الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من فضل الله علينا أن جعلنا من هذه الأمة التي شرَّفها بخير كتبه الذي أنزله على خير رسله، قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
إنه المعجزة الخالدة، والآية الباهرة، والمنحة الربانية، إنه الصراط المستقيم، والمنهج القويم الذي من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
هو الهداية للبشرية، والبشرى لمن تمسك به وسار على نهجه؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
إنه كلام رب العالمين، وصفة من صفاته، ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
تكفَّل الله تعالى بحفظه، فلم يستطع أحد ولن يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفًا واحدًا؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
إنه الشفاء والرحمة؛ قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن؛ فإن فيه علم الأولين والآخرين.
أيها الأحبة الكرام، القرآن الكريم معجزة عظيمة تحدى الله تعالى به فصحاء وبلغاء الإنس والجن، تحداهم أن يأتوا بمثله؛ قال سبحانه: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
بل تحدَّاهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله: ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].
القرآن منبع البركات ومود الخيرات، فمن أراد أن يبارك الله له في نفسه وولده وأهله وماله ووقته، وكل ما رزَقه الله تعالى فعليه بملازمة القرآن، فكلما كان الإنسان أقرب إلى القرآن، كان نصيبه أكثر من الخير والبركات؛ لأنه كتاب مبارك، ألم يقل ربنا سبحانه: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155].
قال أحد الصالحين: كلما زاد حزبي من القرآن، زادت البركة في وقتي، ولا زلت أزيد حتى بلغ حزبي عشرة أجزاء، يعني في كل يوم.
وإن الصحابة والتابعون لهم بإحسان لما تمسكوا بالقرآن وساروا على نهجه، نصرهم الله وأيَّدهم، ومكَّن الله لهم في الأرض، وسادوا الأمم.
نور الكتاب أضاء فيمن قبلنا
فمحى الشكوك وبدد الأوهامَ
صاغ الجنود على هدًى من شرعه
قمما تضيئ وترفع الأعلامَ
أيها الأحبة الكرام، مهما تكلَّم البلغاء، ومهما عبر الفصحاء عن عظمة القرآن الكريم، فلن يوفوه حقه، وما هذه الكلمات إلا إشارات عابرة للذكرى، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما مقدار تعظيمنا لهذا الكتاب العظيم، وعملنا بما فيه، واحتكامنا إليه، وتمسكنا به، وتربية أبنائنا عليه وتعليمهم إياه.
أولًا: تعظيمه في النفوس ومحبته، لا بد أن نعظِّم القرآن في نفوسنا وفي نفوس أبنائنا، فينشؤوا على تعظيمه وحبه والتعلق به؛ قال سبحانه: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21].
للأسف أن من المسلمين والمسلمات من يستمتع بالأغاني وسماع المعازف، أكثر من استمتاعه بتلاوة وسماع القرآن، فأين الحب وأين التعظيم، نسأل الله السلامة.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر محبة القرآن من قلبك.
ثانيًا: تعلمه، بتعلم تلاوته وتعلم معناه وتفسيره، وأحكامه، وما فيه من العلم النافع، وأن نشجع أبناءنا ونحثهم على حفظه وتعلمه، ونسعى في تعليمه للآخرين، واعلم أيها الأخ الكريم أنك إذا علمت أو شجعت، أو ودعوت إلى تعلم القرآن، فسيكون كل من تعلم بسببك في ميزان حسناتك أجر تلاوته، وكل عمل صالح يعمله بسب تعلمه، وكذلك من سيعلمهم هو من الأجيال إلى ما شاء الله...، فيا لها من صفقة عظيمة، فإن الدال على الخير كفاعله، هذا بمجرد الدلالة على الخير، فكيف بمن يعين عليه، ويبذل جهده لأجله.
فابدأ بنفسك أخي الكريم بتعلم القرآن واجتهد في حفظه بقدر استطاعتك، حتى كبير السن لا ييئس فيوجد من حفظوه وهم كبار في السن، خذ كل يوم مقدارًا منه ومع الأيام، ستجد أنك قد حفظته فالأيام تمضي، المهم أن تكون العزيمة موجودة، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
وفي الحديث: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه"؛ رواه البخاري.
فكن من خير الناس واظفر بهذا الفضل العظيم، وغيره من الفضائل.
اقرأ ورتِّل وتعلَّم وعلِّم وأبشر، وتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران)؛ كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.
ثالثًا: كثرة تلاوته، فإنه تلاوته من أعظم أيسر الطرق إلى ملء رصيدك من الحسنات، كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف))؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
قراءتك للقرآن تجعلك تحظى بشفاعته يوم القيامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ)؛ رواه مسلم.
رابعًا: تدبُّر آياته والتأمل في معانيه، ومدلولاته، والتفكر فيه، وأن تستشعر أنه يخاطبك فتخاطب نفسك به؛ قال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
خامسًا: العمل بما جاء فيه: فإذا وجدت أمره امتثلت لأمره، وإذا وجدت نهيه انتهيت، ولسان حالك ومقالك: سمعنا وأطعنا، تحكمه في كل أمورك، وتجعله دستورك في جميع أحوالك.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلى ما بعدها حتى نعمل بهنَّ.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن، لم نتجاوزهنَّ حتى نتعلم معانيهن والعمل بهنَّ، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا.
أيها الأخ الكريم، اسأل نفسك يا أخي الكريم بصراحة: كم تعطي القرآن من وقتك في كل يوم من أربع وعشرين ساعة تمر عليك، أما يستحق كلام الله أن تعطيه من أعز وقتك، أصبح الكثير منا يقرأ ويتصفح رسائل المخلوقين في جواله عدة مرات في اليوم الواحد، وربما يمر عليه اليوم وأكثر ولا يخطر بباله أن يقرأ كتاب رب العالمين وكلام خالقه؟
للأسف أن بعضنا معشر المسلمين لا يعطي القرآن إلا وقت فراغه، حينما لا يجد ما يشغله، ومن الناس حتى وقت فراغه يبخل به للقرآن، فلا يقرأ ولا يتلو كتاب ربه إلا مرة في الأسبوع والبعض أقل من ذلك فمن المسلمين من لا يقرؤه إلا في رمضان، وهذا والله حرمان كبير، وخسارة فادحة، وقليل من يتعلمه، كم منا معشر المسلمين، من لا يجيد قراءته والبعض لا يفكر في تعلُّمه أصلًا، والأشد خطرًا حين يخطئ في سورة قراءة الفاتحة وهي ركن من أركان الصلاة، والعلماء يقولون لو كان الخطأ في الفاتحة يغير المعنى أو ينقص منها حرفًا، فإن صلاته باطلة.
وأما التدبر فقليل من يتدبره، نسأل الله السلامة، وأن يتجاوز عن تقصيرنا ويردنا إليه ردًّا جميلًا ويملأ قلوبنا بحب كتابه، والتعلق به.
فلنحذر أيها الأحبة من هجر القرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
هجر القرآن أنواع؛ قال ابن القيم رحمه الله:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به.
والثاني: هجر العمل به وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه.
والرابع: هجر تدبُّره وتفهُّم معانيه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب.
فاحذر يا عبد الله أن تهجر القرآن مهما كانت الظروف، اجعل لك وردًا يوميًّا لا تتركه، وجاهد نفسك ذلك، فإن الوقت يمضي ولا تشغلك الدنيا فإنها زائلة.
نسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم ذكِّرنا منه ما أُنسينا وعلِّمنا منه ما جهلنا، اللهم اجعله شافعًا وحجة لنا يوم الدين.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/142013/#ixzz6YCgL4API