لا أختاه··· ليس بالحب وحده

منى السعيد مصطفى الشريف




جاء في رسالتها: >نور غاب، جذوة انطفأت، دخان بددته الرياح··· هكذا أصبح شعوري نحوه كيف ضاعت تلك العاطفة الجارفة؟! لا أدري··· أين ذهبت تلك اللهفة؟!·· لا أدري· لقد دخلت في الالتزام في سن صغيرة وعرفت من مبادئ هذا الدين القيم وأخلاقه ما عصمني به الله من الوقوع في شراك بعض العلاقات المحرَّمة ـ بالرغم من أنني عشت ـ بين الفتيات والفتيان في سن المراهقة، كان من طبعي الجدية والالتزام منذ الصغر، ولكن ذلك لم يمنعني من أن أحمل بين جوانحي قلباً يفيض بالحب والعطاء، وأن أحتفظ بكل تلك المشاعر لزوج صالح رجوت الله أن أزين به شبابي وعمري المقبل، وتحقق الأمل واندفعت بقوة الأماني أعطيه كل ما ادخرت له من مشاعر تحملها زوجة محبة لزوجها·· لا والله لم تكن أبداً علاقة زوجة بزوجها، لقد فاقت مشاعري ذلك كثيراً، لم أكن أتحمل غضبه مني للحظات، كنت أبكي إذا ما تأخرت عن موعد عودته بحرقة كأم فقدت ولدها، وقتلني الخوف والقلق عليه والغيرة المريرة مرات ومرات··· ولكن ضاع كل ذلك وتبددت كل تلك المشاعر··· ولم أدر أكان ذلك وليد موقف؟ لا·· بل مواقف كان آخرها إهانته لي أمام أهله وهو يعلم أنني ممن تقتلهم الكلمة فضلاً عن الإهانة··· كان الموقف أصعب من أن أتحمله حتى أنني أصبت بالانهيار، ثم ماذا بعد··· مرَّ الموقف، هدأت الأمور، رجع كل شيء إلى عادته وطبيعته إلا أنا، فقد أصابتني حال غريبة لا أعرف لها تفسيراً، بل لا أعرف لها اسماً، إنه الهدوء المميت سيطر على كل انفعالاتي أو لنقل إنها حال من اللامبالاة فلم يعد يعنيني أي شيء، حضوره أو غيابه·· شعوره بالندم، ماذا حدث بالأمس·· وماذا سيحدث في الغد؟ لم يعد يعنيني·· ما يعنيني الآن أنني تغيرت وتغيَّرت نظرتي له، فقدت حتى الرغبة في الحديث معه، وبت أبحث عن تلك العاطفة التي ربطت بيننا خلال كل تلك السنوات التي كانت تذيب بحراراتها جليد أي خلاف بيننا فلا أجدها، لقد جاهدت نفسي وقاومت شيطاني مراراً حتى أرهقتني المجاهدة، وأصبحت الحقيقة واضحة أمامي وضوح الشمس، لقد تحوَّل قلبي عنه، وسبحان مقلِّب القلوب، ولا أدري الآن كيف سيكون الغد، وهل أستطيع مواصلة الحياة··· أما ماذا أفعل؟!<· عفواً يأختاه أرى أنك مازلت واقعة تحت تأثير غضبك وحزنك الذي تتفجر به كلماتك المشبعة بالأسى والمرارة لذلك سوف تكون نظرتك لتقدير الأمور غير عادلة وغير صحيحة ولا يغرنك ما تذكرينه من هدوء شديد يسيطر على انفعالاتك، فالثورة والغضب قد تأخذا أشكالاً كثيرة وغريبة وللنفس البشرية أسرار لا يعلمها إلا خالقها، ولعل ذلك الهدوء رحمة من الله ولطف كي تمر العاصفة بسلام ولا تتصدع جدران هذا البيت الطيب، ولكن المنطق والعقل يقول: إنه لا يمكن أن نحطم أسرة ونهدم علاقة قامت على كل هذا الود والمحبة التي أسهبت في سردها لمجرد موقف مهما بلغت صعوبته وقسوته على نفسك، وحتى إن كان ذلك نتيجة مواقف عدة، كما ذكرت، فمن منَّا لم يمر بذلك، وأي أسرة عبرت خضم الحياة دون أن تعصف بأشرعتها رياح الغضب والقسوة والجحود، إننا يأختاه بشر ونتعامل مع بشر، تذكري هذا دائماً، أما شعورك بتحول قلبك عنه فهو إن شاء الله شعور موقت وغير صحيح والدليل على ذلك أنك لم تستطيعي أن تتفوهي بكلمة الانفصال أو تقترحيها، وإن كنت أرجع هذا الشعور إلى شدة عاطفتك فعلى قدر الحب يكون الغضب من المحبوب، ولهذا فقد اتخذت قراراً لا شعورياً بمعاقبته بانتزاع هذا الحب الذي رأيت أنه لم يقدره ويحافظ عليه· وحتى إن وصلنا إلى أسوأ الفروض وأقساها، وجزمنا بأن قلبك قد تحول عنه والقلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء، فهل كل البيوت تقوم على الحب والعاطفة فقط، فإذا ما ولَّت العاطفة تهدمت···؟! لا يأختاه، هذا تصور خاطئ وخيالي يجعل البيت في مهب عواصف الأهواء والنزوات، والدليل على ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل طلق زوجته: لِمَ طلقتها؟، قال: لا أحبها، فقال رضي الله عنه: >أو كل البيوت بني على الحب فأين الرعاية والتذمم؟!<·




فقد يكون الشعور بالبغض أو تحوُّل القلب شعوراً خادعاً وغير صحيح نتيجة غضب أو ثورة، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: >لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر< رواه مسلم·



لذا ينبغي على كل من الزوجين أن يتكلف التحبب إلى الآخر بأكثر مما يجده له في قلبه، فإن التطبع يصير طبعاً، ورحم الله عُلية بنت المهدي أخت هارون الرشيد حيث تقول: >تحبب فإن الحب داعية الحب<، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لامرأة خاصمت زوجها وصرحت له بأنها لا تحبه فقال لها: >إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منَّا، فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام<·



إن من كريم مبادئ التشريع الإسلامي وعظيم مراعاته للطبيعة البشرية ما أحله الله تعالى من الكذب المباح بين الزوجين لجلب الود وبث المحبة في النفوس بالكلمة الطيبة، فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: >ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمِّي خيراً أو يقول خيراً<، قلت: >ولم أسمعه يرخِّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها< رواه البخاري·
وأخيراً: يأختاه فإن في نفس كل منا منطقة تتوارى فيها الذكريات والخبرات المؤلمة قد لا ننساها ويبقى أثرها علامة على خارطة العمر، ولكن يجب أن نتعلم كيف نتناساها كي تسير قاطرة الحياة دون أن تتوقف أو تتعسر وكما يقولون: إن كل شيء يولد صغيراً، ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تولد كبيرة ثم تصغر، أقول كذلك الغضب والحزن يولد كبيراً ثم يصغر مع الأيام، وفقك الله وهداك وإيَّانا إلى ما يحبه ويرضاه·