ملخص البحث:
أسهم علماء النحو واللغة بشكل مباشر في تأسيس الفكر البلاغي من خلال ملاحظاتهم المتناثرة في مؤلفاتهم، وكانت تلك الملاحظات لَبِنَاتٍ أساسية ومهمة في بناء علوم البلاغة، ويهدف هذا البحث إلى تسليط أضواء التأمُّلِ والدرس على أبرز النحاة الذين أسهموا في إثراء الجهاز النظري البلاغي، وكانت آراؤهم محلَّ اهتمام علماء البلاغة فيما بعد.
أثر النحاة في تأسيس الفكر البلاغي:
كان لعلماء النحو واللغة دورٌ بارز في تأسيس الفكر البلاغي من خلال ملاحظاتهم المتناثرة في مؤلفاتهم، وكانت تلك الملاحظات لَبِنَاتٍ أساسية ومهمة في بناء علوم البلاغة، ويهدف هذا البحث إلى إبراز دور هؤلاء العلماء في التَّقْعِيدِ للدرس البلاغي، وتسليط الضوء على أبرز النحاة الذين أسهموا في إثراء الدرس البلاغي، وكانت آراؤهم محلَّ اهتمام علماء البلاغة فيما بعد، وقد قسَّم الباحث هذه الدراسة إلى مقدمة، وأربعة مباحث، خصَّص كل مبحث لمنعطفٍ هامٍّ في طريق بناء الدرس البلاغي، والتأصيل لأبوابه ومباحثه.
المقدمة:
إن الحديث عن البيان العربي بمفهومه الشمولي حديثٌ عن منظومة معرفية متكاملة، مكوَّنة من أمشاج متواشجة من الحقول المعرفية التي يغذِّي بعضها بعضًا، ويَرْفِدُ بعضها بعضًا، والفصل بين هذه الحقول البيانية فصلٌ اقتضتْهُ طبيعة كلِّ حقل وخصوصيته، وإلا فهي في محصلتها كلٌّ واحدٌ تدور حول مركز واحد؛ هو الخطاب، ونقصد بالخطاب هنا: الخطاب الذي شكَّل القادح الأساس لنشأة هذه العلوم، الخطاب الذي كان المحرك الرئيس لحركة التأليف عند العرب، وهذا الخطاب ينشطر إلى خطابين، لكل خطاب طبيعته وخصائصه؛ الأول: هو الخطاب الشعري الذي كان يمثل للعرب مسألة وجود وكَيْنُونَةٍ وخلود، والثاني: هو الخطاب القرآني الذي شكَّل بنية عقل العربي، وأعاد ترتيب أفكاره وقِيَمِهِ التي كانت قد بُنيَتْ في بداية الأمر على منهاج الخطاب الأول، وبِناءً على هذين الخطابين تشكَّلت علوم البيان العربي وتطورت، وكان هذا التشكُّل والتطوُّر نتيجة جهود جليلة قام بها أسلافنا الأوائل، أقاموا بها بناء هذا البيان - أو لِنَقُلِ البنيان - على أسس عربية خالصة، خالية من الشوائب والمؤثرات الأجنبية، وحتى لا يطول بنا الحديث، فإننا سنقصر كلامنا في هذه الورقة البحثية على أثر النحاة واللغويين في التأسيس للدرس البلاغي.
إن البلاغة العربية بمفهومها الاصطلاحي تبقى مدينة بكثير من الفضل لعلم النحو وعلمائه؛ وذلك أن علم النحو قد شكَّل المِحْضَنَ الرئيس الذي نشأت في ظِلِّهِ علوم البلاغة العربية حتى استوت على عودها، واستقام لها بناؤها، فـ"النحاة هم أصحاب الفضل الأول في نشأة البلاغة، على الرغم من أنها كانت في البداية نظراتٍ متناثرة هنا وهناك ضمن مباحثهم النحوية، ثم أُتيحت لمن أعقبهم أن يصوغَ من هذه النظرات العابرة قواعدَ بلاغية ذات صيغة علمية"[1]؛ وعليه فإن تأثير النحاة في الدرس البلاغي والتأسيس له سيكون تأثيرًا مباشرًا، ولن يتسع المقام لتتبُّعِ كل إسهامات النحاة في هذا المجال؛ ولذلك سنحصر حديثنا على أبرز الجهود النحوية التي كوَّنتِ الروافدَ الكبرى لتـأسيس الفكر البلاغي.
لقد كان الباعث الأول والمحرك الرئيس لحركة التأليف اللغوي والنحوي عند العرب - هو القرآن الكريم، الذي نزل أوَّل ما نزل على عربٍ خُلَّصٍ أقْحاحٍ، لكن حينما دخل الأعاجم في الإسلام، احتيج إلى تقعيد اللغة، ووضع معايير تعصم ألسنتهم من الوقوع في زَلَلِ اللُّكْنَةِ وضلال العُجْمَةِ، ومن هنا هُرِعَ أسلافنا القدماء إلى سنِّ قوانين اللغة، وضبطها ضبطًا قويمًا؛ حتى لا تتسرب تلك الشوائب إلى كتاب الله تعالى؛ فالضرورة إذًا هي التي دفعت حركة التأليف اللغوي والنحوي.
وإذا كان النحو يهتم بوضع القواعد وسنِّ المعايير العاصمة من الخطأ، فإن النحاة أنفسهم قد شعروا بأن النحو بهذه الصيغة غير قادر على فهم أسرار بلاغة القرآن ودلائل إعجازه؛ ولذلك احتاجوا إلى الدرس البلاغي، الذي يغوص في أسرار الإعجاز، ويكشف دلائل البلاغة القرآنية المعجِزة، وهذا لا يعني قصورًا أو عيبًا في الدرس النحوي، بل هي الطبيعة والحدود، فلكلِّ علمٍ حدودٌ يقف عندها ولا يُجاوِزُها، فالنحوي يقف عند حدود المعيار والقاعدة ودلالة الألفاظ على المعاني، في حين ينهض البلاغي بتفسير مواطن الحُسْنِ والجمال في تلك الدلالة؛ يقول صاحب (المثل السائر) في هذه المسألة: أن البلاغي "والنحوي يشتركان في أن النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة، وصاحب علم البيان - البلاغي - ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي الدلالة الخاصة، والمراد بها أن تكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة، ومن ها هنا غَلَطَ مفسرو الأشعار في اقتصارهم على شرح المعنى وما فيها من الكلمات اللغوية، وتبيين مواضع الإعراب منها، دون شرح ما تضمَّنته من أسرار الفصاحة والبلاغة"[2].
ونحن وإن اتفقنا مع ابن الأثير في الشِّقِّ الأول من كلامه، فإننا نختلف معه في الشق الآخر؛ فالمسألة ليست مسألة فَهْمٍ من عدمه، بل هي حدود العِلْمَيْنِ - النحو والبلاغة - وطبيعتهما؛ فحدود النحوي تقف عند مستوى الاستقامة والضبط المعياري، أما البلاغي فحدود اشتغاله معرفة أسرار اللغة وتفسير جمالياتها.
المبحث الأول: جهود الخليل في التأصيل للدرس البلاغي:
نبدأ في رصد آراء النحاة وملحوظاتهم البلاغية بأذكى العرب والعجم في عصره[3]؛ الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175)، هذا الرجل الذي كان أعجوبةَ زمانِهِ ونسيجَ وحْدِهِ، ليس في النحو واللغة والعَرُوض فحسب، بل حتى في العقل البلاغي الذي يملكه، وقد تناثرت تعريفات الخليل للبلاغة في كتب التراث المختلفة، ويرى الخليل أن "كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة، فإن استطعت أن يكون لفظك لمعناك طبقًا، ولتلك الحالة وقفًا، وآخر كلامك لأوله مشابهًا، وموارده لمصادره موازنًا، فافْعَلْ واحرص أن تكون لكلامك متهمًا وإن ظرُف، ولنظامك مستريبًا وإن لطُف، بمواتاة آلتك لك، وتصرُّف إرادتك معك"[4].
ويُفهَم من هذا التصور الخليلي أن البلاغة تأديةُ المقصود بصورة واضحة لا لَبْسَ فيها، ويدخل في هذا التصور الكلام البليغ وغير البليغ، بمعنى أن الخليل ينظر إلى البلاغة من زاوية الاستعمال والإنجاز، فكل قول أوصلك إلى غرضك؛ سواء أكان بليغًا أم غير بليغ، فهو في منظور الخليل بلاغة، ولو سلَّطنا أضواء التأمل على التعريف ثانية، لرأينا أنه يقصر البلاغة على ما يسمى في عرف البلاغيين بـ"المساواة"؛ فمطابقة اللفظ للمعنى هي ذاتها المساواة، وهذا يقتضي أن البلاغة في تعريف الخليل السالف هي المساواة، ويخرج بمقتضى ذلك الإيجاز الذي هو من أخص خصائص العربية، لكن لا نطلب من الخليل أكثر من ذلك، فمرحلة التأسيس يكتنفها من الصعوبة والتعقيد والغموض ما يكتنفها، أضِفْ إلى ذلك أن بعض تعريفات البلاغة تُورِدُها المصادر عاريةً من سياقها ومناسبتها - كهذا التعريف - مما يُوقِعُ المتلقي في حَيْرَةٍ أو قُلْ في تساؤل مفاده: كيف للخليل أن يناقض نفسه إذا استحضرنا له تعريفات أخرى للبلاغة؛ كقوله في العمدة: "البلاغة كلمة تكشف عن البقية"[5]، وقوله أيضًا: "البلاغة ما قَرُبَ طرفاه، وبعُدَ منتهاه"[6]؟ فهذا التعريف والذي قبله يدلَّان على مفهوم الإيجاز في الكلام؛ ففي التعريف الأول نلمس أن البلاغة في متصور الخليل مبنية على الإيجاز والإيماء واللمح، وتأدية المقصود بأقل الألفاظ وأقصر السُّبُلِ، وكذلك الحال في التعريف الثاني، وهذان التعريفان لا يتفقان وتصوُّرَ الخليل للبلاغة الذي وقفنا عليه في تعريفه المُستجْلَب من كتاب العمدة، لكن كما قلت سابقًا أن التعريفات مُختلَسَةٌ من سياقاتها، وأن مرحلة التأسيس يعتريها من اللبس ما يعتريها؛ مما يجعل هذه التعريفات أقرب إلى الانطباعات النفسية والتفسيرات الذوقية منها إلى التعريفات العلمية المنطقية، الجامعة المانعة.
المبحث الثاني: أبو عبيدة وكتاب "مجاز القرآن":
وإذا ما تركنا مرحلة الملاحظات المتناثرة، وتقدمنا خطوة إلى الإمام، فإننا لا محالة واقفون على أثرٍ مهمٍّ أسهم في رَفْدِ الفكر البلاغي العربي، وهذا الأثر هو كتاب "مجاز القرآن"[7]، لأبي عبيدة (ت: 208)، وقد دار حول تصنيف هذا الكتاب جدلٌ واسع؛ فمن العلماء من صنَّفه على أنه كتاب تفسير، ومنهم من نظر إليه على أنه كتاب مجازٍ بالمعنى الاصطلاحي، ومنهم من رأى أنه كتاب لغة[8]؛ ولعل سبب هذا الجدل ومَرَدَّ هذا الاختلاف عائدٌ إلى طبيعة الكتاب؛ "فموضوعه قرآني، ومنهجه لغوي، وعنوانه والداعي إلى تأليفه بلاغيان"[9].
وأيًّا كان سبب تأليف هذا الكتاب، فهو في النهاية لا يخرج عن حقل البيان العربي بمفهومه الشمولي الذي يضم أشتات تلك العلوم التي تجاذبت هذا الكتاب.
حمل كتاب (مجاز القرآن) عنوانًا بلاغيًّا، وكان من المنتظر أن تكون فصوله ومباحثه مُنصبَّةً لمعالجة الصورة الفنية في القرآن الكريم، إلا أن المؤلف لم يُشِرْ إلا إلى التشبيه إشارات متفرقة، وتركَّزَ كلامه أكثر ما تركز على الجانب التركيبي؛ يقول أبو عبيدة: "ففي القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختُصر، ومجاز ما حُذف، ومجاز ما كُفَّ عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين ... ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشاهد ... ومجاز المضْمَرِ استغناء عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناء عن كثرة التكرير، ومجاز المقدَّم والمؤخر"[10]، فكل هذه المجازات التي ذكرها هي في الحقيقة تغييرات تمسُّ التركيب، أُدرجت فيما بعد في باب علم المعاني، والذي يظهر من حديث أبي عبيدة في حديثه عن هذه الأنواع من المجازات، وعن غيرها في مواضعَ متفرقةٍ من كتابه - أن القصد الأساس من وراء تأليف هذا الكتاب هو إثبات أن القرآن الكريم قد نزل على سَمْتِ العرب وطريقتها في القول والتعبير، وأن أسلوب القرآن ليس بِدْعًا من الأساليب، بل هو جارٍ على طرائقَ ومسالكَ كانت مستعملة متداوَلَةً بين العرب، ولا شك أن هذا الكتاب قد شكَّل رافدًا مهمًّا للفكر البلاغي العربي، ليس في باب علم المعاني فحسب، بل يمتد رفده إلى باب علم البيان كذلك.
المبحث الثالث: أبو العباس المُبَرَّد ودوره في التأسيس للدرس البلاغي:
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطوَّر الفكر النحوي مع تعاقب الأيام والسنين، وهذا التطور بطبيعة الحال سينعكس إيجابًا على الفكر البلاغي، وسنقف في السطور القليلة الآتية عند أبي العباس المبرد (ت: 286)؛ لنستبين عقله البلاغي، وأبرز الإسهامات التي قدمها لرفد الفكر البلاغي.
لأبي العباس المبرد كتابٌ في البلاغة؛ وهو عبارة عن رسالة ردَّ فيها على رسالة بعثها إليه أحمد بن الواثق سأله فيها عن: "أي البلاغتين أبلغ: أبلاغة الشعر أم بلاغة الخطب، والكلام المنثور والسجع؟ وأيتهما عندك - أعزك الله - أبلغ؟"[11].
فكان جواب المبرد على هذا السؤال هو تصوره للبلاغة؛ إذ قال: "إن حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى، واختيار الكلام، وحُسْنُ النظم؛ حتى تكون الكلمة مقاربة لأختها، ومعاضِدةً شكلها، وأن يقرب بها البعيد، ويحذف منها الفضول"[12]، ثم عقد بعد ذلك موازنة بين الكلام المنثور والمرصوف، وفضل الشعر، والذي يهمنا هنا هو تصور المبرد للبلاغة؛ فالبلاغة عنده قائمة على مجموعة من المعايير، يحقق بها الكلام شرط البلاغة؛ وهذه المعايير هي:
1- التحام اللفظ والمعنى واندغامهما.
2- مبدأ الاختيار الذي يقوم على اصطفاء اللفظة المناسبة من بين أخواتها اللائي هنَّ من حقلها الدلالي.
3- حسن النظم القائم على سلامة التركيب أولًا، ثم تلبية الشرط الجمالي.
4- الإيجاز القائم على المُلَحِ والإيماء، والقليل الذي يغني عن الكثير.
وهذا الفهم الذي قدَّمه المبرد للبلاغة فهمٌ متطور يكشف عن مدى تقدم العقل البلاغي في التقعيد لبيانه العربي.
وللمبرد آراء بلاغية قيِّمة أخرى نجدها مبثُوثَةً في كُتُبِهِ، وبخاصة كتاب (الكامل)، ومن أهم ما أفرزه عقل المبرد البلاغي "أضْرُب الخبر"، التي شكَّلت بعد ذاك محورًا مهمًّا من محاور الدرس البلاغي، وذلك في ردِّهِ على الفيلسوف الكندي، حين قال له يومًا: "إني أجد في كلام العرب حشوًا"، والقصة مشهورة[13]، وقد كانت إجابة المبرد على مقالة الكندي المتفلسف فتحًا عظيمًا في الفكر البلاغي، وأفردوا لذلك مبحثًا في علم المعاني أطلقوا عليه "أضْرُب الخبر".
ومن فتوح المبرد البلاغية تفصيلُ الحديث في باب التشبيه "تفصيلًا لعله لم يُسبَقْ إليه"[14]، كما يرى شوقي ضيف، واستند في معالجة باب التشبيه إلى ذوقه الفني الذي هداه إلى تقسيم التشبيه، ورأى أن "العرب تشبِّهُ على أربعة أضرب؛ فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى تفسير، ولا يقوم بنفسه، وهو أخشن الكلام"[15]، ثم ذهب بعد ذلك يمثِّل لهذه الأضرب مستعينًا بحِسِّهِ النقدي النَّابِهِ، إلا أنه لم يقدم تعريفات لهذه الأضرب، لكن ملاحظاته البلاغية القيِّمة لاقت صدًى كبيرًا في حقل الدراسات البلاغية، وخاصة حديثه عن أضرب الخبر، والتشبيه، وكذا الكناية[16].
المبحث الرابع: ابن جني وجهوده في التأصيل للفكر البلاغي:
ونواصل رحلة الرصد الموجز لأثر النحاة في تأسيس الفكر البلاغي، فتحطُّ بنا الرِّحال عند عَلَمٍ من أعلام البيان العربي؛ هو أبو الفتح عثمان بن جني (ت: 392)، هذا الرجل الذي شكَّل عقله البياني مرحلةَ النضج الذي تمثَّل في المزاوجة بين العقل النحوي المعياري، والعقل البلاغي الجمالي، وحمل أفكارًا تَنِمُّ على فَهْمِهِ العميق للمسائل التي يعالجها؛ فهو لا يأخذ كلام سابقيه على عِلَّاتِهِ، بل يُخضِعه للدرس والفحص والمناقشة، فيقبل منه ما كان موافقًا لعقله البياني، ويرد ما خالفه، ومن الأمور التي خالف ابن جني فيها متقدميه الحديثُ عن أنواع الدلالة؛ فالجاحظ يجعل أصناف دلالات المعاني من لفظ وغيره "خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد؛ أولها: اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى النصبة"[17]، أما الرماني فقد جعل البيان والدلالات على أربعة أقسام؛ هي: كلام، وحال، وإشارة، وعلامة[18]، إلا أن ابن جني لم يسمح لعقله البياني أن يقبل هذه الدلالات من غير فحص ولا درس، فحَصَرَ الدلالة في اللفظ فقط، وجعلها على مراتب: "فأقواهن الدلالة اللفظية، ثم تليها الصناعية، ثم تليها المعنوية"[19]، وهذا القَصْرُ الدلالي على اللفظ عند ابن جني يأتي نابعًا من فكره البياني الموازِنِ بين ما هو معياري، وما هو جمالي، فاستبعاد ابن جني لدلالة الإشارة والعلامة فيه إشارة إلى نظرة ابن جني للبيان؛ فالبيان عنده ليس مجرد إفهام، بل يتعداه إلى الإفهام البليغ، الذي لا يتأتَّى من خلال الإشارة والعلامة، بل يُحصَّل باللغة والكلام.
ولابن جني إسهاماتٌ جليلة في رفد الفكر البلاغي بالعديد من الأفكار والملاحظات البلاغية القيِّمة التي يطول بنا المقام لو تتبَّعناها، ولكننا نذكر منها على سبيل الذكر حديثه عن اللفظ والمعنى، والإيجاز والإطناب والمساواة، والاعتراض، والتكرار، والتوكيد، والالتفات، ونقض المراتب، والتقديم والتأخير، والحذف، فهذه الأبواب وغيرها باشرها ابن جني بعقلٍ مزج بين المعيار والجمال، واستطاع بفكره الوثَّاب وعقله النَّيِّرِ أن يُحدِثَ أصداء جليلة في الفكر البلاغي العربي.
الخاتمة:
وبعد هذا الرصد والتتبع الموجز لأثر النحاة في تأسيس الفكر البلاغي العربي، نخلُصُ إلى أن علاقة النحو بالبلاغة علاقة طردية؛ فكلما تقدم النحو خطوة إلى الأمام، تقدمت البلاغة معه خطوة، وحرصنا أن يكون رصد الرفد النحوي للفكر البلاغي مبنيًّا على التراتب الزمني الذي يقتضي تراتبًا في التطور الفكري؛ بدأنا بالخليل كممثِّلٍ لأعلام القرن الثاني، ثم اصطفينا المبرد كممثل لأعلام النحو في القرن الثالث، وانتخبنا ابن جني ليكون ممثلًا لأعلام النحو في القرن الرابع، وربما يسأل سائل: ما بالك قد أثبت في التمهيد كتاب المجاز لأبي عبيدة، وهو من مصنوعات القرن الثالث الهجري؟ والرد على هذا السؤال: رأيت أنه من اللازم عليَّ التطرق لهذا الكتاب المهم لأسباب؛ منها:
1- عنوان الكتاب يوحي بأنه كتاب بلاغي صِرْفٌ، وهو في الحقيقة كتاب لغوي فيه إشارات وملاحظات بلاغية يسيرة.
2- السبب الداعي إلى تأليفه كما تُجمِعُ المصادر[20] كان سببًا بلاغيًّا، فاقتضى هذا السبب في الأذهان أن يكون هذا الكتاب بلاغيًّا صِرْفًا، لكننا بعد البحث والتقصِّي وجدنا بالدليل أن هذا الكتاب كتاب لغوي؛ مما أبطل السبب الداعيَ إلى تأليفه، والذي أجمعت عليه المصادر.
-------------------------
[1]- أثر النحاة في البحث البلاغي، عبدالقادر حسين، دار قطري بن الفجاءة، الدوحة، ط: 2، 1986، ص: 7.
[2]- المثل السائر، ضياء الدين ابن الأثير، قدم له وعلق عليه: أحمد الحوفي، وبدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1973، ص: 37.
[3]- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين السيوطي، تحقيق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية بيروت، ط: 1، 1998، ص: 344.
[4]- الرسالة العذراء، إبراهيم بن المدبر، شرح: زكي مبارك، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط: 2، 1931، ص: 48.
[5]- العمدة، ابن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل، بيروت، ط: 5، 1981، ص: 242.
[6]- نفسه، ص: 245.
[7]- لنا وقفة مهمة حول السبب الداعي إلى تأليف هذا الكتاب، يشير محقق الكتاب في (ص: 16) أن سبب تأليف هذا الكتاب كان نتيجة سؤال إبراهيم بن إسماعيل الكاتب أحد كُتَّاب الفضل بن الربيع لأبي عبيدة عن معنى آية من القرآن، فأجاب أبو عبيدة عن هذا السؤال، واعتزم أن يؤلف كتابه مجاز القرآن، ولكن أثناء البحث والمطالعة والاستقصاء، وجدنا رأيًا آخرَ في غاية الوجاهة؛ ما يجعلنا نعيد النظر في سبب تأليف هذا الكتاب، وهذا الرأي يُنسَب إلى د. محمد رجب البيومي، يقول: "وقد راجت هذه القصة؛ لأنها معقولة لا يلوح في سردها الظاهر مكان للنقد، فتداولها أكثر من تحدثوا عن مجاز القرآن، ولكني أقف منها موقفًا آخر؛ إذ رجعت إلى كتاب المجاز فرأيت أن الآية المتحدث عنها ﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الصافات: 65] لم يتعرض أبو عبيدة لتفسيرها في سورة الصافات، وبعيد جدًّا أن يتفرغ الكاتب لتأليف كتاب من جزأين بسبب آية من القرآن الكريم، ثم لا يتعرض لها بالذكر، وكانت باعثه الأول ودافعه الحاثَّ إلى التأليف"، ويضيف البيومي دليلًا آخر على موقفه: "أن أبا عبيدة في مقدمة الكتاب لم يُشِرْ إلى الحادثة إطلاقًا، ولو اتفق منها شيء لسجَّله في السطور الأولى؛ تبيانًا لدافعه، وتحديدًا لخطته، وقد قصدنا من تهوين هذه القصة شيئًا هامًّا هو التعفية على ما قد يشير إليه من منهج المجاز؛ إذ تدل في سياقها العام على أن أبا عبيدة قد خطَّ كتابه ليتحدث عن المجاز مريدًا به الصورة البيانية، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الصافات: 65]، وما هكذا كان حديث الرجل؛ لأنه عنى بمجاز الكلمة مدلولها الذي تشير إليه، حقيقة كان أو غير حقيقة، إذ أراد بالكلمة معناها الأوسع وهو الممر والطريق، وقد كان ابن تيمية رحمه الله في طليعة من أشاروا إلى ذلك؛ إذ يقول: أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولم يَعْنِ بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما تعبر عنه الآية"؛ [المصدر: خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم، محمد رجب البيومي، الشركة العربية للطباعة والنشر، سلسلة البحوث الإسلامية، السنة الثالثة، الكتاب الثاني والأربعون، 1971، ص: 45، 46].
[8]- يُنظر إلى مختلف هذه الآراء في مقدمة تحقيق هذا الكتاب: مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر التيمي، تحقيق: محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988، الجزء الأول، ص: 16، 17.
[9]- التفكير البلاغي عند العرب، حمادي صمود، منشورات الجامعة التونسية، 1981، ص: 90.
[10]- مجاز القرآن، الجزء الأول، ص: 18، 19.
[11]- البلاغة، أبو العباس المبرد، تحقيق: رمضان عبدالتواب، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط: 2، 1985، ص: 80.
[12]- نفسه، ص: 81.
[13]- ينظر: دلائل الإعجاز، الشيخ عبدالقاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط: 5، 2004، ص: 315.
[14]- البلاغة تطور وتاريخ، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط: 9، 1995، ص: 60.
[15]- الكامل، أبو العباس المبرد، قرأه وعلق عليه: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط: 3، 1997، الجزء الثالث، ص: 95.
[16]- نفسه، الجزء الثاني، ص: 215.
[17]- البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق: عبدالسلام هارون، مكتبة ابن سينا، القاهرة، ط: 1، 2010، الجزء الأول، ص: 70.
[18]- ثلاث رسائل في الإعجاز، الرماني، والخطابي، الجرجاني، تحقيق: محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة، ط: 3، 1976، ص: 106.
[19]- الخصائص، ابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، د.ط، د.ت، الجزء: 3، ص: 95.
[20]- التفكير البلاغي عند العرب، ص: 90.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz6a2IZXhNI