تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 12 من 22 الأولىالأولى ... 23456789101112131415161718192021 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 221 إلى 240 من 431

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #221
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1275 الى صـ 1282
    الحلقة (221)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل [44]

    ألم تر من رؤية القلب، وضمن معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك إليهم، أو من رؤية البصر، أي: ألم تنظر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي: حظا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود، قال العلامة أبو السعود : المراد بالذي أوتوه ما بين لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقية الإسلام، والتعبير عنه بالنصيب [ ص: 1275 ] المنبئ عن كونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا.

    وتنوينه تفخيمي مؤيد للتشنيع عليهم، والتعجيب من حالهم، فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم، والإشعار بمكان ما طوي ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين: يشترون الضلالة وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، أي: يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهدى ليشتروا ثمنا قليلا من حطام الدنيا.

    وإنما طوي ذكر المتروك لغاية ظهور الأمر، لا سيما بعد الإشعار المذكور، والتعبير عن ذلك بالاشتراء - الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن، أي: أخذها بدلا منه أخذا ناشئا عن الرغبة فيها والإعراض عنه - للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة، التي حقها أن يعرض عنها كل الإعراض، وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون، وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم، وغاية ركاكة آرائهم ما لا يخفى، حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز، قاله أبو السعود .

    ويريدون أن تضلوا السبيل أي: لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته - صلى الله عليه وسلم - أن تضلوا أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوا، ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم من الهدى والعلم النافع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا [45]

    والله أعلم أي: منكم بأعدائكم أي: وقد أخبركم بعداوتهم لكم، وما يريدون بكم، فاحذروهم، ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم وكفى بالله وليا يلي أموركم وكفى بالله نصيرا ينصركم، أي: فثقوا بولايته ونصرته دونهم، [ ص: 1276 ] ولا تتولوا غيره، أو: ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء، فإنه تعالى يكفيكم مكرهم وشرهم، ففيه وعد ووعيد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا [46]

    من الذين هادوا بيان للموصول وهو: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب فإنه متناول لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم، وتحذيرهم عن مخالطتهم، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاء بولايته ونصرته.

    وقوله تعالى: يحرفون الكلم عن مواضعه هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم المذكور، وتفصيل لفنون ضلالهم، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام، والتفصيل إثر الإجمال روما لزيادة تقرير يقتضيه الحال، أفاده أبو السعود .

    قال الإمام ابن كثير : قوله: يحرفون الكلم عن مواضعه أي: يتناولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصدا منهم وافتراء.

    وقال العلامة الرازي : في كيفية التحريف وجوه:

    أحدها: إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر.

    ثم قال:

    والثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا، بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.

    والثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. انتهى.

    [ ص: 1277 ] وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": قد اختلف في التوراة التي بأيديهم، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال:

    قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل، وغلا بعضهم حتى قال: يجوز الاستجمار بها.

    وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام: إنما وقع التبديل في التأويل.

    قال البخاري في "صحيحه": يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازي أيضا.

    وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء، فأجاز هذا المذهب ووهى غيره، فأنكر عليه، فأظهر خمسة عشر نقلا به، ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [آل عمران: من الآية 93] قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولذا لما قرؤوها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع القارئ يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها.

    وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغير أشياء يسيرة جدا، واختاره شيخنا في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" قال: وهذا كما في التوراة عندهم: إن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك إسحاق، ثم قال: قلت: والزيادة باطلة من وجوه عشرة، ثم ساقها فارجع إليه، وقد نقلها عنه هنا الإمام صديق خان، فانظره في تفسيره "فتح الرحمن".

    [ ص: 1278 ] لطيفة:

    قال الزمخشري : فإن قلت: كيف قيل ههنا: عن مواضعه وفي المائدة: من بعد مواضعه ؟ قلت: أما: عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن موضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، وأما: من بعد مواضعه فالمعنى أنه كانت له مواضع، هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان.

    وقال الرازي : ذكر الله تعالى ههنا: عن مواضعه وفي المائدة: من بعد مواضعه والفرق: أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة فههنا قوله: يحرفون الكلم من بعد مواضعه معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: يحرفون الكلم إشارة إلى التأويل الباطل، وقوله: من بعد مواضعه إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.

    وقال الناصر في "الانتصاف": الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به - في هذه الصورة - مثل: غير مسمع و: راعنا ولم يقصد ههنا تبديل الأحكام، وتوسطها بين الكلمتين بين قوله: يحرفون وبين قوله: ليا بألسنتهم والمراد أيضا تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما، وأما في سورة المائدة فالظاهر - والله أعلم - أن المراد فيها بـ: " الكلم " الأحكام، وتحريفها وتبديلها كتبديلهم الرجم بالجلد، ألا تراه عقبه بقوله: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا [المائدة: من الآية 41]؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين قيل في سورة المائدة: (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) أي: ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير الموضع، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل: راعنا و: غير مسمع وإن وجد [ ص: 1279 ] على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا: يحرفون الكلم عن مواضعه غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف، والله أعلم. انتهى.

    وقال العلامة أبو السعود : والمراد بالتحريف ههنا إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى: ويقولون سمعنا وعصينا وما بعده على ما قبله عطفا تفسيريا، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم: سمعنا وعصينا ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم، أي: يقولون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا بلسان المقال أو الحال: سمعنا وعصينا عنادا أو تحقيقا للمخالفة. انتهى.

    قال ابن كثير : ويقولون: سمعنا أي: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، هكذا فسره مجاهد وابن زيد وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.

    واسمع غير مسمع عطف على: سمعنا وعصينا داخل تحت القول أي: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - خاصة، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر، بأن يحمل على معنى: " اسمع " حال كونك غير مسمع كلاما أصلا، بصمم أو موت، أي: مدعوا عليك بـ(لا سمعت) أو غير مسمع كلاما ترضاه، وللخير بأن يحمل على: اسمع منا غير مسمع مكروها، كانوا يخاطبون به النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء به (عليهم اللعنة) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به.

    وراعنا عطف على ما قبله، أي: ويقولون في أثناء خطابهم له - صلى الله عليه وسلم - هذا أيضا، وهي كلمة ذات وجهين أيضا محتملة للخير [ ص: 1280 ] بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها، أو على السب بالرعونة أي: الحمق، وبالجملة فكانوا - سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم - يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام.

    ليا بألسنتهم أي: فتلا بها وصرفا للكلام من وجه إلى وجه وتحريفا، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون: راعنا موضع: انظرنا و: غير مسمع موضع (لا أسمعت مكروها) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرون من التوقير نفاقا.

    فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعدما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا ؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به، كذا في الكشاف.

    وأصل: ليا لويا لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون، ومثله (الطي).

    وطعنا في الدين أي: قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية لـ: " يقولون " باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، أي: يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين، أو على الحالية، أي: لاوين وطاعنين في الدين، أفاده أبو السعود .

    ولو أنهم قالوا أي: عندما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى: سمعنا وأطعنا أي: بدل قولهم: سمعنا وعصينا والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال واسمع أي: لو قالوا عند مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدل قولهم: " اسمع "فقط بلا زيادة غير مسمع المحتمل للشر: وانظرنا يعني بدل قولهم: راعنا المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف: لكان خيرا لهم وأقوم في الدنيا بحقن دمائهم وعلو رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية، وفي الآخرة بضعف الثواب، أفاده المهايمي .

    قال أبو السعود : وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم، أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل ولكن لعنهم الله بكفرهم [ ص: 1281 ] أي: ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم: فلا يؤمنون إلا قليلا منصوب على الاستثناء من " لعنهم " أي: ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا منهم، آمنوا فلم يلعنوا، أو على الوصفية لمصدر محذوف، أي: إلا إيمانا قليلا أي: ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ، ويكفرون ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة.

    ورجح أبو علي الفارسي هذا، قال: لأن: " قليلا " لفظ مفرد، ولو أريد به (ناس) لجمع نحو قوله: إن هؤلاء لشرذمة قليلون [الشعراء: 54] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: وحسن أولئك رفيقا [النساء: من الآية 69] وقال: ولا يسأل حميم حميما [المعارج: 10] (يبصرونهم) أفاده الرازي ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية، كقوله:


    قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك


    [ ص: 1282 ] أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها، فاستعمل لفظ (قليل) وأراد به نفي الكل.

    أو منصوب على الاستثناء من فاعل (لا يؤمنون) أي: فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل، وأما قول الخفاجي: كان الوجه فيه الرفع على البدل؛ لأنه من كلام غير موجب، وأبي السعود: بأن فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار - فمردود بأن النصب عربي جيد، وقد قرئ به في السبع في (قليل) من قوله تعالى: ما فعلوه إلا قليل منهم [النساء: من الآية 66]وفي (امرأتك) من قوله تعالى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك [هود: من الآية 81] كما قاله ابن هشام في التوضيح.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #222
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1283 الى صـ 1290
    الحلقة (222)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [47]

    يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا يعني القرآن: مصدقا لما معكم [ ص: 1283 ] أي: موافقا للتوراة: من قبل أن نطمس وجوها أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، وقال العوفي عن ابن عباس : طمسها أن تعمى.

    فنردها على أدبارها أي: فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر، فالفاء للتسبيب، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها، وقد اكتفي بذكر أشدهما، فالفاء للتعقيب.

    قال الرازي : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة؛ لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة.

    أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك، وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكلي جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد، فمسخناهم قردة.

    وكان أمر الله أي: ما أمر به مفعولا أي: نافذا كائنا لا محالة، هذا وفي الآية تأويل آخر وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.

    قال ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [يس: 8 - 9]: أي: هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.

    قال مجاهد : من قبل أن نطمس وجوها يقول: عن صراط الحق فنردها على أدبارها أي: في الضلال.

    قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا.

    قال السدي : فنردها على أدبارها فنمنعها عن الحق، نرجعها كفارا.

    قال الرازي : المقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال: 24] [ ص: 1284 ] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه، كما قال تعالى في صفتهم: ناكسو رءوسهم [السجدة: 12].

    ثم قال الرازي : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام ، كما جاءوا منها و(طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين:

    أحدهما: تقبيح صورتهم، يقال: طمس الله صورته، كقوله: قبح الله وجهه.

    والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها، وثمة تأويل آخر، وهو: أن المراد بالوجوه الوجهاء، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير، أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارا وإدبارا.

    وقال بعضهم: الأظهر حمل قوله: أو نلعنهم إلخ على اللعن المتعارف، قال: ألا ترى إلى قوله تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [المائدة: 60]، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.

    وأقول: لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات - غير الأول - لا يساعده مقام تشديد [ ص: 1285 ] الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ولا تعذر هنا، كما أن المتبادر من اللعن - المشبه بلعن أصحاب السبت - هو المسخ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول؛ لأنه أدخل في الزجر.

    ويؤيده ما روي أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ولفظه بعد إسناده: عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن يقول: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت.

    وروي من غير طريق نحوه أيضا.

    فإن قيل: قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به، فالجواب: أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا، ولو فهم منها هذا فهما أوليا لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار، وهو ينافي التكليف الشرعي، إذ لم تجر سنته تعالى بهذا، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء للقطع بوقوعه المتوعد به، ولوقوعه معلقا بأمره تعالى ومشيئته بذلك، وهو المراد، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وكان أمر الله مفعولا [الأحزاب: من الآية 37] أي: ما يأمر به، ويريد وقوعه، وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه فله أن [ ص: 1286 ] يمضيه على حقيقته، وله أن يصرفه لما هو أعلم به، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق؛ ليكون أدخل في الترهيب، ومزجرة عن مخالفة الأمر، هكذا ظهر لنا الآن، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر، أو أنه مشروط بعدم الإيمان، إلى غير ذلك، فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود ، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخروي، قال: لأنه لم يتضح وقوعه، وهذا فيه بعد أيضا لنبو مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخروي، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها - أعني لعنهم كأصحاب السبت - كان عقابها دنيويا، فالوجه ما قررناه، وما أشبه هذه الآية في وعيدها بآية يس، أعني قوله تعالى: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون [يس: 66 - 67] بل هذه عندي تفسير لتلك، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فبرح الخفاء، والحمد لله.

    لطيفة:

    الضمير في (نلعنهم) لأصحاب الوجوه، أو (للذين) على طريقة الالتفات أو (للوجوه) إن أريد بها الوجهاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [48]

    إن الله لا يغفر أن يشرك به قال أبو السعود : كلام مستأنف مسوق لتقرير [ ص: 1287 ] ما قبله من الوعيد، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر من الإيمان - ببيان استحالة المغفرة بدونه، فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة، كما في قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب [الأعراف: من الآية 169]: يأخذون عرض هذا الأدنى أي: على التحريف ويقولون سيغفر لنا والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليا؛ فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة، وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار، ونزوله في حق اليهود - كما قال مقاتل - هو الأنسب بسياق النظم الكريم، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم، بل يكفي اندراجه فيه قطعا، بل لا وجه له أصلا؛ لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر، أي: لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان؛ لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر، وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان، فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي. انتهى.

    قال الشهاب : الشك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكا، وبمعنى الكفر مطلقا، وهو المراد هنا، وقد صرح به في قوله تعالى في سورة (البينة) بقوله: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها [البينة: من الآية 6]، فلا يبقى شبهة في عمومه. انتهى.

    وقال الرازي : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا، في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان:

    الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالإجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة [ ص: 1288 ] تحت اسم الشرك.

    الثاني: إن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك وإلا لم يكن الأمر كذلك، فإن قيل: قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله: والذين أشركوا [المائدة: من الآية 82] فعطف المشرك على اليهودي، وذلك يقتضي المغايرة، قلنا: المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي، ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه؛ دفعا للتناقض. انتهى.

    لطيفة:

    قال أبو البقاء : الشرك أنواع:

    شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس.

    وشرك التبعيض، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.

    وشرك التقريب، وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية.

    وشرك التقليد، وهو عبادة غير الله تبعا للغير، كشرك متأخري الجاهلية.

    وشرك الأسباب، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك.

    وشرك الأغراض، وهو العمل لغير الله.

    فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع، وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع، وحكم الخامس التفصيل، فمن قال في الأسباب العادية أنها تؤثر بطبعها فقد حكي الإجماع على كفره، ومن قال إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق. انتهى.

    ويغفر ما دون ذلك أي: ما دون الشرك من المعاصي، صغيرة أو كبيرة لمن يشاء تفضلا منه وإحسانا.

    قال ابن جرير : وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء [ ص: 1289 ] عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن شركا بالله عز وجل، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة، وقد تقدم قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء: من الآية 31]، وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته، ولذا قال الرازي : هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر، ثم جود وجوه الاستدلال، ومنها: أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، ومنها أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة، فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة، وهو المطلوب.

    وأول الزمخشري هذه الآية على مذهبه: بأن الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهان إلى قوله تعالى: لمن يشاء على قاعدة التنازع، كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب، قال: ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. انتهى.

    قال ناصر الدين في "الانتصاف": عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة ، وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له، هذا مع عدم التوبة، وأما مع التوبة فكلاهما مغفور، والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة، وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر، في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين، فإذا [ ص: 1290 ] عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه؛ إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة، فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا، إذ هما سيان في استحالة المغفرة، وأما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك " إنه لا يغفر " والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة، حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحدا منهما:

    أحدهما: إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر، وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء؟

    الثاني: أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر، وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأي، نعوذ بالله من ذلك.

    وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر (السيد يعطي والعبد يمنع) لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر، إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق. انتهى.

    فائدة:

    وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة:

    الأول: عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #223
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1291 الى صـ 1298
    الحلقة (223)


    فأما الديوان [ ص: 1291 ] الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية، وقال: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [المائدة: من الآية 72].

    وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء.

    وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا محالة
    رواه الإمام أحمد ، وقد تفرد به.

    الثاني: عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا.

    فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان: من الآية 13].

    وأما الظلم الذي يغفره الله: فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم.

    وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض
    رواه أبو بكر البزار في مسنده.

    الثالث: عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا رواه الإمام أحمد والنسائي .

    الرابع: عن أبي ذر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، [ ص: 1292 ] ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق - ثلاثا - ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر .

    قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر .

    وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر.


    أخرجه الإمام أحمد والشيخان.

    وفي رواية لهما عن أبي ذر : قال صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل ! وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر .

    الخامس: عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك به دخل النار أخرجه مسلم ، وعبد بن حميد في مسنده.

    السادس: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة رواه الإمام أحمد .

    السابع: عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي رواه الطبراني .

    الثامن: عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار رواه البزار وأبو يعلى .

    التاسع: عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، [ ص: 1293 ] وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأمسكنا عن الشهادة ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

    وفي رواية لابن أبي حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل.

    العاشر: عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

    الحادي عشر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي.

    يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.

    يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة
    رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

    وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذر ، ولفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يقول: يا عبدي! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة .

    والأحاديث في ذلك متوافرة، ويكفي هذا المقدار.

    [ ص: 1294 ] ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما أي: افترى واختلق، مرتكبا إثما لا يقادر قدره، ويستحقر دونه جميع الآثام، فلا تتعلق به المغفرة قطعا.

    قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "الجواب الكافي": الشرك بالرب تعالى نوعان: شرك به في أسمائه وصفاته، وجعل آلهة أخرى معه، وشرك به في معاملته، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره، وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه وتعالى ربوبيته وملكه، وجعل له ندا، وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل.

    وقال بعد ذلك: وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال: إن الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض؛ ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، والدعوة له، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] وقال تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [الحجر: من الآية 85] وقال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنـزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق: 12] وقال تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم [المائدة: 97] فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته، ويعبد وحده لا يشرك به، [ ص: 1295 ] وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، كما قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد: من الآية 25] فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، بل هو رأس العدل وقوامه، وإن الشرك ظلم عظيم، كما قال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان: من الآية 13]، فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات.

    فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر به تفاصيله تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي، فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا، أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها عثرة - فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه.

    ووقعت مسألة: وهي أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية وإنما قصد تعظيمه.

    وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه، فهو المقصود، وهذه وسائل وشفعاء، [ ص: 1296 ] فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلدا في النار وموجبا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم؟ وترتب على هذا سؤال آخر: وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول، يمتنع أن تأتي به شريعة، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟ كما قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فتأمل هذا السؤال، واجمع قلبك وذهنك على جوابه، ولا تستهونه فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنة وأهل النار.

    فنقول (وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد المعونة والتسديد، فإنه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع):

    الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والشرك الأول نوعان:

    أحدهما: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وما رب العالمين [الشعراء: من الآية 23]؟ وقال تعالى مخبرا عنه أنه قال: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [غافر: من الآية 37] فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد، وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:

    تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، [ ص: 1297 ] وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.

    ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا ههنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وإنه لم يكن معدوما أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها العقول والنفوس.

    ومن هنا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسما ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
    فصل

    النوع الثاني: شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسمائه وربوبيته وصفاته، كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها.

    ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة.

    ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس.

    ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت [البقرة: من الآية 258] فهذا جعل نفسه ندا لله، يحيي ويميت بزعمه، كما يحيي الله ويميت، فألزمه إبراهيم - عليه السلام ورحمة الله وبركاته - أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، وليس هذا [ ص: 1298 ] انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا.

    ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.

    ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم.

    ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل إليه واعتنى به.

    ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه، فتارة تكثر الوساطة وتارة تقل.
    فصل

    وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا وأخف أمرا، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، هذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن حبان في صحيحه: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، قالوا: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #224
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1299 الى صـ 1306
    الحلقة (224)

    فالرياء كله شرك ، قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف: 110].

    [ ص: 1299 ] أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء، المقيد بالسنة، وكان من دعاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [البينة: من الآية 5].

    فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يقبل منه، ويقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .

    وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفورا.

    فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا [البقرة: من الآية 165] الآية.

    وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين [الشعراء: 97]: إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97 - 98] ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والزرق والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى [ ص: 1300 ] العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم - بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟! فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه، كما قال تعالى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام: 1] فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه!!!
    فصل

    ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات ، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار - غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض - أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله، وفي الصحيحين عنه أنه قال: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

    وفي الصحيح عنه: [ ص: 1301 ] إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد .

    وفي الصحيح أيضا عنه: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك .

    وفي مسند الإمام أحمد - رضي الله عنه - وصحيح ابن حبان عنه - صلى الله عليه وسلم -: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج .

    وقال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

    وقال: إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة .

    فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر، فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد وقد حمى النبي جانب التوحيد [ ص: 1302 ] أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها ؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح؛ لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس.

    وأما السجود لغير الله فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله .

    و (لا ينبغي) في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - - للذي هو في غاية الامتناع شرعا، كقوله تعالى: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [مريم: 92] وقوله: وما علمناه الشعر وما ينبغي له [يس: من الآية 69] وقوله: وما تنـزلت به الشياطين [الشعراء: 210]: وما ينبغي لهم [الشعراء: من الآية 211] وقوله عن الملائكة: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [الفرقان: من الآية 18].
    [ ص: 1303 ] فصل

    ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ، كالحلف بغيره، كما رواه أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من حلف بشيء دون الله فقد أشرك وصححه الحاكم وابن حبان .

    ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده وهذا، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله: لمن شاء منكم أن يستقيم [التكوير: 28] - فكيف من يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك؟ وما لي إلا الله وأنت؟ وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟ أو يقول: والله! وحياة فلان، أو يقول: نذرا لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك، فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله ندا لله بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأشياء - بل لعله أن يكون من أعدائه - ندا لرب العالمين.

    فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والتقوى والخشية، والتحسب والتوبة، والنذر والحلف، والتسبيح والتكبير، والتهليل والتحميد، والاستغفار [ ص: 1304 ] وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء - كل ذلك محض حق الله، لا يصلح ولا ينبغي لسواه، من ملك مقرب ولا نبي مرسل.

    وفي مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد . فقال: قد عرف الحق لأهله .
    فصل

    وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.

    والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونيته، وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم، التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران: 85] وهي ملة إبراهيم عليه السلام، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
    فصل

    وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول (ومن الله وحده نستمد الصواب): حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، وهذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء [ ص: 1305 ] والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أفضل من غيره؛ تشبيها بمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد، فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.

    ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

    ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل: هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورا على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.

    إذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا، فمن حلف بغيره فقد شبهه به، هذا في جانب التشبيه.

    وأما [ ص: 1306 ] في جانب التشبه به فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء، والتجاء واستعانة - فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه.

    وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته وإذا كان المصور - الذي يصنع الصورة بيده - من أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟! كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #225
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1307 الى صـ 1314
    الحلقة (225)


    وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [ ص: 1307 ] قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر، والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟! وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه.

    وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن أخنع الأسماء عند الله رجل يتسمى بشاهان شاه ملك الملوك، ولا ملك إلا الله .

    وفي لفظ: أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، فهو الذي يحكم على الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلهم، لا غيره.
    تنبيه:

    حيثما وقع في حديث: من فعل كذا فقد أشرك، أو فقد كفر - لا يراد به الكفر المخرج من الملة، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة، والعياذ بالله تعالى، وقد قال البخاري : باب كفران العشير وكفر دون كفر.

    قال القاضي أبو بكر ابن العربي في "شرحه": مراده أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة - ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون [ ص: 1308 ] مشركا أو كافرا - فإنه يعذر بالجهل والخطأ، حتى تتبين له الحجة، الذي يكفر تاركها بيانا واضحا ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا جليا قطعيا، يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

    قال الشيخ تقي الدين في " كتاب الإيمان": لم يكفر الإمام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية، وإنما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: أنا جهمي - كفره، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، ولم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، كان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالا مبتدعين، وظلمة فاسقين. انتهى كلام الشيخ، فتأمله تأملا خاليا عن الميل والحيف.

    وقال الشيخ تقي الدين أيضا: من كان في قلبه الإيمان بالرسول وبما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعا إليها، فهذا ليس بكافر أصلا، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن، ومن كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن، وإن كان أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة من النفاق، ولا يكون فيه [ ص: 1309 ] النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار.

    ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرا ينقل عن الملة - فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة. انتهى.

    وقال ابن القيم في طرق أهل البدع: الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الأصول كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وغلاة المرجئة:

    فهؤلاء أقسام:

    أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.

    القسم الثاني: متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه، فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا إن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى على ما فيه من البدعة والهوى قبلت شهادته.

    الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك؛ تعصبا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد. انتهى كلامه، فانظره وتأمله، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه، وذكر أن الأئمة وأهل السنة لا يكفرونهم، هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، وبين في غالب كتبه مخازيهم.

    ولنذكر من كلامه طرفا تصديقا لما ذكرنا عنه، قال رحمه الله في "المدارج": المثبتون للصانع نوعان:

    أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته، كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية، فإنهم يثبتون مع الله إلها آخر، والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقا للأفعال، ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له، وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته، ولا قدرة له عليها، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيائين، وحقيقة قول هؤلاء: إن الله ليس ربا خالقا لأفعال الحيوان. انتهى كلامه.

    وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه، وشبههم [ ص: 1310 ] بالمجوس الذين يقولون: إن للعالم خالقين، وانظر لما تكلم على التكفير هو وشيخه كيف حكيا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنة، حتى مع معرفة الحق والمعاندة، قال: كفره محل اجتهاد، كما تقدم كلامه قريبا.

    وقال ابن تيمية - وقد سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير - فأجاب وأطال، وقال في آخر الجواب: لو فرض أن رجلا دفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر؛ حماية له ونصرا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضا شرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصابه فله أجران، وإن اجتهد فاخطأ فله أجر.

    وقال رحمه الله: التكفير إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجتمع عليها.

    وسئل أيضا - قدس الله روحه - عن التكفير الواقع في هذه الأمة، من أول من أحدثه وابتدعه؟ فأجاب: أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة، وعنهم تلقاه من تلقاه، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره، واضطرب الناس في ذلك، فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتان، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم قولان، وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، من تعريف الحكم الشرعي، من سلطان أو أمير مطاع، كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام، فإذا عرفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجة، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنة، وهي كثيرة جدا، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار، لا سيما إن كان للشخص فضائل وحسنات - فإن ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا، كما قد بسط في غير هذا الموضع من أن موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة أو باستغفار، أو حسنات ماحية [ ص: 1311 ] أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو لمحض مشيئة الله ورحمته، فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا [النساء: من الآية 93] الآية، وقوله: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [النساء: 10] وقوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء: 14] الآية، وقوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلى قوله -: ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما [النساء: من الآية 30] الآية، إلى غير ذلك من آيات الوعيد، وقلنا بموجب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله من شرب الخمر أو من عق والديه أو من غير منار الأرض أو من ذبح لغير الله أو لعن الله السارق أو لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه [ ص: 1312 ] أو لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها أو من أحدث في المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد - لم يجز أن تعين شخصا ممن فعل بعض هذه الأفعال، وتقول: هذا المعين قد أصاب هذا الوعيد؛ لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة، إلى أن قال: ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك، وهذه السبيل هي التي يجب اتباعها، فإن ما سواها طريقان خبيثان:

    أحدهما: القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه، ودعوى أنها عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب، [ ص: 1313 ] والمعتزلة وغيرهم، وفساده معلوم بالاضطرار، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين الذي فعله لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار؛ لفوات شرط أو لحصول مانع، وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.

    فمن كان مؤمنا بالله وبرسوله، مظهرا للإسلام، محبا لله ورسوله، فإن الله يغفر له لو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية، سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة الإسلام، لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل، بالفرق بين النوع والعين، بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعي أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية؛ لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقب، ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله، ولا الأحاديث الصحيحة، وإن الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة، وإن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله، بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه، وقتلوا جماعة، وصلبوا آخرين، ومع ذلك لا يطلقون أسيرا ولا يعطون من بيت [ ص: 1314 ] المال إلا من وافقهم ويقر بقولهم، وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ومع هذا التعطيل - الذي هو شر من الشرك - فالإمام أحمد ترحم عليهم واستغفر لهم، وقال: ما علمت أنهم مكذبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا جاحدون لما جاء به، لكنهم تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال ذلك.

    والإمام الشافعي لما ناظر حفص الفرد - من أئمة المعطلة - في مسألة (القرآن مخلوق) قال له الإمام الشافعي : كفرت بالله العظيم، فكفره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك، ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله.

    وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدري ، والجعد بن درهم، وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم، وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين، وصار قتلهم من باب قتل الصائل؛ لكف ضررهم، لا لردتهم، ولو كانوا كفارا لرآهم المسلمون كغيرهم، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #226
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1315 الى صـ 1322
    الحلقة (226)



    وقال ابن القيم في "شرح المنازل": أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين، ويكون محبوبا لله ومبغوضا من وجهين، بل يكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر، فيكون إلى أهله كما قال تعالى: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران: من الآية 167] وقال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فأثبت لهم - تبارك وتعالى - الإيمان مع مقارفة الشرك، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان، وإن كان تصديق برسله وهم يرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل واليوم الآخر - فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أهل الكبائر، وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها [ ص: 1315 ] ودخولهم الجنة؛ لما قام بهم من السببين.

    قال: وقال ابن عباس في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: من الآية 44] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس بكفر ينقل عن الملة، إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وكذلك قال طاوس وعطاء . انتهى كلامه.

    وقال الشيخ تقي الدين : كان الصحابة والسلف يقولون: إنه يكون في العبد إيمان ونفاق، وهذا يدل عليه قوله عز وجل: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران: من الآية 167] وهذا كثير في كلام السلف، يبينون أن القلب يكون فيه إيمان ونفاق، والكتاب والسنة يدل على ذلك.

    ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .

    فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل قليل لم يخلد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق، فهذا يعذب في النار على قدر ما معه ثم يخرج، إلى أن قال: وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه [ ص: 1316 ] شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة، ابن عباس وغيره: كفر دون كفر، وهذا عامة قول السلف. انتهى.

    فتأمل هذا الفصل وانظر حكايتهم الإجماع من السلف، ولا تظن أن هذا في المخطئ، فإن ذلك مرفوع عنه إثم خطئه كما تقدم مرارا عديدة.

    وقال الشيخ تقي الدين في كتاب "الإيمان": الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن، وإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة: من الآية 8] هم في الظاهر مؤمنون، يصلون مع المسلمين، ويناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم بحكم الكفار المظهرين الكفر لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي - وهو من أشهر الناس في النفاق - ورثه عبد الله ابنه، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لهم وارث ورثوه مع المسلمين وإن علم أنه منافق في الباطن، وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين، وكانوا يغزون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من هم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، ومع هذا - ففي الظاهر - تجري عليهم أحكام أهل الإيمان، إلى أن قال: ودماؤهم وأموالهم معصومة ولا يستحل منهم ما يستحل من الكفار.

    والذين يظهرون أنهم مؤمنون، بل يظهرون الكفر دون الإيمان، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقاتل الناس [ ص: 1317 ] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله .

    وكما قال لأسامة: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: فقلت: إنما قالها تعوذا، قال: هل شققت عن قلبه ؟ وقال: إني لم أؤمر أن أنقب [ ص: 1318 ] عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم .

    وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلي؟ أليس يشهد؟ فإذا قيل له: إنه منافق، قال ذلك.

    فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ولا يستحل منها شيئا مع أنه يعلم نفاق كثير منهم. انتهى كلام الشيخ.

    وقد أوضح حجة الإسلام الغزالي - رضي الله عنه - في "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" الكفر المخرج عن الملة - والعياذ بالله تعالى - بعد مقدمته المدهشة بقوله: لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صادقين بها غير مناقضين لها، فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول - عليه السلام - في شيء مما جاء به، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به. فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه السلام. والبرهمي كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين. والدهري كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا المرسل سائر الرسل، وهذا لأن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا.

    [ ص: 1319 ] إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص، وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى، والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية، وكلهم مشركون، فإنهم مكذبون للرسول، فكل كافر مكذب للرسول، وكل مكذب فهو كافر، فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة.

    وتتمة هذا البحث في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه فاضل، فارجع إليه، وعض بنواجذك عليه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [49]

    ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلا وقولا، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل، فالمراد بهم اليهود، وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه [المائدة: من الآية 18] وحكى عنهم أيضا أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: من الآية 80] وأنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [البقرة: من الآية 111].

    وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس [ ص: 1320 ] قال: كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، وأنزل الله: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم أي: انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه.

    وقوله تعالى: بل الله يزكي من يشاء تنبيه على أن تزكيته هي المعتد بها دون تزكية غيره، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين.
    تنبيه:

    قال الزمخشري : يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله، فإن قلت: أما قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: والله! إني لأمين في السماء، أمين في الأرض؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة؛ إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.

    وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث كثيرة، منها:

    عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل متفق عليه.

    وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رجلا ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنى عليه رجل خيرا، [ ص: 1321 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك! قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا متفق عليه.

    وعن همام بن الحارث، عن المقداد - رضي الله عنه - أن رجلا جعل يمدح عثمان - رضي الله عنه - فعمد المقداد فجثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان : ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب رواه مسلم .

    وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر ، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب : من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: هو عالم فهو جاهل، ومن قال: هو في الجنة فهو في النار.

    ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار.

    وروى الإمام أحمد ، عن معبد الجهني قال: كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وكان قلما يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح .

    وروى ابن ماجه عنه: إياكم والتمادح فإنه الذبح .

    وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم [ ص: 1322 ] يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له: والله! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم الآية.

    ولا يظلمون فتيلا عطف على جملة قد حذفت؛ تعويلا على دلالة الحال عليها، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر، أي: يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلا، أي: أدنى ظلم وأصغره، والفتيل الخيط الذي في شق النواة، أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ، يضرب به المثل في القلة والحقارة، وقيل: التقدير: يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا، ولا يساعده مقام الوعيد، قاله أبو السعود .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #227
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1323 الى صـ 1330
    الحلقة (227)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا [50]

    انظر كيف يفترون على الله الكذب أي: في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [البقرة: من الآية 111] وقولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: من الآية 80] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا في قوله: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم [البقرة: من الآية 134] الآية.

    [ ص: 1323 ] قال العلامة أبو السعود : (كيف) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال، والعامل (يفترون) وبه تتعلق (على) أي: في حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب، والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و(النظر) متعلق بهما، وهو تعجيب إثر تعجيب، وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب: ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، وافتراؤهم على الله سبحانه، فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قرب الله وارتضاءه إياهم، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولكون هذا أشنع من الأول جرما، وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قول الكفر وارتضائه لعباده، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه - وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب، والتصريح بالكذب - مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا - للمبالغة في تقبيح حالهم.

    وكفى به أي: بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام إثما مبينا ظاهرا بينا كونه إثما، والمعنى: كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثما من كل كفار أثيم، أو في استحقاقهم لأشد العقوبات، ثم حكى تعالى عن اليهود نوعا آخر من المكر، وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين؛ تعصبا وعنادا بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا [51]

    ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي: علما بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله، والكفر بالجبت والطاغوت، ووصفهم بما ذكر من إيتاء النصيب لما مر من منافاته [ ص: 1324 ] لما صدر عنهم من القبائح.

    يؤمنون بالجبت والطاغوت الجبت يطلق لغة على الصنم والكاهن والساحر والسحر، والذي لا خير فيه، وكل ما عبد من دون الله تعالى، وكذا الطاغوت، فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب، كما في القاموس.

    ويقولون للذين كفروا أي: أشركوا بالله، وهم كفار مكة، أي: لأجلهم وفي حقهم: هؤلاء يعنونهم أهدى من الذين آمنوا بالله وحده: سبيلا أي: أرشد طريقة، وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى؛ تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [52]

    أولئك الذين لعنهم الله أي: أبعدهم عن رحمته وطردهم ومن يلعن الله أي: يبعده عن رحمته فلن تجد له نصيرا يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا، لا بشفاعة ولا بغيرها.

    قال الرازي : إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله؟!! ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال؟!!

    وقد روى الإمام أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خير، قال فنزلت فيهم: إن شانئك هو الأبتر [الكوثر: 3] [ ص: 1325 ] ونزل: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى: نصيرا

    وقال الإمام ابن إسحاق - رضي الله عنه -: حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع ، والربيع بن أبي الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس.

    فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله عز وجل: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله عز وجل: وآتيناهم ملكا عظيما وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم وجاؤوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى الله شرهم ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [الأحزاب: من الآية 25].
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [53]

    أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيل المشركين على الموحدين - شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم، وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين.

    و(أم) منقطعة، والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي: لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير لفرط بخلهم.

    و(النقير) النقرة في ظهر النواة [ ص: 1326 ] وهو مثل في القلة والحقارة، كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله، كقوله تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق [الإسراء: من الآية 100].

    وقال أبو السعود : وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم، وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متنافرون؟

    ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه، أي: لعده منكرا غير لائق بالوقوع، على أن الفاء للعطف، والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى: ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيرا؟ كما تقول لغني لا يراعي أباه: ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا؟

    وفائدة (إذن) تأكيد الإنكار والتوبيخ، حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء، وهي ملغاة عن العمل، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس إذن، وقرئ: (فإذن لا يؤتوا) بالنصب على إعمالها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما [54]

    أم يحسدون الناس منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق - أعني البخل - إلى توبيخهم بالحسد، وهما شر الرذائل كما قدمنا، وكأن بينهما تلازما وتجاذبا، واللام في (الناس) للعهد والإشارة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين.

    وروى الطبراني بسنده، عن ابن عباس في هذه الآية قال: نحن الناس دون الناس، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.

    [ ص: 1327 ] قال الرازي : وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس؛ لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ومن كان على دينه - كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ (الناس) وإرادتهم على التعيين على ما آتاهم الله من فضله وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوما فيوما، وقوله تعالى: فقد آتينا تعليل للإنكار والاستقباح، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم، وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والمعنى: إن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان؛ فإنا قد آتينا من قبل هذا: آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبناء أعمامه: الكتاب والحكمة النبوة: وآتيناهم ملكا عظيما لا يقادر قدره، فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها؟! أفاده أبو السعود .

    قال الرازي : إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة ، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا، فلما كانت هذه النعم سببا لحسد هؤلاء بين تعالى ما يدفع ذلك فقال: فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما والمعنى: أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونهم، فلم تتعجبون من حال محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم تحسدونه؟!!
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ ص: 1328 ] فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا [55]

    فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه حكاية لما صدر عن أسلافهم، أي: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي: من بني إسرائيل، وقد اختلفوا عليه، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك ديدنهم المستمر.

    وكفى بجهنم سعيرا أي: نارا مسعرة يعذبون بها على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله، ثم أخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما [56]

    إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا أي: عظيمة هائلة كلما نضجت جلودهم أي احترقت احتراقا تاما بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب أي: ليدوم لهم، وذلك أبلغ في العذاب للشخص؛ لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق.
    تنبيه:

    لهم في التبديل وجهان:

    الأول: أنه تبديل حقيقي مادي، فيخلق مكانها جلود أخر جديدة مغايرة للمحترقة.

    الثاني: أنه تبديل وصفي: أي: أعدنا الجلود جديدة مغايرة للمحترقة [ ص: 1329 ] صورة، وإن كانت عينها مادة، بأن يزال عنها الاحتراق ليعود إحساسها للعذاب، فلم تبدل إلا صفتها، لا مادتها الأصلية، وفيه بعد؛ إذ يأباه معنى التبديل.

    وقال الرازي : يمكن أن يقال: هذه استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذا قوله: كلما نضجت جلودهم الآية، يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. انتهى.

    وهذا أبعد مما قبله، إذ ليس لنا أن نعدل في كلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز، إلا عند الضرورة، لا سيما وقد روي عن السلف - صحابة وتابعين - أنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة، كما رواه ابن جرير وغيره مفصلا.

    إن الله كان عزيزا لا يمتنع عليه ما يريد حكيما فيما يقضيه، ومنه هذا التبديل، إذ لا يتم تخليد العذاب الموعود على الكفر الذي لا ينزجرون عنه بالعذاب المنقطع وعدا لا بد من إيفائه، ثم بين مآل أهل السعادة فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا [57]

    والذين آمنوا أي: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وجملة الكتب والرسل وعملوا الصالحات أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم بالإخلاص سندخلهم أي: في الآخرة جنات أي: بساتين تجري من تحتها أي: من تحت شجرها وصورها الأنهار [ ص: 1330 ] أي: أنهار الخمر واللبن والعسل والماء.

    خالدين فيها أبدا أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها لهم فيها أي: الجنة أزواج مطهرة أي: من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة وندخلهم ظلا ظليلا أي: كنا كنينا لا تنسخه الشمس، ولا حر فيه ولا برد، و(ظليلا) صفة مشتقة من لفظ (الظل) لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم.

    وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها .

    وفيهما أيضا من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطعها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #228
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1331 الى صـ 1338
    الحلقة (228)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا [58]

    إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع.

    [ ص: 1331 ] قال أبو السعود : في تصدير الكلام بكلمة التحقيق، وإظهار الاسم الجليل، وإيراد الأمر على صورة الإخبار - من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة، كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم: من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة . انتهى.

    أي لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر.

    وفي حديث سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك رواه الإمام أحمد وأهل السنن.

    قال الحافظ ابن كثير : وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم.

    أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة ، هو وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص ، وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافرا.

    وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا.

    وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة يوم [ ص: 1332 ] الفتح ثم رده عليه.

    وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.

    قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .

    وذكر بقية الحديث في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، إلى أن قال: ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال [له]: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء .

    وروى ابن جرير ، عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عثمان بن أبي طلحة، قبض منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة، ودخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فدعا عثمان إليه، فدفع إليه المفتاح.

    قال: وقال عمر بن الخطاب (لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكعبة وهو يتلو هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.

    قال السيوطي : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. انتهى.

    [ ص: 1333 ] وعن محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أن هذه الآية نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس.

    وقال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية وجوب رد كل أمانة من وديعة وقراض وقرض وغير ذلك، واستدل المالكية بعموم الآية على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل أنه يجب رد وديعته إلى أهله، وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب ثم خرج يجب وفاؤه، وأن الأسير إذا ائتمنه الحربي على شيء لا يجوز له أن يخونه، وعلى أن من أودع مالا وكان المودع خانه قبل ذلك فليس له أن يجحده كما جحده، ويوافق هذه المسألة حديث: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك .

    وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية قال: مبهمة للبر والفاجر، يعني عامة.

    وقد أخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في شأن مفتاح الكعبة، لما أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عثمان بن طلحة ، واختار ما رواه علي وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين، أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه، فيستدل بالآية على أن على الحكام والأئمة ونظار الأوقاف أداء الحقوق المتعلقة بذممهم من تولية المناصب وغيرها إلى من يستحقها، كما أن قوله تعالى: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أمر لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها، وحيث كان المأمور به ههنا مختصا بوقت المرافعة قيد به، بخلاف المأمور به أولا، فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقا، وأصل العدل هو المساواة في الأشياء، فكل ما خرج من الظلم والاعتداء سمي عدلا.

    روى الإمام مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا .

    [ ص: 1334 ] وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم عنده مجلسا: إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر .

    وروى الحاكم والبيهقي بسند صحيح، عن ابن أبي أوفى ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان .

    قال الإمام ابن تيمية - رضي الله عنه - في رسالته "السياسة الشرعية" بعد الخطبة: هذه الرسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله تعالى، وهي قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها الآية.

    قال العلماء: نزلت في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ثم قال: وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة، ثم قال: أما أداء الأمانات ففيه نوعان:

    أحدهما: الولايات وهو كان سبب نزول الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة وطلبها العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية، فرد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة، فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل.

    قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين رواه الحاكم في صحيحه.

    وفي رواية: من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين .

    وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين ، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاء، ومن أمراء الأجناد ومقدمي [ ص: 1335 ] العساكر الكبار والصغار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحاج والبرد وخزان الأموال ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق.

    على كل من ولي شيئا من أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده - في كل موضع - أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب أو سبق في الطلب، بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه .

    وقال لعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن ! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها من مسألة وكلت إليها أخرجاه في الصحيحين.

    [ ص: 1336 ] وقال: من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده رواه أهل السنن.

    فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاه عتاقة أو صداقة أو موافقة في مذهب أو بلد أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من ماله أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما - فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال: 27].

    ثم قال الله تعالى: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم [الأنفال: 28] فإن الرجل لحبه لولده أو عتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته، وكذلك قد يؤثر زيادة حفظه أو ماله بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته، ثم إن المؤدي الأمانة - مع مخالفة هواه - يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه بنقيض قصده، فيذل أهله ويذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة: إن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدث بما أدرك، فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز فقيل له: يا أمير المؤمنين! أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض موته - فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكرا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال: والله يا بني ما منعتكم حقا هو لكم، ولم أكن بالذي [ ص: 1337 ] آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني.

    قال: ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.

    قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وغيرها من جزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى أقصى اليمن ، وإنما أخص كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا، يقال: أقل من عشرين درهما.

    قال: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس، أي: يسألهم بكفه، وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله عبرة لكل ذي لب.

    وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في موضع مثل ما تقدم، ومثل قوله لأبي ذر - رضي الله عنه - في الإمارة: إنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيما رواه مسلم .

    وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا [ ص: 1338 ] ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: يا رسول الله! وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة .

    وقد أجمع المسلمون على هذا.

    ثم قال ابن تيمية رحمه الله:

    القسم الثاني: أمانات الأموال كما قال تعالى في الديون: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه [البقرة: من الآية 283] ويدخل في هذا القسم الأعيان والديون الخاصة والعامة، مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم - إلى قوله -: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [المعارج: 32] وقال تعالى: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما [النساء: 105] أي: لا تخاصم عنهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #229
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1339 الى صـ 1346
    الحلقة (229)


    [ ص: 1339 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله وهو حديث صحيح، بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي .

    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله رواه البخاري .

    [ ص: 1340 ] وإذا كان الله تعالى قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم، وكذلك أداء العارية، ولينظر تتمة هذا البحث في الرسالة المذكورة، فإن الوقوف عليها من المهمات.

    إن الله نعما يعظكم به أي: نعم ما يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة، و(ما) إما منصوبة موصوفة بـ (يعظكم) أو مرفوعة موصولة، كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به، أو نعم الشيء الذي يعظكم به، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال بالأمر.

    إن الله كان سميعا لأقوالكم في الأمانات والأحكام بصيرا بأفعالكم فيها، فإن سمع ورأى خيرا جازاكم عليه خير الجزاء، وإن سمع ورأى شرا جازاكم عليه، فهو وعد ووعيد.

    وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يونس قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها إلى قوله: سميعا بصيرا ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعه.

    وقال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا إبهامه الأيمن على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا، فقال: هكذا، وهكذا، رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره.

    وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سليم بن جبير ، أفاده ابن كثير .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [59]

    يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ ص: 1341 ] اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

    قال الرازي : قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا، وقد روى الطبري بسند صحيح عن أبي هريرة : إن أولي الأمر هم الأمراء.

    واحتج له الشافعي بأن قريشا ومن يليها من العرب كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، والانقياد له إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولاهم البلاد فلا يخرجوا عليهم ولا يمتنعوا عليهم؛ لئلا تفترق الكلمة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: من أطاع أميري فقد أطاعني متفق عليه.

    وفي البخاري عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية.

    قال ابن كثير : وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج .

    [ ص: 1342 ] وروى الطبري عن السدي أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرا، فأجاز عمار رجلا بغير أمره، فتخاصما وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجبر الثانية على أمير.

    قال ابن كثير : وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من طريق عن السدي مرسلا، ورواه ابن مردويه عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه، اهـ.

    ولا تنافي بين الروايتين لما أسلفناه في مقدمة التفسير في بحث سبب النزول، فتذكر.

    [ ص: 1343 ] وقال الزمخشري : المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق؛ لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.

    وفي الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما الطاعة في المعروف .

    وروى الإمام أحمد ، عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا طاعة في معصية الله .

    لطيفة:

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر - مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى - كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة، فكان التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة، والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن.

    [ ص: 1344 ] ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية - لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: وأولي الأمر منكم ؟ - فقال له: أليس قد نزعت عنكم - يعني الطاعة - إذا خالفتم الحق بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله ؟!

    قال الطيبي: أعاد الفعل في قوله: وأطيعوا الرسول إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك بقوله: فإن تنازعتم في شيء كأنه قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعونهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. انتهى. (ج13 ص99).
    تنبيه:

    يشمل عموم قوله: وأولي الأمر العلماء، كما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية، وهذا ليس قولا ثانيا في الآية بل هو مما يشمله لفظها، فهي عامة في أولي الأمر من الأمراء والعلماء وإن نزلت على سبب خاص، وقد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء ، قال تعالى: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت [المائدة: من الآية 63] وقال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل: من الآية 43] وقال تعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء: من الآية 83].

    وفي الحديث [ ص: 1345 ] الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني .

    وروى أبو داود، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة .

    وروى البخاري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة والأحاديث في هذا كثيرة.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى في كتابه "الحسبة في الإسلام": وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين:

    العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه (للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا [ ص: 1346 ] على هذا الأمر) قال: ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #230
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1347 الى صـ 1354
    الحلقة (230)


    فإن تنازعتم أي: اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من الأحكام فردوه إلى الله أي: فارجعوا فيه إلى كتابه: والرسول بالسؤال منه في زمانه - صلى الله عليه وسلم - والرجوع إلى سننه بعده لا إلى ما تهوون ولا إلى ما يهواه الحكام إن كنتم تؤمنون بالله الواضع لشرائع العدل واليوم الآخر الذي يجازى فيه الموافق والمخالف لتلك الشرائع ذلك أي: الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول والرجوع إليهما في فصل النزاع [ ص: 1347 ] خير أي: لكم ولحكامكم وأصلح وأحسن تأويلا أي: عاقبة ومآلا، كما قاله السدي وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسن جزاء، وهو قريب.

    قال الحافظ ابن كثير : هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى: من الآية 10] فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك - فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. انتهى.
    تنبيهات:

    الأول: قال البيضاوي : إن قوله تعالى: فإن تنازعتم يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء، قال: إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس، ثم قال: إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات، وتابعه أبو السعود .

    قال الخفاجي: وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، والمراد بالمرؤوس (على وزن المفعول) العامة التابعة للرائس والرئيس، فإذا كان الخطاب في (تنازعتم) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء؛ لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. انتهى.

    وفي قوله: (إذ ليس للمقلد إلخ) ما ستراه.

    [ ص: 1348 ] الثاني: فهم كثير من الناس والمفسرين أيضا أن طاعة أولي الأمر العلماء تقليدهم فيما يفتون به، وهو غلط، قال الإمام ابن القيم في "أعلام الموقعين" في:

    فصل

    في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان

    قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر - وهم العلماء، أو العلماء والأمراء - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم، قال: وجوابه أن أولي الأمر قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثار التقليد عليها؟!

    ثم قال ابن القيم: إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد، وذلك من وجوه:

    أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه.

    الثاني: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون العبد مطيعا لله ولرسوله حتى يكون عالما بأمر الله تعالى ورسوله، وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - البتة.

    الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم، كما صح ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم من الصحابة، وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال.

    الرابع: أنه سبحانه وتعالى قال في الآية نفسها: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد، فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم؟

    [ ص: 1349 ] فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كانت الطاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا لهم، قيل: هذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قرنها بطاعة الرسول، وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالا، كان ما أمر به أو نهى عنه في القرآن أو لم يكن. انتهى.

    وقال رحمه الله تعالى قبل ذلك: إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله تعالى فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى من قلدناه.

    وأما أمر رسوله فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ، وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه.

    وأما هدي الصحابة - رضي الله عنهم - فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن شخص واحد يقلد رجلا في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.

    وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به، وقبضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين، فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، وعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها قالوا: لنا، وانقادوا له مذعنين، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم [ ص: 1350 ] بكذا وكذا، ولم يقبلوه ولم يدينوا به، واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها، حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بهذا، ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أين كان ومع من كان - لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. انتهى.

    الثالث: إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: فردوه إلى الله والرسول أي: فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟

    قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين:

    منها ما يكون حكمها منصوصا عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت؛ لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع للشغب والخصومة فيها، بنفي أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة.

    وأما السؤال الثاني: فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى: أفاده الرازي .

    الرابع: استدل مثبتو القياس بقوله تعالى: فردوه إلى الله إلخ قالوا: معنى الآية: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، قالوا: ولو كان المراد من قوله تعالى: فردوه إلى الله والرسول طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة - لكان داخلا تحت [ ص: 1351 ] قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وهو إعادة لعين ماضي (كذا) وهو غير جائز.

    وقد توسع الرازي في تقرير ذلك ههنا، كما توسع في أن قوله تعالى (وأولي الأمر) إشارة إلى الإجماع، فتكون الآية -بزعمه - دلت على الأصول الأربع، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط.

    الخامس: قدمنا رواية البخاري في سبب نزول هذه الآية، وأن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة.

    قال الداودي (شارح الصحيح): هذا وهم على ابن عباس ، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم، فأمرهم أن يوقدوا نارا ويقتحموها، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل.

    قال: فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم: إنما الطاعة في المعروف ، وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟ انتهى.

    وأجاب الحافظ ابن حجر: أي: المقصود في قصته قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم.

    ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وإنما يريدون حكم غيره، فقال:
    [ ص: 1352 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [60]

    ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك يعني القرآن وما أنـزل من قبلك يعني التوراة، ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله لتأكيد التعجيب من حالهم وتشديد التوبيخ والاستقباح، ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية - حتما - للتحاكم إلى الرسول وبين ما صدر عنهم من مخالفة الأمر المحتوم.

    يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الداعي إلى الطغيان بالحكم على خلاف المنزل إليك والمنزل على من قبلك، وتقدم قريبا معاني الطاغوت، والمراد به هاهنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله من الباطل.

    وقد أمروا في جميع تلك الكتب أن يكفروا به أي: يتبرؤوا منه؛ لأنه تحاكم على خلاف ما أنزل الله في كتبه فيعصونه ويطيعون الشيطان ويريد الشيطان أي: من الجن والإنس أن يضلهم ضلالا بعيدا عن الحق والهدى.

    وقوله: ويريد إلخ عطف على (يريدون) داخل في حكم التعجيب، فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أعجب من كل عجيب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [61]

    وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله أي: إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به وإلى الرسول أي: حكمه رأيت المنافقين يصدون أي: يمنعون [ ص: 1353 ] خصومهم فيبعدونهم عنك صدودا بليغا؛ ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة.

    وقوله تعالى: وإذا قيل إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وإظهار (المنافقين) في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق، وذمهم به، والإشعار بعلة الحكم.
    تنبيه: في سبب نزولها

    أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا إلى قوله: إلا إحسانا وتوفيقا

    أقول: ثم أسلم أبو برزة وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه نضلة بن عبيد.

    قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة ، وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح. انتهى.

    وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر - يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: ألم تر إلى الذين يزعمون الآية.

    وأخرج ابن جرير ، عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فنزلت، ولا تعارض لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول، فتذكر.

    [ ص: 1354 ] قال أبو مسلم الأصفهاني : ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب، مثل: إنه كان يهوديا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق؛ لأن قوله تعالى: يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك إنما يليق بمثل هذا المنافق. انتهى.

    أقول: ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها، على أن توصيفهم بالإيمان بـ(ما أنزل من قبل) لا يؤيد ما ذكره؛ لأن هذا كثيرا ما يذكر تنويها به وتثبيتا لركنيته في الإيمان، وتذكيرا له، كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله، فاعرفه.

    مباحث

    الأول: قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية إنكار من الله - عز وجل - على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية، ثم ساق ما قدمناه وقال: الآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بـ(الطاغوت) ههنا، وأعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا [البقرة: من الآية 170] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا [النور: من الآية 51] الآية.

    الثاني: قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد - صلى الله عليه وسلم - كفر، ويدل عليه وجوه:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #231
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1355 الى صـ 1362
    الحلقة (231)

    الأول: أنه تعالى قال: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فجعل التحاكم [ ص: 1355 ] إلى الطاغوت يكون إيمانا به، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله.

    الثاني: قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم إلى قوله: ويسلموا تسليما [النساء: من الآية 65] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.

    الثالث: قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور: من الآية 63] وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة.

    وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله، أو أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، نقله الرازي .

    الرابع: قال بعض المفسرين: في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه، والرضا بما شرعه ، وتدل على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير شريعة الإسلام .

    قال الحاكم: وتدل على أن من لم يرض بحكمه كفر، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر، لا قصاص فيه ولا دية.

    وههنا فرع، وهو أن يقال: إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة - فإنه يكفر؛ لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة. انتهى.

    الرابع: في قوله تعالى: يريدون أن يتحاكموا دقيقة بديعة، قال أبو السعود : [ ص: 1356 ] الاقتصار في معرض التعجب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم دون نفسه مع وقوعه أيضا - للتنبيه على أن إرادته مما يقضى منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع، فما ظنك بنفسه؟!

    الخامس: قال المفسرون: إنما صد المنافقون عن حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا ظالمين، وعلموا أنه لا يأخذ الرشا، وأنه لا يحكم إلا بمر الحكم، وقيل: كان ذلك الصد لعدواتهم في الدين.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا [62]

    فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم متصل بما قبله، مبين غائلة جناياتهم المحكية ووخامة عاقبتها، أي: كيف يكون حالهم إذا ساقتهم التقادير إليك، في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم التي منها المحاكمة إلى الطاغوت والكراهة لحكمك، واحتاجوا إليك في ذلك.

    ثم جاءوك للاعتذار عما صنعوا من القبائح يحلفون بالله كذبا إن أردنا أي: ما أردنا بذلك التحاكم إلا إحسانا أي: فصلا بالوجه الحسن وتوفيقا بالصلح بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك، فلا تؤاخذنا بما فعلنا، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا، وأنهم سيندمون عليه لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار.

    قال الرازي : ذكروا في تفسير قوله تعالى: أصابتهم مصيبة وجوها:

    الأول: إن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول - عليه السلام - فهم جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فطالبوا عمر بدمه، وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة، وهذا اختيار الزجاج.

    [ ص: 1357 ] قلت: واختياره غير مختار؛ لأن قصة قتل عمر لم ترو من طريق صحيح ولا حسن، فهي ساقطة عند المحققين، واستدلال الحاكم - الذي قدمناه – مسلم لو صحت.

    الثاني: قال أبو علي الجبائي: المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول - عليه الصلاة والسلام - من أنه لا يستصحبهم في الغزوات، وأنه يخصهم بمزيد من الإذلال والطرد عن حضرته، وهو قوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [الأحزاب: 60 - 61] وقوله: فقل لن تخرجوا معي أبدا [التوبة: من الآية 83] وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم، فكانت معدودة في مصائبهم، وإنما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم.

    الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول بشر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا له الإيمان به، وإلى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق، قال: ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا وكذا؟ ومثاله قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد [النساء: من الآية 41] وقوله: فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [آل عمران: من الآية 25] ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم. انتهى.
    [ ص: 1358 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [63]

    أولئك إشارة إلى المنافقين الذين يعلم الله ما في قلوبهم من النفاق والميل إلى الباطل وإن أظهروا إسلامهم وعذرهم بحلفهم فأعرض عنهم أي: لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ولا تزد على كفهم بالموعظة والنصيحة عما هم عليه وعظهم أي: ازجرهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي: مؤثرا واصلا إلى كنه المراد.

    فإن قيل: بم تعلق قوله تعالى: في أنفسهم ؟ فالجواب: بقوله: بليغا على رأي من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف، أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف.

    أو يتعلق بقوله: وقل لهم أي: قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا، وإن الله يعلم ما في قلوبكم، لا يخفى عليه، فلا يغني عنكم إبطانه فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم، وداووها من مرض النفاق، وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشرا من ذلك وأغلظ، أو قل لهم في أنفسهم خاليا بهم - ليس معهم غيرهم - مسارا لهم بالنصيحة؛ لأنها في السر أنجع وفي الإمحاض أدخل: قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم، كذا يستفاد من الكشاف.

    قال الناصر في "الانتصاف" ولكل من هذه التأويلات شاهد على الصحة.

    أما الأول: فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم، وسياق التهديد في قوله: [ ص: 1359 ] فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يشهد له، فإنه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد.

    وأما الثاني: فيلائمه من السياق قوله: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم يعني ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل، ثم أمره بوعظهم والإعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم، ثم جاء قوله: وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا كالشرح للوعظ ولذكر أهم ما يعظهم فيه، وتلك نفوسهم التي علم الله ما انطوت عليه من المذام، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به.

    وأما الثالث: فيشهد له سيرته - عليه الصلاة والسلام - في كتم عناد المنافقين، والتجافي عن إفصاحهم، والستر عليهم، حتى عد حذيفة - رضي الله عنه - صاحب سره - عليه الصلاة والسلام - لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم وتسميتهم له بأسمائهم، وأخباره في هذا المعنى كثيرة.
    تنبيه:

    قال بعض المفسرين: وثمرة الآية قبح الرياء والنفاق واليمين الكاذبة والعذر الكاذب ؛ لأنهم اعتذروا بإرادتهم الإحسان، وذلك كذب، ثم قال: ودلت الآية على لزوم الوعظ والمبالغة فيه . انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [64]

    وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله كلام مبتدأ، جيء به تمهيدا لبيان خطتهم في ترك طاعة الرسول، والاشتغال بسر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلافيها بالتوبة، أي: وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع فيما حكم، لا ليطلب الحكم من غيره، فطاعته فرض على من أرسل إليهم، وإنكار فرضيتها كفر.

    [ ص: 1360 ] وقوله: بإذن الله أي: بسبب إذنه في طاعته، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه، لأنه مؤد عن الله فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله من يطع الرسول فقد أطاع الله ويجوز أن يراد: بتيسير الله وتوفيقه في طاعته.

    ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم هذا الظلم العظيم غاية العظم، إذ عرضوها لعذاب على عذاب النفاق بترك طاعتك والتحاكم إلى الطاغوت.

    جاءوك تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فاستغفروا الله من ذلك وتابوا إليه تعالى من صنيعهم: واستغفر لهم الرسول أي: دعا لهم بالمغفرة، فكان استغفاره شفاعة لقبول استغفارهم لوجدوا الله توابا أي: قابلا لتوبتهم رحيما أي: متفضلا عليهم بالرحمة وراء قبول التوبة.

    لطيفة:

    قال الزمخشري : ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات؛ تفخيما لشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.

    قال في "الانتصاف": وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية، وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه، وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة.
    تنبيهات:

    الأول: دلت الآية على أن توبة المنافق مقبولة عند الله وفاقا، وأما الظاهر فظاهر الآية قبولها؛ لأنه جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مستغفرا لهم وشافعا.

    وعن الراضي بالله في (الباطنية): إن أظهروا شبههم وما يعتادون كتمه دل ذلك على صدق توبتهم، فيقبل وإلا فلا، ودلت الآية على أن من تكررت منه المعصية والتوبة صحت توبته لقوله تعالى: توابا وذلك ينبئ عن التكرار، كذا في بعض التفاسير.

    الثاني: قال الرازي : لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم: قلنا: الجواب [ ص: 1361 ] عنه من وجوه:

    الأول: أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله، وكان أيضا إساءة إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.

    الثاني: إن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمرد، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويطلبوا منه الاستغفار.

    الثالث: لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول. انتهى.

    أقول: وثمة وجه رابع: وهو التنويه بشأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن طاعته طاعته تعالى، فرضاه رضاه وسخطه سخطه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [65]

    فلا وربك لا يؤمنون في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر حتى يحكموك يجعلوك حاكما ويترافعوا إليك فيما شجر بينهم أي: فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس ثم لا يجدوا في أنفسهم في قلوبهم حرجا أي: ضيقا مما قضيت بينهم ويسلموا أي: ينقادوا لأمرك ويذعنوا لحكمك تسليما تأكيد للفعل بمنزلة تكريره، أي: تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به .
    [ ص: 1362 ] تنبيهات:

    الأول: روى البخاري، عن الزهري، عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك .

    واستوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #232
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1363 الى صـ 1370
    الحلقة (232)

    قال الزبير: فما أحسب هذا الآيات إلا نزلت في ذلك: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم

    قال ابن كثير : هكذا رواه البخاري في (كتاب التفسير) في "صحيحه" من حديث [ ص: 1363 ] معمر ، وفي كتاب (المساقاة) من حديث ابن جريج ومعمر أيضا، وفي كتاب (الصلح) من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة فذكره، وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار - قد شهد بدرا - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شراج الحرة، كان يستقيان بها كلاهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير : اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال للزبير: اسق يا زبير، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدر .

    فاستوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه في صريح الحكم.

    قال عروة: فقال الزبير : والله! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما

    [ ص: 1364 ] (هكذا رواه الإمام أحمد ، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في "تفسيره".

    فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني الليث ويونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام، أنه خاصم رجلا.... الحديث).

    قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي ، من حديث ابن وهب به، ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به، وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير، وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير، والله أعلم.

    وروى ابن أبي حاتم، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسقى الأعلى ثم الأسفل.

    قال ابن كثير : هذا مرسل، ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري. انتهى.

    قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": وحكى الواحدي وشيخه الثعلبي والمهدوي أنه حاطب بن أبي بلتعة، وتعقب بأن حاطبا - وإن كان بدريا - لكنه من المهاجرين.

    لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية، قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء.... الحديث.

    وإسناده قوي مع إرساله، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير فيكون موصولا، وعلى هذا فيؤول قوله (من الأنصار) على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة.

    وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار - ففيه نظر.

    [ ص: 1365 ] وأما قوله (من بني أمية بن زيد) فلعله كان مسكنه هناك، كعمر، ثم قال: ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام من بني أسد ، وكأنه كان مجاورا للزبير ، والله أعلم. (ج5 ص25 و27)

    أقول: وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ههنا ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى: رأيت المنافقين وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر، وكيف؟ وقد كان - رضي الله عنه - من البدريين، وقد انتفى النفاق عمن شهدها.

    قال التوربشتي: يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرة النفس، كما وقع لغيره ممن صحت توبته، إذ لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى.

    ولما هم عمر - رضي الله عنه - بضرب عنقه في قصة الظعينة، قال حاطب: لا تعجل علي [ ص: 1366 ] يا رسول الله! والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، فأقره صلى الله عليه وسلم، وكف عمر عنه، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فذرفت عينا عمر .... الحديث.

    ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه سترا عليه كيلا يغض من مقامه، وهكذا ليكن الأدب، وكفانا أصلا عظيما في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة، فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب، هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه.

    وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك، ثم قال الحافظ ابن حجر: وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى: ألم تر إلخ.

    فروى إسحاق بن راهويه في "تفسيره" بإسناد صحيح عن الشعبي ، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات إلى.... ويسلموا تسليما

    وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، نحوه.

    [ ص: 1367 ] وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب.

    وروي بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد أنه كعب بن الأشرف . انتهى.

    وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جدا، قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى بينهما، فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم انطلقا إليه، فلما أتيا إليه، فقال الرجل: يا ابن الخطاب ! قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا، فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب فردنا إليك، فقال: أكذاك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليه مشتملا على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر، فأتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول! قتل عمر والله صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن فأنزل الله: فلا وربك لا يؤمنون الآية ، فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله، فكره الله أن يسن ذلك بعد، فأنزل: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم الآية، وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة ، عن أبي الأسود به، وهو أثر غريب مرسل، وابن لهيعة ضعيف، والله أعلم.

    طريق أخرى: قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في "تفسيره": حدثنا شعيب بن شعيب، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن حمزة، حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي [ ص: 1368 ] عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضى له: قد اختصمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لي، فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب ، فقال كذلك فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: فلا وربك لا يؤمنون الآية. انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": روى الكلبي في تفسيره عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف ، فذكر القصة، وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق.

    وهذا الإسناد - وإن كان ضعيفا - لكن تقوى بطريق مجاهد ، ولا يضره الاختلاف؛ لإمكان التعدد.

    وأفاد الواحدي بإسناد صحيح عن سعيد ، عن قتادة أن اسم الأنصاري المذكور قيس، ورجح الطبري في "تفسيره" وعزاه إلى أهل التأويل في "تهذيبه" أن سبب نزولها هذه القصة؛ ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد، قال: ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك.

    ثم قال: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية، والله أعلم. انتهى.

    قال الرازي : اعلم أن قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط:

    أولها: قوله تعالى: حتى يحكموك فيما شجر بينهم وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا.

    الشرط الثاني: [ ص: 1369 ] قوله: ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت واعلم أن الراضي بحكم الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد يكون راضيا في الظاهر دون القلب، فبين في هذه الآية أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر، فليس المراد من الآية ذلك بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق.

    الشرط الثالث: قوله: ويسلموا تسليما واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول، فبين تعالى أنه كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر، فقوله: ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت المراد به الانقياد في الباطن، وقوله: ويسلموا تسليما المراد منه الانقياد في الظاهر، والله أعلم.

    الثالث: قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس؛ لأنه لا يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق، وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس، وقوله: ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج، ويسلم النص تسليما كليا، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف.

    الرابع: (لا) في قوله تعالى: فلا وربك قيل إنها رد لمقدر، أي: تفيد نفي أمر سبق، والتقدير: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف القسم بقوله: وربك لا يؤمنون حتى يحكموك وقيل: مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد أعني الجواب؛ لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن، وقيل: إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم، وارتضاه الزمخشري ، قال كما زيدت [ ص: 1370 ] في: لئلا يعلم [الحديد: من الآية 29] لتأكيد وجوب العلم.

    قال في "الانتصاف": يشير إلى أن (لا) لما زيدت مع القسم - وإن لم يكن المقسم به - دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا تعين جعلها لتأكيد القسم؛ طردا للباب، أو الظاهر عنده - والله أعلم - أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك، وحاصل ما ذكره: مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات، وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل، مثل: لا أقسم بهذا البلد [البلد: 1]: لا أقسم بيوم القيامة [القيامة: 1]: فلا أقسم بالخنس [التكوير: 15] فلا أقسم بمواقع النجوم [الواقعة: 75] فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [الحاقة: 38 - 39] ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير الله تعالى، ولذلك سر يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم ويعين كونها للتوطئة، وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له، فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها كلا إعظام، يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم، وللإقسام بها، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد في إبراز فعل القسم مؤكدا بالنفي [ ص: 1371 ] المذكور.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #233
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1371 الى صـ 1378
    الحلقة (233)


    وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول (لا) عند قوله: لا أقسم بيوم القيامة على وجه مجمل، هذا بسطه وإيضاحه، فإذا بين ذلك فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله مندفع في الإقسام بالله، فلا يحتاج إلى دخول (لا) مؤكدة للقسم، فيتعين حملها على الموطئة، ولا تكاد تجدها - في غير الكتاب العزيز - داخلة على قسم مثبت، وأما دخولها في القسم وجوابه نفي، فكثير مثل:


    فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر


    [ ص: 1372 ] وكقوله:


    ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي


    وقوله:


    رأى برقا فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما


    [ ص: 1373 ] وقوله:


    فخالف فلا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف


    وهو أكثر من أن يحصى، فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل. انتهى.

    الخامس: اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن رواه جامعو الصحاح، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث فهو مما تشمله هذه الآية، أعني قوله تعالى: مما قضيت فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرا وباطنا، وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله بخلاف ظاهره لتمذهب تقلده وعصبية ربي عليها - كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله - فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية، الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة.

    قال الإمام الشافعي في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه قال: أرسله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا، فذهبت معه إلى عمر، فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية، فقال: أما الفراش فلفلان، وأما النطفة فلفلان، فقال: صدقت، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالفراش.

    قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم، عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد بن خفاف قال: [ ص: 1374 ] ابتعت غلاما فاستغللته، ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي برده، وقضى علي برد غلته، فأتيت عروة فأخبرته فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن عبد العزيز : فما أيسر علي من قضاء قضيته، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق - فبلغتني فيه سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به علي له.

    قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة ، عن ابن أبي ذئب قال: قضى سعيد بن إبراهيم على رجل بقضية، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فأخبرته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما قضيت به، فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك، فقال سعد: واعجبا، أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعى سعد بكتاب القضية فشقه، فقضى للمقضي عليه.

    قال الشافعي : أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي، قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: [ ص: 1375 ] من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود .

    قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا، ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وتقول: أتأخذ به؟! نعم، آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه، إن الله تبارك وتعالى اختار محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. انتهى.

    قال الإمام الفلاني في "إيقاظ الهمم" بعد نقل ما مر: تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين - أن حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية، بأن يقال: لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له، أو أنه اطلع على دليل آخر، ونحو هذا مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين، وأطبق عليه جهلة المقلدين، فافهم. انتهى.

    [ ص: 1376 ] وقال ولي الدين التبريزي في "مشكاة المصابيح" في (الفصل الثالث عشر) من (باب الجماعة وفضلها): وعن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم فقال بلال: والله لنمنعهن، فقال عبد الله : أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول أنت: لنمنعهن؟!

    (وفي رواية سالم عن أبيه) قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعت سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهن، رواه مسلم .

    وعن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد فقال ابن لعبد الله بن عمر : فإنا نمنعهن، فقال عبد الله أحدثك عن رسول الله وتقول هذا؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات، رواه الإمام أحمد.

    وقال الطيبي شارح "المشكاة": عجبت ممن سمي بالسني إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي رجح رأيه عليها، وأي فرق بينه وبين المبتدع؟! أما سمع: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ؟

    وها هو ابن عمر - وهو من أكابر الصحابة وفقهائها - كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة؛ عبرة لأولي الألباب.

    وروى الإمام مسلم في "صحيحه" في (كراهة الخذف) قبيل (كتاب الأضاحي) عن [ ص: 1377 ] سعيد بن جبير أن قريبا لعبد الله بن مغفل خذف، قال فنهاه وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين فقال فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبدا.

    قال النووي: فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق ، وأنه يجوز هجرانهم دائما، فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما هجر أهل البدع فيجوز على الدوام، كما يدل عليه هذا مع نظائر له، لحديث كعب بن مالك .

    قال السيوطي : وقد ألفت مؤلفا سميته "الزجر بالهجر" لأني كثير الملازمة لهذه السنة.

    أقول: حديث الخذف ساقه الحافظ الدارمي في "سننه" تحت باب (تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه فلم يعظمه ولم يوقره) ورواه من طرق متنوعة، وفي بعضها: أحدثك أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الخذف ثم تخذف؟ والله! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا.

    وأسند الدارمي في هذا الباب، عن قتادة ، عن ابن سيرين أنه حدث رجلا بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: قال فلان وفلان: كذا وكذا! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: قال فلان وفلان؟! لا أكلمك أبدا.

    وأسند أيضا فيه عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه [ ص: 1378 ] بحج أو عمرة، فقال له: لا تبرح حتى تصلي، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق، إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد، فقال: إن أصحابي بالحرة، قال فخرج، قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه.

    وذكر الدارمي - رضي الله عنه - قبل هذا الباب (باب ما يتقى من تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم) وأسند عن معتمر ، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال: أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله وقال فلان.

    قال الإمام شمس الدين بن القيم في "أعلام الموقعين": ترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده - وقد خالفه راويه - يقول: الحجة فيما روى لا في قوله، فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده والحديث يخالفه قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه، وإلا كان قدحا في عدالته، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا.

    بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض، والذي ندين الله به، ولا يسعنا غيره، أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه - أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان، لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو أن يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتقاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك، اهـ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #234
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1379 الى صـ 1386
    الحلقة (234)


    [ ص: 1379 ] وقال الفلاني رحمه الله تعالى في "الإيقاظ" قال عثمان بن عمر: جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت؟ فقال مالك: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم قال مالك: لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم: لم قلت هذا؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها.

    قال الجنيد - رضي الله عنه -: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (فتوى له) قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه، في كل ما أمر به ونهى عنه، إلا رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه يقول: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

    واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وذلك هو الواجب، وقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك - رضي الله عنه - بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

    ومالك رحمه الله كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلام هذا معناه.

    [ ص: 1380 ] والشافعي رحمه الله كان يقول: إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي.

    ثم قال ابن تيمية: وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست من هذا ولا من هذا، ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - في مسألة تيمم الجنب ، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه – وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر - رضي الله عنه - في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان لما كان من السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذه وهذه سواء .

    وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس - رضي الله عنهما - في المتعة، فقال له: قال أبو بكر وعمر ، فقال ابن عباس : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ، وكذلك ابن عمر - رضي الله عنهما - لما سألوه عنها، فأمر بها فعارضوه بقول عمر ، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه، فألحوا عليه فقال لهم، أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [التوبة: 31] والله سبحانه أعلم. انتهى.

    [ ص: 1381 ] وقال الإمام ابن القيم في خطبة "زاد المعاد": فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره، ثم يرضى بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به، ثم يسلم له تسليما، وينقاد له انقيادا، وقال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [الأحزاب: من الآية 36] فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئا [ ص: 1382 ] بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره، إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصيا لله ورسوله، فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله، فلا حكم لأحد معه، ولا قول لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه، وكل حي سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغا محضا ومخبرا، لا منشئا ومؤسسا، فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها، حتى تعرض على ما جاء به، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قبلت حينئذ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها، وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا. انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا [66]

    ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم قال الرازي : اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق، والمعنى: إنا لو شددنا التكليف على الناس نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم، ولما فعله إلا الأقلون، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم، [ ص: 1383 ] فلما لم نفعل ذلك؛ رحمة منا على عبادنا، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة، فليقبلوها بالإخلاص، وليتركوا التمرد والعناد، حتى ينالوا خير الدارين. انتهى.

    ونقله فيما بعد عن ابن عباس ، وعليه فمرجع الضمير في (عليهم) إلى المنافقين، وثمة وجه آخر، وهو عوده إلى الناس كافة، ويكون المراد بـ(القليل) المؤمنين، وأما الضمير في قوله: ولو أنهم فعلوا فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا، قرره الرازي .

    روى ابن جريج بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي قال: لما نزلت: ولو أنا كتبنا عليهم الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ورواه ابن أبي حاتم نحوه.

    وأسند عن السدي قال: افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت : والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا، فنزلت الآية.

    وأسند أيضا عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم.

    وأسند أيضا عن شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال: لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل.
    تنبيهات:

    الأول: قال بعض المفسرين: أراد حقيقة القتل والخروج من الديار، وقيل: أراد التعرض للقتل بالجهاد، وأراد الهجرة بالخروج من الديار، والمعنى: لو أمر المنافقون كما أمر المؤمنون ما فعلوه. انتهى.

    والقول الثاني بعيد؛ لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلا لضرورة، ولمنافاته للآثار المذكورة الصريحة في الأول.

    الثاني: الضمير في (فعلوه) للمكتوب الشامل للقتل والخروج، لدلالة (كتبنا) عليه، أو هو عائد على أحد مصدري الفعلين، قال الخفاجي : وللعطف بـ(أو) لزم توحيد الضمير. انتهى.

    [ ص: 1384 ] أقول: ذكر الشيخ خالد في "التصريح" أن إفراد الضمير في العطف بـ(أو) رأي البصريين، والتثنية رأي الكوفيين، فأفاد جواز الوجهين، قال محشيه العلامة يس : الذي نص عليه ابن مالك أن (أو) التي للشك والإبهام يفرد بعدها الضمير، والتي للتنويع يطابق، نحو قوله تعالى: إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [النساء: من الآية 135] ونص على ذلك ابن هشام في "المغني" في (بحث الجملة المعترضة) فقال (في قوله تعالى: إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ): الظاهر أن الجواب: فالله أولى بهما، ولا يرد ذلك تثنية الضمير كما قد توهموا؛ لأن (أو) هنا للتنويع، حكمها حكم (الواو) في وجوب المطابقة، نص عليه الأبدي وهو الحق. انتهى.

    وبه يعلم أن ما اشتهر من أنه إذا ذكر متعاطفان بـ(أو) فإنه يعاد الضمير إلى أحدهما - ليس على عمومه.

    الثالث: قرأ ابن عامر (قليلا) بالنصب على الاستثناء، والباقون بالرفع بدلا من الضمير المرفوع.

    ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به أي: من متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته والانقياد لما يحكم به ظاهرا وباطنا، وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ؛ لاقترانها بالوعد والوعيد لكان أي: فعلهم ذلك خيرا لهم في عاجلهم وأشد تثبيتا أي: لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب.
    [ ص: 1385 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما [67]

    وإذا لآتيناهم من لدنا أي: من عندنا أجرا أي: ثوابا عظيما يعني الجنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولهديناهم صراطا مستقيما [68]

    ولهديناهم صراطا مستقيما أي: لثبتناهم في الدنيا على دين قويم نرتضيه، وهو الإسلام، ثم بين تعالى فضل الطاعة وأن ثمرتها مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [69]

    ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ولم يذكر المنعم به إشعارا بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه من النبيين الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام، وأمرهم بإنبائها الخلق، كلا بمقدار استعداده والصديقين (جمع صديق) وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة، أو الذي يصدق قوله بفعله كذا في "المدارك".

    قال الرازي : للمفسرين (في الصديق) وجوه:

    الأول: أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق، والدليل قوله تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون [الحديد: من الآية 19].

    الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة [ ص: 1386 ] والسلام.

    الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام، فصار في ذلك قدوة لسائر الناس، وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أولى الخلق بهذا الوصف، ثم جود الرازي الكلام في سبقه - رضي الله عنه - إلى التصديق، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك، فانظره.

    والشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله تعالى والصالحين الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم وحسن أولئك إشارة إلى النبيين والصديقين وما بعدهما رفيقا يعني في الجنة، والرفيق الصاحب، سمي رفيقا لارتفاقك به وبصحبته، وإنما وحد (الرفيق) وهو صفة الجمع؛ لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع، كالصديق والخليط، والجملة تذييل مقرر لما قبله، مؤكد للترغيب والتشويق.

    قال الزمخشري : فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا! ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ (وحسن) بسكون السين.
    تنبيهات:

    الأول: قال الرازي : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين.... إلخ - كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وأنه لا يجوز، بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الزيادة قدروا عليه، فهذا هو المراد من هذه المعية.

    الثاني: دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف، وهو كون الإنسان صديقا، ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #235
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1387 الى صـ 1394
    الحلقة (235)



    [ ص: 1387 ] كما قال تعالى في وصف إسماعيل: إنه كان صادق الوعد [مريم: من الآية 54] وفي صفة إدريس: إنه كان صديقا نبيا [مريم: من الآية 56] وقال في هذه الآية: من النبيين والصديقين يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية، ولا متوسط بينهما، وقال في آية أخرى: والذي جاء بالصدق وصدق به [الزمر: من الآية 33] فلم يجعل بينهما واسطة.

    وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الإمام بعد الرسول - عليه الصلاة والسلام - أبا بكر، على سبيل الإجماع، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية، لا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها، أفاده الرازي .

    الثالث: روى الطبري في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان! ما لي أراك محزونا؟! فقال: يا نبي الله! شيء فكرت فيه، فقال: ما هو؟ قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، غدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: ومن يطع الله والرسول إلخ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم – فبشره.

    وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة [ ص: 1388 ] وعامر الشعبي وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندا: قال الطبري : حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال (في هذه الآية): إن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له فضله على من آمن به في درجات الجنة، ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه .

    ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا عن عائشة ، قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت عليه: ومن يطع الله الآية، وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في "صفة الجنة" بإسناد قال فيه: لا أرى به بأسا.

    الرابع: روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة، منها: في صحيح مسلم، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي: سل! فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: أوغير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود .

    ومنها في مسند الإمام أحمد [ ص: 1389 ] عن عمرو بن مرة الجهني : قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الخمس وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه قال ابن كثير : تفرد به أحمد.

    ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ ألف آية في سبيل الله تبارك وتعالى كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله تعالى.

    ومنها ما رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء .

    قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب .

    [ ص: 1390 ] قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.

    وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - وأرجو أن يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم.

    وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين أخرجاه في الصحيحين من حديث الإمام مالك ، واللفظ لمسلم .

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما [70]

    ذلك مبتدأ، إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم، فالمشار إليه إما جميع ما قبله أو ما يليه الفضل صفة من الله خبره، أي: ذلك الفضل العظيم من الله تعالى لا من غيره، [ ص: 1391 ] أو " الفضل " خبر، و :" من الله "حال، والعامل فيه معنى الإشارة، أي: ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل، وإن ما سواه ليس بشيء موجودا وكائنا من الله تعالى، لا أن أعمال المكلفين توجبه.

    قال الناصر في "الانتصاف": معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق الله تعالى وفعله، وإن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم، بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها، فالطاعة إذا من فضله، فله الفضل على كل حال، والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله قيل: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه وبرحمة قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، اللهم! اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة. انتهى كلام الناصر.

    والحديث المذكور أخرجه الشيخان عن أبي هريرة .

    وكفى بالله عليما بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله.

    قال الرازي : وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله؛ لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفية الجزاء والتفضل، وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة، والاحتراز عن التقصير فيه، ثم أعاد تعالى - بعد الترغيب في طاعته وطاعة رسوله - الأمر بالجهاد الذي تقدم؛ لأنه أشق الطاعات وأعظم الأمور التي يحصل بها تقوية الدين، فقال سبحانه:
    [ ص: 1392 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا [71]

    يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم أي: تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه، ويطلق الحذر على ما يحذر به ويصون، كالسلاح والحزم، أي: استعدوا للعدو، والحذر على هذا حقيقة، وعلى الأول من الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية.

    قال في "الإكليل": فيه الأمر باتخاذ السلاح، وأنه لا ينافي التوكل .

    قال بعض المفسرين: دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر، وهو الحزم من العدو، وترك التفريط، وكذلك ما يحذرونه وهو استعمال السلاح على أحد التفسيرين، فتكون الرياضة بالمسابقة والرهان في الخيل من أعمال الجهاد.

    فانفروا أي: اخرجوا إلى الجهاد ثبات جمع (ثبة) بمعنى الجماعة، كما في القاموس، أي: جماعات متفرقين، سرية بعد سرية، وفرقة بعد فرقة؛ إظهارا للجراءة.

    أو انفروا جميعا أي: مجتمعين كلكم كوكبة واحدة؛ إيقاعا للمهابة بتكثير السواد، ومبالغة في التحرز عن الخطر.

    قال الحاكم: اتفق العلماء على أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا [72]

    وإن منكم لمن ليبطئن أي: ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد والخروج مع الجماعة لنفاق، أو معناه: ليثبطن غيره، كما كان المنافقون يثبطون غيرهم، وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبي، وهو الذي ثبط الناس يوم أحد، وقد روي عن كثير من التابعين أن الآية [ ص: 1393 ] نزلت في المنافقين، فإن ما حكي عنهم هو دأبهم، وقيل: الخطاب للمؤمنين وقوفا مع صدر الآية، فإنه قال: يا أيها الذين آمنوا ثم قال وإن منكم وقد قال تعالى في المنافقين: ما هم منكم

    قال الحاكم: والتقدير على القول الأول: وإن منكم - على زعمه - في الظاهر أو في حكم الشرع.

    فإن أصابتكم مصيبة كهزيمة، وشهادة، وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة قال أي: المبطئ فرحا بصنعه ومعجبا برأيه قد أنعم الله علي بالقعود إذ لم أكن معهم شهيدا أي: حاضرا في المعركة، فيصيبني ما أصابهم، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم ير ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما [73]

    ولئن أصابكم فضل من الله كفتح، وغنيمة، ونصر، وظفر، ونسبة إصابة الفضل إلى جنابه تعالى دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة التنزيلية، كما في قوله تعالى: وإذا مرضت فهو يشفين [الشعراء: 80].

    ليقولن ندامة على تثبطه وقعوده وتهالكا على حطام الدنيا، وتحسرا على فواته كأن لم تكن بينكم وبينه مودة أي: صلة في الدين، ومعرفة بالصحبة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما فأصيب غنائم كثيرة، وحظا وافرا.

    وقوله تعالى: " كأن لم " إلخ، اعتراض بين الفعل وهو: " ليقولن " ومفعوله وهو: " يا ليتني " إلخ للتنبيه على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قول من لم تتقدم له معكم مودة؛ لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا [ ص: 1394 ] يبغون لهم الغوائل في الباطن، وفيه تعجيب أيضا من قولهم المذكور.

    قال بعض المفسرين: ثمرة ذلك تأكيد وجوب الجهاد وتحريم التثبيط عنه. انتهى.

    ولما ذم تعالى المبطئين عن الجهاد رغب المؤمنين فيه بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما [74]

    فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي: يبيعونها بها وهم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، والمعنى: إن صد الذين في قلوبهم مرض فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة، ويقال: عنى بالموصول المنافقين المبطئين، أي: الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة، فيكون وعظا لهم بأن يبدلوا التثبيط بالجهاد.

    ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أي: يستشهد أو يغلب أي: يظفر على العدو فسوف نؤتيه نعطيه أجرا عظيما ثوابا وافرا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #236
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1395 الى صـ 1402
    الحلقة (236)

    روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة (لفظ مسلم ).
    [ ص: 1395 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [75]

    وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله خطاب للمأمورين بالقتال، على طريقة الالتفات؛ مبالغة في التحريض عليه، وتأكيدا لوجوبه.

    وقوله تعالى: والمستضعفين مجرور عطفا على اسم الله، أي: في سبيل المستضعفين الذين هم كأنفسكم، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو، أو على "السبيل" بحذف المضاف، أي: في خلاص المستضعفين، أو منصوب على الاختصاص، يعني: وأختص من سبيل الله خلاص المستضعفين؛ لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه.

    قال في "الانتصاف": وفي النصب مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين:

    إحداهما: التخصيص بعد التعميم، فإنه يقتضي إضمار الناصب الذي هو أختص، ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق.

    من الرجال والنساء والولدان بيان للمستضعفين، أو حال منهم، وهم المسلمون الذين صدهم المشركون عن الهجرة، فبقوا بمكة مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين كما في الصحيح.

    [ ص: 1396 ] وإنما ذكر (الولدان) معهم؛ تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة، وتنبيها على تناهي ظلم المشركين، بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وإيذانا بإجابة الدعاء الآتي بسبب مشاركتهم في الدعاء.

    الذين يقولون من إيذاء أهل مكة وإذلالهم إياهم، متبرئين من المقام بها ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها أي: بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المسلمين، وهي مكة، و(الظالم) صفتها، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه، فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له كان كالفعل في التذكير والتأنيث، بحسب ما عمل فيه، قاله أبو السعود .

    واجعل لنا من لدنك وليا أي: سخر لنا من عندك حافظا يحفظ علينا ديننا واجعل لنا من لدنك نصيرا ناصرا يدفع عنا أذيات أعدائنا، أو المعنى: واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة، أي: لتكن أنت ولينا وناصرنا، وقد استجاب الله عز وجل دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم خير ولي وأعز ناصر، ففتح مكة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتولاهم أي تول، ونصرهم أية نصرة، حتى صاروا أعز أهلها.

    وروى البخاري بالسند إلى ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، وبه إليه قال: كانت أمي ممن عذر الله.

    [ ص: 1397 ] قال الرازي : معنى الآية: لا عذر لكم في ترك المقاتلة، وقد بلغ حال المستضعفين من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف، فهذا حث شديد على القتال، وبيان العلة التي صار لها القتال واجبا، وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة؛ لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير. انتهى.
    تنبيه:

    قال بعض المفسرين: ثمرة هذه الآية تأكيد لزوم الجهاد ؛ لأنه تعالى وبخ على تركه، تدل الآية على لزوم استنقاذ المسلم من أيدي الكفار، ويأتي مثل هذا استنقاذه من كل مضرة، من ظالم أو لص وغير ذلك، ووجه مأخذ ذلك أنه تعالى جعل ذلك كالعلم للانقطاع إليه، وتدل على أن حكم الولدان حكم الآباء؛ لأن الظاهر أنه أراد الصغار.

    قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر، وبالولدان العبيد والإماء؛ لأن العبد والأمة يقال لهما: الوليد والوليدة، وقيل (للولدان والولائد) الولدان؛ لتغليب الذكور على الإناث، كما يقال: الآباء والإخوة، وتدل الآية على أن للداعي حقا عند الله؛ لأنه جعل ذلك اختصاصا لنصرته، وتدل على لزوم الهجرة من ديار الكفر، وأن المؤمن لا يذل نفسه بجعله مستضعفا؛ لأنه تعالى أوجب المقاتلة لزوال الغلبة عليهم، وفي الآيات هذه تأكيدات متتابعة على لزوم الجهاد.

    لطيفة:

    قال ناصر الدين في "الانتصاف": وقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز فالظلم ينسب إليها بطريق المجاز، كقوله: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة إلى قوله: فكفرت بأنعم الله [النحل: من الآية 112] وقوله: [ ص: 1398 ] وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها [القصص: من الآية 58]وأما هذه القرية (في سورة النساء) فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة؛ لأن المراد بهامكة ، فوقرت عن نسبة الظلم إليها؛ تشريفا لها، شرفها الله تعالى، ثم شجع تعالى المؤمنين ورغبهم في الجهاد بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا [76]

    الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله يعني في طاعته لإعلاء كلمته، فهو وليهم وناصرهم والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت في طاعة الشيطان الآمر بغاية الطغيان، كإيذاء المستضعفين من المؤمنين وقتال أقويائهم فقاتلوا أولياء الشيطان أي: جنده.

    قال أبو السعود : وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم في سبيل الشيطان، والإشعار بأن المؤمنين أولياء الله تعالى لما أن قتالهم في سبيله، وكل ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين في القتال وتقوية عزائمهم عليه، فإن ولاية الله تعالى علم في العزة والقوة، كما أن ولاية الشيطان مثل في الذلة والضعف، كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياء الشيطان، ثم صرح في التعليل فقيل: إن كيد الشيطان كان ضعيفا أي: في حد ذاته، فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى؛ إيذانا بظهورها.

    قالوا: فائدة إدخال (كان) في أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان كان كذلك، فالمعنى: إن كيد الشيطان منذ كان كان موصوفا بالضعف. انتهى.

    (والكيد): السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه، يقال: كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه، أفاده الرازي .
    [ ص: 1399 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [77]

    ألم تر إلى الذين قيل لهم وهم المؤمنون عند استئذانهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال قبل أن يؤمروا به كفوا أيديكم أي: عن القتال، فإنكم لم تؤمروا به وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي: أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها، وما يجب فيها من مواقيتها، وأعطوا زكاة أموالكم فلما كتب أي: فرض عليهم القتال أي: الجهاد في سبيل الله حين قوي حالهم إذا فريق منهم أي: طائفة منهم وهم المنافقون، وإدخالهم مع المؤمنين لما كانوا يظهرونه من أنفسهم أنهم منهم يخشون الناس أي: يخافون أهل مكة الكفار أن يقتلوهم كخشية الله أي: كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه أو أشد خشية أي: أكثر خوفا منه.

    فإن قيل: ظاهر قوله: أو أشد خشية يوهم الشك، وذلك على علام الغيوب محال (أجيب) بأن (أو) إما بمعنى (بل) أو هي للتنويع على أن المعنى: أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها، أو للإبهام على السامع، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة، وهو قريب مما في قوله تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون [الصافات: 147] يعني أن من يبصرهم يقول: إنهم مائة ألف أو يزيدون.
    تنبيه:

    حكى المفسرون هنا رواية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة [ ص: 1400 ] المهاجرين، وأنهم كانوا يلقون من مشركي مكة قبل الهجرة أذى شديدا، فيشكون ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولوا: ائذن لنا في قتالهم، فيقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة ثم بعد الهجرة إلى المدينة لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم، فنزلت الآية.

    وعندي أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين؛ تقريعا لهم وتحذيرا للمخلصين من شاكلتهم، والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه:

    منها: أن في إسنادها عن ابن عباس من ليس على شرط الصحيح.

    ومنها: أن طلبهم للجهاد وهم في مكة مع قلة العدد والعدد، وممالأة العدو عليهم من كل جانب - في غاية البعد.

    ومنها: أن السياق في المنافقين، وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت إلى قوله تعالى الآتي : فلا تتخذوا منهم أولياء الآية، كما يظهر من التدبر الصادق.

    ومنها: أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين؛ لأنه تعالى قال في وصفهم: يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق، وحكى تعالى عنهم أنهم قالوا: وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ولم يعهد هذا عن المؤمنين، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد، كما روى ابن إسحاق في "السيرة" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار الناس في غزوة بدر، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [المائدة: من الآية 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

    [ ص: 1401 ] ثم قال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء.


    ومنها أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله: وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك [النساء: من الآية 78]، ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله: فما لكم في المنافقين فئتين فزال اللبس وبرح الخفاء.

    وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في (سورة محمد): ويقول الذين آمنوا لولا نـزلت سورة أي: تأمرنا بالجهاد: فإذا أنـزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك إلى قوله: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم [محمد: 29].

    وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال أي: الجهاد في سبيلك لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا قل أي: تزهيدا لهم فيما يؤملون بالقعود من المتاع الفاني، وترغيبا فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي متاع الدنيا أي: ما يتمتع وينتفع به في الدنيا قليل سريع التقضي، وشيك الانصرام، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل.

    والآخرة أي: ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد خير أي: لكم من ذلك المتاع الفاني لكثرته وعدم انقطاعه، وصفائه عن الكدورات، وإنما قيل: لمن اتقى حثا لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف ولا تظلمون فتيلا عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي: [ ص: 1402 ] تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال، فلا ترغبوا عنه.

    (والفتيل) ما في شق النواة من الخيط، يضرب به المثل في القلة والحقارة.

    وقرئ: " يظلمون " بالياء؛ إعادة للضمير إلى ظاهر (من) أفاده أبو السعود .

    روى ابن أبي حاتم قال: قرأ الحسن : قل متاع الدنيا قليل، قال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه، وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد:


    ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها
    متاع قليل والزوال قريب


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #237
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1403 الى صـ 1410
    الحلقة (237)


    ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت؛ لأنه لا خلاص لهم منه، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [78]

    أينما تكونوا أي: في أي مكان تكونوا عند الأجل يدرككم الموت أي: الذي لأجله تكرهون القتال؛ زعما منكم أنه من مظانه، وتحبون القعود عنه، على زعم أنه منجاة منه، أي: وإذا كان لا بد من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك، ونظير هذه الآية قوله تعالى: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا [الأحزاب: 16].

    ولو كنتم في بروج [ ص: 1403 ] أي: حصون: مشيدة أي: مرفوعة مستحكمة، لا يصل إليها القاتل الإنساني، لكنها لا تمنع القاتل الإلهي، كما قال زهير بن أبي سلمى :


    ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم


    وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد ، والشاهد منها هنا أنها كانت أخبرت بأنها تموت بالعنكبوت، فاتخذ لها زوجها قصرا منيعا شاهقا؛ ليحرزها من ذلك، فبينما هم يوما فإذا العنكبوت في السقف، فأراها إياها فقالت: أهذه التي تحذرها علي؟! والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها، واسودت رجلها، فكان في ذلك أجلها، فماتت.

    ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد، خائفين من الموت، غير راغبين في سعادة الآخرة، أتبع ذلك بخلة لهم أشنع، بقوله سبحانه: وإن تصبهم حسنة كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها يقولوا هذه من عند الله أي: من قبله، [ ص: 1404 ] لما علم فينا الخير وإن تصبهم سيئة كقحط وجدب، وغلاء السعر، ونقص في الزروع والثمار، وموت أولاد ونتاج، ونحو ذلك يقولوا هذه من عندك يعنون: من شؤمك، كما قال تعالى عن قوم فرعون: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [الأعراف: من الآية 131]وعن قوم صالح: قالوا اطيرنا بك وبمن معك [النمل: من الآية 47].

    قال أبو السعود : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال، إذ لا يجترءون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل: قل كل من عند الله أي: كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى، خلقا وإيجادا، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة، كما سيأتي بيانه، فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردا على أسلافهم من قوله تعالى: ألا إنما طائرهم عند الله أي: إنما سبب خيرهم وشرهم، أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم عند الله تعالى لا عند غيره، حتى يسندوها إليه ويطيروا به.

    فمال هؤلاء القوم يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حديثا أي: قولا، والجملة اعتراضية مسوقة لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم، إذ لو فقهوا شيئا لعلموا مما يوعظون به أن الله هو القابض الباسط، وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان، والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد.
    [ ص: 1405 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا [79]

    ما أصابك من حسنة أي: نعمة فمن الله أي: فمن نعمته وتفضله ابتداء وما أصابك من سيئة أي: بلية فمن نفسك أي: من شؤمها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى، نازلة من عنده عقوبة، كقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى: 30].

    روى ابن عساكر، عن البراء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر .

    وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، قال وقرأ: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .

    [ ص: 1406 ] لطيفة

    الخطاب في: أصابك عام لكل من يقف عليه، لا للنبي صلى الله عليه وسلم، كقوله:


    إذا أنت أكرمت الكريم ملكته


    ويدخل فيه المذكورون دخولا أوليا، وجوز أن يكون الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - كما قبله وما بعده، لكن لا لبيان حاله صلى الله عليه وسلم، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب، لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، قرره أبو السعود .

    قال بعض المفسرين: وثمرة الآية رد التطير والتشاؤم.

    وأرسلناك للناس رسولا بيان لجلالة منصبه - صلى الله عليه وسلم - ومكانته عند الله عز وجل، بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه - عليه الصلاة والسلام - بناء على جهلهم بشأنه الجليل، وتعريف (الناس) للاستغراق، أفاده أبو السعود ، أي: فمن أين يتصور لك الشؤم وقد أرسلت داعيا العموم إلى الخيرات؟! فأنت منشأ كل خير ورحمة وكفى بالله شهيدا أي: على رسالتك وصدقك بإظهار المعجزات على يديك، أي: وإذا ثبتت رسالتك فاليمن في طاعتك، والشؤم في مخالفتك.
    [ ص: 1407 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [80]

    من يطع الرسول فقد أطاع الله لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغ لأمره ونهيه، فمرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه وتعالى ومن تولى عن طاعته فما أرسلناك عليهم حفيظا أي: كفيلا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [الرعد: 40].

    ولما بين تعالى وجوب طاعة الرسول تأثره بذكر معاملتهم معه، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [81]

    ويقولون أي: المنافقون إذا أمرتهم بشيء، وهم عندك طاعة بالرفع، أي: أمرنا وشأننا طاعة، ويجوز النصب بمعنى: أطعناك طاعة، كما يقول المنقاد: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة.

    قال سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله وثناء عليه، ولو نصب (حمد الله) كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها.

    فإذا برزوا أي: خرجوا من عندك أي: من مجلسك بيت أي: دبر ليلا طائفة منهم أي: من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم غير الذي تقول أي: خلاف ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة؛ لأنهم مصرون على الرد والعصيان، وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق.

    [ ص: 1408 ] تنبيهان:

    الأول: في "القاموس وشرحه" وبيت الأمر: عمله أو دبره ليلا.

    وقال الزجاج : كل ما فكر فيه أو خيض بليل فقد بيت، ويقال: بيت بليل ودبر بليل بمعنى واحد.

    وفي الحديث: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يبيت مالا ولا يقيله ، أي: إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة، بل يعجل قسمته. انتهى.

    ونقل الرازي عن الزجاج أيضا: أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيرا يقال فيه مبيت، وفي اشتقاقه وجهان:

    الأول: من البيتوتة؛ لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل، فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل، فلما كان الغالب أن الإنسان وقت الليل يكون في البيت، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا.

    الثاني: اشتقاقه من أبيات الشعر؛ لأن الشاعر يدبرها ويسويها، قال الأخفش: العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه، فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا؛ تشبيها له ببيت الشعر، من حيث إنه يسوى ويدبر.

    الثاني: تذكير الفعل؛ لأن تأنيث (طائفة) غير حقيقي، ولأنها في معنى الفوج والفريق، وإسناده إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات، والباقون أتباع لهم في ذلك، لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة.

    والله يكتب ما يبيتون أي: يثبته في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه.

    قال ابن كثير : والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك. انتهى.

    وجوز أن يكون المعنى: والله يكتبه في جملة ما يوحي إليك في كتابه، فيطلعك على أسرارهم، فلا يحسبوا أن إبطانهم يغني عنهم، فالقصد لتهديدهم على الأول، وتحذيرهم من [ ص: 1409 ] النفاق لأن الله يظهره على الثاني.

    فأعرض عنهم أي: تجاف عنهم ولا تعاقبهم وتوكل على الله أي: ثق بالله في شأنهم، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وكفى بالله وكيلا كفيلا بالنصرة والدولة لك عليهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [82]

    أفلا يتدبرون القرآن إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان؛ ليعلموا كونه من عنده تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه.

    وأصل التدبر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه.

    ولو كان أي: القرآن من عند غير الله تعالى كما يزعمون لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع، إذ لا علم بالأمور الغيبية، ماضية كانت أو مستقبلة لغيره سبحانه، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى.

    قال الزجاج : ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا، بعضه حق وبعضه باطل؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.

    وقال أبو بكر الأصم: إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر، وكان الله تعالى يطلع الرسول - عليه الصلاة والسلام - على ذلك، ويخبره بها مفصلة، فقيل لهم إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه، ولوقع فيه الاختلاف، فلما لم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى، وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة فمما لا يساعده السباق ولا السياق، أفاده أبو السعود .
    [ ص: 1410 ] تنبيه:

    دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى القول بفساد التقليد؛ لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، أفاده الرازي .

    وفي الآية - أيضا - الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه من موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها، وكمال حججه وبلاغته العليا، وموافقة أحكامه للحكمة، وأخباره الماضية لكتب الأولين، والمستقبلة للواقع.

    قال الحافظ ابن حجر : من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها - فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم. انتهى.

    وقد روى البخاري في صحيحه تعليقا عن ابن عون (وهو عبد الله البصري ، من صغار التابعين) أنه قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه، ويدعوا الناس إلا من خير. وفي رواية (فيتدبروه) بدل (يتفهموه).

    قال الكرماني: قال في القرآن: يتفهموه، وفي السنة: يتعلموها؛ لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه. انتهى.

    وفي بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض؛ لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن، ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم، وهو إظهارهم أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها بقوله تعالى:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #238
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1411 الى صـ 1418
    الحلقة (238)



    [ ص: 1411 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [83]

    وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أي: مما يوجب أحدهما أذاعوا به أي: أفشوه، فتعود إذاعتهم مفسدة من وجوه:

    الأول: أن مثل هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.

    والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن المنافقين كانوا يروون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.

    الثالث: أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.

    والرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه، أفاده الرازي .

    ولو ردوه أي: ذلك الأمر الذي جاءهم إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم هم كبراء الصحابة البصراء في الأمور - رضي الله عنهم - أو الذين يؤمرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه أي: الأمر [ ص: 1412 ] الذين يستنبطونه أي: يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون منهم أي: من الرسول وأولي الأمر، يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ونعرف الحال فيه من جهتهم - لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير يعني لم يقل: (لعلموه) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، أو لذمهم أو للتنبيه على خطئهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر.

    قال الناصر في "الانتصاف": في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره. انتهى.

    وقد روى مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع .

    وعند أبي داود والحاكم عنه: كفى بالمرء إثما ورواه الحاكم أيضا عن أبي أمامة .

    هذا، ونقل الرازي وجها آخر في الموصول، وهو أن المعني به طائفة من أولي الأمر، قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطا، وبعضهم من لا يكون كذلك.

    فقوله (منهم) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.

    فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله: وإلى أولي الأمر منهم ؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر؛ لأن المنافقين [ ص: 1413 ] يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون.

    ونظيره قوله تعالى: وإن منكم لمن ليبطئن [النساء: من الآية 72] وقوله: ما فعلوه إلا قليل منهم انتهى.

    وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطي في "الإكليل": قوله تعالى: ولو ردوه الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد.

    وقول المهايمي : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق.

    وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين، وأن إذاعته قبيحة، وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا، وتدل على صحة القياس والاجتهاد؛ لأنه استنباط. انتهى.
    تنبيه:

    ما نقله الزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم، من أن قوله تعالى: وإذا جاءهم عنى به طائفة من ضعفة المسلمين - فإن أرادوا بالضعفة المنافقين فصحيح، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه، فكله لم يصب المرمى، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه، فتبصر ولا تكن أسير التقليد.

    ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لاتبعتم الشيطان بالكفر والضلال إلا قليلا أي: إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة، كقس بن ساعدة وأضرابه، وهم عشرة، وقد أوضحت شأنهم في كتابي "إيضاح الفطرة في أهل الفترة " في: (الفصل [ ص: 1414 ] الرابع عشر) فانظره.

    ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بفضل الله ورحمته هنا هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: (فأفوز فوزا عظيما) أي: لولا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذي يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين، واستحسن هذا الوجه الرازي ، وقال: هو الأقرب إلى التحقيق، قال الخفاجي : لارتباطه بما بعده.

    هذا وزعم بعضهم أن قوله تعالى: " إلا قليلا " مستثنى من قوله (أذاعوه) أو (لعلمه) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله، قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة (اتبعتم) فسد المعنى؛ لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله، وهو لا يستقيم، وبيان لزومه أن (لولا) حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم، ألا تراك إذا قلت (لمن تذكره بحقك عليه): لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان إلا بفضله تعالى عليه، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهول فيه، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه، واللازم ممنوع؛ لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص، وهو ما بيناه، فإن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر، وقوله تعالى:
    [ ص: 1415 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا [84]

    فقاتل في سبيل الله تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الالتفات، وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم، أي: إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وكيدهم فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا، قاله أبو السعود .

    لا تكلف إلا نفسك أي: إلا فعل نفسك، بالتقدم إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف، أي: ومن نكل فلا عليك منه ولا تؤاخذ به.

    قال الرازي : دلت الآية على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال ؛ لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو - صلى الله عليه وسلم - موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر - رضي الله عنه - حيث حاول الخروج وحده إلى قتال [ ص: 1416 ] مانعي الزكاة، ومن علم أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه.

    وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك

    ورواه الإمام أحمد أيضا عنه قال: قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، إن الله بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك إنما ذلك في النفقة.

    وحرض المؤمنين أي: على الخروج معك وعلى القتال، ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وقد وردت [ ص: 1417 ] أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، منها:

    ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض .

    عسى الله أن يكف أي: يمنع بأس أي: قتال الذين كفروا وهم كفار مكة أي: بتحريضك إياهم على القتال، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.

    قال أبو السعود : وقوله تعالى: عسى إلخ عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم، فإن ما صدر بـ(لعل وعسى) مقرر الوقوع من جهته عز وجل، وقد كان كذلك، حيث روي في السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعد أبا سفيان [ ص: 1418 ] بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج، وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكبا، ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجعوا من مر الظهران. انتهى بزيادة.

    وقال في ذلك عبد الله بن رواحة (وقيل: كعب بن مالك ):


    وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
    لأبت ذميما وافتقدت المواليا تركنا بها أوصال عتبة وابنه
    وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم
    وأمركم السيئ الذي كان غاويا فإني وإن عنفتموني لقائل
    فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره
    شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا


    والله أشد بأسا أي: شدة وقوة من قريش وأشد تنكيلا أي: تعذيبا وعقوبة.

    قال ابن كثير : أي: هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [محمد: من الآية 4]انتهى.

    قال الخفاجي : والقصد التهديد أو التشجيع، ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #239
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1419 الى صـ 1426
    الحلقة (239)


    [ ص: 1419 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا [85]

    من يشفع شفاعة حسنة أي: يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر أو جلب نفع؛ ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار يكن له نصيب منها وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها.

    ومن يشفع شفاعة سيئة وهي ما كانت بخلاف الحسنة، بأن كانت في أمر غير مشروع يكن له كفل منها أي: نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه، مساو لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء.

    فوائد:

    الأولى: قال السيوطي في "الإكليل": في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية وهي الشفاعة السيئة وذكر الناس عند السلطان بالسوء، وهي معدودة من الكبائر.

    الثانية: روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة، منها:

    ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب .

    وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في [ ص: 1420 ] قصة بريرة وزوجها قال: قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو راجعته! قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع قالت: لا حاجة لي فيه، رواه البخاري.

    الثالثة: قال مجاهد والحسن والكلبي وابن زيد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة.

    ثم قال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر، وإن لم يشفع؛ لأن الله يقول: (من يشفع)ولم يقل: (من يشفع) ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: اشفعوا تؤجروا نقله الرازي .

    الرابعة: قال الزمخشري : الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من الحقوق، يعني الواجبة عليه، والسيئة ما كان بخلاف ذلك، وعن مسروق: أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جارية فغضب وردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها. انتهى.

    [ ص: 1421 ] وروى أبو داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا .

    وهذا الحديث أورده أيضا المنذري في "كتاب الترغيب والترهيب" في ترجمة (الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه) ثم ساق حديث الشيخين وغيرهما، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب الدنيا يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .

    وروى الطبراني بإسناد جيد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم، فقد عرض تلك النعمة للزوال .

    وروي نحوه عن عائشة ، وابن عمر، وابن عمرو.

    وروى الطبراني وابن حبان في "صحيحه" عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر، أو تيسير عسير - أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام .

    وفي رواية للطبراني عن أبي الدرداء: رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة .

    وروى الطبراني ، عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم .

    ورواه عن عمر مرفوعا بلفظ: أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن .

    ورواه بنحو ذلك أيضا عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم، انظر الترغيب.

    [ ص: 1422 ] الخامسة: نكتة اختيار النصيب في (الحسنة) والكفل في (السيئة) ما أشرنا إليه، وذلك أن النصيب يشمل الزيادة؛ لأن جزاء الحسنات يضاعف، وأما الكفل فأصله المركب الصعب، ثم استعير للمثل المساوي، فلذا اختير؛ إشارة إلى لطفه بعباده، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات، ويقال: إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره، كقوله تعالى: يؤتكم كفلين من رحمته [الحديد: 28] فلذا خص به السيئة تطرية وهربا من التكرار.

    و(من) بيانية أو ابتدائية، أفاده الخفاجي.

    وكان الله على كل شيء مقيتا أي: مقتدرا من (أقات على الشيء) إذا اقتدر عليه كما قال:


    وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا


    أي: رب ذي حقد علي كففت السوء عنه مع القدرة عليه، أو شهيدا حافظا، واشتقاقه من (القوت) فإنه يقوي البدن ويحفظه، وقوله تعالى:
    [ ص: 1423 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا [86]

    وإذا حييتم بتحية أي: إذا سلم عليكم فدعي لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية، فقيل: السلام عليكم فحيوا أي: أداء لحق المسلم عليكم بأحسن منها أي: بتحية أحسن منها، بأن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، ولو قالها المسلم زيد: وبركاته.

    قال الراغب: أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا يقول: حياك الله، ثم استعملها الشرع في السلام، وهي تحية الإسلام، قال الله تعالى: تحيتهم فيها سلام [إبراهيم: من الآية 23] وقال: تحيتهم يوم يلقونه سلام [الأحزاب: من الآية 44] وقال: فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله [النور: من الآية 61].

    [ ص: 1424 ] قالوا: في السلام مزية على (حياك) لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية، وهي مستلزمة لطول الحياة، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك، ولأن السلام من أسمائه تعالى، فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته.

    أو ردوها أي: أجيبوها بمثلها، ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله؛ لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره.

    إن الله كان على كل شيء حسيبا أي: فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية، فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به، وفي الآية فوائد شتى:

    الأولى: نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريبا، ببيان أن لكل مسلم حقا يؤدى إليه، وذلك لأن السلام نوع من الإكرام، والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد.

    قال الرازي : إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله، وربما ظهر أنه كان مسلما، فمنع الله المؤمنين عنه، وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد، فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام، أما إن كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد.

    ولذا قال: إن الله كان على كل شيء حسيبا أي: هو محاسبكم على كل أعمالكم، وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم، فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء، والمنع من إهدارها.

    وقد روى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: [ ص: 1425 ] من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيا ذلك بأن الله يقول: فحيوا بأحسن منها أو ردوها

    وقال قتادة: (فحيوا بأحسن منها) يعني للمسلمين (أو ردوها) يعني لأهل الذمة، ومن هنا حكى الماوردي وجها: أنه يقول في الرد على أهل الذمة إذا ابتدؤوا: وعليكم السلام، ولا يقول: ورحمة الله، نقله عنه النووي.

    وروى الزمخشري عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله؛ فإنها استغفار.

    وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ انتهى.

    والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية، ومع هذا فالثابت في الصحيحين عن أنس مرفوعا: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم كما يأتي.

    قال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده، واستدل بها الجمهور على رد السلام على كل مسلم، مسلما كان أو كافرا، لكن مختلفان في صيغة الرد.

    الثانية: ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة، منها:

    قول البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع، منها: وإفشاء السلام، رواه الشيخان.

    وعن أبي هريرة [ ص: 1426 ] - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم رواه مسلم.

    وعن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام قال الترمذي : حديث صحيح.

    الثالثة: في كيفية السلام، قال الرازي : إن شاء قال: سلام عليكم، وإن شاء قال: السلام عليكم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #240
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1427 الى صـ 1434
    الحلقة (240)


    قال تعالى في حق نوح: يا نوح اهبط بسلام منا [هود: من الآية 48] وقال عن الخليل: قال سلام عليك سأستغفر لك ربي [مريم: من الآية 47] وقال في قصة لوط: قالوا سلاما قال سلام [هود: من الآية 69] [ ص: 1427 ] وقال عن يحيى: وسلام عليه [مريم: من الآية 15] وقال عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل: من الآية 59] وقال عن الملائكة: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم [الرعد: من الآية 24] وقال عن نفسه المقدسة: سلام قولا من رب رحيم [يس: 58] وقال: فقل سلام عليكم [الأنعام: 54].

    وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام: فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى [طه: من الآية 47] وقال عن عيسى عليه السلام: والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [مريم: 33] فثبت أن الكل جائز. انتهى.

    [ ص: 1428 ] قال الإمام أبو الحسن الواحدي: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار. انتهى.

    ولكثرة ورود التنكير في القرآن - على ما بيناه - فضله بعضهم على التعريف.

    الرابعة: في فضله:

    روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "السلام عليكم" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عشر ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عشرون ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثون قال الترمذي : حديث حسن. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف.

    وقال البزار: قد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه، هذا أحسنها إسنادا.

    وفي رواية لأبي داود من رواية معاذ بن أنس - رضي الله عنه - زيادة على هذا، قال: ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته قال: أربعون قال: هكذا تكون الفضائل .

    وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على (وبركاته) لا يقال: رواية (ومغفرته) عند أبي داود هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، وأبو مرحوم ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به؛ لأنا نقول: قد حسن الترمذي روايته عن سهل بن معاذ، وصححها أيضا هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم.

    قال النسائي: لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه.

    عود:

    وروى الطبراني عن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله [ ص: 1429 ] كتبت عشرون حسنة، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة .

    وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلس فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات ثم مر آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون حسنة ثم مر آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال: ثلاثون حسنة فقام رجل من المجلس ولم يسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أوشك ما نسي صاحبكم، إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإن قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة .

    وروى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبخل الناس من بخل بالسلام ورواه أيضا عن أبي هريرة، ولأحمد والبزار نحوه عن جابر.

    وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر قال المنذري: ورواته لا أعلم فيهم مجروحا.

    وروى البزار، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه، فإن أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا لصاحبه، فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة؛ للبادئ منهما تسعون، وللمصافح عشرة .

    وروى أبو داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام .

    [ ص: 1430 ] الخامسة: في بعض أحكامه المأثورة روى أبو داود عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم .

    وفي الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم قال النووي: هذا مرسل صحيح الإسناد.

    وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى (تريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم).

    قال النووي: ووقع في بعض روايات الصحيحين (وبركاته) ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة.

    وفي سنن أبي داود، عن غالب القطان، عن رجل قال: حدثني أبي عن جدي قال: بعثني أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائته فأقرئه السلام، فأتيته فقلت: إن أبي يقرئك السلام، فقال: عليك وعلى أبيك السلام .

    قال النووي: هذا وإن كان رواية عن مجهول فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، فيستفاد منه الرد على المبلغ كالمسلم.

    وروى أبو داود، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه [ ص: 1431 ] فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه ففيه أن من سلم عليه إنسان، ثم لقيه على قرب ندب التسليم عليه ثانيا وثالثا.

    وروى الشيخان عن أبي هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير .

    وروى الشيخان عن أنس: أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله.

    ولفظ أبي داود: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غلمان يلعبون فسلم عليهم.

    وعند ابن السني فيه، فقال: السلام عليكم يا صبيان .

    وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: مر علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسوة فسلم علينا.

    وروى الترمذي نحوه، وروى الشيخان عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم .

    ورويا عن أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة [ ص: 1432 ] الأوثان واليهود والمسلمين فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

    وروى مسلم ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه .

    قال النووي : روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهودي أو النصراني هل يستقيله ذلك ؟ فقال: لا، قال أبو سعد المتولي الشافعي : لو أراد تحية ذمي فعلها بغير السلام، بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك.

    قال النووي: هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به، إذا [ ص: 1433 ] احتاج إليه فيقول: صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك.

    السادسة: قال الحسن البصري : السلام تطوع والرد فريضة.

    قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة: أن الرد واجب على من سلم عليه، فيأثم إن لم يفعل؛ لأنه خالف أمر الله في قوله: فحيوا بأحسن منها أو ردوها انتهى، وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام، ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم؛ إظهارا للإكرام ومبالغة فيه، وإن كان الفرض يسقط ببعضهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا [87]

    الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي: ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله.

    قال الزمخشري : القيامة والقيام كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب، قال الله تعالى: يوم يقوم الناس لرب العالمين [المطففين: 6].

    لا ريب فيه أي: لا شك في يوم القيامة أو في الجمع.

    ومن أصدق من الله حديثا إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده، وبيان لاستحالته؛ لأنه نقص وقبيح؛ إذ من كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره، ولا يبالي بأيهما نطق، فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه، والغير - وإن دلت الدلائل على صدقه - فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها.

    [ ص: 1434 ] فوائد:

    الأولى: قال الرازي : في كيفية النظم وجهان:

    أحدهما: أنا بينا أن المقصود من قوله: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله: إن الله كان على كل شيء حسيبا ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان ، فقوله: لا إله إلا هو إشارة إلى التوحيد، وقوله: ليجمعنكم إلى يوم القيامة إشارة إلى العدل، وهو كقوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط [آل عمران: من الآية 18] وكقوله في طه: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه: 14] وهو إشارة إلى التوحيد، ثم قال: إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [طه: 15] وهو إشارة إلى العدل، فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة، فينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا شك أنه تهديد شديد.

    الوجه الثاني: كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة.

    الثانية: قوله: لا إله إلا هو إما خبر للمبتدأ و(ليجمعنكم) إلخ ... جواب قسم محذوف، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها أو خبر ثان، وإما اعتراض والجملة القسمية خبر.

    الثالثة: تعدية (ليجمعنكم) بـ(إلى) لكونه بمعنى الحشر كما بينا، أو لكون (إلى) بمعنى (في) كما أثبته أهل العربية، وقوله تعالى:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •