لهذه المعارك مِيزةٌ خاصة في حروب المسلمين مع اليهود في العصر الحديث، فقد خاض العرب قبلَها ثلاث حروب خاسرة، مما أعطى انطباعًا لدى العرب عن عدم قدرتهم على قهر اليهود المغتصبين لفلسطين، فمِيزتها الخاصة إذًا أنها حرب غيَّرت مفهوم التفوق اليهودي، ورفعت من قيمة الجندي المسلم إذا ما أُحسنت قيادته ودُرِّب التدريبَ الحديث، فهو بطل مِقدام، وعلى كل حال كانت هذه الحروب مختلفةً عن الحروب التي سبقتها مع اليهود؛ لأن العرب هم الذين وضعوا توقيتَها، فكانت الصدمة الأولى لهم، فباغتوا العدوَّ لأول مرة في هجوم كاسح، وسأذكر في هذه الحرب التي استمرت تسعة عشر يومًا أهمَّ معركتين من معاركها العديدة؛ فمنها ما كان على مستوى الكتيبة والسرية، ومنها ما كان على مستوى الفرق والألوية، ومنها ما كان في الجو على مستوى اشتراك السرب الواحد والأسراب التي فاقت المائتي طائرة، ومنها ما كان في البحر، ولكن على مستوى يقل عنه في البر والجو؛ لصغر حجم القوات البحرية من الطرفين المتحاربين، فالمعركة الأولى التي اخترتها معركة الضفة الشرقية لقناة السويس في 12رمضان.
سببها: أن الإسرائيلين أرادوا صدَّ الهجوم المصري الذي باغتهم يوم العاشر من رمضان؛ حيث كانت معركةُ العبور لقناة السويس، والتي سجَّل فيها الجندي المسلم قدرة وشجاعة خارقة ضد العدو، فقام الجيش المصري بعبور هذا الحاجز المائي العريض، وارتقاء الضفة الشرقية للقناة التي ارتفع فوقها خطُّ بارليف بما يزيد عن عشرين مترًا، مع مواقع محصَّنة، ومدفعية متنوِّعة، ودبابات كثيرة، فدحرت القواتُ المصرية قواتِ العدوِّ في هذا الخط الدفاعي الحصين، واستولت على معظم مواقعه على طول قناة السويس، ثم مدَّت الجسور لمرور الدبابات والآليات التي أخذت مواقعها بإتقان على الضفة الشرقية للقناة؛ لتستعدَّ لقفزة جديدة وتُطوِّر هجومَها في العمق، استفاق العدو من الصدمة الأولى بعد مرور يوم، ثم حشد قوَّاته لصد الهجوم في معركة فاصلة، وزج في المعركة بأكثرَ من خمسمائةِ دبابة لاقتلاع القوات المصرية من شرقي القناة ودحرها للغرب من حيث أتَت، ودارت رحى معركة عنيفة على ضفة القناة الشرقية، شاركت فيها مختلف الأسلحة من القوات المصرية ضد هجوم الدبابات الشرسة، وقيل: إن العالم لم يشهَد في حروبه الحديثة مثل هذه المعركة وهذه الأعداد الهائلة من الأسلحة الحديثة - قد تكون هناك حروب لأعداد أكبر من الدبابات، ولكن كانت أسلحتها ليست بهذا المستوى من التدمير - ومُنيت القوات الإسرائيلية في هذه المعركة بهزيمة مُنكَرة، وفقدت أكثر من ثلاثة أرباع دباباتها، وأُسِر قائد إحدى الألوية، كما قتل قائد إحدى الفرق، وهو الجنرال ألبرت ماندلر، ومُني الهجوم الإسرائيلي بأفدح الخسائر، وتقدَّمت القوات المصرية عدة كيلو مترات لتعزيز مواقعها.
المعركة الثانية:
معركة الجولان يوم السبت السادس من تشرين الأول، العاشر من رمضان، وفيها حشدت سورية على خط الهجوم ما يزيد على ثمانمائة دبابة - قدَّر العدو عددها بألف ومائتي دبابة - وفاجأت إسرائيل على جبهة الجولان بهجوم مُباغِت في الساعة الثانية وعدة دقائق من بعد ظهر العاشر من رمضان 1393هـ - 1973م، وتقدَّمت هذه الأرتال المجنزرة بسرعة وهي تقتحم مواقع العدو وتدمِّره، فاجتازت خط الدفاع الأول، مُلحِقة بالعدو خسائر فادحة في الأفراد والعتاد، وواصلت القوات السورية زحفها في اليوم التالي - أي: الحادي عشر من رمضان - وكانت على ثلاثة محاور: شمالي وجنوبي وأوسط، ووصلت هذه القوات إلى خط الحدود السابق قبل حرب 1967م، وفي أثناء هذا الهجوم حدثت معارك جوية، وأصيب الطيران الإسرائيلي بخسائر غير معهودة من قبل؛ إذ كان متفوقًا في الحروب السابقة، فقد واجه مقاومة عنيفة من الطائرات السورية والصواريخ المضادة أنزلت به خسائرَ كبيرةً، ولعل المعركة الصغيرة في حجمها والمهمة في نوعيتها جديرةٌ بالتنويه هنا، وقد سبقت الهجوم الواسع الكبير بعدة ساعات، وكانت تستهدف المرصد الإسرائيلي المُقام على مرتفعات جبل الشيخ، فقد هوجم بعدد من الجنود المغاوير، ودارت فيه رحى معركة عنيفة بالبنادق والقنابل والسلاح الأبيض، وتفوَّق الجنود السوريون وسيطروا على المرصد، وحرَموا إسرائيل من اكتشاف الهجوم السوري الكبير بعد أن أزالوا مركز المراقبة، وكان هذا المرصد المرتفع كعُشِّ الصقر بمثابة حصن قوي بالغ التحصين.
من الجدير بالذِّكر أنه قد دارت معارك عديدة بعد اليوم الثاني عشر من رمضان على الجبهتين السورية والمصرية، كان في بعضها النصر سجالًا، وفي بعضها الآخر لصالح الإسرائيليين بعد أن أمدَّتهم الولايات المتحدة بالسلاح الفتَّاك المطور، فحدثت ثغرات في خطوط الدفاع على الجبهة المصرية، واختراق وصل إلى مدينة السويس في غرب القناة، واختراق وارتداد للقوات السورية إلى نقطة البداية، وتعقَّدت المعارك وتداخلت نتائجها، وساهمت كثيرٌ من الدول العربية في إمداد الجيوش العربية بالرجال والسلاح؛ كالعراق، والمملكة العربية السعودية، والأدرنِّ، والكويت، والمغرب، وقوات من أبناء فلسطين، ثم أوقَف مجلس الأمن القتال، ومع كل ما حصل، فإن النتائج كانت لصالح الأمة العربية، ولم تخسر إسرائيل في جميع حروبها مع العرب مثلَ ما خسرته في هذه الحرب، فضلًا عن ارتباكها وذعرها من الضربة الأولى، وقد كانت تزعم أنها لا تُقهَر، وأن حربها مع العرب مجرَّد نزهة لجيشها.
ماذا قال الإسرائيليون عن حرب العاشر من رمضان؟
قال موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في مؤتمر سري صحفي في 9/ 10/ 1973:
"لقد قامت لدي قناعة أكيدة بأن العالم العربي قد استيقظ ليشهد عجزنا عن صد القوات المصرية والسورية في آن واحد".
وقال أريك رولو: "إن المعارك التي أدهشت ضراوتها قضت على كثير من المعتقدات العسكرية والأساطير التي عُرِف بتعهدها الزعماء الإسرائيليون في النفوس".
وقال مظلي إسرائيلي: "لقد كانت هذه الحرب تجربة قاسية جدًّا، فقد خيل إلينا على جبهة السويس بأن اجتياحًا ضاريًا ضخمًا عنيدًا يكاد يلتهمنا".
وقال بارليف صاحب الخط الحصين الشهير على قناة السويس: "إن العرب كانوا مصممين هذه المرة على المجازفة".
وقال تقرير لجنة شمعون التي حقَّقت في ارتباك القيادة الإسرائيلية: "لقد فاجأ بَدْء مصر وسورية الحرب - يوم الغفران - في 6/ 10/ 1973م في الساعة 14 تقريبًا الجيش الإسرائيلي؛ لأن القيادة العليا السياسية والعسكرية لم تُقدِّر حتى ساعات الصباح الباكر من ذلك اليوم أن حربًا شاملة ستبدأ".
ومع هول الصدمة لدى القيادة الإسرائيلة، والنجاح في الهجوم السوري والمصري، فإن القيادة العربية لم تَستغِلَّ النجاح لمزيد من المكاسب.
وبقي أن نذكر أن هذه الحروب كانت في عهد كلٍّ من الرئيس أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية، وحافظ الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/142119/#ixzz6YmeNqTNv