كيف نبدِّد مخاوف أطفالنا المدرسية؟
نجيب محمد الجباري




يُعتبر الطفل ـ هذا الكائن البشري البريء ـ النواة الأولى للإنسانية، ورأسمال البشرية، ولهذا حض الإسلام الكبار على تربيته وتعليمه وتنشئته تنشئة صالحة ليكون مواطناً صالحاً تستفيد منه أسرته ومجتمعه، وترجع المسؤولية الكبرى في ذلك إلى الآباء باعتبارهم أول من يفتح الطفل عليه عينيه، وقد جاء في الحديث الشريف: >علّموا أبناءكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع<·
وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية باعتبارها تجربة جديدة في حياة الصبي، ففيها يؤسس الطفل لعلاقاته الأولى ولتجاربه خارج البيت، وتُعد فترة التحاقه بالمدرسة للمرة الأولى من أهم الفترات في مساره الطفولي·



وإدراكاً لأهمية هذه المرحلة في حياة الطفل، فقد أولاها علماء النفس والتربية أهمية خاصة لأنها مرحلة تأسيسية في بناء وتشكيل السمات الشخصية التي ستلازم الطفل طوال حياته·
إلا أن بعض الأبناء والأطفال تتملكهم مشاعر القلق والخوف من خوض غمار تجربة الالتحاق بالمدرسة مع حلول كل عام دراسي جديد، فيُشكل هذا الخوف إحدى المشكلات، ومصدراً من مصادر الضيق والقلق للآباء والأمهات، فما الأسباب المؤدية لهذه الظاهرة؟ وهل يمكن الحديث عن حلول لمعالجتها أو على الأقل الحد من خطورتها واستفحالها وتأثيرها على حياة الطفل المدرسية؟
رهبة الاصطدام بعالم المدرسة
لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن المدرسة أنشئت لاحتضان الطفل ورعايته، فما تقرر فيها من أنشطة وبرامج ومناهج وطرق يهدف إلى مساعدة الطفل على تحقيق نموّه البدني والنفسي والعقلي وتطوير قدراته، والثقة في نفسه والاعتماد عليها ليكتسب الكفاية التواصلية مع العالم الخارجي·
ومن المؤسف عليه أن الأسرة لا تقوم بدورها كاملاً في إعطاء الطفل هذه الصورة الناصعة عن حقيقة المدرسة، بل بالعكس نجد بعض الآباء غالباً يصوّرون للطفل المدرسة في صورة فضاء معد للجد والعمل فقط، لا مجال فيه للعب والمرح، متناسين أن المدرسة هي فضاء للتفتح والانفتاح والارتياح، فضاء آمن سيحظى فيه الطفل ـ بالتأكيد ـ بالاحترام وبمراعاة حريته وكرامته، كما أن بعض الأسر تصوّر لطفلها المقبل على الالتحاق بمرحلة الروضة أو بالمدرسة، المدرّس كشخص بالغ الجدية، حازم، ودائم العبوس لا يعرف الابتسام والبشاشة إلى وجهه سبيلاً، فتترسَّخ لدى الطفل هذه الصور التي تُثير فيه الرعب والدهشة والقلق وبالتالي الخوف من المدرسة، ما يؤثر سلباً على مساره التعليمي·
إن هذه السلوكات التي يقدم عليها بعض الآباء تنمُّ عن نقص في الوعي بطبيعة الطفولة وحاجتها وبأهمية المدرسة وبأدوارها المتعددة باعتبارها مكاناً نتعلّم فيه ماهية القوانين المجتمعية والجماعية، وفضاء للاندماج في المجتمع وللتكيف مع قواعده و>ميكانيزماته<، وللإبداع والتبادل والتواصل مع الآخر·



فضاء المدرسة ومحيطها
وثاني الأسباب والعوامل التي تجعل الطفل يخاف من المدرسة ويكرهها وينفر منها طبيعة فضائها وأجوائها، فضيق مساحة المدرسة وقلة مرافقها وضعف تجهيزاتها وكثافة عدد تلاميذها، وصرامة النظام المدرسي، وحزم المعلم المبالغ فيه، وبعض ردود فعله التقويمية كالغضب من بعض الإجابات أوالتأنيب المستمر، فضلاً عن العنف والعقاب البدني إلخ···، كل ذلك يؤثر على الطفل المتعلِّم من الناحية السيكولوجية، حيث تضطرب شخصيته وينطوي على نفسه ويقلق ويخجل··· فيكره المدرسة ويهجرها·
إن الصغير عندما تطأ قدماه وللمرة الأولى المدرسة، يعتبرها عالماً غريباً عنه وخصوصاً أنه يستقبل من طرف أشخاصاً لا يعرفهم >معلموه< دون أن يتمكن أبواه ـ وهما مصدر حماية رمزية له ـ من الدخول معه إلى فضاء المدرسة، فيصاب بالذعر وينكمش على نفسه خائفاً من هذا العالم الغريب الذي ألقي به فيه، وهو يحمل اعتقاداً مفاده أنه كان في أسرته دائماً مركز الاهتمام، ومحط الحب والعناية والمعاملة الحسنة، ولكن في الفصل تتمكن منه مشاعر الخوف من أن يكون غير مرغوب فيه أو أن يعامل المعاملة نفسها التي يُعامل بها الآخرون دون أن يحظى بالحظوة التي تعوَّد عليها في حضن أبويه، كما أنه يُصدم منذ اليوم الأول بقواعد حسن التصرف والانضباط كالوقوف في الصف ورفع اليد والاستئذان عند أخذ الكلمة والبقاء جالساً على المقعد دون حراك لمدة طويلة والإنصات والانتباه لشرح المعلم··· كل هذه الأمور تجعله ينزعج بشدة من المدرسة فيتمارض في صباح كل يوم دراسي ويبكي ويتوسل للبقاء في البيت، كما أن بعض الحالات المرضية التي تبدو على الطفل مثل مص الأصابع وقضم الأظفار والتمتمة أو صعوبة الكلام، والاضطرابات النفسية كالأرق والغضب والعدوانية·· هي مظاهر ناتجة من حالات القلق والخوف والتوتر التي يعيشها الطفل في أيامه الأولى من التحاقه بالمدرسة، فضلاً عن ظهور وساوس احتقار الذات والإحساس بالنقص وفقدان الثقة بالنفس·
يقول الدكتور >أحمد عزة راجح< في هذا الصدد: >ومن أهم ما يفقد الطفل ثقته بنفسه إسراف الكبار في نقد أخطائه والسخرية مما يُبديه من روح المبادرة·· وكبحه حين يختلف رأيه عن آرائهم، فسرعان ما يتعلم أن أفكاره تسبب له المتاعب ويرى من الخير أن ينقاد ويمتثل بدلاً من أن يوجه نفسه بنفسه<(1)·




كيف نبدد مخاوف الطفل المدرسية؟
لا شك أن هذه المهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، فبقليل من الجهد والتبصر والوعي نستطيع طمأنة الصغير وتدعيمه معنوياً خلال هذه الفترة الحرجة، وهذه المهمة ملقاة أصلاً على عاتق الأبوين اللذين يجب عليهما مساندة طفلهما معنوياً ونفسياً من أجل تخطي حاجز القلق والخوف من الدخول إلى الفضاء المدرسي، وذلك من خلال إعطائه فكرة إيجابية عن هذا العالم باعتباره مكاناً نتعلم فيه ونقضي أوقاتاً جميلة ومهمة، وفيه نكبر وننمو، وفيه نقيم علاقات مع الآخرين، وهذا كفيل بأن يحمل الطفل على التطلع لخوض هذه المغامرة الجميلة قصد سبر أغوار هذا المجهول·
كما أن تسجيل الطفل بالمدرسة أو في مرحلة الروضة لا ينبغي أن يتم بطريقة فجائية دون أن يُعد له الوالدان ظروفاً نفسية حتى تتم هذه المرحلة الانتقالية بالشكل المطلوب ومن دون حدوث أي مضاعفات من أي نوع·
وينبغي على المربيِّن أنفسهم تذويب حالات الخوف وإضعاف قوة الصدمة الأولى التي يواجهها الطفل لدى اقتحامه لهذا العالم الغريب عنه وانفصاله عن كنف أسرته للمرة الأولى، وذلك بتلبية حاجاته الأساسية كالأمن النفسي والعطف والحب والابتعاد عن الشدة ما أمكن، وبث روح المنافسة الجادة بين المتعلمين الصغار، وإذكاء جذوة الابتكار لديهم والعمل على خلق جو من التفاهم والتعاون داخل جماعة القسم مع تقبل رأي الآخر واحترامه·
إن كل الأطراف المكونة للعملية التربوية والتعليمية مطالبة بإخضاع سلوكها نحو الطفل للضوابط الدينية الشرعية وآداب الوظيفة التربوية وأمامه مهنة التعليم وأحكام القوانين والأعراف المهنية، التي تُجمع كلها على ضرورة الرفق بالطفل المتعلم وتحسين ظروف تعلّمه·



إن التعليم ينبغي أن يكون ممتعاً ومفيداً وضيقاً لامنفراً ومكرهاً، ينبغي أن يلبي مطالب نمو الطفل البدنية والاجتماعية والنفسية والمعرفية والوجدانية، وهذا كفيل بأن يُرغِّبه في التعلّم ويزيده اندماجاً في حياة جماعة القسم، ويحفّزه على الإقبال على المدرسة وعدم الخوف منها، لأن الطفل، كما يقول الدكتور حامد عبدالسلام زهران: >يحتاج إلى الشعور بالأمن والطمأنينة بالانتماء إلى جماعة الأسرة والمدرسة، إن الطفل يحتاج إلى الرعاية في جوٍّ آمن يشعر فيه بالحماية من كل العوامل الخارجية المهددة، ويشعره بالأمن في حاضره ومستقبله<(2)·
الهوامش
1 ـ أصول علم النفس، ص 235، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، بدون تاريخ·
2 ـ علم نفس النمو: الطفولة والمراهقة، ص 270، عالم الكتب، القاهرة، ط8، 1986م·