال بيت الملك، لا يتعرض لما فيه أو في حرمه. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [97] جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم

    جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس أي: مدارا لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء إليه.

    قال المهايمي: جعله الله مقام التوجه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم، ليحصل لهم الاجتماع الموجب للتألف، الذي يحتاجون إليه في تمدنهم، الذي به كمال معايشهم ومعاهدهم، لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما.

    والشهر الحرام بمعنى الأشهر الحرم - ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب - قياما لهم بأمنهم من القتال فيها. لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها: والهدي وهو ما يهدى إلى مكة: والقلائد جمع قلادة. وهي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى وغيره. والمراد ب (القلائد) ذوات القلائد وهي البدن. خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر. والمفعول الثاني محذوف، ثقة بما مر، أي: جعل الهدي والقلائد أيضا قياما لهم؛ فإنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم. وفيه قوام لمعيشة الفقراء ثمت. وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلدوا أنفسهم، عند الإحرام، من لحاء شجر [ ص: 2162 ] الحرم. فلا يتعرض لهم أحد: ذلك أي: الجعل المذكور: لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم فإن جعله ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها، دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.

    وقد جود الرازي تقرير هذا المقام فأبدع، فلينظر.

    وقوله تعالى: وأن الله بكل شيء عليم تعميم إثر تخصيص للتأكيد.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [98] اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم

    اعلموا أن الله شديد العقاب وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك: وأن الله غفور رحيم وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [99] ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون

    ما على الرسول إلا البلاغ يعني: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج. وفي الآية تشديد في إيجاب القيام بما أمر به. وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون من الخير والشر، فيجازيكم بذلك.
    [ ص: 2163 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [100] قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون

    قل لا يستوي الخبيث والطيب حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال، وجيدها. قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال: ولو أعجبك كثرة الخبيث فإن العبرة بالجودة والرداءة، دون القلة والكثرة. فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير. والخطاب عام لكل معتبر - أي: ناظر بعين الاعتبار - ولذلك قال: فاتقوا الله يا أولي الألباب أي: فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر. وآثروا الطيب وإن قل: لعلكم تفلحون أي: بمنازل القرب عنده تعالى المعد للطيبين.

    تنبيهان:

    الأول: - قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعلموا أن الله شديد العقاب الآية. ثم بما بعدها أيضا - أتبعه بنوع آخر من الترغيب والترهيب بقوله: قل لا يستوي الآية.. وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان: أحدهما الذي يكون جسمانيا وهو ظاهر لكل أحد.

    والثاني الذي يكون روحانيا. وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية. وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته. وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرا عند أرباب الطباع السليمة. فكذلك الأرواح الموصوفة بالجهل بالله والإعراض عن طاعته تصير مستقذرة عند الأرواح الكاملة المقدسة. وأما الأرواح العارفة بالله تعالى، المواظبة على خدمته، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية، مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة. وكما أن الخبيث والطيب [ ص: 2164 ] في عالم الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان. بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد؛ لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل ومنفعة طيبة مختصرة. وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية. وطيب الطيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية. وهو القرب من جوار رب العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.

    الثاني: قال بعض المفسرين: من ثمرة الآية أنه ينبغي إجلال الصالح وتمييزه على الطالح. وأن الحاكم إذا تحاكم إليه الكافر والمؤمن، ميز المؤمن في المجلس. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [101] يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم

    يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا أي: نبيكم: عن أشياء إن تبد أي: تظهر: لكم تسؤكم لما فيها من المشقة: وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم أي: وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة، فتطلبوا بيانها، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. هذا وجه في الآية. وعليه ف (حين) ظرف ل (تسألوا).

    وثمة وجه آخر: وهو جعل (حين) ظرفا ل (تبد)، والمعنى: وإن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن.

    قال ابن القيم: والمراد ب (حين النزول) زمنه المتصل به، لا الوقت المقارن للنزول. وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله. ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا. ثم قال: وثمة قول ثان في قوله تعالى: وإن تسألوا عنها إلخ، وهو أنه من باب التهديد والتحذير، أي: ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم [ ص: 2165 ] بيان ما سألتم عنه بما يسوءكم: والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوءكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم. انتهى.

    وقال بعضهم: إنه تعالى، بين أولا أن تلك الأشياء - التي سألوا عنها - إن أبديت لهم ساءتهم. ثم بين ثانيا أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم. فكان حاصل الكلام: إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم: إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم.

    قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: إن تبد لكم تسؤكم صفة ل (أشياء) داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها. وحيث كانت المساءة في هذه الشرطية معلقة بإبدائها، لا بالسؤال عنه، عقبت بشرطية أخرى ناطقة باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور قطعا. فقيل: وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم أي: تلك الأشياء الموجبة للمساءة بالوحي، كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين التنزيل. والمراد به: ما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه. فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد، لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل، من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته. أي: لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من تكاليف شاقة عليكم - إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه - لم تطيقوا بها، ونحو بعض أمور مستورة تكرهون بروزها.

    عفا الله عنها أي: عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم. أو: عفا الله عن بيانها لئلا يسوءكم بيانها. فالجملة في موضع جر صفة أخرى ل: أشياء . أو المعنى: عفا الله عن مسائلكم السالفة، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها. فالجملة حينئذ مستأنفة مبينة لأن نهيهم عنها لم يكن لمجرد [ ص: 2166 ] صيانتهم عن المساءة. بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها. وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى: والله غفور رحيم اعتراض تذييلي مقرر لعفوه تعالى، أي: مبالغ في مغفرة الذنوب. ولذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم بما فرط منكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [102] قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين

    قد سألها قوم من قبلكم أي: سألوا هذه المسألة، لكن لا عينها، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال. وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير: ثم أصبحوا بها كافرين أي: بسببها. حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به، ويفعلوه. وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا. والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.

    تنبيهات:

    الأول: روى البخاري في سبب نزولها في "التفسير" عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء. فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل، تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا حتى فرغ من الآية كلها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #314
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2167 الى صـ 2180
    الحلقة (314)




    وأخرج أيضا عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى [ ص: 2167 ] الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا... قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم خنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان» فنزلت هذه الآية: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

    وروى البخاري أيضا في كتاب "الفتن" عن قتادة: أن أنسا حدثهم قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة. فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر فقال: «لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم. فجعلت أنظر يمينا وشمالا، فإذا كل رجل، رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجل - كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه - فقال: يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة» . ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. نعوذ بالله من سوء الفتن.

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط. إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» .

    فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء


    وفي رواية: قال قتادة يذكر - بالبناء للمجهول - هذا الحديث... إلخ

    وروى البخاري أيضا في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" في باب ما يكره من كثرة السؤال، عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر. فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة. وذكر أن بين يديها أمورا عظاما. ثم قال: «من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، [ ص: 2168 ] فوالله! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» . قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: فقال أنس: فقام رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله! قال: النار. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟! قال: «أبوك حذافة» . قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني. فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.

    قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك.

    ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي. فلم أر كاليوم في الخير والشر»
    .

    وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعق منك. أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟

    قال عبد الله بن حذافة: والله! لو ألحقني بعبد أسود للحقته.

    وروى ابن جرير عن السدي قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام فقام خطيبا فقال: سلوني. - نحو ما تقدم - وزاد: فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: رضينا بالله ربا.. إلخ.

    وزاد: وبالقرآن إماما، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به حتى رضي.

    وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى [ ص: 2169 ] جلس على المنبر. فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: في النار. - نحو ما مر - وفيه: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا » الآية.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وبهذه الزيادة - أي: على ما في البخاري من قول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أنا؟ قال: في النار. - يتضح أن هذه القصة سبب نزول: لا تسألوا عن أشياء الآية. فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة، بخلافها في حق حذافة فإنه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه، فبين أباه الحقيقي، لافتضحت أمه، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال. انتهى.

    وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا. ولو قلت نعم لوجبت. ولو وجبت لما استطعتم. فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا الآية.

    قال الترمذي: غريب وسمعت البخاري يقول: أبو البختري لم يدرك عليا.

    وروى ابن جرير ونحوه عن أبي هريرة وأبي أمامة، وكذا عن ابن عباس، [ ص: 2170 ] قال في الآية: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإن نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل. إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.

    الثاني - قال ابن كثير: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته. فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا يبلغني أحد عن أحد شيئا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر. ورواه أبو داود والترمذي.

    الثالث: - قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين":

    لم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه. بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله. ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا. لما سأله رفيقه عن مائه: أطاهر أم لا؟

    وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له. فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله. فإنه سبحانه يكره إبداءها، ولذلك سكت عنها.

    [ ص: 2171 ] وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها. وأما المقصود أولا وبالذات - كما يفيده تتمتها - فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي.

    ويدل له، ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» .

    فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه.

    وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم. فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» ، رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.

    وعن أبي ثعلبة الخشني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها. وحد حدودا فلا تعتدوها. وحرم أشياء فلا تقربوها. وترك أشياء، من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» . رواه الدارقطني وأبو نعيم.

    وعن سلمان الفارسي: قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: [ ص: 2172 ] «الحلال ما أحل الله في كتابه. والحرام ما حرم الله في كتابه. وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا» . رواه الترمذي والحاكم وابن ماجه.

    وأخرج الشيخان عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء. وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع.

    وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها.

    [ ص: 2173 ] ولمسلم عن النواس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة. كان أحدنا، إذا هاجر، لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومراده: أنه قدم وافدا، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا، فيمتنع عليه السؤال.

    وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودا كانوا أو غيرهم.

    وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: لما نزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية. كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم. فأتينا أعرابيا فرشوناه برداء وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولأبي يعلى عن البراء: إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب - أي: قدومهم - ليسألوه، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها.

    وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، [ ص: 2174 ] ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة: كالسؤال عن الذبح بالقصب. والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة. والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن. والأسئلة التي في القرآن: كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك.

    لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق، من جهة أن كثرة السؤال، لما كانت سببا للتكليف بما يشق، فحقها أن تجتنب.

    وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل "مسنده" لذلك بابا. وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها: عن ابن عمر: لا تسألوا عما لم يكن. فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن.

    وعن عمر: أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن. فإن لنا فيما كان شغلا.

    وعن زيد بن ثابت، أنه كان إذا كان إذا سئل عن الشيء؟ يقول: كان هذا؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون.

    وعن أبي بن كعب، وعن عمار نحو ذلك.

    وأخرج أبو داود في "المراسيل": عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعا: لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد - أو وفق - وإن عجلتم تشتتت بكم السبل.

    وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا: لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد، حتى يتساءلوا عما لم ينزل.

    قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك: أن البحث عما لا يوجد فيه نص، على قسمين:

    [ ص: 2175 ] أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه. بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين.

    ثانيهما: - أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا. فهذا الذي ذمه السلف. وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: هلك المتنطعون... أخرجه مسلم، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته.

    ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى، لا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه. وأشد من ذلك - في كثرة السؤال - البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها. ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحس. كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة.. إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف. والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان من غير بحث. وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة. قال بعضهم: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن - أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق: هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز. فإن عاد فقال: أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع. ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز. وإذا تقرر ذلك، فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع [ ص: 2176 ] المسائل وتوليدها - ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة - فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كره السلف. ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل. وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم - كذا في "فتح الباري".

    ثم رأيت في "موافقات" الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، في أواخرها - في هذا الموضوع - مبحثا جليلا، قال في أوله:

    الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. من ذلك قوله تعالى... - وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضا عما نقلنا - ثم قال: والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية، مذموم. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه. وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم.. ثم قال: ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع:

    أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وروي في "التفسير" أنه عليه السلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم لا يزال ينمو [ ص: 2177 ] حتى يصير بدرا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: يسألونك عن الأهلة الآية. فإنما أجيب بما فيه منافع الدين.

    وثانيها: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت قاض بظاهره أنه للأبد، لإطلاقه. ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة

    وثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا - والله أعلم - خاص [ ص: 2178 ] بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: «ذروني ما تركتكم» . وقوله: «وسكت عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها» .

    ورابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات.

    وخامسها: أن يسأل عن علة الحكم - هو من قبيل التعبدات، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال - كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.

    وسادسها: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ولما سئل الرجل: [ ص: 2179 ] يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا.

    وسابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، ولذلك قال سعيد: أعراقي أنت؟ وقيل لمالك بن أنس: الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا. ولكن يخبر بالسنة. فإن قبلت منه وإلا سكت.

    وثامنها: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه الآية.. وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أسرع التنقل، ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهول، والسؤال عنه بدعة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #315
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2180 الى صـ 2193
    الحلقة (315)



    [ ص: 2180 ] وتاسعها: السؤال عما شجر بين السلف الصالح. وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين؟ فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطخ بها لساني.

    وعاشرها: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. وفي القرآن في ذم نحو هذا: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وقال: بل هم قوم خصمون وفي الحديث: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.

    هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها [ ص: 2181 ] واحدا، بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محل اجتهاد. وعلى جملة، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء: إن المراء في القرآن كفر. وقال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية.. وأشباه ذلك من الآي والأحاديث... فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه. انتهى كلامه.

    التنبيه الرابع:

    قال بعض المفسرين: لا بد من تقييد النهي في هذه الآية (بما لا تدعو إليه حاجة). لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا. فإنما شفاء العي السؤال...» انتهى.

    [ ص: 2182 ] ولا يخفى أن الآية بقيدها - أعني: إن تبد .. إلخ - غنية عن أن تقيد بقيد آخر كما ذكره البعض؛ لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به - كما أسلفنا - مما هو خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه. وفيه خطر المفسدة. والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه.

    وأما ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية - كما يتضح من نظمها الكريم - مع ما بينته السنة في سبب النزول، وتحرج الصحابة عن المسائل المار بيانه - معلوم أنه فيما لا ضرورة إليها. وإلا فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة، مما يبين أن هذه الآية في موضوع خاص.

    وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل، خشية أن تفضي إلى حرج أو مساءة أو تعنت.

    روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

    [ ص: 2183 ] وروى أحمد وأبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات - وهي صعاب المسائل - والآثار في ذلك كثيرة.

    ثم بين تعالى بطلان ما ابتدعه أهل الجاهلية - من تحريم بعض بهيمة الأنعام - بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [103] ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون

    ما جعل الله من بحيرة أي: ما شرع وما وضع. و (من) مزيدة لتأكيد النفي. والبحيرة (كسفينة) فعيلة بمعنى المفعول من (البحر) وهو شق الأذن. يقال: بحر الناقة والشاة، يبحرها: شق أذنها. وفي البحرة أقوال كثيرة ساقها صاحب القاموس وغيره.

    قال أبو إسحاق النحوي: أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحرة: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها (أي: شقوها) وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تمنع من ماء ترده ولا من مرعى. وإذا لقيها المعيي المنقطع به، لم يركبها.

    ولا سائبة وهي الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر أو لطواغيتهم. أي: تترك ولا تركب ولا يحمل عليها كالبحيرة. أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف. أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجت دابته من مشقة أو حرب، قال: وهي (أي: ناقتي) سائبة.

    ولا وصيلة كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن عناقين عناقين. وولدت في السابع عناقا وجديا، قالوا: وصلت أخاها. فلا يذبحون أخاها من أجلها. وأحلوا لبنها للرجال وحرموه على النساء. والعناق (كسحاب) الأنثى من أولاد المعز. [ ص: 2184 ] وقيل: الوصيلة كانت في الشاة خاصة، إذا ولدت الأنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم. وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم: ولا حام وهو الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود. فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس، وسيبوه للطواغيت. وقيل: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن. ثم هو حام حمى حمى ظهره. فيترك فلا ينتفع منه بشيء، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وحكى أبو مسلم: إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن، قالوا: حمت ظهرها.

    وقد روي في تفسير هذه الأربعة، أقوال أخر. ولا تنافي في ذلك؛ لأن أهل الجاهلية لهم في أضاليلهم تفننات غريبة.

    هذا وروى ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه مالك بن نضلة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب. فقال لي: هل لك من مال؟ فقلت: نعم. قال: من أي المال؟ قال فقلت: من كل المال: الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا أتاك الله مالا كثيرا فكثر عليك. ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال قلت: نعم. قال: وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟ قلت: نعم. قال: فلا تفعل. إن كل ما آتاك الله لك حل. ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام

    أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها. فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم يذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن. فإذا ولدت السابع جدعت وقطعت قرنها فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض.

    قال ابن كثير: هكذا ذكر تفسير ذلك مدرجا في الحديث. وقد روي من وجه آخر [ ص: 2185 ] عن أبي الأحوص من قوله، وهو أشبه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن مالك بن نضلة. وليس فيه تفسير هذه. والله أعلم.

    ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون أي: ما شرع الله هذه الأشياء، ولا هي عنده قربة. ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها، وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.

    وفي البخاري أن التبحير والتسييب وما بعدهما، كله لأجل الطواغيت. يعني أصنامهم، [ ص: 2186 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار. وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة وغير دين إسماعيل. لفظ مسلم.

    زاد ابن جرير: وحمى الحامي.

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول [ ص: 2187 ] من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار» .

    قال ابن كثير: عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل. فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاء من الناس إلى عبادتها والتقرب بها. وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها. كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآيات. انتهى.

    لطيفة:

    قال الرازي: فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد والإماء، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام؟ قلنا: الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته. فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادته تعالى، فكان ذلك قربة مستحسنة. وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع الناس. فإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها وعلى غيره. أي: وهو خلاف الحكمة التي خلقت هي لأجلها. على أن الرقيق إذا أعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه، بخلاف البهيمة. ففي تسييبها إيقاع لها في أنواع من المحنة والمشقة.

    قال المهايمي: قاسوه (يعني التبحير) على عتق الإنسان مع ظهور الفرق. لما في عتق الإنسان من تمليك التصرفات، ولا تصرف للحيوانات العجم.

    ثم قال: الأول كالعتق بلا نذر. والثاني كالعتق بالنذر. والثالث مشبه بما يشبه العتق. والرابع ملك النفس بلا تمليك. ولا معنى للتمليك في الحيوانات العجم، فهذه الأمور غير معقولة ظاهرا وباطنا، فلا يفعلها الحكيم.

    [ ص: 2188 ] تنبيه:

    قال السيوطي في "الإكليل": في الآية تحريم هذه الأمور. واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع. ومن صور السائبة: إرسال الطائر ونحوه. واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده: أنت سائبة. وقال: لا يعتق. انتهى.

    وقال بعض مفسري الزيدية: قال الحاكم: استدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية الكريمة؛ لأن الملك لا يخرج عن ملك صاحبه إلى مالك آخر. أو على وجه القربة إلى الله. كتحرير الرقاب.

    قال الحاكم: وليس بصحيح؛ لأن الوقف قربة كالعتق. ولقائل أن يقول: يستدل بالآية على نظير ذلك. وهو ما يلقى في الأنهار والطريق وقرب الأشجار، من طرح البيض والفراريج ونحو ذلك. فلا يجوز فعله، ولا يزول ملك المالك. ويحتمل أن يقول: قد رغب عنه وصيره مباحا. وأما كسر البيض على العمارة والطريق والأبواب، فالظاهر عدم الجواز؛ لأن في ذلك إضاعة مال، ولم يرد بفعله دليل. انتهى.

    ولما بين تعالى أن أكثرهم لا يعقلون أن تحريم هذه الأشياء افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق، وإنما يقلدون قدماءهم - أشار إلى عنادهم واستعصائهم حينما هدوا إلى الحق، وإلى ضلالهم ببقائهم في أسر التقليد، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [104] وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون

    وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله من الكتاب المبين للحلال والحرام: وإلى الرسول أي: الذي أنزل هو عليه، لتقفوا على حقيقة الحال، وتميزوا بين الحرام والحلال، [ ص: 2189 ] فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال: قالوا أي: لإفراط جهلهم وانهماكهم في التقليد: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أي: كافينا ذلك. و: حسبنا مبتدأ، والخبر: ما وجدنا و (ما) بمعنى الذي. والواو في قوله تعالى: أولو كان آباؤهم للحال. دخلت عليها همزة الإنكار. أي: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم: لا يعلمون شيئا أي: لا يعرفون حقا ولا يفهمونه: ولا يهتدون أي: إليه. قال الزمخشري: والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي. وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى.

    وقال الرازي: واعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي. وإنما يكون عالما مهتديا إذا بنى قوله على الحجة والدليل. فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا. فوجب أن لا يجوز الاقتداء به. انتهى.

    وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية قبح التقليد ووجوب النظر واتباع الحجة. ثم قال: وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [105] يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون

    يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم أي: الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله: لا يضركم من ضل أي: ممن قال: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو أخذ بشبهة. أو عاند في قول أو فعل: إذا اهتديتم أي: إلى الإيمان. وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالهم. فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى. لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين، [ ص: 2190 ] إذا كنتم مهتدين. كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات

    قال الزمخشري: وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم، فهو مخاطب بهذه الآية: إلى الله مرجعكم بعد الموت: جميعا فينبئكم أي: يخبركم: بما كنتم تعملون أي: في الدنيا من أعمال الهداية والضلال. فهو وعد ووعيد للفريقين. وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره.

    تنبيه:

    لا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي. وإلا فمن تركها مع القدرة عليهما، فليس بمهتد. وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه.

    قال الحاكم: ولو استدل على وجوبها بقوله تعالى: عليكم أنفسكم كان أولى. لأنه يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات. أي: كما فعل المهايمي في تفسيره حيث قال: عليكم أنفسكم . أي: الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله. والعقليات المؤيدة بها، ودعوة الإخوان إلى ذلك. بإقامة الحجج ودفع الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل. لا تقصروا في ذلك؛ إذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، بدعوتهم إلى ما أنزل وإلى الرسول وإقامة الحجج لهم، ودفع الشبه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بما أمكن من القول والفعل. ولا تقصروا في ذلك. إذ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون، من التقصير أو الإيفاء قولا وفعلا، في حق أنفسكم أو غيركم. انتهى.

    [ ص: 2191 ] ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإنه قال: عليكم أنفسكم يعني عليكم أهل دينكم. ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله: فاقتلوا أنفسكم يعني أهل دينكم. فقوله: عليكم أنفسكم يعني بأن يعظ بعضكم بعضا، ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات. والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله: عليكم أنفسكم معناه: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. فكان ذلك أمرا بأن نحفظ أنفسنا. فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك واجبا. انتهى.

    وروى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. أنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى آخر الآية. وإنكم تضعونها على غير موضعها. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس، إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه» .

    ورواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم.

    وروى الترمذي عن أبي أمية الشعباني. قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: [ ص: 2192 ] كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: أما والله! لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام. إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون مثل عملكم»

    «قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول الله! أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا، بل أجر خمسين منكم»
    .

    قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

    وكذا رواه أبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم.

    وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال: إن هذا ليس بزمانها. إنها اليوم مقبولة. ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها. تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا. أو قال: فلا يقبل منكم. فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل.

    ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا. فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس. حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه. فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك. فإن الله يقول: عليكم أنفسكم الآية. قال فسمعها ابن مسعود فقال: مه. لم يجئ تأويل هذه بعد. إن القرآن أنزل حيث أنزل. ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن. ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه آي [ ص: 2193 ] قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير. ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب، ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فأمر نفسك. وعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. أخرجه ابن جرير.

    وأخرج أيضا أنه قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب. فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب. ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا. إن قالوا لم يقبل منهم» .

    وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه. قال: لأن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خطاب عام، وهو أيضا خطاب مع الحاضرين. فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب؟ انتهى.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #316
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2194 الى صـ 2206
    الحلقة (316)



    أقول: ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، إخراج الحاضرين عن الخطاب، وأنه لم يعن بها إلا الغيب. وإنما مرادهما الرد على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك. والاسترواح لظاهرها، إلا في الزمن الذي بيناه. وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قبلا، فإن ردا في مثل ذلك الزمن فليقرأ: عليكم أنفسكم هذا مرادهما. والله أعلم.

    [ ص: 2194 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [106] يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أي: ظهرت أماراته: حين الوصية بدل من الظرف، ظرف (للموت) ولا لحضوره. فإن في الإبدال تنبيها على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها. وقوله تعالى: اثنان خبر: شهادة بتقدير مضاف. أي: شهادة بينكم حينئذ، شهادة اثنين. أو فاعل (شهادة) على أن خبرها محذوف. أي: فيما نزل عليكم، أن يشهد بينكم اثنان: ذوا عدل منكم أي: من المسلمين: أو آخران من غيركم أي: من أهل الذمة: إن أنتم ضربتم في الأرض أي: سافرتم فيها: فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما أي: توقفونهما للتحليف: من بعد الصلاة أي: صلاة العصر. كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين. وعدم تعيينها، لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها. لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. واجتماع طائفتي الملائكة، فيه تكثير للشهود منهم على صدقه وكذبه. فيكون أقوى من غيره وأخوف.

    وعن الزهري: بعد أي صلاة للمسلمين كانت. وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور، كما قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ ص: 2195 ] فالتعريف في: الصلاة إما للعهد أو للجنس فيقسمان أي: يحلفان: بالله إن ارتبتم أي: شككتم فيهما بخيانة وأخذ شيء من تركة الميت. وقوله تعالى: لا نشتري به ثمنا جواب للقسم. أي: يقولان: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله. أي: من حرمته عرضا من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب. أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال: ولو كان أي: من نقسم له ونشهد عليه، المدلول عليه بفحوى الكلام: ذا قربى أي: قريبا منا. تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذبا. ومبالغة في التنزه عنه. كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حرمة اسمه تعالى مالا. ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء. فكيف إذا لم يكن كذلك؟: ولا نكتم شهادة الله أي: الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها. وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريفا لها وتعظيما لأمرها: إنا إذا إن كتمناها: لمن الآثمين أي: المعدودين من المسترقين في الإثم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [107] فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين

    فإن عثر أي: اطلع بعد التحليف: على أنهما أي: الشاهدين الوصيين: استحقا إثما أي: فعلا ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما: فآخران يقومان مقامهما أي: فرجلان آخران يقومان مقام اللذين عثر على خيانتهما أي: في توجه [ ص: 2196 ] اليمين عليهما لإظهار الحق وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما: من الذين استحق عليهم الأوليان أي: من ورثة الميت الذي استحق من بينهم الأوليان، أي: الأقربان إلى الميت، الوارثان له، الأحقان بالشهادة، أي: اليمين. ف (الأوليان) فاعل (استحق). ومفعول (استحق) محذوف، قدره بعضهم (وصيتهما) وقدره ابن عطية (مالهم وتركتهم)، وقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة؛ لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين. وقرئ على البناء للمفعول أي: من الذين استحق عليهم الإثم. أي: جني عليهم. وهم أهل الميت وعشيرته. ف (الأوليان) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: الأوليان. أو هو بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران) وقد جوز ارتفاعه (استحق) على حذف المضاف. أي: استحق عليهم ندب الأوليين منهم للشهادة. وقرئ الأولين جمع (أول) على أنه صفة للذين، مجرور أو منصوب على المدح. ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها. وقرئ الأوليين، على التثنية. وانتصابه على المدح. أفاده أبو السعود.

    وقرئ: الأولين تثنية (أول) نصبا على ما ذكر. كما في البيضاوي.

    قال أبو البقاء: ويقرأ الأوليين وهو جمع (أولى) وإعرابه كإعراب الأولين. ويقرأ الأولان، تثنية (الأول) وإعرابه كإعراب (الأوليان): فيقسمان بالله عطف على (يقومان): لشهادتنا أحق أي: بالقبول: من شهادتهما أي: لقولنا: إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق، أحق من شهادتهما المتقدمة. لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم: وما اعتدينا أي: ما تجاوزنا الحق فيها أو فيما قلنا فيهما من الخيانة: إنا إذا أي: إن اعتدينا: لمن الظالمين أي: أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى. أو من الواضعين الحق في غير موضعه.

    ومعنى الآية الكريمة: أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين.

    [ ص: 2197 ] فإن لم يجدهما، فرجلين من أهل الكتاب. يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه. فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قبل قولهما وتركا. وإن اتهموهما، رفعوهما إلى السلطان فحلفا بعد صلاة العصر بالله، ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا، فإن اطلع الأوليان على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء، فحلفا بالله; أن شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد. فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما.

    قال الإمام ابن كثير: وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما، والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول، إذا ظهر لوث في جانب القاتل. فيقسم المستحقون على القاتل. فيدفع برمته إليهم. كما هو مقرر في "باب القسامة". وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.

    روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إلى آخرها قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام. فأتيا الشام لتجارتهما. وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل (بدال أو زاي مصغرا. وضبطه بالثانية ابن ماكولا) ابن أبي مريم بتجارة، معه جام من فضة يريد بها الملك. وهو أعظم تجارته. فمرض فأوصى إليهما. وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم. واقتسمناه أنا وعدي. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألوا عنه. فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.

    قال تميم: فلما أسلمت، بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم. وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها. فوثبوا [ ص: 2198 ] عليه فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه. فحلف فنزلت: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم - إلى قوله -: فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا. فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء.


    وهكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به، فذكره. وعنده: فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف. فأنزل الله هذه الآية. فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا. فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء.

    ثم تكلم الترمذي على إسناده. وأسند بعد ذلك هذه القصة مختصرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء. فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم. فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بذهب. فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وجد الجام بمكة. فقيل: اشتريناه من تميم وعدي. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما. وأن الجام لصاحبهم. وفيهم نزلت هذه الآية. وكذا رواه أبو داود. ثم قال الترمذي: حديث حسن غريب!

    وأقول: أخرجه البخاري أيضا في كتاب "الوصايا" تحت باب عقده لهذه الآية بخصوصها.

    [ ص: 2199 ] و (الجام) الإناء، وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوص النخل.

    قال ابن كثير: وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين. منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة. وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر. رواه ابن جرير. وكذلك ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك. وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها.

    ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين، وأبو داود بإسناد - رجاله ثقات - عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقاء، قال: فحضرته الوفاة - ولم يجد أحدا من المصلين يشهده على وصيته - فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه. وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. وقوله: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء.
    [ ص: 2200 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [108] ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين

    ثم بين وجه الحكمة والمصلحة المتقدم تفصيله بقوله:

    ذلك أي: الحكم المذكور: أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود - أو الأوصياء - الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها من غير تغيير لها، خوفا من العذاب الأخروي. ف (الوجه) بمعنى الذات والحقيقة.

    قال أبو السعود: وهذه - كما ترى - حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور!

    وقوله تعالى: أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة، معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام; كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة. أو يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، ويغرموا فيمتنعوا من ذلك.

    واتقوا الله أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب: واسمعوا أي: ما تؤمرون به سماع قبول: والله لا يهدي القوم الفاسقين أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته، أي: إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم.

    وقد استفيد من الآية أحكام:

    الأول: - لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه؛ لأنه تعالى قال: حين الوصية أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم.

    الثاني: - قال بعضهم: دل قوله تعالى: اثنان ذوا عدل منكم على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان. وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره، [ ص: 2201 ] ولا بين الحدود وغيرها، إلا شهادة الزنى. فلقوله تعالى في النور: ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، وهذا مجمع عليه.

    قال ابن القيم في "أعلام الموقعين": إنه سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه. والشارع - في جميع المواضع - يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له.

    ولا يرد حقا قد ظهر بدليله أبدا. فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه. وقد أطال في ذلك بما لا يستغنى عن مراجعته.

    الثالث: - في قوله تعالى: أو آخران من غيركم دلالة على صحة شهادة الذمي على المسلم عموما. لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع.

    قال بعض المفسرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت. وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجده الإمام عبد الله بن الحسين: أنها صحيحة ثابتة. وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ. وقال طاوس والحسن والهادي: إنه ثابت. انتهى.

    أقول: لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها.

    قال الإمام ابن القيم في "أعلام الموقعين":

    أمر تعالى في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من [ ص: 2202 ] غيرهم. وغير المؤمنين هم الكفار، الآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين. وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، ولم يجئ بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارض البتة. ولا يصح أن يكون المراد بقوله: من غيركم من غير قبيلتكم; فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: يا أيها الذين آمنوا الآية.. ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: من غيركم أيتها القبيلة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية. بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.

    وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": واستدل بالآية على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بال (غير) الكفار. وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ. منهم: ابن عباس وأبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، والأوزاعي، والثوري، وأبو عبيد، وأحمد - وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية - وقوى ذلك حديث الباب - يعني حديث ابن عباس المتقدم - فإن سياقه مطابق لظاهر الآية. وقيل: المراد بال (غير) العشيرة. والمعنى (منكم) أي: من عشيرتكم: أو آخران من غيركم أي: من غير عشيرتكم، وهو في قول الحسن واحتج له النحاس بأن لفظ (آخر) لابد أن يشارك الذي قبله في الصفة، حتى لا يسوغ أن تقول: مررت برجل كريم ولئيم آخر. فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة. فيتعين أن يكون الآخران كذلك. وتعقب بأن هذا - وإن ساغ في الآية الكريمة - لكن الحديث دل على خلاف ذلك. والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقا. وأيضا، ففي ما قال رد المختلف فيه بالمختلف فيه. لأن اتصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه. وهو فرع قبول شهادته، فمن قبلها وصفه بها، ومن لا، فلا. واعترض أبو حيان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق. فلو قلت: جاءني رجل مسلم وآخر [ ص: 2203 ] كافر، صح. بخلاف ما لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر. والآية من قبيل الأول لا الثاني؛ لأن قوله: أو آخران من جنس قوله: اثنان؛ لأن كلاهما منهما صفة (رجلان)، فكأنه قال: فرجلان اثنان ورجلان آخران. وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة. وأن ناسخها قوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق. والكافر شر من الفاسق. وأجاب الأولون: بأن النسخ لا يثبت بالاجتمال، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. حتى صح عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف، أن سورة المائدة محكمة. وعن ابن عباس: أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين، فإن اتهما استحلفا. أخرجه الطبري بإسناد رجاله ثقات.

    وأنكر أحمد على من قال: إن هذه الآية منسوخة.

    وصح عن أبي موسى الأشعري أنه عمل بذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.

    ورجح الفخر الرازي - وسبقه الطبري - لذلك. أن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خطاب للمؤمنين. فلما قال: أو آخران وضح أنه أراد غير المخاطبين. فتعين أنهما من غير المؤمنين. وأيضا: فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطا بالسفر. وأن أبي موسى حكم بذلك فلم ينكره أحد من الصحابة. فكان حجة. انتهى كلام الحافظ.

    وفي "فتح البيان": الحق أن الآية محكمة لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ. وأما قوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء وقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال. وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين. ولا تعارض بين خاص وعام. انتهى.

    وقد أطنب الرازي في "تفسيره" في الاحتجاج على عدم نسخها بوجوه عديدة، وجود الكلام - في أن المراد من: غيركم أي: من غير ملتكم - تجويدا فائقا.

    [ ص: 2204 ] الرابع: قال الحافظ ابن حجر في "الفتح":

    ذهب الكرابيسي ثم الطبري وآخرون إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين. قال: وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان. وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول: أشهد بالله. وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق. قالوا: فالمراد بالشهادة اليمين لقوله: فيقسمان بالله أي: يحلفان. فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء. وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة، بخلاف الشهادة. وقد اشترطا في هذه القصة، فقوي حملها على أنها شهادة. وأما اعتلال من اعتل في ردها بأنها تخالف القياس والأصول - لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين - فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره. وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع، كما في الطب. وليس المراد بالحبس السجن. وإنما المراد: الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة. وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة. وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين، فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين. فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا، كما يشرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه. وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم، وظهوره في صحة الدعوى بالمال؟ وحكى الطبري: أن بعضهم قال: المراد بقوله: اثنان ذوا عدل منكم الوصيان. قال: والمراد بقوله: شهادة بينكم معنى الحضور لما يوصيهما به الموصي. ثم زيف ذلك. انتهى كلام "الفتح".

    ولا يخفاك أن الآية بنفسها - مع ما ورد في نزولها - غنية عن تكلف إدخالها تحت القياس والقواعد والتمحل لتأويلها.

    [ ص: 2205 ] الخامس: في قوله تعالى: من بعد الصلاة دلالة على تغليظ اليمين.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" وبعض المفسرين:

    ذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ بالزمان والمكان. فأما في الزمان فبعد العصر. وأما في المكان: ففي المدينة عند المنبر، وبمكة بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وبغيرهما بالمسجد الجامع. واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير، لا في القليل. انتهى.

    وذهب الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا بمكان. وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، ولم يفصل. قالوا: وقوله تعالى في هذه الآية: من بعد الصلاة يحتمل أن ذكره لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت.

    قال بعض الزيدية: وهل التغليظ في المكان والزمان على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة: المختار، التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان. وذلك مروي عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعي. قال: والمختار أنه مستحب غير واجب. انتهى.

    وفي كتاب "الشهادات" من "صحيح البخاري" بابان في هذه المسألة. فليراجع مع شروحه.

    السادس: قال ابن أبي الفرس: في قوله تعالى: فيقسمان بالله دليل على أن (أقسم بالله يمين) لا (أقسم) فقط.

    السابع: في قوله تعالى: ولا نكتم شهادة الله الآية. دليل على تحريم كتمان الشهادة. وذلك لا إشكال فيه. الثامن: قال السيوطي: تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة [ يعني على قراءة الأوليان ] لخصوص الواقعة التي نزلت لها. ثم ساق رواية البخاري السابقة. أي: وللإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة أيضا وإن كان فيهم كثرة.

    [ ص: 2206 ] غريبة:

    قال مكي في كتابه المسمى ب "الكشف":

    هذه الآيات الثلاث - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما وتفسيرا. ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها.

    قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر. وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد.

    قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الناتج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى - يعني من كتاب مكي -.

    قال القرطبي: ما ذكره مكي، ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا.

    قال السعد في "حاشيته على الكشاف": واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما.. انتهى.

    أقول: هذه الآية الكريمة غنية بنفسها - مع ما ورد في سبب نزولها، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها - عن التشكيك فيها، والتكلف لإدخالها تحت القواعد، والتمحل لتأويلها. فخذ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #317
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2207 الى صـ 2226
    الحلقة (317)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [109] يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب

    يوم منصوب ب (اذكروا) أو (احذروا): يجمع الله الرسل وذلك يوم القيامة، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم. كيف لا؟ وذلك [ ص: 2207 ] يوم مجموع له الناس، بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم. بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم: فيقول أي: للرسل: ماذا أجبتم أي: ما الذي أجابكم من أرسلتم إليهم؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهد الرسالة. إذ لم يقل: هل بلغتم رسالاتي؟ وفي توجيه السؤال إليهم. والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم بأن يقال: ماذا أجابوا - من الإنباء عن شدة الغضب الإلهي ما لا يخفى. وفي "الصحيح" في حديث الشفاعة: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.

    قالوا من هيبته تعالى، وتفويضا للأمر إلى علم سلطانه وتأدبا بليغا في ذاك الموقف الجلالي: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب أي: ومن علم الخفيات، لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم.

    تنبيهات:

    الأول: قال الرازي: اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع. فلا جرم، لما ذكر - فيما تقدم - أنواعا كثيرة من الشرائع، أتبعها بوصف أحوال القيامة.

    الثاني: قال الزمخشري فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم. كما كان [ ص: 2208 ] سؤال الموءودة توبيخا للوائد. فإن قلت: كيف يقولون: لا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه، وإحاطته بما منوا به منهم، وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأفت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم. إذا اجتمع توبيخ الله وتشكي أنبيائه عليهم. ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان، خاصة من خواصه نكبة، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل لك هذا الخارجي؟ [ وهو عالم بما فعل به ] يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لما حل به منه. انتهى.

    واستظهر الرازي أن نفي العلم لهم على حقيقته عملا بما تقرر من أن العلم غير الظن. قال: لأن الحاصل من حال الغير عن كل أحد إنما هو الظن لا العلم. وفي الحديث: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» ، فالأنبياء قالوا: لا علم لنا البتة بأحوالهم. إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن. والظن كان معتبرا في الدنيا. وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن. لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا: لا علم لنا. ولم يذكروا ما معهم من الظن؛ لأن الظن لا عبرة به في القيامة. والله أعلم.

    الثالث: دلت الآية على جواز إطلاق لفظ العلام عليه. كما جاز إطلاق لفظ الخلاق [ ص: 2209 ] عليه. وأما العلامة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقه في حقه. ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث. أفاده الرازي.

    على أن المختار أن أسماءه تعالى توقيفية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [110] إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين

    إذ قال الله يا عيسى ابن مريم شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين، من المفاوضة، على التفصيل. إثر ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال، لكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين. وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان، تفصيلا بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام، مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل - لما أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذي نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم. فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم. أفاده أبو السعود.

    اذكر نعمتي عليك أي: منتي عليك: وعلى والدتك بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين: إذ أيدتك أي: قويتك: بروح القدس أي: بجبريل عليه السلام [ ص: 2210 ] لتثبيت الحجة. أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية. بحيث يعلم أنه ليس بواسطة البشر، فيشهد ببراءتك وبراءة أمك. ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة؛ لذلك: تكلم الناس في المهد وكهلا أي: في أضعف الأحوال وأقواها. بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة. الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد.

    قال ابن كثير: أي: جعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. فأنطقتك في المهد صغيرا. فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لي بالعبودية. وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي. لهذا قال: تكلم الناس في المهد وكهلا أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن: تكلم تدعو؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب. انتهى.

    وإذ علمتك الكتاب أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب: والحكمة أي: الفهم وباطن العلم الذي لا يكتب. بل يخص به أهله: والتوراة وهي المنزلة على موسى الكليم عليه السلام: والإنجيل وهو الذي أنزله عليه صلى الله عليه وسلم: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير أي: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير: بإذني أي: لك في ذلك: فتنفخ فيها أي: في تلك الهيئة المصورة: فتكون أي: فتصير تلك الهيئة: طيرا لحصول الروح من نفختك فيها: بإذني وتبرئ الأكمه أي: الذي يولد أعمى مطموس البصر: والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى أي: من القبور أحياء: بإذني فهذا مما فعل به من جر المنافع. ثم أشار إلى ما دفع عنه من الضار، فقال سبحانه: وإذ كففت بني إسرائيل عنك أي: منعت اليهود الذين أرادوا بك السوء وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم ورفعتك إلي وطهرتك من دنسهم: إذ جئتهم بالبينات أي: المعجزات التي توجب انقيادهم لك لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر: فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر.

    [ ص: 2211 ] لطيفة:

    إن قيل: إن السياق في تعديد نعمه تعالى على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه: إن هذا إلا سحر مبين، ليس من النعم بحسب الظاهر. فما السر في ذكره؟ فالجواب: إن من الأمثال المشهورة: إن كل ذي نعمة محسود. فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة. فحسن ذكره عند تعديد النعم، للوجه الذي ذكرناه. أفاده الرازي.

    ولما بين تعالى النعم اللازمة، تأثرها بنعمه عليه المتعدية، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [111] وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

    وإذ أوحيت إلى الحواريين أي: بطريق الإلهام والإلقاء في القلب: أن آمنوا بي وبرسولي أي: عن دعوته: قالوا آمنا وأكدوا إيمانهم بقولهم: واشهد أي: لتؤديها عند ربك: بأننا مسلمون أي: منقادون لكل ما تدعونا إليه.

    وههنا لطائف:

    الأولى: - إنما قدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب. والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر. يعني آمنا بقلوبنا وانقدنا بظواهرنا.

    الثانية: - إنما ذكر تعالى هذا في معرض تعديد النعم؛ لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس. محبوبا في قلوبهم. من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان. كذا قاله الرازي.

    قال المهايمي: ليحصل له رتبة التكميل وثواب رشدهم.

    الثالثة: قال الرازي: إن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية: اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك [ ص: 2212 ] ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه تعلق بشيء منها. قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية، فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم، ولذلك قال تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آية فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر. انتهى.

    وقال بعضهم: قيل: أريد بالذكر في قوله تعالى: اذكر نعمتي الشكر. ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة. وأن النعمة على الأم نعمة على الولد. والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [112] إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين

    إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته، ليستقل بإنزال المائدة: هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال: سورة المائدة. وههنا قراءتان: الأولى: يستطيع ربك بالياء على أنه فعل وفاعل و: أن ينزل المفعول. والثانية - بالتاء و: "ربك" نصب؛ أي: سؤال ربك. فحذف المضاف. والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ وهي قراءة علي وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم. وسعيد بن جبير والكسائي. في آخرين.

    قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز. إذ لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: [ ص: 2213 ] هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، مبالغة في التقاضي. وإنما قصد بقوله: [ هل تستطيع ] هل يسهل عليك، وهل يخف أن تقوم معي؟ فكذلك معنى الآية؛ لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته. وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل مزيد الطمأنينة. كما قال إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب. ولهذا السبب قالوا: وتطمئن قلوبنا وحاصله أن: هل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه، تعبيرا عنه بلازمه. أو عن المسبب بسببه. وقيل المعنى: هل يطيع ربك؟ أي: هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ (فيستطيع) بمعنى (يطيع) وهما بمعنى واحد. والسين زائدة. كاستجاب وأجاب واستجب وأجب و (يطيع) بمعنى (يجيب) مجازا، لأن المجيب مطيع.

    وذكر أبو شامة «أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض. فقال له: يا ابن أخي! ادع ربك أن يعافيني. فقال: اللهم اشف عمي. فقام كأنما نشط من عقال. فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك. فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي: يجيبك لمقصودك» .

    وحسنه في الحديث المشاكلة، فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى.

    قال الخازن: وقال بعضهم: هو على ظاهره. وقال: غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم. وكانوا بشرا، فقالوا هذه المقالة. فرد عليهم غلطهم بقوله: قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين يعني اتقوا الله أن تشكوا في قدرته.

    والقول الأول أصح. انتهى.

    [ ص: 2214 ] وعليه فمعنى: اتقوا الله من أمثال هذا السؤال، وأن توقفوا إيمانكم على رؤية المائدة: إن كنتم به وبرسالتي: مؤمنين فإن الإيمان مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات.

    لطيفة:

    في المائدة قولان: الأول - أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل. كما في "اللسان" وهذا القول جزم به الأخفش وأبو حاتم. أي: وإن لم يكن معه خوان. كما في "التقريب" و"اللسان" وصرح به ابن سيده في "المحكم".

    قال الفاسي: والآية صريحة فيه، قاله أرباب التفسير والغريب.

    والثاني: أنها الخوان عليه الطعام. قال الفارسي: لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان، وصرح به فقهاء اللغة. وجزم به الثعالبي وابن فارس. واقتصر عليه الحريري في "درة الغواص" وزعم أن غيره من أوهام الخواص. وذكر الفاسي في "شرحها" أنه يجوز إطلاق المائدة على الخوان مجردا عن الطعام. باعتبار أنه وضع أو سيوضع. وقال ابن ظفر: ثبت لها اسم المائدة بعد إزالة الطعام. كما قيل: (لقحة) بعد الولادة. وقال أبو عبيد: المائدة في المعنى مفعولة، ولفظها فاعلة. وهي مثل عيشة راضية. وقيل: من (ماد) إذا أعطى. يقال: ماد زيد عمرا، إذا أعطاه. وقال أبو إسحاق: الأصل عندي في مائدة أنها فاعلة. من (ماد يميد) إذا تحرك. فكأنها تميد بما عليها. أي: تتحرك. وقال أبو عبيدة: سميت مائدة لأنها ميد بها صاحبها. أي: أعطيها وتفضل عليه بها. وفي "العناية": فكأنها تعطي من حولها مما حضر عليها. وفي "المصباح": لأن المالك [ ص: 2215 ] مادها للناس. أي: أعطاهم إياها. ومثله في كتاب "الأبنية لابن القطاع": ويقال في المائدة ميدة. قاله الجرمي وأنشد:


    وميدة كثيرة الألوان تصنع للإخوان والجيران


    كذا في "القاموس وشرحه" والخوان بضم الخاء وكسرها ما يؤكل عليه الطعام كما في "القاموس". معرب كما في "الصحاح" و "العين". وقيل: إنه عربي مأخوذ من (تخونه) أي: نقص حقه؛ لأنه يؤكل عليه فينقص. كذا في "العناية".
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [113] قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين

    قالوا نريد أن نأكل منها أي: آمنا. لكنا نريد الأكل منها من غير مشقة تشغلنا عن عبادة الله تعالى: وتطمئن قلوبنا أي: فلا تعتريها شبهة لا يؤمن من ورودها، لولا مثل هذه الآية. فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي مما يوجب قوة اليقين: ونعلم أن قد صدقتنا أي: في دعوى النبوة، وفيما تعدنا من نعيم الجنة، مع أنها سماوية: ونكون عليها من الشاهدين أي: فنشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا. ويؤمن بسببها كفارهم. أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.

    ثم لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك. لا يقلعون عنه، أزمع على استدعائها واستنزالها. [ ص: 2216 ] روى ابن أبي حاتم، أنه توضأ واغتسل ودخل مصلاه، فصلى ما شاء الله. فلما قضى صلاته قام مستقبل القبلة. وصف قدميه، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ برأسه، خشوعا. ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه، وتقطر من أطراف لحيته، حتى ابتلت الأرض حيال وجهه، من خشوعه. فعند ذلك دعا الله تعالى فقال: اللهم ربنا. كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [114] قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين

    قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أي: يا الله المطلوب لكل مهم، الجامع للكمالات، الذي ربانا بها. ناداه سبحانه وتعالى مرتين بوصف الألوهية والربوبية، إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء: أنـزل علينا مائدة من السماء أي: التي فيها ما تعدنا من نعيم الجنة: تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا أي: يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونسر به، نحن الذين يدركونها. ومن بعدنا الذين يسمعونها فيتقوون في دينهم. و (العيد) العائد. مشتق من (العود) لعوده في كل عام بالفرح والسرور. وكل ما عاد عليك في وقت فهو عيد، قال الأعشى:


    فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها


    كذا في "العناية".

    وفي "القاموس" (العيد) بالكسر، ما اعتادك من هم أو مرض أو حزن أو نحوه. [ ص: 2217 ] وكل يوم فيه جمع: وآية منك أي: على كمال قدرتك وصدق وعدك وتصديقك إياي: وارزقنا أي: أعطنا ما سألناك: وأنت خير الرازقين أي: خير من يرزق؛ لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [115] قال الله إني منـزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

    قال الله إني منـزلها عليكم إجابة لدعوتكم: فمن يكفر أي: بي وبرسولي: بعد أي: بعد تنزيلها، المفيد للعلم الضروري بي وبرسولي: منكم أيها المنعمون بها: فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين أي: من عالمي زمانهم. أو من العالمين جميعا.

    روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: فمن يكفر بعد منكم إلخ قالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل.

    روى منصور بن زادان عن الحسن أيضا أنه قال في المائدة: أنها لم تنزل.

    وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء. أي: مثل ضربه الله لخلقه. نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه.

    قال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن. وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى. وليس هو في كتابهم. ولو كانت قد نزلت لكان ذلك [ ص: 2218 ] مما يتوفر الدواعي على نقله. وكان يكون موجودا في كتبهم متواترا، ولا أقل من الآحاد. والله أعلم.

    ثم قال: ولكن الجمهور أنها نزلت. وهو الذي اختاره ابن جرير. قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى: إني منـزلها عليكم ووعد الله ووعيده حق وصدق.

    وهذا القول هو -والله أعلم- الصواب. كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #318
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2207 الى صـ 2226
    الحلقة (318)






    ومن الآثار ما أخرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد. فخانوا وادخروا ورفعوا لغد. فمسخوا قردة وخنازير. قال الترمذي: وقد روي عن عمار، من طريق، موقوفا وهو أصح.

    وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس، أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء. قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها. عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة. فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.

    وقد ساق ابن كثير آثارا في نزولها لا تخلو عن غربة ونكارة في سياقها، كما لا يخفى.

    روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم: قال: فدعاه، فأتاه جبريل [ ص: 2219 ] فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال: بل باب التوبة والرحمة» .

    ورواه الحاكم في مستدركه وابن مردويه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [116] وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب

    وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل: ماذا أجبتم توبيخ من تمرد من أممهم. وأشد الأمم افتقارا إلى التوبيخ والملامة النصارى. الذي يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء. وطعن هؤلاء الملحدة تعدى إلى جلال الله وكبريائه، حيث وصفوه بما لا يليق أن يوصف مقامه به، وهو اتخاذ الزوجة والولد. فلا جرم ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة. إشعارا بعبوديته؛ فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه، تدل على أنه عبد وليس بإله، ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره، عليه السلام، على رؤوس الأشهاد، بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل. إكذابا لهم في افترائهم عليه، وتثبيتا للحجة على قومه; فهذا سر سؤاله تعالى له، مع علمه بأنه لم يقل ذلك. وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثرهم، على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم.

    [ ص: 2220 ] تنبيهات:

    الأول: روي عن قتادة: أن هذا القول يكون يوم القيامة لقوله تعالى: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا وصوبه ابن جرير، قال: وكان ذلك حين رفعه إلى السماء. واحتج ابن جرير على ذلك بوجهين: أحدهما: أن الكلام بلفظ المضي.

    والثاني قوله: إن تعذبهم وإن تغفر لهم .

    قال الحافظ ابن كثير: وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية.: التبرؤ منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله تعالى. وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه. كما في نظائر ذلك من الآيات. فالذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر. فالله أعلم أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد، وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز، -وكان ثقة- قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه، أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة دعي الأنبياء وأممهم. ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها فيقول: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك الآية. ثم يقول: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك! قال: فيطول شعر عيسى عليه السلام. فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار!

    قال ابن كثير: وهذا حديث غريب عزيز!

    [ ص: 2221 ] الثاني: إيثار قوله تعالى: أمي على: مريم توبيخ للمتخذين، على توبيخ، أي: مع أنك بشر تلد وتولد قبل هذا.

    الثالث: توهم بعضهم أن كلمة (من دون الله) تفيد أن النصارى يعتقدون أن عيسى وأمه، عليهما السلام. مستقلان باستحقاق العبادة، بدلا عن الله تعالى. كما يقال: اتخذت فلانا صديقا دوني. فإن معناه أنه استبدله به. لا أنه جعله صديقا معه. وهم لم يقولوا بذلك. بل ثلثوا. فأجاب: بأن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى؛ لأنه وحده لا شريك له، منزه عن ذلك. فإقراره بالله كلا إقرار. فيكون: من دون الله مجازا عن (مع الله). ولا يخفى أن هذا تكلف؛ لأن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا لا بما يلزمه بضرب من التأويل. فالصواب أن المراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه. كما في قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا وقوله عز وجل: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله - إلى قوله تعالى -: سبحانه وتعالى عما يشركون إذ به يتأتى التوبيخ، ويتسنى التقريع والتبكيت. هذا ما حققوه هنا.

    وأقول: إن كلمة (دون) في هذه الآية وأمثالها بمعنى (غير) كما حققه اللغويون. ولا تفيد [ ص: 2222 ] وضعا، الاستقلال والبدلية، كما توهم، وسر ذكرها إفهام الشركة؛ لأنه لولاها لتوهم دعوى انحصار الألوهية فيما عداه. مع أنهم لا يعتقدون ذلك. ولا يفهم من نحو [ اتخذت صديقا من دوني ] الاستبدال. فذاك من قرينة خارجية. وإلا فالمثال لا يعنيه. لجواز إرادة اتخاذه معه كما لا يخفى. فتبصر.

    قال سبحانك أي: أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يقال هذا وينطق به: ما يكون لي أي: ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق: أن أقول أي: في حق نفسي: ما ليس لي بحق أي: ما استقر في قلوب العقلاء عدم استحقاقي له مما يضلهم: إن كنت قلته فقد علمته استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام، بالطريق البرهاني. فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعا. فحيث انتفى علمه تعالى به، انتفى صدوره عنه حتما. ضرورة أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم. قاله أبو السعود.

    تعلم ما في نفسي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله. كأنه قيل: لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي. فكيف بما أعلنه؟ وقوله تعالى: ولا أعلم ما في نفسك بيان للواقع، وإظهار لقصوره. أي: ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. أفاده أبو السعود: إنك أنت علام الغيوب
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [117] ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

    ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أي: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به. وإنما قيل: ما قلت لهم نزولا على قضية حسن الأدب، ومراعاة لما ورد في الاستفهام. وقوله تعالى: أن اعبدوا الله ربي وربكم تفسير للمأمور به: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم [ ص: 2223 ] أي: رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي: فلما توفيتني أي: بالرفع إلى السماء. كما في قوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي والتوفي: أخذ الشيء وافيا. والموت نوع منه. قال تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وسبق في قوله تعالى: يا عيسى إني متوفيك في زيادة إيضاح على ما هنا. فتذكر.

    كنت أنت الرقيب عليهم أي: الناظر لأعمالهم. فمنعت من أردت عصمته من التفوه بذلك. وخذلت من خذلت من الضالين، فقالوا ما قالوا: وأنت على كل شيء شهيد اعتراض تذييلي مقرر لما قبله. وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل، حين كونه عليه السلام فيما بينهم.

    تنبيه:

    دلت الآية على أن الأنبياء، بعد استيفاء أجلهم الدنيوي، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم. وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا. ثم قال: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين إلى آخر الآية، ثم قال: [ ص: 2224 ] ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيام إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [118] إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

    إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الحافظ ابن كثير: هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل. فإنه الفعال لما يشاء: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله. وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. انتهى.

    أي: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك. ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح؛ لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب. الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم. فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد. فلا امتناع فيه لذاته، ليمتنع الترديد والتعليق ب (إن). أفاده البيضاوي.

    يعني أن المغفرة، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود، لكنها لما كانت بحسب العقل، تحتمل الوقوع والوقوع، استعمل فيها كلمة (إن) فسقط ما يتوهم أن تعذيبهم، مع أنه قطعي الوجود، كيف استعمل فيه (إن) وعدم وقوع العفو بحكم النص والاجتماع.

    [ ص: 2225 ] وفي كتب الكلام: إن غفران الشرك جائز عقلا عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة؛ لأن العقاب حق الله على المذنب، وليس في إسقاطه مضرة.

    وبالجملة: فليس قوله تعالى: إن تغفر لهم تعريضا بسؤاله العفو عنهم. وإنما هو لإظهار قدرته على ما يريد، وعلى مقتضى حكمه وحكمته. ولذا قال: إنك أنت العزيز الحكيم، تنبيها على أنه لا امتناع لأحد عن عزته، فلا اعتراض في حكمه وحكمته.

    قال الرازي: قال قوم: لو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم. فلما قال: فإنك أنت العزيز الحكيم، دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه.

    وفي "العناية" ما ملخصه: أن ما ظنه بعضهم من أن مقتضى الظاهر: الغفور الرحيم بدل: العزيز الحكيم كما وقع في مصحف عبد الله بن مسعود - فقد غاب عنه سر المقام؛ لأنه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط، لكونه جوابه. وليس كما توهم. بل هو متعلق بهما. ومن له الفعل والترك عزيز حكيم. فهذا أنسب وأدق وأليق بالمقام، أو هو متعلق بالثاني، وإنه احترس؛ لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز ينافي القدرة، أو لإهمال ينافي الحكمة. فبين أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة والحكمة البالغة.

    تنبيه:

    قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب. وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها.

    روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فلما أصبح قلت: يا رسول! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت. تركع [ ص: 2226 ] بها وتسجد بها؟ قال: «إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي; فأعطانيها. وهي نائلة، إن شاء الله، لمن لا يشرك بالله شيئا» . وأخرجه النسائي أيضا.

    وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء. فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون. فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله. فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى. فجئت فقمت خلفه فأومأ إلي بيمينه، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي. وخلفه، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله. فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو. وقام بآية من القرآن يرددها، حتى صلى الغداة. فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود: لا أسأله عن شيء حتى يحدث إلي، فقلت: بأبي وأمي! قمت بآية من القرآن ومعك القرآن. لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه. قال: دعوت لأمتي. قلت: فماذا أجبت؟ أو ماذا رد عليك؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة، تركوا الصلاة. قلت: أفلا أبشر الناس، قال: بلى. فانطلقت معنقا قريبا من قذفة بحجر. فقال عمر: يا رسول الله؟ إنك إن تبعث بهذا نكلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع. فرجع.

    وتلك الآية: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم


    وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص; أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني

    وقول عيسى: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . [ ص: 2227 ] فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي. وبكى. فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم. فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.


    ثم ختم تعالى حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل، عليهم الصلاة والسلام، مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [119] قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم

    قال الله هذا أي: يوم القيامة: يوم ينفع الصادقين صدقهم لأنه يوم الجزاء. والمراد ب (الصادقين) المستمرون على الصدق في الأمور الدينية، التي معظمها التوحيد، الذي الآية في صدده. وفيه شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله، جوابا عن قوله: أأنت قلت للناس الآية.

    وقوله تعالى: لهم جنات تفسير للنفع المذكور. ولذا لم يعطف عليه، أي: لهم بساتين من غرس صدقهم: تجري من تحتها أي: من تحت شجرها وسررها: الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل: خالدين فيها مقيمين لا يموتون ولا يخرجون: أبدا رضي الله عنهم لصدقهم: ورضوا عنه تحقيقا لصدقهم. فلم يسخطوا لقضائه في الدنيا: ذلك أي: الخلود والرضوان: الفوز العظيم أي: الكبير الذي لا أعظم منه. كما قال تعالى: لمثل هذا فليعمل العاملون وكما قال تعالى: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
    وقوله تعالى:

    [ ص: 2228 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [120] لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير

    لله ملك السماوات والأرض وما فيهن تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في المسيح وأمه. وذلك من تقديم الظرف؛ لأنه المالك لا غيره. فلا شريك له وهو على كل شيء قدير أي: مبالغ في القدرة. فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته ومشيئته. فلا نظير له ولا وزير. لا إله غيره ولا رب سواه.

    رواه ابن وهب عن عبد الله بن عمرو، قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة. أخرجه الترمذي والحاكم. وأخرجا أيضا عن عائشة قالت: آخر سورة نزلت المائدة والفتح - كذا في "الإتقان" -.

    كمل ما قدره تعالى على عبيده من محاسن تأويل هذه السورة الشريفة

    بعد عصر يوم الجمعة في 19 رمضان عام 1320

    في السدة اليمنى العليا من جامع السنانية.

    والحمد لله رب العالمين.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #319
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2227 الى صـ 2243
    الحلقة (319)



    سُورَةُ الْأَنْعَامِ


    [ ص: 2230 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 6- سُورَةُ الْأَنْعَامِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ آيَةً.

    رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ.

    رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، نَزَلَتْ لَيْلًا وَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ، غَيْرَ سِتِّ آيَاتٍ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَدَنِيَّاتٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ إِلَى آخِرِ الثَّلَاثِ آيَاتٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ ص: 2231 ] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ.

    وَذَكَرٌ مُقَاتِلٌ نَحْوَ هَذَا وَزَادَ آيَتَيْنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ الْآيَةَ.

    وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ، قَوْلُهُ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ الْآيَةَ.

    [ ص: 2232 ] قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ): فِي بَعْضِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ آيَاتٌ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَأُلْحِقَتْ بِهَا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، مِنْهُ آيَاتٌ مُسْتَثْنَاةٌ. قَالَا: إِلَّا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَمَدَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّقْلِ. ثُمَّ نَاقَشَ هَذِهِ الْآيَاتِ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ، خُصُوصًا مَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً.

    وَرَدَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّهُ صَحَّ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِاسْتِثْنَاءِ: قُلْ تَعَالَوْا الْآيَاتُ الثَّلَاثُ، وَالْبَوَاقِي: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا نَزَلَتَا فِي مُسَيْلِمَةَ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ

    وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: نَزَلَتِ الْأَنْعَامُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ - كَذَا فِي (اللُّبَابِ) وَ (الْإِتْقَانِ). وَمِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا، جُمْلَةً وَاحِدَةً، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يَجْأَرُونَ بِالتَّسْبِيحِ.

    [ ص: 2233 ] وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا.

    رَوَى الْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ. . ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

    وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبُ الْمَلَائِكَةِ سَدَّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ، وَالْأَرْضُ بِهِمْ تَرْتَجُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ!

    وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ.

    قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْأُصُولِيُّون َ: هَذِهِ السُّورَةُ اخْتُصَّتْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَضِيلَةِ:

    أَحَدُهُمَا: - أَنَّهَا نَزَّلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً.

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَيَّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالْعَدْلِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَعَادِ، وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُلْحِدِين َ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَأَيْضًا فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ، قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْرَ حَاجَتِهِمْ، وَبِحَسْبِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ. وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، لَا عَلَى التَّرَاخِي.

    وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي (مُسْنَدِهِ) عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْأَنْعَامُ مِنْ نَوَاجِبِ الْقُرْآنِ.

    وَفِي الْقَامُوسِ: نَجَائِبُ الْقُرْآنِ: أَفْضَلُهُ وَمَحْضُهُ. وَنَوَاجِبُهُ لُبَابُهُ. انْتَهَى.

    وَسُمِّيَتْ بِ (سُورَةِ الْأَنْعَامِ)، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِهَا، وَجَهَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، وَفِي التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى أَصْنَامِهِمْ - مَذْكُورَةٌ فِيهَا.

    [ ص: 2234 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

    [1] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

    الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ، بِمَا حَمِدَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ خَلْقُهُ، أَوْ حَمِدَ بِهِ الْخَلْقُ رَبَّهُمْ، أَوْ بَعْضُهُمْ، مَخْصُوصٌ بِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، الْوَاجِبَةِ لِاسْتِحْقَاقِه ِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ خَصَّهَمَا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ ، فِيمَا يَرَى الْعِبَادُ، وَفِيهِمَا الْعِبَرُ وَالْمَنَافِعُ؛ لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ بِأَوْضَاعِهَا وَحَرَكَاتِهَا أَسْبَابُ الْكَائِنَاتِ وَالْفَاسِدَاتِ الَّتِي هِيَ مَظَاهِرُ الْكَمَالَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْأَرْضُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى قَوَابِلِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ الَّتِي هِيَ الْمُسَبِّبَاتُ .

    وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ أَيْ: أَوْجَدَهُمَا مَنْفَعَةً لِعِبَادِهِ، فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ.

    وَهَهُنَا لَطَائِفُ:

    الْأُولَى: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجِسَامِ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْحَمْدِ وَالْعِبَادَةِ، دُونَ مَا سِوَاهُ.

    الثَّانِيَةُ: لَفْظُ (جَعَلَ) يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ، كَمَا هُنَا; وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى (صَيَّرَ) كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ (الْخَلْقِ) وَ (الْجَعْلِ) أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي (الْجَعْلِ) مَعْنَى التَّضْمِينِ، كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَمِنْ ذَلِكَ: [ ص: 2235 ] وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا حَسُنَ لَفْظُ (الْجَعْلِ) هَهُنَا؛ لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا، صَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ - قَالَهُ الرَّازِيُّ - وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ ُ. قَالَ النَّاصِرُ فِي الِانْتِصَافِ": وَقَدْ وَرَدَتْ: جَعَلَ وَ: خَلَقَ مَوْرِدًا وَاحِدًا. فَوَرَدَ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا . وَوَرَدَ: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا . وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي التَّرَادُفِ. إِلَّا أَنَّ لِلْخَاطِرِ مَيْلًا إِلَى الْفَرْقِ الَّذِي أَبْدَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ: جَعَلَ لَمْ يَصْحَبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِمَّا لَزِمَتْهُمَا: خَلَقَ . وَفِي إِضَافَةِ (الْخَلْقِ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَ (الْجَعْلِ) إِلَى الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، مِصْدَاقٌ لِلْمَيْزِ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ: لِمَ جُمِعَتِ السَّمَاوَاتُ دُونَ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّهَا مِثْلُهُنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [ ص: 2236 ] وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وَفِي الْحَدِيثِ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ أَرْضٌ. هَلْ تَدْرُونَ مَا تَحْتَهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَرْضٌ أُخْرَى، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرْضِينَ، بَيْنَ كُلِّ أَرْضِينَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ». - أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

    [ ص: 2237 ] فَالْجَوَابُ: لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ طَبَقَاتٌ مُتَفَاضِلَةٌ بِالذَّاتِ، مُخْتَلِفَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ الْأَرْضِينَ، كَمَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ .

    وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ السَّمَاءَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْفَاعِلِ. وَالْأَرْضَ مَجْرَى الْقَابِلِ. فَلَوْ كَانَتِ السَّمَاءُ وَاحِدَةً لَتَشَابَهَ الْأَثَرُ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ. أَمَّا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً اخْتَلَفَتِ الِاتِّصَالَاتُ الْكَوْكَبِيَّة ُ، فَحَصَلَ بِسَبَبِهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَسَائِرُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَحَصَلَ بِسَبَبِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَات ِ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ. أَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِلْأَثَرِ، وَالْقَابِلُ الْوَاحِدُ كَافٍ فِي الْقَبُولِ. انْتَهَى.

    وَقَدَّمَ السَّمَاوَاتِ لِشَرَفِهَا وَعُلُوِّ مَكَانِهَا.

    الرَّابِعَةُ: الظَّاهِرُ فِي (الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ) أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ بِحِسِّ الْبَصَرِ. وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. وَالْأَصْلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَلِأَنَّ (الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) إِذَا قُرِنَا بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُمَا إِلَّا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ عَنَى بِهِمَا الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ.

    وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ الْأَوَّلَ لِمَا ذُكِرَ.

    وَوَجَّهَ بَعْضُهُمُ الثَّانِيَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَقَدْ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ طَرِيقَ الضَّلَالِ، وَطَرِيقَ الْهُدَى، بِإِنْزَالِ الشَّرَائِعِ وَالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَنَاسَبَ الْمَقَامَ (ثُمَّ) الِاسْتِبْعَادِ يَّةُ إِذْ يَبْعُدُ مِنَ الْعَاقِلِ النَّاظِرِ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ، اخْتِيَارُ الْبَاطِلِ. انْتَهَى.

    وَعَلَيْهِ فَجَمْعُ (الظُّلُمَاتِ) وَتَوْحِيدُ (النُّورِ) ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْهُدَى وَاحِدٌ، وَالضَّلَالَ مُتَعَدِّدٌ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

    [ ص: 2238 ] وَعَلَى الْأَوَّلِ، فَجَمْعُهَا لِظُهُورِ كَثْرَةِ أَسْبَابِهَا وَمَحَالِّهَا عِنْدَ النَّاسِ، فَإِنَّ لِكُلِّ جِرْمٍ ظُلْمَةً، وَلَيْسَ لِكُلِّ جِرْمٍ نُورٌ. وَأَمَّا تَقْدِيمُهُمَا فَلِسَبْقِهَا فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّحَقُّقِ، عَلَى النُّورِ.

    وَفِي الْأَثَرِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ.

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ النَّاطِقَةِ بِمَا مَرَّ مِنْ مُوجِبَاتِ اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى، بِالْحَمْدِ الْمُسْتَدْعِي لِاقْتِصَارِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ. مَسُوقٌ لِإِنْكَارِ مَا عَلَيْهِ الْكَفَرَةُ، وَاسْتِبْعَادِه ِ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمَضْمُونِهَا، وَاجْتِرَائِهِم ْ عَلَى مَا يَقْضِي بِبُطْلَانِهِ بَدِيهَةُ [ ص: 2239 ] الْعُقُولِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ وَالْعِبَادَةِ، بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا فُصِّلَ مِنْ شُؤُونِهِ الْعَظِيمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ، الْمُوجِبَةِ لِقَصْرِ الْحَمْدِ وَالْعِبَادَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ لَا يَعْمَلُونَ بِمُوجِبِهِ، وَيَعْدِلُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ. أَيْ: يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَقْصَى غَايَاتِ الشُّكْرِ، الَّذِي رَأَسُهُ الْحَمْدُ، مَعَ كَوْنِ كُلِّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقًا لَهُ، غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَبَادِئِ الْحَمْدِ. وَكَلِمَةُ (ثُمَّ) لِاسْتِبْعَادِ الشِّرْكِ بَعْدَ وُضُوحِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّ ةِ، الْقَاضِيَةِ بِبُطْلَانِهِ. وَ (الْبَاءُ) مُتَعَلِّقَةٌ بِ (يَعْدِلُونَ) وَوُضِعَ (الرَّبُّ) مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ تَعَالَى، لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ وَالتَّقْبِيحِ. وَالتَّقْدِيمُ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ وَالْمُسَارَعَة ِ إِلَى تَحْقِيقِ مَدَارِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَا دِ، وَالْمُحَافَظَة ِ عَلَى الْفَوَاصِلِ، وَتُرِكَ الْمَفْعُولُ لِظُهُورِهِ، أَوْ لِتَوْجِيهِ الْإِنْكَارِ إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، إِيذَانًا بِأَنَّهُ الْمَدَارُ فِي الِاسْتِبْعَادِ ، لَا خُصُوصِيَّةُ الْمَفْعُولِ. هَذَا هُوَ الْحَقِيقُ بِجَزَالَةِ التَّنْزِيلِ؛ أَفَادَهُ أَبُو السُّعُودِ.

    ثُمَّ نَاقَشَ مَا وَقَعَ لِلْمُفَسِّرِين َ هُنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ. فَانْظُرْهُ.

    وَأَصْلُ (الْعَدْلِ) مُسَاوَاةُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ عَدِيلًا مِنْ خَلْقِهِ، مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَيَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ، مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.

    وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: (الْبَاءُ) بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ: عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَيَنْحَرِفُونَ ، مِنَ الْعُدُولِ عَنِ الشَّيْءِ.

    لَطِيفَةٌ:

    قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (ثُمَّ) دَالَّةٌ عَلَى قُبْحِ فِعْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ خَلْقَهُ السَّمَاوَاتِ قَدْ تَقَرَّرَ، وَآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وَإِنْعَامُهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَدْ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ. فَهَذَا كَمَا تَقُولُ: أَعْطَيْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، ثُمَّ تَشْتُمُنِي؟ وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ بِ (الْوَاوِ) لَمْ يَلْزَمِ التَّوْبِيخُ كَلُزُومِهِ بِ (ثُمَّ). انْتَهَى. أَيْ: فَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، كَالتَّعْجِيبِ أَيْضًا.

    [ ص: 2240 ] قَالَ أَبُو حَيَّانَ: هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنْ (ثُمَّ) لِلتَّوْبِيخِ. وَالزَّمَخْشَرِ يُّ مِنْ أَنَّهَا لِلِاسْتِبْعَاد ِ - مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، لَا مِنْ مَدْلُولِ (ثُمَّ). انْتَهَى.

    وَإِنَّمَا لَمْ تَحْمِلْ (ثُمَّ) عَلَى التَّرَاخِي، مَعَ اسْتِقَامَتِهِ، لِكَوْنِ الِاسْتِبْعَادِ أَوْفَقُ بِالْمَقَامِ؛ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ الزَّمَانِيَّ مَعْلُومٌ فِيهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [2] هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون

    هو الذي خلقكم من طين استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به، إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى، مع معاينتهم لموجبات توحيده. وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث، مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها، كما ورد في قوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم لما أن محل النزاع بعثهم. فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر، وهم بشؤون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح. والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ. أي: ابتدأ خلقكم منه، فإنه المادة الأولى للكل، لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر. وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين، لا إلى آدم عليه السلام، وهو المخلوق منه حقيقة. بأن يقال: هو الذي خلق أباكم... إلخ. مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه، في إيجاب الإيمان بالبعث، وبطلان الامتراء - لتوضيح منهاج القياس، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس. مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية: هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه، عليه السلام، منه [ ص: 2241 ] حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد الجنس، انطواء إجماليا، مستتبعا لجريان آثارها على الكل. فكان خلقه عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه. ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته، أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه، كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه، وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم، وكمال علمه وحكمته، وكان ابتداء حال المخاطبين أولى بأن يكون معيارا لانتهائها - فعل ما فعل. ولله در شأن التنزيل! وعلى هذا السر مدار قوله تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم إلخ. وقوله تعالى: وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا كما سيأتي.

    وقيل: المعنى خلق أباكم منه، على حذف المضاف. وقيل: معنى خلقهم منه، خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض. وأيا ما كان، ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث، ما لا يخفى؛ فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط، كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة. أفاده أبو السعود.

    وفي "العناية": أن في الآية التفاتا؛ لأن الخطاب - وإن صح كونه عاما - لكنه خاص بالذين كفروا، كما يقتضيه: ثم أنتم تمترون . ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، والشكر عليه أوجب. وقد أشير في كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد، وما بينهما. انتهى.

    [ ص: 2242 ] أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض. جاء منهم. الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك. والسهل والحزن، والخبيث والطيب» .

    وقوله تعالى: ثم قضى أجلا أي: كتب لموت كل واحد منكم أجلا خاصا به. أي: حدا معينا من الزمان يفنى عند حلوله. أو كتب، لما بين أن يولد كل منكم إلى يوم أن يموت، أجلا.

    وأجل مسمى عنده أي: وحد معين لبعثكم جميعا، مثبت معين في علمه، لا يقبل التغيير، ولا يقف على وقت حلوله أحد. كقوله تعالى: إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو فمعنى: عنده أنه مستقل بعلمه. و: وأجل مبتدأ لتخصيصه بالصفة، ولوقوعه في موقع التفصيل. وتنوينه لتفخيم شأنه، وتهويل أمره، ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذي هو: عنده ، مع أن الشائع في مثله التأخير، كأنه قيل: وأي أجل معين في علمه لا يعلمه أحد لا مجملا ولا مفصلا. أما أجل الموت فمعلوم إجمالا وتقريبا، بناء على ظهور أمارته، أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان.

    ثم أنتم تمترون استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث، بعد معاينتهم لما ذكر [ ص: 2243 ] من الحجج الباهرة الدالة عليه. أي: تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه، مع مشاهدتكم في أنفسكم ما يقطع مادة الامتراء؛ فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإبداع الحياة فيها، وإبقائها ما يشاء، كان أقدار على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #320
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2244 الى صـ 2253
    الحلقة (320)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [3] وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون

    وهو الله في السماوات وفي الأرض أي: المعبود فيهما يعلم سركم وجهركم أي: من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح ويعلم ما تكسبون أي: ما تفعلونه من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب. وتخصيصه بالذكر، مع اندراجه فيما سبق، على التفسير الثاني للسر والجهر - لإظهار كمال الاعتناء به الذي يتعلق به الجزاء. وهو السر في إعادة يعلم.

    قال الناصر في "الانتصاف": وما هاتان الآيتان الكريمتان - يعني هذه الآية وآية الزخرف، وهي قوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض - إلا توأمتان. فإن التمدح في آية الزخرف، وقع بما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتواجد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض.

    وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: للمفسرين في هذه الآية أقوال، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول، القائلين - تعالى عن قولهم علوا كبيرا - بأنه في كل مكان؛ حيث حملوا الآية على ذلك. فلأصح من الأقوال أنه المدعو في السماوات والأرض، أي: [ ص: 2244 ] يعبده ويوحده ويقر له بالآلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه: ويدعوننا رغبا ورهبا . إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية - على هذا القول - كقوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله: يعلم سركم وجهركم خبرا أو حالا.

    والقول الثاني: إن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر. فيكون قوله: يعلم متعلقا بقوله: في السماوات وفي الأرض تقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات.... إلخ.

    والقول الثالث: إن قوله: وهو الله في السماوات وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وهذا اختيار ابن جرير. انتهى.

    ورجح ابن عطية في الآية: أنه الذي يقال له: الله فيهما. قال: وهذا عندي أفضل الأقوال، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى، وإيضاحه: أنه أراد أن يدل على خلقه، وآيات قدرته، وإحاطته واستيلائه، ونحو هذه الصفات. فجمع هذه كلها في قوله: وهو الله - الذي له هذه كلها -: في السماوات والأرض كأنه قال: وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.

    تنبيه:

    قال الرازي: الآية تدل على كون الإنسان مكتسبا للفعل، والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع، أو دفع ضر. ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب، لكونه تعالى منزها عن جلب النفع، ودفع الضر. والله أعلم.
    [ ص: 2245 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين

    وما تأتيهم من آية من آيات ربهم يعني: ما يظهر لكفار مكة دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار، أو معجزة من المعجزات، أو آية من آيات القرآن، التي من جملتها الآيات السالفة، الناطقة ببدائع صنعه وقدرته على البعث: إلا كانوا عنها معرضين أي: على وجه التكذيب والاستهزاء، لقلة خوفهم وتدبرهم، في العواقب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

    فقد كذبوا بالحق لما جاءهم يعني: القرآن الذي تحدوا به، فعجزوا عنه: فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أي: مصداق أنباء الحق الذي كانوا يكذبون به على سبيل الاستهزاء. وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة. فهو وعيد شديد لهم بأنه لا بد لهم أن يذوقوا وباله. وقد ذاقوه يوم بدر وغيره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين

    ألم يروا أي: ألم يعلموا علما يشبه الرؤية بالبصر، لما سمعوا بالتواتر من إتيان المستهزئين قبلهم. أنباءهم مرارا كثيرة: كم أهلكنا من قبلهم من قرن أي: من أمة، فلم نبق منها [ ص: 2246 ] أحدا، مثل قوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم من الأمم الماضية، والقرون الخالية مكناهم في الأرض أي: قررناهم وثبتناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أي: ما لم نجعل لكم من السعة والرفاهية وطول الأعمار، يا أهل مكة! وأرسلنا السماء أي: المطر. قال المهايمي: هو أبلغ من: أنزلنا في الدلالة على الكثرة عليهم مدرارا أي: كثيرا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم أي: من تحت أشجارهم، فعاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار، وسقيا الغيث المدرار فأهلكناهم بذنوبهم أي: بسبب ذنوبهم وكفرهم، وتكذيبهم رسلهم، وجعلناهم أحاديث، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه. أي: وسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين أي: بدلا من الهالكين، يعني: فلا يتعاظمه تعالى أن يهلك هؤلاء، ويخلي ديارهم منهم، وينشئ أمة سواهم، فما هم بأعز على الله منهم. والرسول الذي كذبوه أكرم على الله من رسلهم. فهم أولى بالعذاب، ومفاجأة العقوبة، لولا لطفه وإحسانه.

    ثم بين تعالى شدة مكابرتهم، إثر إعراضهم، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

    ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس أي: مكتوبا في ورق: فلمسوه بأيديهم أي: فمسوه لقال الذين كفروا إن هذا أي: ليس هذا المعظم بهذه الوجوه الدالة على أنه لا يكون إلا من الله إلا سحر مبين تعنتا وعنادا، وتخصيص (اللمس) لأن التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، ولأنه يتقدمه الإبصار، حيث لا مانع. وتقييده ب (الأيدي) لرفع التجوز، فإنه قد يتجوز به للفحص، كقوله: وأنا لمسنا السماء أفاده البيضاوي.

    [ ص: 2247 ] قال الناصر في "الانتصاف": والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم، تحقيق القراءة على قرب. أي: فقرأوه وهو في أيديهم، لا بعيد عنهم، لما آمنوا.

    وقال ابن كثير: وهذا كما قال تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقوله تعالى: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] وقالوا لولا أنـزل عليه ملك ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون

    وقالوا لولا أنـزل عليه ملك أي: ليكون معه فيكلمنا أنه نبي، كقوله: لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا

    ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر جواب لمقترحهم، وبيان لمانعه، وهو البقيا عليهم، كيلا يكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه. والمعنى: أن الملك لو أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لم يؤمنوا، لحاق بهم العذاب، وفرغ الأمر. فإن سنة الله قد جرت في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا، استؤصلوا بالعذاب، كما قال تعالى: ما ننـزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ ص: 2248 ] وقوله تعالى: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين

    ثم لا ينظرون أي: لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين، فضلا عن أن ينذروا به. ومعنى ثم: بعد ما بين الأمرين، قضاء الأمر، وعدم الإنظار، جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر؛ لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.

    تنبيه:

    ذكر الزمخشري وجها ثانيا في تعجيل عذابهم، عند نزول الملائكة، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، فيجب إهلاكهم، وفي "الكشف" الاختيار قاعدة التكليف، وهذه آية ملجئة. قال تعالى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فوجب إهلاكهم، لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة؛ إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف، وهو لا يبقى مع الإلجاء. هذا تقريره على مذهبهم، وهو غير صاف عن الإشكال. انتهى. وفيه إشارة إلى أنه ليس على قواعد السنة، وكأن وجه إشكاله أنه وقع في القرآن، والواقع ما ينافيه، كما في قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية كذا في "العناية".

    [ ص: 2249 ] وذكر أيضا وجها ثالثا؛ وهو أنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.

    قال في "الانتصاف": ويقوي هذا الوجه قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا قال ابن عباس: ليتمكنوا من رؤيته، ولا يهلكوا من مشاهدة صورته، انتهى.

    وهذا الوجه آثره أبو السعود في التقديم حيث قال: أي: لو أنزلنا ملكا على هيئته حسبما اقترحوه، والحال أنه من هول المنظر، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية. ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصورة البشرية؟ كضيف إبراهيم ولوط، وخصم داود عليهم السلام، وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك، وهم مؤيدون بالقوى القدسية، فما ظنك بمن عداهم من العوام؟ فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية، واستحال جعله نذيرا، وهو - مع كونه خلاف مطلوبهم - مستلزم لإخفاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة، من إرسال الرسل، وتأسيس الشرائع، وقد قال سبحانه: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا انتهى.

    وفي "العناية" أن الوجه الثالث لا يناسب قوله: ثم لا ينظرون ، لأنه يدل على إهلاكهم، لا على هلاكهم، برؤية الملك، إلا بتكلف.

    هذا وقال الناصر في "الانتصاف": على الوجه الأول لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك. فإنه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح، وليس الأمر كذلك. فالوجه - والله أعلم - أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم، أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه؛ إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا، لا المعجز الخاص، [ ص: 2250 ] فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم، فلم ينجع فيهم، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة. والله أعلم.

    قال المهايمي: لا دليل على النبوة سوى شهادة الملك، وتنزيل الملك بصورته الملكوتية يقطع أمر التكليف؛ إذ لا ينفع الإيمان بعد انكشاف عالم الملكوت، فلا يمهلون؛ لأن الإمهال للنظر. والمعجزة - وإن أفادت علما ضروريا - لا تخلو عن خفاء يحتاج إلى أدنى نظر، ولا خفاء مع انكشاف عالم الملكوت، فلا وجه للإمهال للنظر، فلا يقبل الإيمان معه، فلا بد من المؤاخذة عقيبه. انتهى. فليتأمل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون

    ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا جواب ثان. أي: ولو جعلنا النذير الذي اقترحوه ملكا لمثلناه رجلا، لما مر من عدم استطاعة الآحاد لمعاينة الملك على صورته، من النور. وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء بقوتهم القدسية وللبسنا عليهم ما يلبسون جواب محذوف. أي: ولو جعلناه رجلا لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم حينئذ، بأن يقولوا له: إنما أنت بشر، ولست بملك. ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز، الناطق بها، أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق - لكذبوه، كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام. ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم ما تقدم من قضاء الأمر.

    تنبيهات:

    الأول: في إيثار (رجلا) على (بشرا) إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل، لا بطريق قلب الحقيقة، وتعيين لما يقع به التمثيل.

    الثاني: في الآية بيان لرحمته تعالى بخلقه، وهو أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق [ ص: 2251 ] رسلا منهم، ليدعو بعضهم بعضا، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال. كما قال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم الآية. وقال تعالى: قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا

    الثالث: التعبير عن تمثيله تعالى رجلا باللبس إما لكونه في صورة اللبس، أو لكونه سببا للبسهم، أو لوقوعه في صحبته بطريق المشاكلة. وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكا، كأنه قيل: لو فعلناه ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم. أفاده أبو السعود.

    الرابع: جوز بعضهم وجها ثانيا في قوله تعالى: ولو جعلناه ملكا وهو أن يكون جواب اقتراح ثان، على أن الضمير عائد للرسول، لا لمقترحهم السابق. قال: لأنهم تارة يقولون: لولا أنزل عليه ملك وتارة يقول: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . والمعنى: ولو جعلنا الرسول ملكا لمثلناه رجلا. والظاهر هو الوجه الأول.
    [ ص: 2252 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون

    وقوله تعالى: ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصر والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة. و (حاق): بمعنى نزل وحل، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. فنزل بهم وبال استهزائهم، أو العذاب الذي كانوا يسخرون من التخويف به، إذ هلكوا في الدنيا على أقبح الوجوه، ثم ردوا إلى أفظع العذاب أبد الآبدين. وجعل الرسل في أعلى منازل القرب من رب العالمين.

    ثم أمر تعالى أن يصدعهم بالتجول في الأرض إن ارتابوا فيما تواتر، أو تعاموا عما رأوا، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين

    قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي: سيروا في الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم، وتفكروا في أنهم كيف أهلكوا لما كذبوا الرسل وعاندوا، فتعرفوا صحة ما توعظون به. وفي السير في الأرض، والسفر في البلاد، ومشاهدة تلك الآثار الخاوية على عروشها - تكملة للاعتبار، وتقوية للاستبصار؛ أي: فلا تغتروا بما أنتم عليه من التمتع بلذات الدنيا وشهواتها.

    وفي هذه الآية تكملة للتسلية، بما في ضمنها من العدة اللطيفة، بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم المكذبين، وقد أنجز ذلك يوم بدر أي إنجاز.

    [ ص: 2253 ] لطيفة:

    وقع هنا: ثم انظروا . وفي النمل: قل سيروا في الأرض فانظروا وكذا في العنكبوت. فتكلف بعضهم لتخصيص ما هنا ب [ ثم ] ، كما هو مبسوط في "العناية"، مع ما عليه. ونقل عن بعضهم أن السير متحد فيهما، ولكنه أمر ممتد، يعطف بالفاء تارة، نظرا لآخره، وب [ ثم ] نظرا لأوله، ولا فرق بينهما.

    وفي "الانتصاف": الأظهر أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحدا، ليكون ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء، فلإظهار السببية. وحيث دخلت ثم، فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير، وأن السير وسيلة إليه لا غير. وشتان بين المقصود والوسيلة. والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •