تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 8 من 13 الأولىالأولى 12345678910111213 الأخيرةالأخيرة
النتائج 141 إلى 160 من 250

الموضوع: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله

  1. #141
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الثالث

    الحلقة (141)
    صــــــــــ 236 الى صـــــــــــ242





    الشركة .

    ( أخبرنا الربيع ) : قال أخبرنا الشافعي قال : شركة المفاوضة باطل ، ولا أعرف شيئا من الدنيا يكون باطلا إن لم تكن شركة المفاوضة باطلا إلا أن يكونا شريكين يعدان المفاوضة خلط المال والعمل فيه واقتسام الربح فهذا لا بأس به وهذه الشركة التي يقول بعض المشرقيين لها شركة عنان وإذا اشتركا مفاوضة وتشارطا أن المفاوضة عندهما هذا المعنى فالشركة صحيحة وما رزق أحدهما من غير هذا المال الذي اشتركا فيه من تجارة أو إجارة أو كنز أو هبة أو غير ذلك فهو له دون صاحبه ، وإن زعما أن المفاوضة عندهما بأن يكونا شريكين في كل ما أفادا بوجه من الوجوه بسبب المال وغيره فالشركة بينهما فاسدة ، ولا أعرف القمار إلا في هذا أو أقل منه أن يشترك الرجلان بمائتي درهم فيجد أحدهما كنزا فيكون بينهما . أرأيت لو تشارطا على هذا من غير أن يتخالطا بمال أكان يجوز ؟ أو أرأيت رجلا وهب له هبة أو آجر نفسه في عمل فأفاد مالا من عمل أو هبة أيكون الآخر له فيه شريكا ؟ لقد أنكروا أقل من هذا .
    [ ص: 237 ] الوكالة .

    ( أخبرنا الربيع ) : قال أخبرنا الشافعي إملاء قال : وإذا وكل الرجل الرجل بوكالة فليس للوكيل أن يوكل غيره مرض الوكيل أو أراد الغيبة أو لم يردها ; لأن الموكل رضي بوكالته ، ولم يرض بوكالة غيره . وإن قال : وله أن يوكل من رأى كان ذلك له برضا الموكل .
    وإذا وكل الرجل الرجل وكالة ، ولم يقل له في الوكالة أنه وكله بأن يقر عليه ، ولا يصالح ، ولا يبرئ ، ولا يهب فإن فعل فما فعل من ذلك كله باطل ; لأنه لم يوكله به فلا يكون وكيلا فيما لم يوكله .
    وإذا وكل الرجل الرجل بطلب حد له أو قصاص قبلت الوكالة على تثبيت البينة فإذا حضر الحد أو القصاص لم أحدده ، ولم أقصص حتى يحضر المحدود له والمقتص له من قبل أنه قد يعزله فيبطل القصاص ويعفو وإذا كان لرجل على رجل مال وهو عنده فجاء رجل فذكر أن صاحب المال وكله به وصدقه الذي في يديه المال لم أجبره على أن يدفعه إليه فإذا دفعه إليه لم يبرأ من المال بشيء إلا أن يقر صاحب المال بأنه وكله أو تقوم بينة عليه بذلك . وكذلك لو ادعى هذا الذي ادعى الوكالة دينا على رب المال لم يجبر الذي في يديه المال أن يعطيه إياه وذلك أن إقراره إياه به إقرار منه على غيره ، ولا يجوز إقراره على غيره وإذا وكل الرجل الرجل عند القاضي بشيء أثبت القاضي بينته على الوكالة وجعله وكيلا حضر معه الخصم أو لم يحضر معه ، وليس الخصم من هذا بسبيل .
    وإذا شهد الرجل لرجل أنه وكله بكل قليل وكثير له ، ولم يزد على هذا فالوكالة غير جائزة من قبل أنه وكله ببيع القليل والكثير ويحفظه ويدفع القليل والكثير وغيره فلما كان يحتمل هذه المعاني وغيرها لم يجز أن يكون وكيلا حتى يبين الوكالات من بيع أو شراء أو وديعة أو خصومة أو عمارة أو غير ذلك . ( قال الشافعي ) : وأقبل الوكالة من الحاضر من الرجال والنساء في العذر وغير العذر وقد كان علي رضي الله عنه وكل عند عثمان عبد الله بن جعفر وعلي حاضر فقيل ذلك عثمان وكان يوكل قبل عبد الله بن جعفر عقيل بن أبي طالب ، ولا أحسبه إلا كان يوكله عند عمر ، ولعل عند أبي بكر وكان علي يقول إن للخصومة قحما وإن الشيطان يحضرها .
    [ ص: 238 ] جماع ما يجوز إقراره إذا كان ظاهرا .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى { أقر ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فرجمه } ، { وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة رجل فإن اعترفت بالزنا فارجمها } .

    ( قال الشافعي ) : وكان هذا في معنى ما وصفت من حكم الله - تبارك وتعالى - أن للمرء وعليه ما أظهر من القول ، وأنه أمين على نفسه ، فمن أقر من البالغين غير المغلوبين على عقولهم بشيء يلزمه به عقوبة في بدنه من حد أو قتل أو قصاص أو ضرب أو قطع لزمه ذلك الإقرار حرا كان أو مملوكا محجورا كان أو غير محجور عليه ; لأن كل هؤلاء ممن عليه الفرض في بدنه ، ولا يسقط إقراره عنه فيما لزمه في بدنه ; لأنه إنما يحجر عليه في ماله لا بدنه ، ولا عن العبد وإن كان مالا لغيره ; لأن التلف على بدنه بشيء يلزمه بالفرض كما يلزمه الوضوء للصلاة وهذا ما لا أعلم فيه من أحد سمعت منه ممن أرضى خلافا وقد أمرت عائشة رضي الله تعالى عنها بعبد أقر بالسرقة فقطع وسواء كان هذا الحد لله أو بشيء أوجبه الله لآدمي .
    ( قال الشافعي ) : وما أقر به الحران البالغان غير المحجورين في أموالهما بأي وجه أقر به لزمهما كما أقرا به ، وما أقر به الحران المحجوران في أموالهما لم يلزم واحدا منهما في حال الحجر ولا بعده في الحكم في الدنيا ويلزمهما فيما بينهما وبين الله - عز وجل - تأديته إذا خرجا من الحجر إلى من أقرا له به وسواء من أي وجه كان ذلك الإقرار إذا كان لا يلزم إلا أموالهما بحال وذلك مثل أن يقرا بجناية خطأ أو عمد لا قصاص فيه أو شراء أو عتق أو بيع أو استهلاك مال فكل ذلك ساقط عنهما في الحكم .

    ( قال الشافعي ) : وإذا أقرا بعمد فيه قصاص لزمهما ولولي القصاص إن شاء القصاص وإن شاء أخذ ذلك من أموالهما من قبل أن عليهما فرضا في أنفسهما وإن من فرض الله - عز وجل - القصاص فلما فرض الله القصاص دل على أن لولي القصاص أن يعفو القصاص ويأخذ العقل ، ودلت عليه السنة فلزم المحجور عليهما البالغين ما أقرا به وكان لولي القتيل الخيار في القصاص وعفوه على مال يأخذه مكانه . وهكذا العبد البالغ فيما أقر به من جرح أو نفس فيها قصاص فلولي القتيل أو المجروح أن يقتص منه أو يعفو القصاص على أن يكون العقل في عتق العبد وإن كان العبد مالا للسيد .
    ( قال الشافعي ) : ولو أقر العبد بجناية عمدا لا قصاص فيها أو خطأ لم يلزمه في حال العبودية منها شيء ويلزمه إذا عتق يوما ما في ماله .

    ( قال الشافعي ) : وما أقر به المحجوران من غصب أو قتل أو غيره مما ليس فيه حد بطل عنهما معا فيبطل عن المحجورين الحرين بكل حال ويبطل عن العبد في حال العبودية ويلزمه أرش الجناية التي أقر بها إذا عتق ; لأنه إنما أبطلته عنه ; لأنه لا ملك له في حال العبودية لا من جهة حجري على الحر في ماله .

    ( قال الشافعي ) : وسواء ما أقر به العبد المأذون له في التجارة أو غير المأذون له فيها ، والعاقل من العبيد والمقصر إذا كان بالغا غير مغلوب على عقله من كل شيء إلا ما أقر به العبد فيما وكل به وأذن له فيه من التجارة .
    ( قال الشافعي ) : وإذا أقر الحران المحجوران والعبد بسرقة في مثلها القطع قطعوا معا ، ولزم الحرين غرم السرقة في أموالهما ، والعبد في عنقه .

    ( قال الشافعي ) : ولو بطلت الغرم عن المحجورين للحجر والعبد لأنه يقر في رقبته لم أقطع واحدا منهما ; لأنهما لا يبطلان إلا معا ، ولا يحقان إلا [ ص: 239 ] معا .

    ( قال الشافعي ) : ولو أقروا معا بسرقة بالغة ما بلغت لا قطع فيها .

    أبطلتها عنهم معا عن المحجورين ; لأنهما ممنوعان من أموالهما وعن العبد ; لأنه يقر في عنقه بلا حد في بدنه وهكذا ما أقر به المرتد من هؤلاء في حال ردته ألزمته إياه كما ألزمه إياه قبل ردته .
    إقرار من لم يبلغ الحلم .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى وإذا أقر من لم يبلغ الحلم من الرجال ، ولا المحيض من النساء ، ولم يستكمل خمس عشرة سنة بحق لله أو حق لآدمي في بدنه أو ماله فذلك كله ساقط عنه ; لأن الله - عز وجل - إنما خاطب بالفرائض التي فيها الأمر والنهي العاقلين البالغين .

    ( قال الشافعي ) : ولا ننظر في هذا إلى الإثبات والقول قول المقر إن قال لم أبلغ والبينة على المدعي .
    ( قال الشافعي ) : وإذا أقر الخنثى المشكل وقد احتلم ، ولم يستكمل خمس عشرة سنة وقف إقراره فإن حاض وهو مشكل فلا يلزمه إقراره حتى يبلغ خمس عشرة سنة وكذلك إن حاض ، ولم يحتلم لا يجوز إقرار الخنثى المشكل بحال حتى يستكمل خمس عشرة سنة ، وهذا سواء في الأحرار والمماليك إذا قال سيد المملوك أو أبو الصبي : لم يبلغ . وقال المملوك أو الصبي : قد بلغت . فالقول قول الصبي والمملوك إذا كان يشبه ما قال فإن كان لا يشبه ما قال لم يقبل قوله ولو صدقه أبوه . ألا ترى أنه لو أقر به والعلم يحيط أن مثله لا يبلغ خمس عشرة لم يجز أن أقبل إقراره وإذا أبطلته عنه في هذه الحال لم ألزمه الحر ، ولا المملوك بعد البلوغ ، ولا بعد العتق في الحكم ويلزمهم فيما بينهم وبين الله - عز وجل - أن يؤدوا إلى العباد في ذلك حقوقهم .
    إقرار المغلوب على عقله .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله من أصابه مرض ما كان المرض ، فغلب على عقله فأقر في حال الغلبة على عقله فإقراره في كل ما أقر به ساقط ; لأنه لا فرض عليه في حاله تلك وسواء كان ذلك المرض بشيء أكله أو شربه ليتداوى به فأذهب عقله أو بعارض لا يدرى ما سببه . ( قال الشافعي ) : ولو شرب رجل خمرا أو نبيذا مسكرا فسكر لزمه ما أقر به وفعل مما لله وللآدميين ; لأنه ممن تلزمه الفرائض ; ولأن عليه حراما وحلالا وهو آثم بما دخل فيه من شرب المحرم ، ولا يسقط عنه ما صنع ; ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في شرب الخمر .

    ( قال الشافعي ) : ومن أكره فأوجر خمرا فأذهب عقله ثم أقر لم يلزمه إقراره ; لأنه لا ذنب له فيما صنع .

    ( قال الشافعي ) : ولو أقر في صحته أنه فعل شيئا في حال ضر غلبه على عقله لم يلزمه في ذلك حد بحال ، لا لله ، ولا للآدميين كأن أقر أنه قطع رجلا أو قتله أو سرقه أو قذفه أو زنى فلا يلزمه قصاص ، ولا قطع ، ولا حد في الزنا ولولي المقتول أو المجروح إن شاء أن يأخذ من ماله الأرش وكذلك للمسروق أن يأخذ قيمة السرقة ، وليس للمقذوف شيء ; لأنه لا أرش للقذف ثم هكذا البالغ إذا أقر أنه صنع من هذا في الصغر لا يختلف . ألا ترى أنه لو أقر في حال غلبته على عقله وصغره فأبطلته عنه ثم قامت به عليه بينة أخذت منه ما كان في ماله دون ما كان في بدنه ، فإقراره بعد البلوغ أكثر من بينة لو قامت عليه .

    ولو أقر بعد الحرية أنه فعل من هذا شيئا وهو مملوك بالغ ألزمته حد المملوك فيه كله ، فإن كان قذفا حددته أربعين أو زنا حددته خمسين ونفيته نصف سنة إذا لم يحد قبل [ ص: 240 ] إقراره ، أو قطع يد حر أو رجله عمدا اقتصصت منه إلا أن يشاء المقتص له أخذ الأرش ، وكذلك لو قتله . وكذلك لو أقر بأنه فعله بمملوك يقتص منه ; لأنه لو جنى على مملوك ، وهو مملوك فأعتق ألزمته القصاص إلا أنه يخالف الحر في خصلة ما أقر به من مال ألزمته إياه نفسه إذا أعتق ; لأنه بإقرار كما يقر الرجل بجناية خطأ فأجعلها في ماله دون عاقلته ، ولو قامت عليه بينة بجناية خطأ تلزم عنقه وهو مملوك ألزمت سيده الأقل من قيمته يوم جنى والجناية ; لأنه أعتقه فحال بعتقه دون بيعه .
    إقرار الصبي .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وما أقر به الصبي من حد لله - عز وجل - أو الآدمي أو حق في ماله أو غيره فإقراره ساقط عنه وسواء كان الصبي مأذونا له في التجارة أذن له به أبوه أو وليه من كان أو حاكم ، ولا يجوز للحاكم أن يأذن له في التجارة فإن فعل فإقراره ساقط عنه وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ ، ولو أجزت إقراره إذا أذن له في التجارة أجزت أن يأذن له أبوه بطلاق امرأته فألزمه أو يأمره فيقذف رجلا فأحده أو يجرح فأقتص منه فكان هذا وما يشبهه أولى أن يلزمه من إقراره لو أذن له في التجارة ; لأنه شيء فعله بأمر أبيه ، وأمر أبيه في التجارة ليس بإذن بالإقرار بعينه ، ولكن لا يلزمه شيء من هذا ما يلزم البالغ بحال .
    الإكراه وما في معناه .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى قال الله - عز وجل - { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } الآية .

    ( قال الشافعي ) : وللكفر أحكام كفراق الزوجة ، وأن يقتل الكافر ويغنم ماله فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله ; لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبوته عليه .

    ( قال الشافعي ) : والإكراه أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان أو لص أو متغلب على واحد من هؤلاء ويكون المكره يخاف خوفا عليه دلالة أنه إن امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم أو أكثر منه أو إتلاف نفسه .

    ( قال الشافعي ) : فإذا خاف هذا سقط عنه حكم ما أكره عليه من قول ما كان القول شراء أو بيعا أو إقرارا لرجل بحق أو حد أو إقرارا بنكاح أو عتق أو طلاق أو إحداث واحد من هذا وهو مكره فأي هذا أحدث وهو مكره لم يلزمه .

    ( قال الشافعي ) : ولو كان لا يقع في نفسه أنه يبلغ به شيء مما وصفت لم يسع أن يفعل شيئا مما وصفت أنه يسقط عنه ، ولو أقر أنه فعله غير خائف على نفسه ألزمته حكمه كله في الطلاق والنكاح وغيره وإن حبس فخاف طول الحبس أو قيد فخاف طول القيد أو أوعد فخاف أن يوقع به من الوعيد بعض ما وصفت أن الإكراه ساقط به سقط عنه ما أكره عليه .

    ( قال الشافعي ) : ولو فعل شيئا له حكم فأقر بعد فعله أنه لم يخف أن يوفى له بوعيد ألزمته ما أحدث من إقرار أو غيره .

    ( قال الشافعي ) : ولو حبس فخاف طول الحبس أو قيد فقال ظننت أني إذا امتنعت مما أكرهت عليه لم ينلني حبس أكثر من ساعة أو لم ينلني عقوبة خفت أن لا يسقط المأثم عنه فيما فيه مأثم مما قال .

    ( قال الشافعي ) : فأما الحكم فيسقط عنه من قبل أن الذي به الكره كان ولم يكن على يقين من التخلص .

    ( قال الشافعي ) : ولو حبس ثم خلي ثم أقر لزمه الإقرار وهكذا لو ضرب ضربة أو ضربات ثم خلي فأقر ، ولم يقل له بعد ذلك ، ولم يحدث له خوف له [ ص: 241 ] سبب فأحدث شيئا لزمه وإن أحدث له أمر فهو بعد سبب الضرب ، والإقرار ساقط عنه .

    قال : وإذا قال الرجل لرجل أقررت لك بكذا ، وأنا مكره فالقول قوله مع يمينه وعلى المقر له البينة على إقراره له غير مكره .

    ( قال الربيع ) : وفيه قول آخر أن من أقر بشيء لزمه إلا أن يعلم أنه كان مكرها .

    ( قال الشافعي ) : ويقبل قوله إذا كان محبوسا وإن شهدوا أنه غير مكره وإذا شهد شاهدان أن فلانا أقر لفلان وهو محبوس بكذا أو لدى سلطان بكذا فقال المشهود عليه أقررت لغم الحبس أو لإكراه السلطان فالقول قوله مع يمينه إلا أن تشهد البينة أنه أقر عند السلطان غير مكره ، ولا يخاف حين شهدوا أنه أقر غير مكروه ، ولا محبوس بسبب ما أقر له ، وهذا موضوع بنصه في كتاب الإكراه سئل الربيع عن كتاب الإكراه ؟ فقال لا أعرفه .
    جماع الإقرار .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى ولا يجوز عندي أن ألزم أحدا إقرارا إلا بين المعنى فإذا احتمل ما أقر به معنيين ألزمته الأقل وجعلت القول قوله ، ولا ألزمه إلا ظاهر ما أقر به بينا ، وإن سبق إلى القلب غير ظاهر ما قال ، وكذلك لا ألتفت إلى سبب ما أقر به إذا كان لكلامه ظاهر يحتمل خلاف السبب ; لأن الرجل قد يجيب على خلاف السبب الذي كلم عليه لما وصفت من أحكام الله عز وجل فيما بين العباد على الظاهر .
    الإقرار بالشيء غير موصوف .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإذا قال الرجل لفلان علي مال أو عندي أو في يدي أو قد [ ص: 242 ] استهلكت مالا عظيما أو قال عظيما جدا أو عظيما عظيما فكل هذا سواء ويسأل ما أراد . فإن قال أردت دينارا أو درهما أو أقل من درهم مما يقع عليه اسم مال عرض أو غيره فالقول قوله مع يمينه . وكذلك إن قال مالا صغيرا أو صغيرا جدا أو صغيرا صغيرا من قبل أن جميع ما في الدنيا من متاعها يقع عليه قليل . قال الله - تبارك وتعالى - { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } وقليل ما فيها يقع عليه عظيم الثواب والعقاب قال الله - عز وجل - { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } .

    وكل ما أثيب عليه وعذب يقع عليه اسم كثير ، وهكذا إن قال : له علي مال وسط أو لا قليل ، ولا كثير ; لأن هذا إذا جاز في الكثير كان فيما وصفت أنه أقل منه أجوز وهكذا إن قال له عندي مال كثير قليل . ولو قال لفلان عندي مال كثير إلا مالا قليلا . : كان هكذا ، ولا يجوز إذا قال : له عندي مال إلا أن يكون بقي له عنده مال فأقل المال لازم له ، ولو قال : له عندي مال وافر ، وله عندي مال تافه ، وله عندي مال مغن كان كله كما وصفت من مال كثير ; لأنه قد يغني القليل ، ولا يغني الكثير وينمى القليل إذا بورك فيه وأصلح ويتلف الكثير .

    ( قال الشافعي ) : فإذا كان المقر بهذا حيا قلت له أعط الذي أقررت له ما شئت مما يقع عليه اسم مال واحلف له ما أقررت له بغير ما أعطيته فإن قال لا أعطيه شيئا جبرته على أن يعطيه أقل ما يقع عليه اسم مال مكانه ويحلف ما أقر له بأكثر منه فإذا حلف لم ألزمه غيره ، وإن امتنع من اليمين قلت للذي يدعي عليه ادع ما أحببت فإذا ادعى قلت للرجل احلف على ما ادعى فإن حلف برئ وإن أبى قلت له اردد اليمين على المدعي فإن حلف أعطيته وإن لم يحلف لم أعطه شيئا بنكولك حتى يحلف مع نكولك .

    ( قال الشافعي ) : وإن كان المقر بالمال غائبا أقر به من صنف معروف كفضة أو ذهب فسأل المقر له أن يعطي ما أقر له به قلنا إن شئت فانتظر مقدمه أو نكتب لك إلى حاكم البلد الذي هو به ، وإن شئت أعطيناك من ماله الذي أقر فيه أقل ما يقع عليه اسم المال ، واشهد بأنه عليك فإن جاء فأقر لك بأكثر منه أعطيت الفضل كما أعطيناك وإن لم يقر لك بأكثر منه فقد استوفيت وكذلك إن جحدك فقد أعطيناك أقل ما يقع عليه اسم مال .

    وإن قال مال ، ولم ينسبه إلى شيء لم نعطه إلا أن يقول هكذا ويحلف أو يموت فتحلف ورثته ويعطي من ماله أقل الأشياء قال وهكذا إن كان المقر حاضرا فغلب على عقله ويحلف على هذا المدعي ما برئ مما أقر له به بوجه من الوجوه ويجعل الغائب والمغلوب على عقله على حجته إن كانت له .

    ( قال الشافعي ) : ومثل هذا إن أقر له بهذا ثم مات وأجعل ورثة الميت على حجته إن كانت للميت حجة فيما أقر له به .

    ( قال الشافعي ) : وإن شاء المقر له أن تحلف له ورثة الميت فلا أحلفهم إلا أن يدعي علمهم فإن ادعاه أحلفتهم ما يعلمون أباهم أقر له بشيء أكثر مما أعطيته .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #142
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الثالث

    الحلقة (142)
    صــــــــــ 243 الى صـــــــــــ249







    الإقرار بشيء محدود .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى ولو قال رجل لفلان علي أكثر من مال فلان لرجل آخر وهو يعرف مال فلان الذي قال له علي أكثر من ماله أو لا يعرفه أو قال له علي أكثر مما في يديه من المال وهو يعرف ما في يديه من المال أو لا يعرفه فسواء ، وأسأله عن قوله فإن قال أردت أكثر ; لأن ما له علي حلال والحلال كثير ومال فلان الذي قلت له علي أكثر من ماله حرام وهو قليل ; لأن متاع الدنيا قليل لقلة بقائه ، ولو قال قلت له علي أكثر ; لأنه عندي أبقى فهو أكثر بالبقاء من مال فلان وما في يديه ; لأنه [ ص: 243 ] يتلفه فيقبل قوله مع يمينه ما أراد أكثر في العدد ، ولا في القيمة وكان مثل القول الأول وإن مات أو خرس أو غلب فهو مثل الذي قال له عندي مال كثير ، ولو قال لفلان علي أكثر من عدد ما بقي في يديه من المال أو عدد ما في يد فلان من المال كان القول في أن علمه أن عدد ما في يد فلان من المال كذا قول المقر مع يمينه فلو قال علمت أن عدد ما في يده من المال عشرة دراهم فأقررت له بأحد عشر حلف ما أقر له بأكثر منه وكان القول قوله .

    ولو أقام المقر له شهودا أنه قد علم أن في يده ألف درهم لم ألزمه أكثر مما قال إن علمت من قبل أنه يعلم أن في يده ألفا فتخرج من يده وتكون لغيره ، وكذلك لو أقام بينة أنه قال له أو أن الشهود قالوا له نشهد أن له ألف درهم فقال له علي أكثر من ماله كان القول قوله ; لأنه قد يكذب الشهود ويكذبه بما ادعى أن له من المال وإن اتصل ذلك بكلامهم وقد يعلم لو صدقهم أن ماله هلك فلا يلزمه مما لغريمه إلا ما أحطنا أنه أقر به . ولو قال : قد علمت أن له ألف دينار فأقررت له بأكثر من عددها فلوسا ، كان القول قوله .

    وهكذا لو قال : أقررت بأكثر من عددها حب حنطة أو غيره كان القول قوله مع يمينه ، ولو قال رجل لرجل لي عليك ألف دينار فقال لك علي من الذهب أكثر مما كان عليه أكثر من ألف دينار ذهبا فالقول في الذهب الرديء وغير المضروب قول المقر . ولو كان قال لي عليك ألف دينار فقال لك عندي أكثر من مالك لم ألزمه أكثر من ألف دينار وقلت له كم ماله ؟ فإن قال دينار أو درهم أو فلس ألزمته أقل من دينار أو درهم وفلس ; لأنه قد يكذبه بأن له ألف دينار وكذلك لو شهدت له بينة بذلك فأقر بعد شهود البينة أو قبل ; لأنه قد يكذب البينة ، ولا ألزمه ذلك حتى يقول قد علمت أن له ألف دينار فأقررت بأكثر منها ذهبا وإن قال له علي شيء ألزمته أي شيء قال ما يقع عليه اسم شيء مما أقر به .
    الإقرار للعبد والمحجور عليه .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : وإذا أقر الرجل لعبد رجل مأذون له في التجارة أو غير مأذون له فيها بشيء أو لحر أو لحرة محجورين أو غير محجورين لزمه الإقرار لكل واحد منهم وكان للسيد أخذ ما أقر به لعبده ولولي المحجورين أخذ ما أقر به للمحجورين وكذلك لو أقر به لمجنون أو زمن أو مستأمن كان لهم أخذ به فلو أقر لرجل ببلاد الحرب بشيء غير مكره ألزمته إقراره له ، وكذلك ما أقر به الأسرى إذا كانوا مستأمنين ببلاد الحرب لأهل الحرب وبعضهم لبعض غير مكرهين ألزمتهم ذلك كما ألزمه المسلمين في دار الإسلام . قال : وكذلك الذمي والحربي المستأمن يقر للمسلم والمستأمن والذمي ألزمه ذلك كله .
    الإقرار للبهائم .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : وإذا أقر الرجل لبعير لرجل أو لدابة له أو لدار له أو لهذا البعير أو [ ص: 244 ] لهذه الدابة أو لهذه الدار على كذا لم ألزمه شيئا مما أقر به ; لأن البهائم والحجارة لا تملك شيئا بحال ، ولو قال علي بسبب هذا البعير أو سبب هذه الدابة أو سبب هذه الدار كذا وكذا لم ألزمه إقراره ; لأنه لا يكون عليه بسببها شيء إلا أن يبين ، وذلك مثل أن يقول علي بسببها أن أحالت علي أو حملت عني أو حملت عنها وهي لا تحيل عليه ، ولا يحمل عنها بحال ، ولو وصل الكلام فقال علي بسببها أني جنيت فيها جناية ألزمتني كذا وكذا كان ذلك إقرارا لمالكها لازما للمقر . وكذلك لو قال لسيدها علي بسببها كذا وكذا ألزمته ذلك ، ولو لم يزد على هذا ; لأنه نسب الإقرار للسيد ، وأنه قد يلزمه بسببها شيء بحال فلا أبطله عنه وألزمه بحال ولو قال لسيد هذه الناقة علي بسبب ما في بطنها كذا لم ألزمه إياه ; لأنه لا يكون عليه بسبب ما في بطنها شيء أبدا ; لأنه إن كان حملا فلم يجن عليه جناية لها حكم ; لأنه لم يسقط فإن لم يكن حمل كان أبعد من أن يلزمه شيء بسبب ما لا يكون بسبب غرم أبدا .
    الإقرار لما في البطن .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : وإذا قال الرجل هذا الشيء يصفه في يده عبد أو دار أو عرض من العروض أو ألف درهم أو كذا وكذا مكيالا حنطة لما في بطن هذه المرأة لامرأة حرة أو أم ولد لرجل ولدها حر فأبو الحمل أو وليه الخصم في ذلك ; وإن أقر بذلك لما في بطن أمة لرجل فمالك الجارية الخصم في ذلك . فإذا لم يصل المقر إقراره بشيء فإقراره لازم له إن ولدت المرأة ولدا حيا لأقل من ستة أشهر بشيء ما كان ، فإن ولدت ولدين ذكرا وأنثى أو ذكرين أو أنثيين فما أقر به بينهما نصفين ، فإن ولدت ولدين حيا وميتا أقر به كله للحي منهما فإن ولدت ولدا أو ولدين ميتين سقط الإقرار عنه .

    وهكذا إن ولدت ولدا حيا أو اثنين لكمال ستة أشهر من يوم أقر سقط الإقرار ; لأنه قد يحدث بعد إقراره فلا يكون أقر بشيء ( قال الشافعي ) : وإنما أجيز الإقرار إذا علمت أنه وقع لبشر قد خلق وإذا أقر للحمل فولدت التي أقر لحملها ولدين في بطن ، أحدهما قبل ستة أشهر ، والآخر بعد ستة أشهر فالإقرار جائز لهما معا ; لأنهما حمل واحد قد خرج بعضه قبل ستة أشهر وحكم الخارج بعده حكمه فإذا أقر لما في بطن امرأة فضرب رجل بطنها فألقت جنينا ميتا سقط الإقرار ، وإن ألقته حيا ثم مات فإن كانت ألقته بما يعلم أنه خلق قبل الإقرار ثبت الإقرار وإن أشكل أو كان يمكن أن يخلق بعد أن يكون الإقرار سقط الإقرار .

    ( قال الشافعي ) : وإنما أجزت الإقرار لما في بطن المرأة ; لأن ما في بطنها يملك بالوصية فلما كان يملك بحال لم أبطل الإقرار له حتى يضيف الإقرار إلى ما لا يجوز أن يملك به ما في بطن المرأة وذلك مثل أن يقول أسلفني ما في بطن هذه المرأة ألف درهم أو حمل عني ما في بطن هذه المرأة بألف درهم فغرمها أو ما في هذا المعنى مما لا يكون لما في بطن المرأة بحال . قال : ولكنه لو قال لما في بطن هذه المرأة عندي هذا العبد أو ألف درهم غصبته إياها لزمه الإقرار ; لأنه قد يوصي له بما أقر له به فيغصبه إياه ; ومثل هذا أن يقول ظلمته إياه ومثله أن يقول استسلفته ; لأنه قد يوصي إليه لما في بطن المرأة بشيء يستسلفه . وهكذا لو قال استهلكته عليه أو أهلكته له ، وليس هذا كما يقول أسلفنيه ما في بطنها ; لأن ما في بطنها لا يسلف شيئا ، ولو قال لما في بطن هذه المرأة عندي ألف أوصى له بها أبي كانت له عنده ، فإن بطلت وصية الحمل بأن يولد ميتا كانت الألف درهم لورثة أبيه .

    ولو قال أوصى له بها فلان إلي فبطلت وصيته كانت الألف لورثة الذي أقر أنه أوصى بها له ، ولو قال لما في بطن هذه المرأة عندي ألف درهم أسلفنيها أبوه أو غصبتها أباه كان الإقرار لأبيه فإن كان أبوه ميتا فهي موروثة [ ص: 245 ] عنه ، وإن كان حيا فهي له ، ولا يلزمه لما في بطن المرأة بشيء ، ولو قال له علي ألف درهم غصبتها من ملكه أو كانت في ملكه ، فألزمته الإقرار فخرج الجنين ميتا فسأل وارثه أخذها المقر فإن جحد أحلفته ، ولم أجعل عليه شيئا . وإن قال : أوصى بها فلان له فغصبتها أو أقررت بغصبها كاذبا ردت إلى ورثة فلان فإن قال قد وهبت لهذا الجنين داري أو تصدقت بها عليه أو بعته إياها لم يلزمه من هذا شيء ; لأن كل هذا لا يجوز لجنين ، ولا عليه ، وإذا أقر الرجل بها لما في بطن جارية فالإقرار باطل .
    الإقرار بغصب شيء في شيء .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإذا قال الرجل غصبتك كذا في كذا يعتبر قوله في غير المغصوب ، وذلك مثل أن يقول غصبتك ثوبا أو عبدا أو طعاما في رجب سنة كذا فأخبر بالحين الذي غصبه فيه والجنس الذي أقر أنه غصبه إياه فكذلك إن قال غصبتك حنطة في بلد كذا أو في صحراء أو في أرض فلان أو في أرضك فيعني الذي أصاب الغصب أن الذي فيه غير الذي أقر أنه غصبه إياه إنما جعل الموضع الذي أصاب الغصب فيه دلالة على أنه غصبه فيه كما جعل الشهر دلالة على أنه غصب فيه كقولك غصبتك حنطة في أرض وغصبتك حنطة من أرض وغصبتك زيتا في حب وغصبتك زيتا من حب وغصبتك سفينة في بحر وغصبتك سفينة من بحر وغصبتك بعيرا في مرعى وغصبتك بعيرا من مرعى وبعيرا في بلد كذا ومن بلد كذا وغصبتك كبشا في خيل وكبشا من خيل يعني في جماعة خيل وغصبتك عبدا في إماء وعبدا من إماء يعني أنه كان مع إماء وعبدا في غنم وعبدا في إبل وعبدا من غنم وعبدا من إبل كقوله غصبتك عبدا في سقاء وعبدا في رحى ليس أن السقاء والرحى مما غصب ، ولكنه وصف أن العبد كان في أحدهما كما وصف أنه كان في إبل أو غنم .

    وهكذا إن قال غصبتك حنطة في سفينة أو في جراب أو في غرارة أو في صاع فهو غاصب للحنطة دون ما وصف أنها كانت فيه وقوله في سفينة وفي جراب كقوله من سفينة وجراب لا يختلفان في هذا المعنى قال وهكذا لو قال غصبتك ثوبا قوهيا في منديل أو ثيابا في جراب أو عشرة أثواب في ثوب أو منديل أو ثوبا في عشرة أثواب أو دنانير في خريطة لا يختلف كل هذا قوله في كذا ومن كذا سواء فلا يضمن إلا ما أقر بغصبه لا ما وصف أن المغصوب كان فيه له . قال : وهكذا لو قال غصبتك فصا في خاتم أو خاتما في فص أو سيفا في حمالة أو حمالة في سيف ; لأن كل هذا قد يتميز من صاحبه فينزع الفص من الخاتم والخاتم من الفص ويكون السيف معلقا بالحمالة لا مشدودة إليه ومشدودة إليه فتنزع منه .

    قال : وهكذا إن قال غصبتك حلية من سيف أو حلية في سيف ; لأن كل هذا قد يكون على السيف فينزع . قال : وهكذا إن قال غصبتك شارب سيف أو نعله فهو غاصب لما وصفت دون السيف ومثله لو قال غصبتك طيرا في قفص أو طيرا في شبكة أو طيرا في شناق كان غاصبا للطير دون القفص والشبكة والشناق ومثله لو قال غصبتك زيتا في جرة أو زيتا في زق أو عسلا في عكة أو شهدا في جونة أو تمرا في قربة أو جلة كان غاصبا للزيت دون الجرة والزق والعسل دون العكة والشهد دون الجونة والتمر دون القربة والجلة . وكذلك لو قال غصبتك جرة فيها زيت وقفصا فيه طير وعكة فيها سمن كان غاصبا للجرة دون الزيت والقفص دون الطير والعكة دون السمن ، ولا يكون غاصبا لهما معا إلا أن يبين يقول غصبتك عكة وسمنا وجرة وزيتا ، فإذا قال هذا فهو غاصب للشيئين .

    والقول قوله إن قال غصبته سمنا في عكة أو [ ص: 246 ] سمنا وعكة لم يكن فيها سمن فالقول قوله في أي سمن أقر به ، وأي عكة أقر له بها ، وإذا قال غصبتك سرجا على حمار أو حنطة على حمار فهو غاصب للسرج دون الحمار والحنطة دون الحمار . وكذلك لو قال : غصبتك حمارا عليه سرج أو حمارا مسرجا كان غاصبا للحمار دون السرج ، وكذلك لو قال غصبتك ثيابا في عيبة كان غاصبا للثياب دون العيبة ، وهكذا لو قال غصبتك عيبة فيها ثياب كان غاصبا للعيبة دون الثياب .
    الإقرار بغصب شيء بعدد وغير عدد .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإذا قال الرجل للرجل غصبتك شيئا لم يزد على ذلك فالقول في الشيء قوله فإن أنكر أن يكون غصبه شيئا ألزمه الحاكم أن يقر له بما يقع عليه اسم شيء ، فإذا امتنع حبسه حتى يقر له بما يقع عليه اسم شيء ، فإذا فعل فإن صدقه المدعي وإلا أحلفه ما غصبه إلا ما ذكر ثم أبرأه من غيره ، ولو مات قبل أن يقر بشيء فالقول قول ورثته ويحلفون ما غصبه غيره ويوقف مال الميت عنهم حتى يقروا له بشيء ويحلفون ما علموا غيره ، وإذا قال غصبتك شيئا ثم أقر بشيء بإلزام الحاكم أن يقر به أو بغير إلزامه فسواء ، ولا يلزمه إلا ذلك الشيء ، فإن كان الذي أقر به مما يحل أن يملك بحال جبر على دفعه إليه ، فإن فات في يده جبر على أداء قيمته إليه إذا كانت له قيمة ، والقول في قيمته قوله وإن كان مما لا يحل أن يملك أحلف ما غصبه غيره ، ولم يجبر على دفعه إليه .

    وذلك مثل أن يقر أنه غصبه عبدا أو أمة أو دابة أو ثوبا أو فلسا أو حمارا فيجبر على دفعه إليه وكذلك لو أقر أنه غصبه كلبا جبرته على دفعه إليه ; لأنه يحل ملك الكلب ، فإن مات الكلب في يديه لم أجبره على دفع شيء إليه ; لأنه لا ثمن له ; وكذلك إن أقر أنه غصبه جلد ميتة غير مدبوغ جبرته على دفعه إليه ، فإن فات لم أجبره على دفع قيمته إليه ; لأنه لا ثمن له ما لم يدبغ فإن كان مدبوغا دفعه إليه أو قيمته إن فات ; لأن ثمنه يحل إذا دبغ .

    ( قال الشافعي ) : وإذا أقر أنه غصبه خمرا أو خنزيرا لم أجبره على دفعه إليه ، وأهرقت عليه الخمر وذبحت الخنزير ، وألغيته إذا كان أحدهما مسلما ، ولا ثمن لهذين ، ولا يحل أن يملكا بحال . وإذا أقر أنه غصبه حنطة ففاتت رد إليه مثلها فإن لم يكن لها مثل فقيمتها ، وكذلك كل ما له مثل يرد مثله ، فإن فات يرد قيمته .

    ( قال الشافعي ) : وإذا قال الرجل الكثير المال غصبت فلانا لرجل كثير المال شيئا أو شيئا له بال فهو كالفقير يقر للفقير ، وأي شيء أقر به يقع عليه اسم شيء فلس أو حبة حنطة أو غيره فالقول قوله مع يمينه .

    فإن قال : غصبته أشياء قيل أد إليه ثلاثة أشياء ; لأنها أقل ظاهر الجماع في كلام الناس ، وأي ثلاثة أشياء قال هي هي فهي هي مختلفة فإن قال هي ثلاثة أفلس أو هي فلس ودرهم وتمرة أو هي ثلاث تمرات أو هي ثلاثة دراهم أو ثلاثة أعبد أو عبد ، وأمة وحمار ; لأن كل واحد من هذا يقع عليه اسم شيء اختلفت أو اتفقت فسواء ، ولو قال غصبتك ، ولم يزد على ذلك أو غصبتك ما تعلم لم ألزمه بهذا شيئا ; لأنه قد يغصبه نفسه فيدخله المسجد أو البيت لغير مكروه ويغصبه فيمنعه بيته فلا ألزمه حتى يقول غصبتك شيئا ، ولو قال غصبتك شيئا فقال عنيت نفسك لم أقبل منه ; لأنه إذا قال غصبتك شيئا ، فإنما ظاهره غصبت منك شيئا ، ولو قال غصبتك وغصبتك مرارا كثيرة [ ص: 247 ] لم ألزمه شيئا ; لأنه قد يغصبه نفسه كما وصفت . قال : ولو سئل فقال : لم أغصبه شيئا ، ولا نفسه لم ألزمه شيئا ; لأنه لم يقر بأنه غصبه شيئا .
    الإقرار بغصب شيء ثم يدعي الغاصب .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإذا أقر الرجل أنه غصب الرجل أرضا ذات غرس أو غير ذات غرس أو دارا ذات بناء أو غير ذات بناء أو بيتا فكل هذا أرض والأرض لا تحول ، وإن كان البناء والغراس قد يحول ، فإن قال المقر بالغصب بعد قطعه الكلام أو معه إنما أقررت بشيء غصبتك ببلد كذا فسواء القول قوله ، وأي شيء دفعه إليه بذلك البلد مما يقع عليه اسم ما أقر له به ، فليس له عليه غيره وإذا ادعى المقر له سواه أحلف الغاصب ما غصبه غير هذا والقول قوله ، فإن مات الغاصب فالقول قول ورثته فإن قالوا لا نعلم شيئا قيل للمغصوب ادع ما شئت من هذه الصفة في هذا البلد فإذا ادعى قيل للورثة احلفوا ما تعلمونه هو ، فإن حلفوا برئوا ، وإلا لزمهم أن يعطوه بعض ما يقع عليه اسم ما أقر به الغاصب ، فإن نكلوا حلف المغصوب واستحق ما ادعى .

    وإن أبى المغصوب أن يحلف ، ولا الورثة وقف مال الميت حتى يعطيه الورثة أقل ما يقع عليه اسم ما وصفت أنه أقر أنه غصبه ويحلفون ما يعلمونه غصبه غيره ، ولا يسلم لهم ميراثه إلا بما وصفت . ، ولو كان الغاصب قال غصبته دارا بمكة ثم قال أقررت له بباطل وما أعرف الدار التي غصبته إياها قيل إن أعطيته دارا بمكة ما كانت الدار وحلفت ما غصبته غيرها برئت ، وإن امتنعت وادعى دارا بعينها قيل احلف ما غصبته إياها فإن حلفت برئت وإن لم تحلف حلف فاستحقها ، وإذا امتنع وامتنعت من اليمين حبست أبدا حتى تعطيه دارا وتحلف ما غصبته غيرها .

    ( قال الشافعي ) : وإذا أقر أنه غصبه متاعا يحول . مثل عبد أو دابة أو ثوب أو طعام أو ذهب أو فضة فقال غصبتك كذا ببلد كذا بكلام موصول وكذبه المغصوب وقال ما غصبتنيه بهذا البلد فالقول قول الغاصب ; لأنه لم يقر له بالغصب إلا بالبلد الذي سمى فإن كان الذي أقر أنه غصبه منه دنانير أو دراهم أو ذهبا أو فضة أخذ بأن يدفعها إليه ما كان ; لأنه لا مؤنة لحمله عليه وكذلك لو أسلفه دنانير أو دراهم أو باعه إياها ببلد أخذ بها حيث طلبه بها .

    ( قال الشافعي ) : وكذلك فص ياقوت أو زبرجد أو لؤلؤ أقر أنه غصبه إياه ببلد يؤخذ به حيث قام به فإن لم يقدر عليه فقيمته ، وإن كان الذي أقر أنه غصبه إياه ببلد عبدا أو ثيابا أو متاعا لحمله مؤنة أو حيوانا أو رقيقا أو غيره فلحمل هذا ومشابهه مؤنة جبر المغصوب أن يوكل من يقتضيه بذلك البلد ، فإن مات قبض قيمته بذلك البلد أو يأخذ منه قيمته بالبلد الذي أقر أنه غصبه إياه بذلك البلد الذي يحاكمه به ، ولا أكلفه لو كان طعاما أن يعطيه مثله بذلك البلد لتفاوت الطعام إلا أن يتراضيا معا فأجيز بينهما ما تراضيا عليه .

    ( قال الشافعي ) : ومثل هذا : الثياب وغيرها مما لحمله مؤنة . قال ومثل هذا : العبد يغصبه إياه بالبلد ، ثم يقول المغتصب قد أبق العبد أو فات يقضى عليه بقيمته ، ولا يجعل شيء من هذا دينا عليه وإذا قضيت له بقيمة الفائت منه عبدا كان أو طعاما أو غيره لم يحل للغاصب أن يتملك منه شيئا ، وكان عليه أن يحضره سيده الذي غصبه منه ، فإذا أحضره سيده الذي غصبه منه جبرت سيده على قبضه منه ورد الثمن عليه فإن لم يكن عند سيده ثمنه قلت له بعه إياه بيعا جديدا بما له عليك إن رضيتما حتى يحل له ملكه فإن لم يفعل بعت العبد على سيده ، وأعطيت المغتصب مثل ما أخذ منه فإن كان فيه فضل رددت على سيده وإن لم يكن فيه فضل فلا شيء يرد [ ص: 248 ] عليه ، وإن نقص ثمنه عما أعطاه إياه بتغير سوق رددته على سيده بالفضل .

    ( قال الشافعي ) وإن كان لسيده غرماء لم أشركهم في ثمن العبد ; لأنه عبد قد أعطى الغاصب قيمته . قال : وهكذا أصنع بورثة المغصوب إن مات المغصوب ، وأحكم للغاصب العبد إلا أني إنما أصنع ذلك بهم في مال الميت لا أموالهم وهكذا الطعام يغصبه فيحضره ويحلف أنه هو والثياب وغيرها كالعبد لا تختلف ، فإن كان أحضر العبد ميتا فهو كأن لم يحضره ، ولا أرد الحكم الأول وإن أحضره معيبا أي عيب كان مريضا أو صحيحا دفعته إلى سيده وحسبت على الغاصب خراجه من يوم غصبه وما نقصه العيب في بدنه ، وألزمته ما وصفت .

    ( قال الشافعي ) : ولو أحضر الطعام متغيرا ألزمته الطعام وجعلت على الغاصب ما نقصه العيب ، ولو أحضره قد رضه حتى صار لا ينتفع به ، ولا قيمة له ألزمته الغاصب وكان كتلفه وموت العبد وعليه مثل الطعام إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل ، ولو قال الحاكم إذا كان المغصوب من عبد وغيره غائبا للغاصب أعطه قيمته ففعل ثم قال للمغصوب حلله من حبسه أو صيره ملكا له بطيبة نفسك وللغاصب : اقبل ذلك كان ذلك أحب إلي ، ولا أجبر واحدا منهما على هذا .
    الإقرار بغصب الدار ثم ببيعها .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله وإذا قال الرجل غصبته هذه الدار وهذا العبد أو أي شيء كان من هذا كتب إقراره ، وأشهد عليه وقد باعها قبل ذلك من رجل أو وهبها له أو تصدق بها عليه وقبضها أو وقفها عليه أو على غيره ففيها قولان . أحدهما : أن يقال لصاحب الدار إن كان لك بينة على ملك هذه الدار أو إقرار الغاصب قبل إخراجها من يده إلى من أخرجها إليه أخذ لك بها وإن لم يكن لك بينة لم يجز إقرار الغاصب في ذلك ; لأنه لا يملكها يوم أقر فيها وقضينا المغصوب بقيمتها ; لأنه يقر أنه استهلكها وهي ملك له وهكذا لو كان عبدا فأعتقه . وهكذا لو ادعى عليه رجلان أنه غصب دارا بعينها فأقر أنه غصبها من أحدهما وهو يملكها ثم أقر أنه غصبها منه وهو يملكها ، وأن الأول لم يملكها قط قضى بالدار للأول ; لأنه قد ملكها بإقراره وقيمتها للآخر بأنه قد أقر أنه قد أتلفها عليه .

    قال : وهكذا كل ما أقر أنه غصبه رجلا ، ثم أقر أنه غصبه غيره . والقول الثاني : أنهما إذا كانا لا يدعيان أنه غصبهما إلا الدار أو الشيء الذي أقر به لهما فهو للأول منهما ، ولا شيء للمقر له الآخر بحال على الغاصب ; لأنهما يبرئانه من عين ما يقر به ، ومن قال هذا قال أرأيت إن أقر أنه باع هذا هذه الدار بألف ثم أقر أنه باعها الآخر بألف والدار تسوى آلافا أتجعلها بيعا للأول وتجعل للآخر عليه قيمتها يحاصه بألف منها ; لأنه أتلفها ، أو أرأيت لو أعتق عبدا ثم أقر أنه باعه من رجل قبل العتق أتجعل للمشتري قيمته وينفذ العتق ؟ أو رأيت لو باع عبدا ثم أقر أنه كان أعتقه قبل بيعه أينقض البيع أو يتم ؟ إنما يكون للعبد عليه أن يقول له قد بعتني حرا فأعطني ثمني أرأيت لو مات فقال ورثته قد بعت أبانا حرا فأعطنا ثمنه أو زيادة ما يلزمك بأنك استهلكته أكان عليه أن يعطيهم شيئا أو يكون إنما أقر بشيء في ملك غيره فلا يجوز إقراره في ملك غيره ، ولا يضمن بإقراره شيئا ؟ .
    [ ص: 249 ] الإقرار بغصب الشيء من أحد هذين الرجلين .

    ( قال الشافعي ) : رحمه الله وإذا أقر الرجل أنه غصب هذا العبد أو هذا الشيء بعينه من أحد هذين وكلاهما يدعيه ويزعم أن صاحبه الذي ينازعه فيه لم يملك منه شيئا قط وسأل يمين المقر بالغصب قيل له إن أقررت لأحدهما وحلفت للآخر فهو للذي أقررت له به ولا تباعة للآخر عليك وإن لم تقر لم تجبر على أكثر من أن تحلف بالله ما تدري من أيهما غصبته ثم يخرج من يديك فيوقف لها ويجعلان خصما فيه فإن أقاما معا عليه بينة لم يكن لواحد منهما دون الآخر ; لأن إحدى البينتين تكذب الأخرى وكان بحاله قبل أن تقوم عليه بينة ويحلف كل واحد منهما لصاحبه أن هذا العبد له غصبه إياه فإن حلفا فهو موقوف أبدا حتى يصطلحا فيه فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان للحالف وإن أقام أحدهما عليه بينة دون الآخر جعلته للذي أقام عليه البينة ، ولا تباعة على الغاصب في شيء مما وصفت .

    ولو قال رجل : غصبت هذا الرجل بعينه هذا العبد أو هذه الأمة فادعى الرجل أنه غصبه إياهما معا قيل للمقر احلف أنك لم تغصبه أيهما شئت وسلم له الآخر فإن قال أحلف ما غصبته واحدا منهما لم يكن ذلك له وقيل : أحدهما له بإقرارك فاحلف على أيهما شئت فإن أبى قيل للمدعي احلف على أيهما شئت فإن حلف فهو له ، وإن قال : أحلف عليهما معا قيل للمدعى عليه إن حلفت وإلا أحلفنا المدعي فسلمناهما له معا فإن فاتا في يده أو أحدهما فالحكم كهو لو كانا حيين إلا أنا إذا ألزمناه أحدهما ضمناه قيمته بالفوت فأن أبيا معا يحلفا وسأل المغصوب أن يوقفا له وقفا حتى يقر الغاصب بأحدهما ويحلف قال ، وإن أقر الغاصب بأحدهما للمغصوب فادعى المغصوب أنه حدث بالعبد عنده عيب فالقول قول الغاصب مع يمينه إن كان ذلك مما يشبه أن يكون عند المغصوب .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #143
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الثالث

    الحلقة (143)
    صــــــــــ 250 الى صـــــــــــ256





    العارية .

    ( أخبرنا الربيع ) قال : أخبرنا الشافعي قال : العارية كلها مضمونة ، الدواب والرقيق والدور والثياب لا فرق بين شيء منها ، فمن استعار شيئا فتلف في يده بفعله أو بغير فعله فهو ضامن له والأشياء لا تخلو أن تكون مضمونة أو غير مضمونة فما كان منها مضمونا مثل الغصب وما أشبهه فسواء ما ظهر منها هلاكه وما خفي فهو مضمون على الغصب والمستسلف جنيا فيه أو لم يجنيا أو غير مضمونة مثل الوديعة فسواء ما ظهر هلاكه وما خفي فالقول فيها قول المستودع مع يمينه . وخالفنا بعض الناس في العارية فقال لا يضمن شيئا إلا ما تعدى فيه فسئل من أين قاله ؟ فزعم أن شريحا قال : وقال ما حجتكم في تضمينها ؟ قلنا { استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان فقال النبي صلى الله عليه وسلم عارية مضمونة مؤداة } .

    قال أفرأيت إذا قلنا فإن شرط المستعير الضمان ضمن ، وإن لم يشرطه لم يضمن ؟ قلنا فأنت إذا تترك قولك . قال : وأين ؟ قلنا : أليس قولك أنها غير مضمونة إلا أن يشترط ؟ قال بلى . قلنا : فما تقول في الوديعة إذا اشترط المستودع أنه ضامن أو المضارب ؟ قال لا يكون ضامنا . قلنا : فما تقول في المستسلف إذا اشترط أنه غير ضامن ؟ قال لا شرط له ويكون ضامنا . قلنا : ويرد الأمانة إلى أصلها والمضمون إلى أصله ويبطل الشرط فيهما جميعا ؟ قال : نعم . قلنا : وكذلك ينبغي لك أن تقول في العارية وبذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم أنها مضمونة ، ولا يشترط أنها مضمونة إلا ما يلزم . قال : فلم شرط ؟ قلنا لجهالة صفوان ; لأنه كان مشركا لا يعرف الحكم ، ولو عرفه ما ضر الشرط إذا كان أصل العارية أنها مضمونة بلا شرط كما لا يضر شرط العهدة وخلاص عقدك في البيع .

    ولو لم يشترط كان عليه العهدة والخلاص أو الرد قبل فهل قال هذا أحد ؟ قلنا في هذا كفاية وقد قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما إن العارية مضمونة وكان قول أبي هريرة في بعير استعير فتلف أنه مضمون . ولو اختلف رجلان في دابة فقال رب الدابة أكريتها إلى موضع كذا وكذا فركبتها بكذا وقال الراكب ركبتها عارية منك كان القول قول الراكب مع يمينه ، ولا كراء عليه .

    ( قال الشافعي ) بعد : القول قول رب الدابة ، وله كراء المثل ، ولو قال أعرتنيها وقال رب الدابة غصبتنيها كان القول قول المستعير .
    ( قال الشافعي ) : ولا يضمن المستودع إلا أن يخالف فإن خالف فلا يخرج من الضمان أبدا إلا بدفع الوديعة إلى ربها ، ولو ردها إلى المكان الذي كانت فيه ; لأن ابتداءه لها كان أمينا فخرج من حد الأمانة فلم يجدد له رب المال استئمانا لا يبرأ حتى يدفعها إليه .
    [ ص: 251 ] الغصب .

    ( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال : ( قال الشافعي ) إذا شق الرجل للرجل ثوبا شقا صغيرا أو كبيرا يأخذ ما بين طرفيه طولا وعرضا ، أو كسر له متاعا فرضه أو كسره كسرا صغيرا أو جنى له على مملوك فأعماه أو قطع يده أو شجه موضحة فذلك كله سواء ويقوم المتاع كله والحيوان كله غير الرقيق صحيحا ومكسورا وصحيحا ومجروحا قد برأ من جرحه ثم يعطى مالك المتاع والحيوان فضل ما بين قيمته صحيحا ومكسورا ومجروحا فيكون ما جرى عليه من ذلك ملكا له نفعه أو لم ينفعه ، ولا يملك أحد بالجناية شيئا جنى عليه ، ولا يزول ملك المالك إلا أن يشاء ، ولا يملك رجل شيئا إلا أن يشاء إلا في الميراث فأما من جنى عليه من العبيد فيقومون صحاحا قبل الجناية ثم ينظر إلى الجناية فيعطون أرشها من قيمة العبد صحيحا كما يعطى الحر أرش الجناية عليه من ديته بالغا من ذلك ما بلغ ، وإن كانت قيما كما يأخذ الحر ديات وهو حي قال الله - عز وجل - { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } فلم أعلم أحدا من المسلمين خالف في أنه لا يكون على أحد أن يملك شيئا إلا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث فإن الله - عز وجل - نقل ملك الأحياء إذا ماتوا إلى من ورثهم إياه شاءوا أو أبوا .

    ألا ترى أن الرجل لو أوصي له أو وهب له أو تصدق عليه أو ملك شيئا لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء ، ولم أعلم أحدا من المسلمين اختلفوا في أن لا يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه ببيع أو هبة أو غير ذلك أو عتق أو دين لزمه فيباع في ماله ، وكل هذا فعله لا فعل غيره قال فإذا كان الله - عز وجل - حرم أن تكون أموال الناس مملوكة إلا ببيع عن تراض وكان المسلمون يقولون فيما وصفت ما وصفت فمن أين غلط أحد في أن يجني على مملوكي فيملكه بالجناية وآخذ أنا قيمته وهو قبل الجناية لو أعطاني فيه أضعاف ثمنه لم يكن له أن يملكه إلا أن يشاء ، ولو وهبته له لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء فإذا لم يملكه بالذي يجوز ويحل من الهبة إلا بمشيئته ، ولم يملك علي بالذي يحل من البيع إلا أن أشاء فكيف ملكه حين عصى الله - عز وجل - فيه فأخرج من يدي ملكي بمعصية غيري لله وألزم غيري ما لا يرضى ملكه إن كان أصابه خطأ وكيف إن كانت الجناية توجب لي شيئا واخترت حبس عبدي سقط الواجب لي وكيف إن كانت الجناية تخالف حكم ما سوى ما وجب لي ولي حبس عبدي ، وأخذ أرشه ومتاعي ، وأخذ ما نقصه إذا كان ذلك غير مفسد له فإن جنى عليه ما يكون مفسدا له فزاد الجاني معصية لله وزيد علي في مالي ما يكون مفسدا له سقط حقي حين عظم وثبت حين صغر وملك حين عصى وكبرت معصيته ، ولا يملك حين عصى فصغرت معصيته ما ينبغي أن يستدل أحد على خلاف هذا القول لأصل حكم الله .

    وما لا يختلف المسلمون فيه من أن المالكين على أصل ملكهم ما كانوا أحياء حتى يخرجوا هم الملك من أنفسهم بقول أو فعل بأكثر من أن يحكي فيعلم أنه خلاف ما وصفنا من حكم الله - عز وجل - وإجماع المسلمين والقياس والمعقول ثم شدة تناقضه هو في نفسه . قال : وإذا غصب الرجل جارية تسوى مائة فزادت في يديه بتعليم [ ص: 252 ] منه وسن واغتذاء من ماله حتى صارت تساوي ألفا ثم نقصت حتى صارت تساوي مائة ثم أدركها المغصوب في يده أخذها وتسعمائة معها كما يكون لو غصبه إياها وهي تساوي ألفا فأدركها وهي تساوي مائة أخذها وما نقصها وهي تسعمائة . قال : وكذلك إن باعها الغاصب أو وهبها أو قتلها أو استهلكها فلم تدرك بعينها كانت على الغاصب قيمتها في أكثر ما كانت قيمة منذ غصبت إلى أن هلكت وكذلك ذلك في البيع إلا أن رب الجارية يخير في البيع فإن أحب أخذ الثمن الذي باع به الغاصب كان أكثر من قيمتها أو أقل ; لأنه ثمن سلعته أو قيمتها في أكثر ما كانت قيمة قط .

    ( قال الشافعي ) بعد : ليس له إلا جاريته والبيع مردود ; لأنه باع ما ليس له وبيع الغاصب مردود فإن قال قائل : وكيف غصبها بثمن مائة وكان لها ضامنا وهي تساوي مائة ثم زادت حتى صارت تساوي ألفا ، وهي في ضمان الغاصب ثم ماتت أو نقصت ضمنته قيمتها في حال زيادتها ؟ قيل له إن شاء الله - تعالى - لأنه لم يكن غاصبا ، ولا ضامنا ، ولا عاصيا في حال دون حال لم يزل غاصبا ضامنا عاصيا من يوم غصب إلى أن فاتت أو ردها ناقصة فلم يكن الحكم عليه في الحال الأولى بأوجب منه في الحال الثانية ، ولا في الحال الثانية بأوجب منه في الحال الآخرة ; لأن عليه في كلها أن يكون رادا لها ، وهو في كلها ضامن عاص فلما كان للمغصوب أن يغصبها قيمة مائة فيدركها قيمة ألف فيأخذها ويدركها ، ولها عشرون ولدا فيأخذها وأولادها ، كان الحكم في زيادتها في بدنها وولدها كالحكم في بدنها حين غصبها يملك منها زائدة بنفسها وولدها ما ملك منها ناقصة حين غصبها ، ولا فرق بين أن يقتلها وولدها أو تموت هي وولدها في يديه من قبل أنه إذا كان كما وصفت يملك ولدها كما يملكها لا يختلف أحد علمته في أنه لو غصب رجل جارية فماتت في يديه موتا أو قتلها قتلا ضمنها في الحالين جميعا كذلك .

    قال : وإذا غصب الرجل الرجل جارية فباعها فماتت في يد المشتري فالمغصوب بالخيار في أن يضمن الغاصب قيمة جاريته في أكثر ما كانت قيمة من يوم غصبها إلى أن ماتت فإن ضمنه فلا شيء للمغصوب على المشتري ، ولا شيء للغاصب على المشتري إلا قيمتها إلا الثمن الذي باعها به أو يضمن المغصوب المشتري فإن ضمنه فهو ضامن لقيمة جارية المغصوب لأكثر ما كانت قيمة من يوم قبضها إلى أن ماتت في يده ويرجع المشتري على الغاصب بفضل ما ضمنه المغصوب من قيمة الجارية على قيمتها يوم قبضها المشتري وبفضل ممن إن كان قبضه منه على قيمتها حتى لا يلزمه في حال إلا قيمتها . قال : وإن أراد المغصوب إجازة البيع لم يجز ; لأنها ملكت ملكا فاسدا ، ولا يجوز الملك الفاسد إلا بتجديد بيع وكذلك لو ماتت في يدي المشتري فأراد المغصوب أن يجيز البيع لم يجز وكان للمغصوب قيمتها ، ولو ولدت في يدي المشتري أولادا فمات بعضهم وعاش بعضهم خير المغصوب في أن يضمن الغاصب أو المشتري فإن ضمن الغاصب لم يكن له سبيل على المشتري وإن ضمن المشتري وقد ماتت الجارية رجع عليه بقيمة الجارية ومهرها وقيمة أولادها يوم سقطوا أحياء ، ولا يرجع عليه بقيمة من سقط منهم ميتا ، ورجع المشتري على البائع بجميع ما ضمنه المغصوب لا قيمة الجارية ومهرها فقط .

    ولو وجدت الجارية حية أخذها المغصوب رقيقا له وصداقها ، ولا يأخذ ولدها ، قال فإن كان الغاصب هو أصابها فولدت منه أولادا فعاش بعضهم ومات بعض أخذ المغصوب الجارية وقيمة من مات من أولادها في أكثر ما كانوا قيمة والأحياء فاسترقهم ، وليس الغاصب في هذا كالمشتري . المشتري مغرور ، والغاصب لم يغره إلا نفسه وكان على الغاصب إن لم يدع الشبهة الحد ، ولا مهر عليه .

    ( قال الربيع ) : فإن كانت الجارية أطاعت الغاصب وهي تعلم أنها حرام عليه ، وأنه زان بها فلا مهر ; لأن هذا مهر بغي وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وإن كانت تظن هي [ ص: 253 ] أن الوطء حلال فعليه مهر مثلها وإن كانت مغصوبة على نفسها فلصاحبها المهر وهو زان وولده رقيق .

    فإن قال قائل : أرأيت المغصوب إذا اختار إجازة البيع لم لم يجز البيع ؟ قيل له - إن شاء الله تعالى - : البيع إنما يلزم برضا المالك والمشتري ألا ترى أن المشتري وإن كان رضي بالبيع فللمغصوب جاريته كما كانت لو لم يكن فيها بيع ، وأنه لا حكم للبيع في هذا الموضع إلا حكم الشبهة ، وأن الشبهة لم تغير ملك المغصوب فإذا كان للمغصوب أخذ الجارية ، ولم ينفع البيع المشتري فهي على الملك الأول للمغصوب وإذا كان المشتري لا يكون له حبسها ، ولو علم أنه باعها غاصب غير موكل استرق ولده فلا ينبغي أن يذهب على أحد أنه لا يجوز على المشتري إجازة البيع إلا بأن يحدث المشتري رضا بالبيع فيكون بيعا مستأنفا فإن شبه على أحد بأن يقول إن رب الجارية لو كان أذن ببيعها لزم البيع فإذا أذن بعد البيع فلم لا يلزم ؟ قيل له - إن شاء الله تعالى - : إذنه قبل البيع إذا بيعت بقطع خياره ، ولا يكون له رد الجارية وتكون الجارية لمن اشتراها ، ولو أولدها لم يكن له قيمة ولدها ; لأنها جارية للمشتري وحلال للمشتري الإصابة والبيع والهبة والعتق فإذا بيعت بغير أمره فله رد البيع ، ولا يكون له رد البيع إلا والسلعة لم تملك وحرام على البائع البيع وحرام على المشتري الإصابة لو علم ويسترق ولده فإذا باعها أو أعتقها لم يجز بيعه ، ولا عتقه فالحكم في الإذن قبل البيع أن المأذون له في البيع كالبائع المالك ، وأن الإذن بعد البيع إنما هو تجديد بيع ، ولا يلزم البيع المجدد إلا برضا البائع والمشتري وهكذا كل من باع بغير وكالة أو زوج بغير وكالة لم يجز أبدا إلا بتجديد بيع أو نكاح . فإن قال قائل لم ألزمت المشتري المهر ووطؤه في الظاهر كان عنده حلالا وكيف رددته بالمهر وهو الواطئ ؟ قيل له - إن شاء الله تعالى - : أما إلزامنا إياه المهر فلما كان من حق الجماع إذا كان بشبهة يدرأ فيه الحد في الأمة والحرة أن يكون فيه مهر كان هذا جماعا يدرأ به الحد ويلحق به الولد للشبهة ، فإن قال : فإنما جامع ما يملك عند نفسه قلنا فتلك الشبهة التي درأنا بها الحد ، ولم نحكم له فيها بالملك ; لأنا نردها رقيقا ونجعل عليه قيمة الولد ، والولد إذا كانوا بالجماع الذي أراه له مباحا فألزمناه قيمتهم كان الجماع بمنزلة الولد أو أكثر ; لأن الجماع لازم وإن لم يكن ولد فإذا ضمناه الولد ; لأنهم بسبب الجماع كان الجماع أولى أن نضمنه إياه وتضمين الجماع هو تضمين الصداق .

    فإن قال قائل : وكيف ألزمته قيمة الأولاد الذين لم يدركهم السيد إلا موتى ؟ قيل له لما كان السيد يملك الجارية ، وكان ما ولدت مملوكا يملكها إذا وطئت بغير شبهة فكان على الغاصب ردهم حين ولدوا فلم يردهم حتى ماتوا ضمن قيمتهم كما يضمن قيمة أمهم لو ماتت ، ولما كان المشتري وطئها بشبهة كان سلطان المغصوب عليهم فيما يقوم مقامهم حين ولدوا فقد ثبتت له قيمتهم فسواء ماتوا أو عاشوا ; لأنهم لو عاشوا لم يسترقوا . قال : وإذا اغتصب الرجل الجارية ثم وطئها بعد الغصب وهو من غير أهل الجهالة أخذت منه الجارية والعقر وأقيم عليه حد الزنا فإن كان من أهل الجهالة ، وقال : كنت أراني لها ضامنا ، وأرى هذا محل عذر لم يحد وأخذت منه الجارية والعقر .

    قال : وإذا غصب الرجل الجارية فباعها فسواء باعها في الموسم أو على منبر أو تحت سرداب حق المغصوب فيها في هذه الحالات سواء فإن جنى عليها أجنبي في يدي المشتري أو الغاصب جناية تأتي على نفسها أو بعضها فأخذ الذي هي في يديه أرش الجناية ثم استحقها المغصوب فهو بالخيار في أخذ أرش الجناية من يدي من أخذها إذا كانت نفسا أو تضمينه قيمتها على ما وصفنا ، وإن كانت جرحا فهو بالخيار في أخذ أرش الجرح من الجاني والجارية من الذي هي في يديه أو تضمين الذي هي في يديه ما نقصها الجرح بالغا ما بلغ وكذلك إن كان المشتري قتلها أو جرحها فإن كان الغاصب قتلها فلمالكها عليه الأكثر من قيمتها يوم قتلها أو قيمتها في أكثر ما كانت قيمة ; لأنه لم يزل لها ضامنا .
    قال [ ص: 254 ] وإن كان المغصوب ثوبا فباعه الغاصب من رجل فلبسه ثم استحقه المغصوب أخذه ، وكان له ما بين قيمته يوم اغتصبه ، وبين قيمته التي نقصه إياها اللبس كان قيمته يوم غصبه عشرة فنقصه اللبس خمسة فيأخذ ثوبه وخمسة وهو بالخيار في تضمين اللابس المشتري أو الغاصب فإن ضمن الغاصب فلا سبيل له على اللابس .
    وهكذا إن غصب دابة فركبت حتى أنضيت كانت له دابته وما نقصت عن حالها حين غصبها ، ولست أنظر في القيمة إلى تغير الأسواق إنما أنظر إلى تغير بدن المغصوب .
    فلو أن رجلا غصب رجلا عبدا صحيحا قيمته مائة دينار فمرض فاستحقه وقيمته مريضا خمسون أخذ عبده وخمسين ، ولو كان الرقيق يوم أخذه أغلى منهم يوم غصبه ، وكذلك لو غصبه صبيا مولودا قيمته دينار يوم غصبه فشب في يد الغاصب ، وشل أو اعور وغلا الرقيق أو لم يغل فكانت قيمته يوم استحقه عشرين دينارا أخذه وقومناه صحيحا ، وأشل أو أعور ثم رددناه على الغاصب بفضل ما بين قيمته صحيحا ، وأشل أو أعور ; لأنه كان عليه أن يدفعه إليه صحيحا فما حدث به من عيب ينقصه في بدنه كان ضامنا له .
    وهكذا لو غصبه ثوبا جديدا قيمته يوم غصبه عشرة فلبسه حتى أخلق وغلت الثياب فصار يساوي عشرين أخذ الثوب ويقوم الثوب جديدا وخلقا ثم أعطي فضل ما بين القيمتين . قال : ولو غصبه جديدا قيمته عشرة ثم رده جديدا قيمته خمسة لرخص الثياب لم يضمن شيئا من قبل أنه رده كما أخذه فإن شبه على أحد بأن يقول قد ضمن قيمته يوم اغتصبه فالقيمة لا تكون مضمونة أبدا إلا لفائت والثوب إذا كان موجودا بحاله غير فائت وإنما تصير عليه القيمة بالفوت ، ولو كان حين غصب كان ضامنا لقيمته لم يكن للمغصوب أخذ ثوبه وإن زادت قيمته ، ولا عليه أخذ ثوبه إن كانت قيمته سواء أو كان أقل قيمة .
    قال : وإذا غصب الجارية فأصابها عيب من السماء أو بجناية أحد فسواء ، وسواء أصابها ذلك عند الغاصب أو المشتري يسلك بما أصابها من العيوب التي من السماء ما سلك بها في العيوب التي يجني عليها الآدميون . قال : وإذا غصب الرجل جارية فباعها من آخر فحدث بها عند المشتري عيب ثم جاء المغصوب فاستحقها أخذها وكان بالخيار في أخذ ما نقصها العيب من الغاصب فإن أخذه منه لم يرجع على المشتري بشيء ولرب الجارية أن يأخذ ما نقصه العيب الحادث في يد المشتري من المشتري فإن أخذه من المشتري رجع به المشتري على الغاصب وبثمنها الذي أخذ منه ; لأنه لم يسلم إليه ما اشترى وسواء كان العيب من السماء أو بجناية آدمي .
    قال : وإذا غصب الرجل من الرجل دابة فاستغلها أو لم يستغلها ولمثلها غلة أو دارا فسكنها أو أكراها أو لم يسكنها ، ولم يكرها ولمثلها كراء أو شيئا ما كان مما له غلة استغله أو لم يستغله انتفع به أو لم ينتفع به فعليه كراء مثله من حين أخذه حتى يرده إلا أنه إن كان أكراه بأكثر من كراء مثله فالمغصوب بالخيار في أن يأخذ ذلك الكراء ; لأنه كراء ماله أو يأخذ كراء مثله ، ولا يكون لأحد غلة بضمان إلا للمالك ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قضى بها للمالك الذي كان أخذ ما أحل الله له والذي كان إن مات المغل مات من ماله . وإن شاء أن يحبس المغل حبسه إلا أنه جعل له الخيار إن شاء أن يرده بالعيب رده ، فأما الغاصب فهو ضد المشتري . الغاصب أخذ ما حرم الله - تعالى - عليه ، ولم يكن للغاصب حبس ما في يديه ، ولو تلف المغل كان الغاصب له ضامنا حتى يؤدي قيمته إلى الذي غصبه إياه ، ولا يطرح الضمان له لو تلف قيمة الغلة التي كانت قبل أن يتلف .

    ولا يجوز إلا هذا القول أو قول آخر وهو خطأ عندنا - والله تعالى أعلم - وهو أن بعض الناس زعم أنه إذا سكن أو استغل أو حبس فالغلة والسكن له بالضمان ، ولا شيء عليه ، وإنما ذهب إلى القياس على الحديث الذي ذكرت فأما أن يزعم زاعم أنه إن أخذ غلة أو سكن رد الغلة وقيمة السكنى ، وإن لم يأخذها فلا شيء عليه فهذا [ ص: 255 ] خارج من كل قول لا هو جعل ذلك له بالضمان ، ولا هو جعل ذلك للمالك إذا كان المالك مغصوبا .

    ( قال الربيع ) : معنى قول الشافعي ليس للمغصوب أن يأخذ إلا كراء مثله ; لأن كراءه باطل وإنما على الذي سكن إذا استحق الدار ربها كراء مثلها ، وليس له خيار في أن يأخذ الكراء الذي أكراها به الغاصب ; لأن الكراء مفسوخ .
    ( قال الشافعي ) : ولو اغتصبه أرضا فغرسها نخلا أو أصولا أو بنى فيها بناء أو شق فيها أنهارا كان عليه كراء مثل الأرض بالحال الذي اغتصبه إياها وكان على الباني والغارس أن يقلع بناءه وغرسه فإذا قلعه ضمن ما نقص القلع الأرض حتى يرد إليه الأرض بحالها حين أخذها ويضمن القيمة بما نقصها . قال : وكذلك ذلك في النهر وفي كل شيء أحدثه فيها لا يكون له أن يثبت فيها عرقا ظالما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس لعرق ظالم حق } ، ولا يكون لرب الأرض أن يملك مال الغاصب ، ولم يملكه إياه كان ما يقلع الغاصب منه ينفعه أو لا ينفعه ; لأن له منع قليل ماله كما له منع كثيره ، وكذلك لو كان حفر فيها بئرا كان له دفنها وإن لم ينفعه الدفن وكذلك لو غصبه دارا فزوقها كان له قلع التزويق وإن لم يكن ينفعه قلعه ، وكذلك لو كان نقل عنها ترابا كان له أن يرد ما نقل عنها حتى يوفيه إياها بالحال التي غصبه إياها عليها لا يكون عليه أن يترك من ماله شيئا ينتفع به المغصوب كما لم يكن على المغصوب أن يبطل من ماله شيئا في يد الغاصب .

    فإن تأول رجل قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } فهذا كلام مجمل لا يحتمل لرجل شيئا إلا احتمل عليه خلافه ، ووجهه الذي يصح به : أن لا ضرر في أن لا يحمل على رجل في ماله ما ليس بواجب عليه ، ولا ضرار في أن يمنع رجل من ماله ضررا ولكل ما له وعليه . فإن قال قائل : بل أحدث للناس في أموالهم حكما على النظر لهم ، وأمنعهم في أموالهم على النظر لهم قيل له - إن شاء الله تعالى - أرأيت رجلا له بيت يكون ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع في دار رجل له مقدرة أعطاه به ما شاء مائة ألف دينار أو أكثر وقيمة البيت درهم أو درهمان ، وأعطاه مكانه دارا مع المال أو رقيقا هل يجبر على النظر له أن يأخذ هذا الكثير بهذا القليل ؟ أو رأيت رجلا له قطعة أرض بين أراضي رجل لا تساوي القطعة درهما فسأله الرجل أن يبيعه منها ممرا بما شاء من الدنيا هل يجبر على أن يبيع ما لا ينفعه بما فيه غناه ؟ أو رأيت رجلا صناعته الخياطة فحلف رجل أن لا يستخيط غيره ومنعه هو أن يخيط له فأعطاه على ما الإجارة فيه درهم مائة دينار أو أكثر أيجبر على أن يخيط له ؟ .

    أو رأيت رجلا عنده أمة عمياء لا تنفعه أعطاه بها ابن لها بيت مال هل يجبر على أن يبيعها ؟ فإن قال لا يجبر واحد من هؤلاء على النظر له . قلنا : وكل هؤلاء يقول إنما فعلت هذا إضرارا بنفسي وإضرارا للطالب إلي حتى أكون جمعت الأمرين فإن قال ، وإن أضر بنفسه وضار غيره فإنما فعل في ماله ما له أن يفعل . قيل : وكذلك حافر البئر في أرض الرجل والمزوق جدار الرجل وناقل التراب إلى أرض الرجل إنما فعل ما له أن يفعل ومنع ما له أن يمنع من ماله .

    فإن كان في رد التراب ودفن البئر ما يشغل الأرض عن ربها حتى يمنعه منفعة في ذلك الوقت ، قيل للذي يريد رد التراب أنت بالخيار في أن ترده ويكون عليك كراء الأرض بقدر المدة التي حبستها عن المنفعة أو تدعه ، وقيل لرب الأرض في البئر لك الخيار في أن تأخذ حافر البئر بدفنها على كل حال ، ولا شيء لك عليه ; لأنه ليس في موضعها منفعة حتى تكون مدفونة إلا أن يكون لموضعها لو كانت مستوية منفعة فيما بين أن حكمنا لك بها إلى أن يدفنها فيكون لك أجر تلك المنفعة ; لأنه شغل عنك شيئا من أرضك .

    ( قال الشافعي ) : وإن كان الغاصب نقل من أرض المغصوب ترابا كان منفعة للأرض لا ضرر عليها أخذ برده فإن كان لا يقدر على رد مثله بحال أبدا قومت الأرض وعليها ذلك التراب ، وقومت بحالها حين أخذها [ ص: 256 ] ثم ضمن الغاصب ما بين القيمتين ، وإن كان يقدر على رده بحال وإن عظمت فيه المؤنة كلفه .
    قال : وإذا قطع الرجل يد دابة رجل أو رجلها أو جرحها جرحا ما كان صغيرا أو كبيرا ، قومت الدابة مجروحة أو مقطوعة ، ثم ضمن ما بين القيمتين ، ولا يملك أحد مال أحد بجناية أبدا . قال : وإذا أقام شاهدا أن رجلا غصبه هذه الجارية يوم الخميس وشاهدا أنه غصبه إياها يوم الجمعة أو شاهدا أنه غصبه إياها وشاهدا أنه أقر له بغصبه إياها أو شاهدا أنه أقر له يوم الخميس بغصبها وآخر أنه أقر له يوم الجمعة بغصبها فكل هذا مختلف ; لأن غصب يوم الخميس غير غصب يوم الجمعة وفعل الغصب غير الإقرار بالغصب والإقرار يوم الخميس غير الإقرار يوم الجمعة ، فيقال له في هذا كله احلف مع أي شاهديك شئت واستحق الجارية فإن حلف استحقها .
    قال : ولو أن أرضا كانت بيد رجل فادعى آخر أنها أرضه فأقام شاهدا فشهد له أنها أرضه اشتراها من مالك أو ورثها من مالك أو تصدق بها عليه مالك أو كانت مواتا فأحياها فوصف ذلك بوجه من وجوه الملك الذي يصح ، وأقام شاهدا غيره أنها حيزة لم تكن الشهادة بأنها حيزة شهادة ، ولو شهد عليها عدد عدول إذا لم يزيدوا على هذا شيئا ; لأن حيزه يحتمل ما يجوز بالملك وما يجوز بالعارية والكراء ويحتمل ما يلي أرضه وما يلي مسكنه ويحتمل بعطية أهلها فلما لم يكن واحد من هذه المعاني أولى بالظاهر من الآخر لم تكن هذه شهادة أبدا حتى يزيدوا فيها ما يبين أنها ملك له ، وله أن يحلف مع الشاهد الذي شهد له بالملك ويستحق . قال : ولو شهد له الشاهد الأول بما وصفنا من الملك وشهد له الشاهد الثاني بأنه كان يحوزها وقف فإن قال بحوزها بملك فقد اجتمعا على الشهادة ، وإن قال يحوزها ، ولم يزد على ذلك لم يجتمعا على الشهادة ويحلف مع شاهد الملك ويستحق .
    قال : وإذا غصب الرجل من الرجل الجارية فباعها من آخر وقبض الثمن فهلك في يديه ثم جاء رب الجارية والجارية قائمة أخذ الجارية وشيئا إن كان نقصها ورجع المشتري على البائع بالثمن الذي قبض منه موسرا كان أو معسرا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #144
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله




    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الثالث

    الحلقة (144)
    صــــــــــ 257 الى صـــــــــــ264





    قال : وإذا غصب الرجل الرجل دابة أو أكراه إياها ، فتعدى فضاعت في تعديه فضمنه رب الدابة المغصوب أو المكرى قيمة دابته ثم ظفر بالدابة بعد فإن بعض الناس وهو أبو حنيفة قال لا سبيل له على الدابة ، ولو كانت جارية لم يكن له عليها سبيل من قبل أنه أخذ البدل منها والبدل يقوم مقام البيع .

    ( قال الشافعي ) : وإذا ظهر على الدابة رددت عليه الدابة ورد ما قبض من ثمنها إن كانت دابته بحالها يوم غصبها أو تعدى بها أو خيرها حالا فإن كانت ناقصة قبضها وما نقصت ورد الفضل عن نقصانها من الثمن ، ولا يشبه هذا البيوع إنما البيوع بما تراضيا عليه فسلم له رب السلعة سلعته ، وأخرجها من يديه إليه راضيا بإخراجها ، والمشتري غير عاص في أخذها والمتعدي عاص في التعدي والغصب ، ورب الدابة غير بائع له دابته .

    ألا ترى أن الدابة لو كانت قائمة بعينها لم يكن له أخذ قيمتها فلما كان إنما أخذ القيمة على أن دابته فائتة ثم وجد الدابة كان الفوت قد بطل وكانت الدابة موجودة ، ولو كان هذا بيعا ما جاز أن تباع دابته غائبة ، ولو جاز فهلكت الدابة كان للغاصب والمتعدي أن يرجع بالثمن ، ولو وجدت معيبة كان له أن يردها بالعيب فإن قال رجل : فهي لا تشبه البيوع ، ولكنها تشبه الجنايات . قيل له : أفرأيت لو أن رجلا جنى على عين رجل فابيضت فحكم له بأرشها ثم ذهب البياض فقائل هذا يزعم أنه يرده بالأرش ويرده ، ولو حكم له في سن قلعت من صبي بخمس من الإبل ثم نبتت رجع بالأرش الذي حكم به عليه فإن شبهها بالجنايات فهذا يلزمه فيه اختلاف القول وإن زعم أنها لا تشبه الجنايات ; لأن الجنايات ما فات فلم يعد فهذه قد عادت فصارت غير فائتة .

    ولو كان هذا بغير قضاء قاض فاغتصب رجل لرجل دابة أو أكراه إياها فتعدى عليها فضاعت ثم اصطلحا من ثمنها على [ ص: 257 ] شيء يكون أكثر من قيمة الدابة أو مثله أو أقل فالقول فيه كالقول في حكم القاضي ; لأنه إنما صالحه على ما لزم الغاصب مما استهلك فلما كان ماله غير مستهلك كان الصلح وقع على غير ما علما أو علم رب الدابة ، ولو كان الغاصب قال له أنا اشتريها منك وهي في يدي قد عرفتها فباعه إياها بشيء قد عرفه قل أو كثر فالبيع جائز فإن جاء الغاصب بالدابة معيبة عيبا يحدث مثله فزعم أنه لم يكن رآه ، وأن البائع دلس له به كان القول قول البائع مع يمينه إلا أن يقيم الغاصب البينة على أنه كان في يد المغصوب البائع ، أو يكون العيب مما لا يحدث مثله فيكون له رد الدابة ، ويكون للمغصوب ما نقصها على الغاصب فإن قال المتعدي بالغصب أو في الكراء : إن الدابة ضاعت فأنا أدفع إليك قيمتها فقيل ذلك منه بغير قضاء قاض .

    فلا يجوز في هذا - والله أعلم - إلا واحد من قولين أحدهما : أن يقال هذا بيع مستأنف فلا تجيزه من قبل أنه لا يجوز بيع الموتى أو يقال هذا بدل إن كانت ضاعت أو تلفت فيجوز ; لأن ذلك يلزمه في أصل الحكم فمن ذهب هذا المذهب لزمه إذا علم بأن الدابة لم تضع أن يكون لرب الدابة أخذها وعليه رد ما أخذ من قبل أنه إنما أخذ ما كان يلزم له لو كانت ضائعة فلما لم تكن ضائعة كان على أصل ملكه أو يقول قائل قولا ثالثا فيقول : لما رضي بقوله وترك استحلافه كما كان الحاكم مستحلفه لو ضاعت فلا يكون له الرجوع على حال فأما أن يقول قائل إن كانت عند الغاصب وإنما كذب ليأخذها فللمشتري أخذها وإن لم تكن عند الغاصب ثم وجدها فليس للمشتري أخذها فهذا لا يجوز في وجه من الوجوه ; لأن الذي انعقد إن كان جائزا بكل حال جاز ، ولم ينتقض وإن كان جائزا ما لم تكن موجودة منتقضا إذا كانت موجودة فهي موجودة في الحالين فما بالها ترد في إحداهما ، ولا ترد في الأخرى ؟ . وإن كان فاسدا فهو مردود بكل حال وهذا القول لا جائز ، ولا فاسد ، ولا جائز على معنى فاسد في آخر .
    ( قال الشافعي ) : وإذا باع الرجل من الرجل الجارية أو العبد وقبضه منه ثم أقر البائع لرجل آخر أنه عبده غصبه منه أو أمته غصبها منه قلنا للمقر له بالغصب إن أقمت بينة على الغصب دفعنا إليك أيهما أقمت عليه البينة ونقضنا البيع ، وإن لم تقم بينة فإقرار البائع لك إثبات حق لك على نفسه ، وإبطال حق لغيرك قد ثبت عليه قبل إقراره لك ، ولا يصدق في إبطال حق غيره ويصدق على نفسه فيضمن لك قيمة أيهما أقر بأنه غصبه إلا أن يجد المشتري العيب أو يكون له خيار فيرده بخياره في العيب وخياره في الشرط فإذا رده كان على المقر أن يسلمه إليك ، وإن صدقه المشتري أنه غاصب رده ورجع عليه بالثمن الذي أخذه منه إن شاء .
    ( قال الشافعي ) : وإذا اغتصب الرجل من الرجل عبدا فباعه من رجل ثم ملك المغتصب البائع ذلك العبد بميراث أو هبة أو بشراء صحيح أو وجه ملك ما كان ثم أراد نقض البيع الأول ; لأنه باع ما لا يملك فإن صدقه المشتري أو قامت بينة فالبيع منتقض أراده أو لم يرده ; لأنه باع ما لا يجوز له بيعه وإن لم تقم بينة وقال المشتري : إنما ادعيت ما يفسد البيع فالقول قول المشتري مع يمينه . فإن قال البائع : بعتك ما أملك ثم قامت بينة أنه اغتصبه ثم ملكه ، ولم يصدقه المشتري ثبت البيع من قبل أن البينة إنما تشهد في هذا الوقت للبائع لا عليه فتشهد له بما يرجع به العبد إلى ملكه فيكون مشهودا له لا عليه .

    وقد أكذبهم فلا ينتقض البيع في الحكم لإكذابه بينته ، وينبغي في الورع أن يجددا بيعا أو يرده المشتري . قال : وإن كانت البينة شهدت فكان ذلك يخرجه من أيديهما جميعا قبلت البينة ; لأنها عليه . قال : وإن باعه وقبضه المشتري ثم أعتقه فقامت بينة بغصب وكان المغصوب أو ورثته قياما رد العتق ; لأن البيع كان فاسدا ويرد إلى المغصوب ، ولو لم تكن بينة وصدق الغاصب والمشتري المدعي أنه غصبه لم يقبل قول واحد منهما في العتق ومضى العتق ورددنا المغصوب على الغاصب بقيمة العبد في أكثر ما كان قيمة [ ص: 258 ] وإن أحب رددناه على المشتري المعتق فإن رددناه على المشتري المعتق رجع على الغاصب البائع بما أخذ منه ; لأنه قد أقر أنه باع ما لا يملك والولاء موقوف من قبل أن المعتق يقر أنه أعتق ما لا يملك .
    قال : وإذا غصب الرجل من الرجل الجارية فباعها من رجل والمشتري يعلم أنها مغصوبة ثم جاء المغصوب فأراد البيع لم يكن البيع جائزا من قبل أن أصل البيع كان محرما فلا يكون لأحد إجازة المحرم ، ويكون له تجديد بيع حلال هو غير الحرام فإن قال قائل أرأيت لو أن امرأ باع جارية له وشرط نفسه فيها الخيار أما كان يجوز البيع ويكون له أن يختار إمضاءه فيلزم المشتري بأن له الخيار دون البائع ؟ قيل بلى فإن قال فما فرق بينهما ؟ . قيل : هذه باعها مالكها بيعا حلالا وكان له الخيار على شرطه وكان المشتري غير عاص لله ، ولا البائع والغاصب والمشتري وهو يعلم أنها مغصوبة عاصيان لله ، وهذا بائع ما ليس له وهذا مشتر ما لا يحل له فلا يقاس الحرام على الحلال ; لأنه ضده ألا ترى أن الرجل المشتري من رب الجارية جاريته لو شرط المشتري الخيار لنفسه كان له الخيار كما يكون للبائع إذا شرطه ؟ أفيكون لمشتري الجارية المغصوبة الخيار في أخذها أو ردها ؟ فإن قال لا قيل : ولو شرط الغاصب الخيار لنفسه ؟ فإن قال لا من قبل أن الذي شرط له الخيار لا يملك الجارية قيل : ولكن الذي يملكها لو شرط له الخيار جاز فإن قال : نعم قيل له أفلا ترى أنهما مختلفان في كل شيء فكيف يقاس أحد المختلفين في كل شيء على الآخر .
    قال : وإذا غصب الرجل من الرجل الجارية فأقر الغاصب بأنه غصبه جارية وقال : ثمنها عشرة . وقال المغصوب : ثمنها مائة فالقول قول الغاصب مع يمينه ، ولا تقوم على الصفة من قبل أن التقويم على الصفة لا يضبط قد تكون الجاريتان بصفة ، ولون وسن وبينهما كثير في القيمة بشيء يكون في الروح والعقل واللسان فلا يضبط إلا بالمعاينة فيقال لرب الجارية : إن رضيت وإلا فإن أقام بينة أخذ له ببينته وإن لم يقمها أحلف له الغاصب وكان القول قوله ، ولو أقام عليه شاهدين بأنه غصبه جارية فهلكت الجارية في يديه ، ولم يثبت الشاهدان على قيمتها كان القول في قيمتها قول الغاصب مع يمينه ، ولو وصفها الشاهدان بصفة أنها كانت صحيحة علم أن قيمتها أكثر مما قال الغاصب كان القول قول الغاصب ; لأنه قد يمكن أن يكون ثم داء أو غائلة تخفى يصير بها ثمنها إلى ما قال الغاصب فإذا أمكن ما قال الغاصب بحال كان القول قوله مع يمينه ، وهكذا قول من يغرم شيئا من الدنيا بأي وجه ما دخل عليه الغرم إذا أمكن أن يكون القول قوله كان القول قوله ، ولا يؤخذ منه خلاف ما أقر به إلا ببينة .

    ألا ترى أنا نجعل في الأكثر من الدعوى عليه القول قوله ؟ فلو قال رجل غصبني أو لي عليه دين أو عنده وديعة كان القول قوله مع يمينه ، ولم نلزمه شيئا لم يقر به فإذا أعطيناه هذا في الأكثر كان الأقل أولى أن نعطيه إياه فيه ، ولا تجوز القيمة على ما لا يرى ، وذلك أنا ندرك ما وصفت من علم أن الجاريتين تكونان في صفة وإحداهما أكثر ثمنا من الأخرى بشيء غير بعيد فلا تكون القيم إلا على ما عوين . أولا ترى أن فيما عوين لا نولي القيمة فيه إلا أهل العلم به في يومه الذي يقومونه فيه ؟ ، ولا تجوز لهم القيمة حتى يكشفوا عن الغائلة والأدواء ثم يقيسوه بغيره ثم يكون أكثر ما عندهم في ذلك تآخي قدر القيمة على قدر ما يرى من سعر يومه فإذا كان هذا هكذا لم يجز التقويم على المغيب .

    فإن قال : صفته كذا ، ولا أعرف قيمته قلنا لرب الثوب ادع في قيمته ما شئت فإذا فعل قلنا للغاصب قد ادعى ما تسمع فإن عرفته فأده إليه بلا يمين وإن لم تعرفه فأقر بما شئت نحلفك عليه وتدفعه إليه . فإن قال لا أحلف قلنا فرد اليمين عليه فيحلف عليك ويستحق ما ادعى إن ثبت على الامتناع من اليمين فإن حلف بعد أن بين هذا له فقد جاء بما عليه ، وإن امتنع أحلفنا المدعي ثم ألزمناه جميع ما حلف عليه فإن أراد اليمين بعد يمين المدعي لم نعطه إياها فإن جاء ببينة على [ ص: 259 ] أقل مما حلف عليه المدعي أعطيناه بالبينة وكانت البينة أولى من اليمين الفاجرة .
    قال : وإذا غصب رجل من رجل طعاما حبا أو تمرا أو أدما فاستهلكه فعليه مثله إن كان يوجد له مثل بحال من الحال وإن لم يوجد له مثل فعليه قيمته أكثر ما كان قيمة قط
    قال : وإذا غصب رجل لرجل أصلا فأثمر أو غنما فتوالدت ، وأصاب من صوفها ، وألبانها كان لرب الأصل والغنم وكل ماشية أن يأخذ ماشيته ، وأصله من الغاصب إن كان بحاله حين غصبه أو خيرا ، وإن نقص أخذه والنقصان ورجع عليه بجميع ما أتلف من الثمرة فأخذ منه مثلها إن كان لها مثل أو القيمة إن لم يكن لها مثل ، وقيمة ما أتلف من نتاج الماشية ومثل ما أخذ من لبنها أو قيمته إن لم يكن له مثل ، ومثل ما أخذ من صوفها وشعرها إن كان له مثل وإلا قيمته إن لم يكن له مثل . قال : وإن كان أعلفها أو هنأها وهي جرب أو استأجر عليها من حفظها أو سقى الأصل فلا شيء له في ذلك .

    ( قال الشافعي ) : وأصل ما يحدث الغاصب فيما اغتصب شيئان . أحدهما : عين موجودة تميز وعين موجودة لا تميز . والثاني : أثر لا عين موجودة . فأما الأثر : الذي ليس بعين موجودة فمثل ما وصفنا من الماشية يغصبها صغارا والرقيق يغصبهم صغارا بهم مرض فيداويهم وتعظم نفقته عليهم حتى يأتي صاحبهم وقد أنفق عليهم أضعاف أثمانهم ، وإنما ماله في أثر عليهم لا عين .

    ألا ترى أن النفقة في الدواب والأعبد إنما هو شيء صلح به الجسد لا شيء قائم بعينه مع الجسد ، وإنما هو أثر ؟ وكذلك الثوب يغسله ويكمده وكذلك الطين يغصبه فيبله بالماء ثم يضربه لبنا فإنما هذا كله أثر ليس بعين من ماله وجد فلا شيء له فيه ; لأنه ليس بعين تتميز فيعطاه ، ولا عين تزيد في قيمته ، ولا هو موجود كالصبغ في الثوب فيكون شريكا له والعين الموجودة التي لا تتميز أن يغصب الرجل الثوب الذي قيمته عشرة دراهم فيصبغه بزعفران فيزيد في قيمته خمسة فيقال للغاصب : إن شئت أن تستخرج الزعفران على أنك ضامن لما نقص من الثوب وإن شئت فأنت شريك في الثوب لك ثلثه ولصاحب الثوب ثلثاه ، ولا يكون له غير ذلك وهكذا كل صبغ كان قائما فزاد فيه ، وإن صبغه بصبغ يزيد ثم استحق الصبغ فإنما يقوم الثوب فإن كان الصبغ زائدا في قيمته شيئا قل أو كثر فهكذا وإن كان غير زائد في قيمته قيل له ليس لك ههنا مال زاد في مال الرجل فتكون شريكا له به فإن شئت فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص الثوب وإن شئت فدعه .

    قال : وإن كان الصبغ مما ينقص الثوب قيل له أنت أضررت بصاحب الثوب ، وأدخلت عليه النقص فإن شئت فاستخرج صبغك وتضمن ما نقص الثوب وإن شئت فلا شيء لك في صبغك وتضمن ما نقص الثوب بكل حال قال ومن الشيء الذي يخلطه الغاصب بما اغتصب فلا يتميز منه أن يغصبه مكيال زيت فيصبه في زيت مثله أو خير منه فيقال للغاصب إن شئت أعطيته مكيال زيت مثل زيته وإن شئت أخذ من هذا الزيت مكيالا ثم كان غير مزداد إذا كان زيتك مثل زيته ، وكنت تاركا للفضل إذا كان زيتك أكثر من زيته ، ولا خيار للمغصوب ; لأنه غير منتقص فإن كان صب ذلك المكيال في زيت شر من زيته ضمن الغاصب له مثل زيته ; لأنه قد انتقص زيته بتصييره فيما هو شر منه ، وإن كان صب زيته في بان أو شيرق أو دهن طيب أو سمن أو عسل ضمن في هذا كله ; لأنه لا يتخلص منه الزيت ، ولا يكون له أن يدفع إليه مكيالا مثله ، وإن كان المكيال منه خيرا من الزيت من قبل أنه غير الزيت ، ولو كان صبه في ماء إن خلصه منه حتى يكون زيتا لا ماء فيه وتكون مخالطة الماء غير ناقصة له كان لازما للمغصوب أن يقبله وإن كانت مخالطة الماء ناقصة له في العاجل والمتعقب كان عليه أن يعطيه مكيالا مثله مكانه .

    ( قال الربيع ) : ويعطيه هذا الزيت بعينه وإن نقصه الماء ويرجع عليه بنقصه وهو معنى قول الشافعي .
    ( قال الشافعي ) : ولو اغتصب زيتا فأغلاه على النار فنقص [ ص: 260 ] كان عليه أن يسلمه إليه ، وما نقص مكيلته ثم إن كانت النار تنقصه شيئا في القيمة كان عليه أن يغرم له نقصانه ، وإن لم تنقصه شيئا في القيمة فلا شيء عليه .
    ولو اغتصبه حنطة جديدة خلطها برديئة كان كما وصفت في الزيت يغرم له مثلها بمثل كيلها إلا أن يكون يقدر على أن يميزها حتى تكون معروفة وإن خلطها بمثلها أو أجود كان كما وصفت في الزيت . قال : ولو خلطها بشعير أو ذرة أو حب غير الحنطة كان عليه أن يؤخذ بتمييزها حتى يسلمها إليه بعينها بمثل كيلها ، وإن نقص كيلها شيئا ضمنه . قال : ولو اغتصبه حنطة جيدة فأصابها عنده ماء أو عفن أو أكلة أو دخلها نقص في عينها كان عليه أن يدفعها إليه وقيمة ما نقصها تقوم بالحال التي غصبها والحال التي دفعها بها ثم يغرم فضل ما بين القيمتين قال ، ولو غصبه دقيقا فخلطه بدقيق أجود منه أو مثله أو أردأ كان كما وصفنا في الزيت .

    قال وإن غصبه زعفرانا وثوبا فصبغ الثوب بالزعفران كان رب الثوب بالخيار في أن يأخذ الثوب مصبوغا ; لأنه زعفرانه وثوبه ، ولا شيء له غير ذلك أو يقوم ثوبه أبيض وزعفرانه صحيحا فإن كانت قيمته ثلاثين قوم ثوبه مصبوغا بزعفران فإن كانت قيمته خمسة وعشرين ضمنه خمسة ; لأنه أدخل عليه النقص . قال : وكذلك إن غصبه سمنا وعسلا ودقيقا فعصده كان للمغصوب الخيار في أن يأخذه معصودا ، ولا شيء للغاصب في الحطب والقدر والعمل من قبل أن ما له فيه أثر لا عين أو يقوم له العسل منفردا والسمن والدقيق منفردين فإن كان قيمته عشرة ، وهو معصود قيمته سبعة غرم له ثلاثة من قبل أنه أدخل عليه النقص . ولو غصبه دابة وشعيرا فعلف الدابة الشعير رد الدابة والشعير من قبل أنه هو المستهلك له ، وليس في الدابة عين من الشعير يأخذه إنما فيها منه أثر .
    قال : ولو غصبه طعاما فأطعمه إياه والمغصوب لا يعلم كان متطوعا بالإطعام ، وكان عليه ضمان الطعام وإن كان المغصوب يعلم أنه طعامه فأكله فلا شيء له عليه من قبل أن سلطانه إنما كان على أخذ طعامه فقد أخذه . قال : ولو اختلفا فقال المغصوب : أكلته ، ولا أعلم أنه طعامي وقال الغاصب : أكلته ، وأنت تعلمه فالقول قول المغصوب مع يمينه إذا أمكن أن يكون يخفى ذلك بوجه من الوجوه .

    ( قال الربيع ) : وفيه قول آخر أنه إذا أكله عالما أو غير عالم فقد وصل إليه شيؤه ، ولا شيء على الغاصب إلا أن يكون نقص عمله فيه شيئا فيرجع بما نقصه العمل .
    ( قال الشافعي ) : وإن غصبه ذهبا فحمل عليه نحاسا أو حديدا أو فضة أخذ بتمييزه بالنار وإن نقصت النار ذهبه شيئا ضمن ما نقصت النار وزن ذهبه وسلم إليه ذهبه ثم نظرنا فإن كانت النار نقصت من ذهبه شيئا في القيمة ضمن له ما نقصته النار في القيمة . وقال : ولو سبكه مع ذهب مثله أو أجود أو أردأ كان هذا مما لا يتميز وكان القول فيه كالقول في الزيت . قال : ولو اغتصبه ذهبا فجعله قضيبا ثم أضاف إليه قضيبا من ذهب غيره أو قضيبا من نحاس أو فضة ميز بينهما ثم دفع إليه قضيبه إن كان بمثل الوزن الذي غصبه به ثم نظر إليه في تلك الحال وإليه في الحال التي غصبه إياه فيها معا فإن كانت قيمته حين رده أقل منها حين غصبه ضمن له فضل ما بين القيمتين ، وإن كانت مثله أو أكثر أخذ ذهبه ، ولا شيء له غير ذلك ، ولا للغاصب في الزيادة ; لأن الزيادة من عمل إنما هو أثر .
    قال : ولو غصبه شاة فأنزى عليها تيسا فجاءت بولد كانت الشاة والولد للمغصوب ، ولا شيء للغاصب في عسب التيس من قبل شيئين . أحدهما : أنه لا يحل ثمن عسب الفحل . والآخر : أنه إنما هو شيء أقره فيها فانقلب الذي أقر إلى غيره والذي انقلب ليس بشيء يملك إنما يملكه رب الشاة .
    قال : ولو غصبه نقرة ذهب فضربها دنانير كان لرب النقرة أن يأخذ الدنانير إن كانت بمثل وزن النقرة ، وكانت بمثل قيمة النقرة أو أكثر ، ولا شيء للغاصب في زيادة عمله إنما هو أثر وإن كانت ينقص وزنها أخذ الدنانير وما نقص الوزن . قال : وإن كان قيمتها تنقص مع ذلك أخذ الدنانير وما نقص الوزن وما [ ص: 261 ] نقص القيمة . قال : وإن غصبه خشبة فشقها ألواحا أخذ رب الخشبة الألواح فإن كانت الألواح مثل قيمة الخشبة أو أكثر أخذها ، ولا شيء للغاصب في زيادة قيمة الألواح على الخشبة من قبل أن ماله فيها أثر لا عين ، وإن كانت الألواح أقل قيمة من الخشبة أخذها وفضل ما بين القيمتين . قال : ولو أنه عمل هذه الألواح أبوابا ، ولم يدخل فيها شيئا من عنده كان هكذا ، ولو أدخل فيها من عنده حديدا أو خشبا غيرها كان عليه أن يميز ماله من مال المغصوب ثم يدفع إلى المغصوب ماله وما نقص ماله إذا ميز منها خشبه وحديده إلا أن يشاء أن يدع له ذلك متطوعا .

    قال : وكذلك لو أدخل لوحا منها في سفينة أو بنى على لوح منها جدارا كان عليه أن يؤخذ بقلع ذلك حتى يسلمه إلى صاحبه وما نقصه . قال : وكذلك الخيط يخيط به الثوب وغيره فإن غصبه خيطا فخاط به جرح إنسان أو حيوان ضمن قيمته ، ولم يكن للمغصوب أن ينزع خيطه من إنسان ، ولا حيوان حي . فإن قال قائل : ما فرق بين الخيط يخاط به الثوب وفي إخراجه إفساد للثوب وفي إخراج اللوح إفساد للبناء والسفينة وفي إخراج الخيط من الجرح إفساد للجرح فإن زعمت أن أحدهما يخرج مع الفساد والآخر لا يخرج مع الفساد ؟ . قيل له إن هدم الجدار وقلع اللوح من السفينة ونقض الخياطة ليس بمحرم على مالكها ; لأنه ليس في شيء منها روح تتلف ، ولا تألم ; فلما كان مباحا لمالكها كان مباحا لرب الحق أن يأخذ حقه منها ، واستخراج الخيط من الجرح تلف للمجروح ، وألم عليه ومحرم عليه أن يتلف نفسه وكذلك محرم على غيره أن يتلفه إلا بما أذن الله - تعالى - به فيه من الكفر والقتل وكذلك ذوات الأرواح ، ولا يؤخذ الحق بمعصية الله - تعالى - وإنما يؤخذ بما لم يكن لله معصية .

    ( قال الربيع ) : وفيه قول آخر : إن كان الخيط في حيوان لا يؤكل فلا ينزع ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصبر البهائم } وإن كان في حيوان يؤكل نزع الخيط ; لأنه حلال له أن يذبحها ويأكلها .
    ( قال الشافعي ) قلت : أرأيت إن كان الغاصب معسرا وقد صبغ الثوب صبغا ثم قال أنا أغسله حتى أخرج صبغي منه لم نمكنه أن يغسله فينقص علي ثوبي وهو معسر بذلك .
    قال : وإذا جنى الحر على العبد جناية تكون نفسا أو أقل حملتها عاقلة الحر ، إن كانت خطأ وقامت بها بينة فإن قال قائل : وكيف ضمنت العاقلة جناية حر على عبد ؟ قيل له لما كانت العاقلة تعقل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جناية الحر على الحر في النفس وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جناية الحر على الجنين وهو نصف عشر نفس دل ذلك على أن ما جنى الحر من جناية خطأ كانت على عاقلته وعلى أن الحكم في جناية الحر خطأ مخالف للحكم في جناية الحر العمد ، وفيما استهلك الحر من عروض الآدميين . فإن قال قائل : فلم لم تجعل العبد عرضا من العروض ، وإنما فيه قيمته كما يكون ذلك في العروض ؟ قيل جعل الله - عز وجل - على القاتل خطأ تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهل المقتول فكان ذلك في الآدميين دون العروض والبهائم . ولم أعلم مخالفا في أن على قاتل العبد تحرير رقبة كما هي على قاتل الحر ، ولا أن الرقبة في مال القاتل خاصة فلما كانت الدية في الخطأ على العاقلة كانت في العبد دية كما كانت فيه رقبة وكان داخلا في جملة الآية وجملة السنة وجملة القياس على الإجماع في أن فيه عتق رقبة .

    فإن قال قائل فديته ليست كدية الحر ؟ قيل والديات مبينة الفرض في كتاب الله - تعالى - ومبينة العدد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 262 ] وفي الآثار فإنما يستدرك عددها خبرا ألا ترى أن العاقلة تعقل دية الحر والحرة وهما يختلفان ودية اليهودي والنصراني والمجوسي ، وهم عندنا مخالفون المسلم ؟ فكذلك تعقل دية العبد وهي قيمته . فإن قال قائل : ما الفرق بين العبد والبهيمة في شيء غير هذا ؟ قيل نعم بين العبيد عند العامة القصاص في النفس ، وعندنا في النفس وفيما دونها ، وليس ذلك بين بعيرين لو قتل أحدهما صاحبه ، وعلى العبيد فرائض الله من تحريم الحرام وتحليل الحلال وفيهم حرمة الإسلام ، وليس ذلك في البهائم .

    فإن كان الجاني عبدا على حر أو عبد لم تعقل عنه عاقلته ، ولا سيده وكانت الجناية في عنقه دون ذمة سيده يباع فيها فيدفع إلى ولي المجني عليه ديته فإن فضل من ثمنه شيء رد على صاحبه فإن لم يفضل من ثمنه شيء أو لم يبلغ الدية بطل ما بقي منه ; لأن الجناية إنما كانت في عنقه دون غيره ، وترك أن يضمن سيده عنه والعاقلة في الحر والعبد ما لا أعلم فيه خلافا . وفيه دلالة على أن العقل إنما حكمة بالجاني لا بالمجني عليه ألا ترى أنه لو كان بالمجني عليه ضمنت عاقلته لسيد العبد ثمن العبد إذا قتل الحر فلما كانت لا تضمن ذلك عنه وكانت جنايته على الحر والعبد سواء في عنقه كانت كذلك جناية الحر على العبد والحر سواء على عاقلته ، وكان الحر يعقل عنها كما تعقل عنه .
    قال : وإذا استعار الرجل من الرجل الدابة إلى موضع فتعدى بها إلى غيره فعطبت في التعدي أو بعد ما ردها إلى الموضع الذي استعارها منه قبل أن تصل إلى مالكها فهو لها ضامن لا يخرج من الضمان إلا بأن يوصلها إلى مالكها سالمة وعليه الكراء من حيث تعدى بها مع الضمان . قال : وإذا تكارى الرجل من الرجل الدابة من مصر إلى أيلة فتعدى بها إلى مكة فماتت بمكة وقد كان قبضها من ربها ثمن عشرة فنقصت في الركوب حتى صارت بأيلة ثمن خمسة ثم سار بها عن أيلة فإنما يضمن قيمتها من الموضع الذي تعدى بها منه فيأخذ كراءها إلى أيلة الذي أكراها به ويأخذ قيمتها من أيلة خمسة ويأخذ فيما ركب منها بعد ذلك فيما بين أيلة إلى مكة كراء مثلها لا على حساب الكراء الأول .
    قال : وإذا وهب الرجل للرجل طعاما فأكله الموهوب له أو ثوبا فلبسه حتى أبلاه وذهب ; ثم استحقه رجل على الواهب فالمستحق بالخيار في أن يأخذ الواهب ; لأنه سبب إتلاف ماله فإن أخذه بمثل طعامه أو قيمة ثوبه فلا شيء للواهب على الموهوب له إذا كانت هبته إياه لغير ثواب ويأخذ الموهوب له بمثل طعامه وقيمة ثوبه ; لأنه هو المستهلك له ، فإن أخذه به فقد اختلف في أن يرجع الموهوب له على الواهب ، وقيل لا يرجع على الواهب ; لأن الواهب لم يأخذ منه عوضا فيرجع بعوضه وإنما هو رجل غره من أمر قد كان له أن لا يقبله . قال : وإذا استعار الرجل من الرجل ثوبا شهرا أو شهرين فلبسه فأخلقه ثم استحقه رجل آخر أخذه وقيمة ما نقصه اللبس من يوم أخذه منه ، وهو بالخيار في أن يأخذ ذلك من المستعير اللابس أو من الآخذ لثوبه .

    فإن أخذه من المستعير اللابس ، وكان النقص كله في يده لم يرجع به على من أعاره من قبل أن النقص كان من فعله ، ولم يغر من ماله بشيء فيرجع به ، وإن ضمنه المعير غير اللابس فمن زعم أن العارية مضمونة ، قال : للمعير أن يرجع به على المستعير ; لأنه كان ضامنا ، ومن زعم أن العارية غير مضمونة لم يجعل له أن يرجع عليه بشيء ; لأنه سلطه على اللبس . وهذا قول بعض المشرقيين . والقول الأول قياس قول بعض أصحابنا الحجازيين وهو موافق للآثار وبه نأخذ .

    ولو كانت المسألة بحالها غير أن مكان العارية أن المستعير تكارى الثوب كان [ ص: 263 ] الجواب فيها كالجواب في الأولى إلا أن المستكري إذا ضمن شيئا رجع به على المكري ; لأنه غره من شيء أخذ عليه عوضا ، وإنما لبسه على أن ذلك مباح له بعوض ويكون لرب الثوب أن يأخذ قيمة إجارة ثوبه .
    قال : وإذا ادعى الرجل قبل الرجل دعوى فسأل أن يحلف له المدعى عليه أحلفه له القاضي ، ثم قبل البينة من المدعي فإن ثبتت عليه بينة أخذ له بها وكانت البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة ، وسواء كانت بينة المدعي المستحلف حضورا بالبلد أو غيبا عنه فلا يعدو هذا واحدا من وجهين إما أن يكون المدعى عليه إذا حلف برئ بكل حال قامت عليه بينة أو لم تقم ، وإما أن يكون إنما يكون بريئا ما لم تقم عليه بينة فإذا قامت بينة فالحكم عليه أن يؤخذ منه بها ، وليس لقرب الشهود وبعدهم معنى ، ولكن الشهود إن لم يعدلوا اكتفى فيه باليمين الأولى ، ولم تعد عليه يمين . وإنما أحلفناه أولا أن الحكم في المدعى عليه حكمان . أحدهما : أن لا يكون عليه بينة فيكون القول قوله مع يمينه ، أو يكون عليه بينة فيزول هذا الحكم ويكون الحكم عليه أن يؤخذ منه بالبينة العادلة ما كان المدعي يدعي ما شهدت به بينته أو أكثر منه .
    قال : وإذا غصب الرجل من الرجل قمحا فطحنه دقيقا نظر فإن كانت قيمة الدقيق مثل قيمة الحنطة أو أكثر فلا شيء للغاصب في الزيادة ، ولا عليه ; لأنه لم ينقصه شيئا وإن كانت قيمة الدقيق أقل من قيمة الحنطة رجع على الغاصب بفضل ما بين قيمة الدقيق والحنطة ، ولا شيء للغاصب في الطحن ; لأنه إنما هو أثر لا عين .
    [ ص: 264 ] مسألة المستكرهة .

    ( أخبرنا الربيع ) قال : أخبرنا الشافعي رحمه الله قال : في الرجل يستكره المرأة أو الأمة يصيبها أن لكل واحدة منهما صداق مثلها ، ولا حد على واحدة منهما ، ولا عقوبة ، وعلى المستكره حد الرجم إن كان ثيبا والجلد والنفي إن كان بكرا . وقال : محمد بن الحسن لا حد عليهما ، ولا عقوبة وعلى المستكره الحد ، ولا صداق عليه ، ولا يجتمع الحد والصداق معا ، وكان الذي احتج فيه من الآثار عن قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي وهو يزعم أن مثل هذا لا يكون حجة ، وقد احتج بعض أصحابنا فيه أن مالكا أخبره عن ابن شهاب أن مروان بن الحكم قضى في امرأة استكرهها رجل بصداقها على الذي استكرهها ، وقال الذي احتج بهذا : إن مروان رجل قد أدرك عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان له علم ومشاورة في العلم وقضى بهذا بالمدينة ، ولم يرفعه فزعم محمد بن الحسن أن قضاءه لا يكون حجة . وقال : أبو حنيفة لو أن رجلا أصاب امرأة بزنا فأراد سقوط الحد عنه تحامل عليها حتى يفضيها يسقط الحد وصارت جناية يغرمها في ماله وهذا يخالف الأول .

    ( قال الشافعي ) : وإذا كان زانيا يقام عليه الحد قبل أن يفضيها ، وهو لم يخرج بالإفضاء من الزنا ، ولم يزدد بالإفضاء إلا ذنبا .
    ( قال الربيع ) : الذي يذهب إليه الشافعي أنه إذا حلف ليفعلن فعلا إلى أجل فمات قبل الأجل أو فات الذي حلف ليفعلنه به قبل الأجل فلا حنث عليه ; لأنه مكره وإذا حلف ليفعلن فعلا ، ولم يسم أجلا فأمكنه أن يفعل ذلك فلم يفعل حتى مات أو فات الذي حلف ليفعلنه به أنه حانث .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #145
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (145)
    صــــــــــ 3 الى صـــــــــــ10





    " كتاب الشفعة "

    ( أخبرنا الربيع ) قال : قال الشافعي رحمه الله : إذا كانت الهبة معقودة على الثواب فهو كما قال إذا أثيب منها ثوابا قيل لصاحب الشفعة إن شئت فخذها بمثل الثواب إن كان له مثل أو بقيمته إن كان لا مثل له ، وإن شئت فاترك ، وإذا كانت الهبة على غير ثواب فأثيب الواهب فلا شفعة ; لأنه لا شفعة فيما وهب إنما الشفعة فيما بيع والمثيب متطوع بالثواب فما بيع ، أو وهب على ثواب فهو مثل البيع ، والهبة باطلة من قبل أنه اشترط أن يثاب فهو عوض من الهبة مجهول فلما كان هكذا بطلت الهبة ، وهو بالبيع أشبه ; لأن البيع لم يعطه إلا بالعوض وهكذا هذا لم يعطه إلا بالعوض والعوض مجهول فلا يجوز البيع بالمجهول .

    وكذلك لو نكح امرأة على شقص من دار فإن هذا كالبيع ، وكذلك لو استأجر عبدا ، أو حرا على شقص من دار فكل ما ملك به مما فيه عوض فللشفيع فيه الشفعة بالعوض ، وإن اشترى رجل شقصا فيه شفعة إلى أجل فطلب الشفيع شفعته قيل له : إن شئت فتطوع بتعجيل الثمن وتعجل الشفعة ، وإن شئت فدع حتى يحل الأجل ثم خذ بالشفعة وليس على أحد أن يرضى بأمانة رجل فيتحول على رجل غيره ، وإن كان أملأ منه ، قال : ولا يقطع الشفعة عن الغائب طول الغيبة ، وإنما يقطعها عنه أن يعلم فيترك الشفعة مدة يمكنه أخذها فيها بنفسه ، أو بوكيله .

    قال : ولو مات الرجل وترك ثلاثة من الولد ثم ولد لأحدهم رجلان ثم مات المولود له ودارهم غير مقسومة فبيع من الميت حق أحد الرجلين فأراد أخوه الأخذ بالشفعة دون عمومته ففيها قولان :

    أحدهما : أن ذلك له ومن قال هذا القول قال أصل سهمهم هذا فيها واحد ، فلما كان إذا قسم أصل المال كان هذان شريكين في الأصل دون عمومتهما فأعطيته الشفعة بأن له شركا دون شركهم ، وهذا قول له وجه

    والثاني : أن يقول أنا إذا ابتدأت القسم جعلت لكل واحد سهما .

    وإن كان أقل من سهم صاحبه فهم جميعا شركاء شركة واحدة فهم شرع في الشفعة ، وهذا قول يصح في القياس قال : وإذا كانت الدار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر سدسها وللآخر ثلثها وباع صاحب الثلث فأراد شركاؤه الأخذ بالشفعة ففيها قولان :

    أحدهما : أن صاحب النصف يأخذ ثلاثة أسهم وصاحب السدس يأخذ سهما على قدر ملكهم من الدار ومن قال هذا القول ذهب إلى أنه إنما يجعل الشفعة بالملك ، فإذا كان أحدهما أكثر ملكا من صاحبه انبغى بقدر كثرة ملكه ، ولهذا وجه .

    والقول الثاني : إنهما في الشفعة سواء وبهذا القول أقول ، ألا ترى أن الرجل يملك شفعة من الدار فيباع نصفها ، أو ما خلا حقه منها فيريد الأخذ بالشفعة بقدر ملكه فلا يكون ذلك له ويقال له خذ الكل ، أو دع فلما كان حكم قليل المال في الشفعة حكم كثيره كان الشريكان إذا اجتمعا في الشفعة سواء ; لأن اسم الملك يقع على كل واحد .
    [ ص: 4 ] ما لا يقع فيه شفعة

    ( أخبرنا الربيع ) ( قال الشافعي ) أخبرنا الثقة عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبان بن عثمان بن عفان أن عثمان ( قال الشافعي ) لا شفعة في بئر إلا أن يكون لها بياض يحتمل مقسم أو تكون واسعة محتملة لأن تقسم فتكون بئرين ويكون في كل واحدة منهما عين ، أو تكون البئر بيضاء فيكون فيها شفعة ; لأنها تحتمل القسم قال ، وأما الطريق التي لا تملك فلا شفعة فيها ، ولا بها .

    وأما عرصة الدار تكون بين القوم محتملة ; لأن تكون مقسومة وللقوم طريق إلى منازلهم ، فإذا بيع منها شيء ففيه الشفعة .

    ( قال الشافعي ) : وإذا باع الرجل شقصا في دار على أن البائع بالخيار والمبتاع فلا شفعة حتى يسلم البائع المشتري ، وإن كان الخيار للمشتري دون البائع عقد خرجت من ملك البائع برضاه وجعل الخيار للمشتري ففيها الشفعة ( قال الربيع ) : وفيها قول آخر أن لا شفعة فيها حتى يختار المشتري ، أو تمضي أيام الذي كان له الخيار فيتم له البيع من قبل أنه إذا أخذها بالشفعة منع المشتري من الخيار الذي كان له
    ( قال الشافعي ) وكل من كانت في يده دار فاستغلها ثم استحقها رجل بملك متقدم رجع المستحق ، على الذي في يده الدار والأرض بجميع الغلة من يوم ثبت له الحق وثبوته يوم شهد شهوده أنه كان له ، لا يوم يقضى له به ، ألا ترى أنه لا معنى للحكم اليوم إلا ما ثبت يوم شهد شهوده ، وإنما تملك الغلة بالضمان في الملك الصحيح ; لأن الغلة بالضمان في الملك حدثت من شيء المالك كان يملكه لا غيره
    ( قال الشافعي ) : وإذا اشترى الرجل شقصا لغيره فيه شفعة ثم زعم أنه لا يعلم الثمن بنسيان أحلف بالله ما تثبت الثمن ، ولا شفعة إلى أن يقيم المستشفع بينة فيؤخذ له ببينته وسواء قد تم الشراء وحديثه ; لأن الذكر قد يكون في الدهر الطويل ، والنسيان قد يكون في المدة القصيرة
    ( قال الشافعي ) : وإذا كان لرجل حصة في دار فمات شريكه ، وهو غائب فباع ورثته قبل القسم أو بعده فهو على شفعته ، ولا يقطع ذلك القسم ; لأنه كان شريكا لهم غير مقاسم
    [ ص: 5 ] باب القراض

    أخبرنا الربيع بن سليمان قال ( قال الشافعي ) رحمه الله إذا دفع الرجل إلى الرجل مالا قراضا فأدخل معه رب المال غلامه وشرط الربح بينه وبين المقارض وغلام رب المال فكل ما ملك غلامه فهو ملك له لا ملك لغلامه إنما ملك العبد شيء يضاف إليه لا ملك صحيح فهو كرجل شرط له ثلثي الربح وللمقارض ثلثه .
    [ ص: 6 ] ما لا يجوز من القراض في العروض

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : خلاف مالك بن أنس في قوله من البيوع ما يجوز إذا تفاوت أمده وتفاحش ، وإن تقارب رده ( قال الشافعي ) كل قراض كان في أصله فاسدا فللمقارض العامل فيه أجر مثله ولرب المال المال وربحه ; لأنا إذا أفسدنا القراض فلا يجوز أن يجعل إجارة قراض والقراض [ ص: 7 ] غير معلوم ، وقد { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجارة إلا بأمر معلوم }
    ( قال الشافعي ) والبيوع وجهان : حلال لا يرد ، وحرام يرد . وسواء تفاحش رده ، أو تباعد والتحريم من وجهين : أحدهما : خبر لازم ، والآخر : قياس . وكل ما قسناه حلالا حكمنا له حكم الحلال في كل حالاته وكل ما قسناه حراما حكمنا له حكم الحرام فلا يجوز أن نرد شيئا حرمناه قياسا من ساعته أو يومه ، ولا نرده بعد مائة سنة الحرام لا يكون حلالا بطول السنين ، وإنما يكون حراما وحلالا بالعقد .
    [ ص: 8 ] الشرط في القراض

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : لا يجوز أن أقارضك بالشيء جزافا لا أعرفه ، ولا تعرفه فلما كان هكذا لم يحز أن أقارضك إلى مدة من المدد . وذلك أني لو دفعت إليك ألف درهم على أن تعمل [ ص: 9 ] بها سنة فبعت بها واشتريت في شهر بيعا فربحت ألف درهم ، ثم اشتريت بها كنت قد اشتريت بمالي ومالك غير مفرق ، ولعلي لا أرضى بشركتك فيه واشتريت برأس مال لي لا أعرفه لعلي لو نض لي لم آمنك عليه ، أو لا أريد أن يغيب عني كله فيجمع أن يكون القراض مجهولا عندي ; لأني لم أعرف كم رأس مالي ونحن لم نجزه بجزاف ويجمع أنه يزيد على الجزاف أني قد رضيت بالجزاف ، ولم أرض بأن أقارضك بهذا الذي لم أعرفه .
    وفي باب الصدقة والهبة من اختلاف العراقيين

    وإذا وهب الرجل للرجل الهبة وقبضها دارا ، أو أرضا ثم عوضه بعد ذلك منها عوضا وقبض الواهب ، فإن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول ذلك جائز ، ولا تكون فيه شفعة وبه يأخذ وليس هذا بمنزلة الشراء وكان ابن أبي ليلى يقول هذا بمنزلة الشراء ويأخذ الشفيع بالشفعة بقيمة العوض ، ولا يستطيع الواهب أن يرجع في الهبة بعد العوض في قولهما جميعا .

    ( قال الشافعي ) ، وإذا وهب الرجل للرجل شقصا من دار فقبضه ثم عوضه الموهوب له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب فإن قال : وهبتها للثواب كان فيها شفعة ، وإن قال وهبتها لغير ثواب لم يكن فيها شفعة وكانت المكافأة كابتداء الهبة ، وهذا كله في قول من قال : للواهب الثواب إذا قال أردته ، فأما من قال : لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شيء وهبه ، ولا الثواب منه ( قال الربيع ) : وفيه قول آخر إذا وهب واشترط الثواب فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا ، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه الموهوب فليس له أن يرجع في شيء وهبه ، وهو معنى قول الشافعي رحمه الله
    السلف في القراض

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : وإذا دفع الرجل إلى الرجل مالا قراضا وأبضع منه بضاعة فإن كان عقد القراض على أنه يحمل له البضاعة فالقراض فاسد يفسخ إن لم يعمل فيه فإن عمل فيه فله أجر مثله والربح لصاحب المال ، وإن كانا تقارضا ، ولم يشرطا من هذا شيئا ثم حمل المقارض له بضاعة فالقراض جائز ، ولا يفسخ بحال غير أنا نأمرهما في الفتيا أن لا يفعلا هذا على عادة ، ولا لعلة مما اعتل به ، ولو عادا لما ذكرنا كرهناه لهما ، ولم نفسد به القراض ، ولا نفسد العقد الذي يحل بشيء تطوعا به ، وقد مضت مدة العقدة ، ولا نطر إنما تفسد بما عقدت عليه إلا بما حدث بعدها ( قال الشافعي ) [ ص: 10 ] أكره منه ما كره مالك أن يأخذ الرجل مالا قراضا ثم يسأل صاحب المال أن يسلفه إياه ( قال الشافعي ) وإنما كرهته من قبل أنه لم يبرأ المقارض من ضمانه ، ولم يعرف المسلف كم أسلف من أجل الخوف . المحاسبة في القراض

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : وهذا كله كما قال مالك إلا قوله يحضر المال حتى يحاسبه فإن كان عنده صادقا فلا يضره يحضر المال ، أو لا يحضره .
    مسألة البضاعة

    ( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال أخبرنا الشافعي رحمه الله : قال إذا أبضع الرجل مع الرجل ببضاعة وتعدى فاشترى بها شيئا فإن هلكت فهو ضامن ، وإن وضع فيها فهو ضامن ، وإن ربح فالربح لصاحب المال كله إلا أن يشاء تركه ، فإن وجد في يده السلعة التي اشتراها بماله فهو بالخيار في أن يأخذ رأس ماله ، أو السلعة التي ملكت بماله ، فإن هلكت تلك السلعة قبل أن يختار أحدهما لم يضمن له إلا رأس المال من قبل أنه لم يختر أن يملكها فهو لا يملكها إلا باختياره أن يملكها .

    والقول الثاني : وهو أحد قوليه - أنه إذا تعدى فاشترى شيئا بالمال بعينه فربح فيه فالشراء باطل والبيع مردود ، وإن اشترى بمال لا بعينه ثم نقد المال فهو متحد بالنقد ، والربح له والخسران عليه وعليه مثل المال الذي تعدى فيه فنقده ولصاحب المال إن وجده في يد البائع أن يأخذه فإن تلف المال فصاحب المال مخير إن أحب أخذه من الدافع ، وهو المقارض ، وإن أحب أخذه من الذي تلف في يده ، وهو البائع .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #146
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (146)
    صــــــــــ 11 الى صـــــــــــ18







    المساقاة

    ( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى قال معنى قوله { إن شئتم فلكم ، وإن شئتم فلي } أن يخرص النخل كأنه خرصها مائة وسق وعشرة أوسق وقال إذا صارت تمرا نقصت عشرة أوسق فصحت منها مائة وسق تمرا فيقول إن شئتم دفعت إليكم النصف الذي ليس لكم الذي أنا قيم بحق أهله على أن تضمنوا لي خمسين وسقا تمرا من تمر يسميه بعينه ولكم أن تأكلوها وتبيعوها رطبا كيف شئتم ، وإن شئتم فلي أكون هكذا في نصيبكم فأسلم وتسلمون إلي [ ص: 11 ] أنصباءكم وأضمن لكم هذه المكيلة ( قال الشافعي ) : وإذا كان البياض بين أضعاف النخل جاز فيه المساقاة كما يجوز في الأصل ، وإن كان منفردا عن النخل له طريق غيره لم تجز فيه المساقاة ، ولم تصح إلا أن يكتري كراء ، وسواء قليل ذلك وكثيره ، ولا حد فيه إلا ما وصفت وليس للمساقي في النخل أن يزرع البياض إلا بإذن مالك النخل ، وإن زرعها فهو متعد ، وهو كمن زرع أرض غيره . قال : وإن كان دخل على الإجارة بأن له أن يعمل ويحفظ بأن له شيئا من الثمار قبل أن يبدو صلاح التمر فالإجارة فاسدة وله أجر مثله فيما عمل ، وكذلك إن كان دخل على أن يتكلف من المؤنة شيئا غير عمل يديه وتكون أجرته شيئا من الثمار كانت الإجارة فاسدة فإن كان دخل في المساقاة في الحالين معا ورضي رب الحائط أن يرفع عنه من المؤنة شيئا فلا بأس بالمساقاة على هذا قال وكل ما كان مستزادا في الثمرة من إصلاح للمار وطريق الماء وتصريف الجريد وإبار النخل وقطع الحشيش الذي يضر بالنخل أو ينشف عنه الماء حتى يضر بثمرتها شرطه على المساقاة .

    وأما سد الحظار فليس فيه مستزاد لإصلاح في الثمرة ، ولا يصلح شرطه على المساقي فإن قال : فإن أصلح للنخل أن يسد الحظار فكذلك أصلح لها أن يبنى عليها حظار لم يكن ، وهو لا يجيزه في المساقاة وليس هذا الإصلاح من الاستزادة في شيء من النخل إنما هو دفع الداخل .

    ( قال الشافعي ) والمساقاة جائزة في النخل والكرم ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ فيهما بالخرص وساقى على النخل وثمرها مجتمع لا حائل دونه وليس هكذا شيء من الثمر كله دونه حائل ، وهو متفرق غير مجتمع ، ولا تجوز المساقاة في شيء غير النخل والكرم وهي في الزرع أبعد من أن تجوز ، ولو جازت إذا عجز عنه صاحبه جازت إذا عجز صاحب الأرض عن زرعها أن يزارع فيها على الثلث والربع ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها . وقال : إذا أجزنا المساقاة قبل أن تكون ثمرا بتراضي رب المال والمساقي في أثناء السنة ، وقد تخطئ الثمرة فيبطل عمل العامل وتكثر فيأخذ أكثر من عمله أضعافا كانت المساقاة إذا بدا صلاح الثمر وحل بيعه وظهر أجوز .

    قال : وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المساقاة فأجزناها بإجازته وحرم كراء الأرض البيضاء ببعض ما يخرج منها فحرمناها بتحريمه ، وإن كانا قد يجتمعان في أنه إنما للعامل في كل بعض ما يخرج النخل ، أو الأرض ، ولكن ليس في سنته إلا اتباعها ، وقد يفترقان في أن النخل شيء قائم معروف أن الأغلب منه أنه يثمر وملك النخل لصاحبه والأرض البيضاء لا شيء فيها قائما إنما يحدث فيها شيء بعد لم يكن ، وقد أجاز المسلمون المضاربة في المال يدفعه ربه فيكون للمضارب بعض الفضل ، والنخل أبين وأقرب من الأمان من أن يخطئ من المضاربة وكل قد يخطئ ويقل ويكثر ، ولم يجز المسلمون أن تكون الإجارة إلا بشيء معلوم ، ودلت السنة والإجماع أن الإجارات إنما هي شيء لم يعلم إنما هو عمل يحدث لم يكن حين استأجره .

    قال : ، وإذا ساقى الرجل الرجل النخل فكان فيه بياض لا يوصل إلى عمله إلا بالدخول على النخل فكان لا يوصل إلى سقيه إلا بشرب النخل الماء وكان غير متميز يدخل فيسقي ويدخل على النخل جاز أن يساقي عليه مع النخل لا منفردا وحده ، ولولا الخبر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى أهل خيبر على أن لهم النصف من النخل والزرع وله النصف فكان الزرع كما وصفت بين ظهراني النخل لم يجز فأما إذا [ ص: 12 ] انفرد فكان بياضا يدخل عليه من غير أن يدخل على النخل فلا تجوز المساقاة فيه قليلا كان ، أو كثيرا ، ولا يحل فيه إلا الإجارة .
    الشرط في الرقيق والمساقاة

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : { ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، والمساقون عمالها } لا عامل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها غيرهم ، وإذا كان يجوز للمساقي أن يساقي نخلا على أن يعمل فيه عمال الحائط ; لأن رب الحائط رضي ذلك جاز أن يشترط رقيقا ليسوا في الحائط يعملون فيه ; لأن عمل من فيه وعمل من ليس فيه سواء ، وإن لم تجز إلا بأن يكون على الدخل في المساقاة العمل كله لم يجز أن يعمل في الحائط أحد من رقيقه وجواز الأمرين من أشبه الأمور عندنا والله أعلم . قال : ونفقة الرقيق على ما تشارطا عليه وليس نفقة الرقيق بأكثر من أجرتهم ، فإذا جاز أن يعملوا للمساقي بغير أجرة جاز أن يعملوا له بغير نفقة . والله أعلم .
    المزارعة

    أخبرنا الربيع بن سليمان قال ( قال الشافعي ) السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على معنيين :

    أحدهما : أن تجوز المعاملة في النخل على الشيء مما يخرج منها وذلك اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الأصل موجود يدفعه مالكه إلى من عامله عليه أصلا يتميز ليكون للعامل بعمله المصلح للنخل بعض الثمرة ولرب المال بعضها ، وإنما أجزنا المقارضة قياسا على المعاملة على النخل ووجدنا رب المال يدفع ماله إلى المقارض يعمل فيه المقارض فيكون له بعمله بعض الفضل الذي يكون في المال المقارضة لولا القياس على السنة والخبر عن عمر وعثمان رضي الله عنهما بإجازتها أولى أن لا تجوز من المعاملة على النخل ، وذلك أنه قد لا يكون في المال فضل كبير ، وقد يختلف الفضل فيه اختلافا متباينا وأن ثمر النخل قلما يتخلف وقلما يختلف ، فإذا اختلفت تقارب اختلافها ، وإن كانا قد يجتمعان في أنهما مغيبان معا يكثر الفضل فيهما ويقل ويختلف .

    وتدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تجوز المزارعة على الثلث ، ولا الربع ، ولا جزء من أجزاء وذلك أن المزارع يقبض الأرض بيضاء لا أصل فيها ، ولا زرع ثم يستحدث فيها زرعا والزرع ليس بأصل والذي هو في معنى المزارعة الإجارة ، ولا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على أن يعمل له شيئا إلا بأجر معلوم يعلمانه قبل أن يعمله المستأجر لما وصفت من السنة وخلافها للأصل والمال يدفع ، وهذا إذا كان النخل منفردا والأرض للزرع منفردة .

    ويجوز كراء الأرض للزرع بالذهب والفضة والعروض كما يجوز كراء المنازل وإجارة العبيد والأحرار ، وإذا كان النخل منفردا فعامل عليه رجل وشرط أن يزرع ما بين ظهراني النخل على المعاملة وكان ما بين ظهراني النخل لا يسقى إلا من ماء النخل ، ولا يوصل إليه إلا من حيث يوصل إلى النخل كان هذا جائزا وكان في حكم ثمرة النخل ومنافعها من الجريد والكرانيف ، وإن كان الزرع منفردا عن النخل له طريق يؤتى منها ، أو ماء يشرب متى شربه لا يكون [ ص: 13 ] شربه ريا للنخل ، ولا شرب النخل ريا له لم تحل المعاملة عليه وجازت إجارته وذلك أنه في حكم المزارعة لا حكم المعاملة على الأصل وسواء قل البياض في ذلك ، أو كثر .

    فإن قال قائل : ما دل على ما وصفت ، وهذا مزارعه ؟ قيل : كانت خيبر نخلا وكان الزرع فيها كما وصفت فعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهلها على الشطر من الثمرة والزرع ونهى في الزرع المنفرد عن المعاملة فقلنا في ذلك اتباعا وأجزنا ما أجاز ورددنا ما رد وفرقنا بفرقه عليه الصلاة والسلام بينهما وما به يفترقان من الافتراق ، أو بما وصفت فلا يحل أن تباع ثمرة النخل سنين بذهب ، ولا فضة ، ولا غير ذلك .

    ( أخبرنا ) ابن عيينة عن حميد بن قيس عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين } ( أخبرنا ) سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ( أخبرنا ) سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول : نهيت ابن الزبير عن بيع النخل معلومة .

    ( قال الشافعي ) : وإذا اشترك الرجلان من عند أحدهما الأرض ومن عندهما معا البذر ومن عندهما معا البقر أو من عند أحدهما ثم تعاملا على أن يزرعا ، أو يزرع أحدهما فما أخرجت الأرض فهو بينهما نصفان ، أو لأحدهما فيه أكثر مما للآخر فلا تجوز المعاملة في هذا إلا على معنى واحد أن يبذرا معا ويمونان الزرع معا بالبقر وغيره مؤنة واحدة ويكون رب الأرض متطوعا بالأرض لرب الزرع ، فأما على غير هذا الوجه من أن يكون الزارع يحفظ أو يمون بقدره ما سلم له رب الأرض فيكون البقر من عنده أو الآلة ، أو الحفظ ، أو ما يكون صلاحا من صلاح الزرع فالمعاملة على هذا فاسدة فإن ترافعاها قبل أن يعملا فسخت ، وإن ترافعاها بعدما يعملان فسخت وسلم الزرع لصاحب البذر ، وإن كان البذر منهما معا فلكل واحد منهما نصفه ، وإن كان من أحدهما فهو للذي له البذر ولصاحب الأرض كراء مثلها ، وإذا كان البقر من العامل ، أو الحفظ ، أو الإصلاح للزرع ولرب الأرض من البذر شيء أعطيناه من الطعام حصته ورجع الحافظ وصاحب البقر على رب الأرض بقدر ما يلزم حصته من الطعام من قيمة عمل البقر والحفظ وما أصلح به الزرع فإن أرادا أن يتعاملا من هذا على أمر يجوز لهما تعاملا على ما وصفت أولا ، وإن أرادا أن يحدثا غيره تكارى رب الأرض من رب البقر بقره وآلته وحراثه أياما معلومة بأن يسلم إليه نصف الأرض ، أو أكثر يزرعها وقتا معلوما فتكون الإجارة في البقر صحيحة ; لأنها أيام معلومه كما لو ابتدئت إجارتها بشيء معلوم ويكون ما أعطاه من الأرض بكراء صحيح كما لو ابتدأ كراءه بشيء معلوم .

    ثم إن شاءا أن يزرعا ويكون عليهما مؤنة صلاح الزرع مستويين فيها حتى يقسما الزرع كان هذا جائزا من قبل أن كل واحد منهما زرع أرضا له زرعها ويبذر له فيها ما أخرج ، ولم يشترط أحدهما على الآخر فضلا عن بذره ، ولا فضلا في الحفظ فتنعقد عليه الإجارة فتكون الإجارة قد انعقدت على ما يحل من المعلوم وما لا يحل من المجهول فيكون فاسدا .

    قال : ولا بأس لو كان كراء الأرض عشرين دينارا وكراء البقر دينارا أو مائة دينار فتراضيا بهذا كما لا يكون بأس بأن أكريك بقري وقيمة كرائها مائة دينار بأن يخلى بيني وبين أرض أزرعها سنة قيمة كرائها دينار ، أو ألف دينار ; لأن الإجارة بيع ، ولا بأس بالتغابن في البيوع ، ولا في الإجارات ، وإن اشتركا على أن البقر من عند أحدهما والأرض من عند الآخر كان كراء الأرض ككراء البقر ، أو أقل والزرع بينهما فالشركة فاسدة حتى يكون عقدها على استئجار البقر أياما معلومة وعملا معلوما بأرض معلومة ; لأن الحرث يختلف فيقل ويكثر ويجود ويسوء ، ولا يصلح إلا بمثل ما تصلح به الإجارات على الانفراد ، فإذا زرعا على هذا والبذر من عندهما فالبذر بينهما نصفان ويرجع [ ص: 14 ] صاحب البقر على صاحب الأرض بحصته من الأرض بقدر ما أصابها من العمل ويرجع صاحب الأرض على صاحب الزرع بحصة كراء ما زرع من أرضه قل أو كثر الزرع ، أو عل ، أو احترق فلم يكن منه الشيء
    لإجارة وكراء الأرض

    ( أخبرنا الربيع ) قال : قال الشافعي : لا بأس أن يكري الرجل أرضه ووكيل الصدقة ، أو الإمام الأرض الموقوفة أرض الفيء بالدراهم والدنانير وغير ذلك من طعام موصوف يقبضه قبل أن يتفرقا ، وكذلك جميع ما أجرها به ، ولا بأس أن يجعل له أجلا معلوما وأن يفارق صاحبه قبل أن يقبضه ، وإن لم يكن له أجل معلوم والإجارة في هذا مخالفة لما سواها غير أني أحب إذا اكتريت أرضا بشيء مما يخرج مثله من مثلها أن يقبض ، ولو لم يقبض لم أفسد الكراء من أجل أنه إنما يصلح أن يؤجرها بطعام موصوف وهذه صفة بلا عين ، فقد لا تخرج من تلك الصفة ، وقد تخرجها ويكون لرب الأرض أن يعطيه تلك الصفة من غيرها ، فإذا كان ذلك الدين في ذمته بصفة فلا بأس من أين أعطاه ، وهذا خلاف المزارعة المزارعة أن تكري الأرض بما يخرج منها ثلث أو ربع أو أقل أو أكثر ، وقد يخرج ذلك قليلا وكثيرا فاسدا وصحيحا وهذا فاسد بهذه العلة .

    قال : وإذا تقبل الرجل الأرض من الرجل سنين ثم أعارها رجلا ، أو أكراها إياه فزرع فيها الرجل فالعشر على الزارع والقبالة على المتقبل ، وهكذا أرض الخراج إذا تقبلها رجل من الوالي فقبالتها عليه فإن زرعها غيره بأمره بعارية ، أو كراء فالعشر على الزراع والقبالة على المتقبل ، ولو كان المتقبل زرعها كان على المتقبل القبالة والعشر في الزرع إن كان مسلما ، وإن كان ذميا فزرع أرض الخراج فلا عشر عليه ، وكذلك لو كانت له أرض صلح فزرعها لم يكن عليه عشر في زرعها ; لأن العشر زكاة ، ولا زكاة إلا على أهل الإسلام ، ولا أعرف ما يذهب إليه بعض الناس في أرض السواد بالعراق من أنها مملوكة لأهلها وأن عليهم خراجا فيها فإن كانت كما ذهب إليه ، فلو عطلها ربها ، أو هرب أخذ منه خراجها إلا أن يكون صلحه على غير هذا فيكون على ما صالح عليه .

    قال : ولو شرط رب الأرض ، أو متقبلها ، أو والي الأرض المتصدق بها أن الزارع لها له زرعه مسلما لا عشر عليه فيه فالعشر عليه من أجل أنها مزارعة فاسدة ; لأن العشر إنما هو على الزارع ، وقد يقل ويكثر ، فإذا ضمن عنه ما لا يعرف فسدت الإجارة فإن أدركت قبل أن يزرع فسخت الإجارة ، وإن أدركت بعدما يزرع فله زرعه وعليه كراء مثل الأرض ذهبا أو فضة بالأغلب من نقد البلد الذي تكاراها به كان ذلك أقل مما أكراه به ، أو أكثر قال ، وإذا كانت الأرض عنوة فتقبلها رجل فعجز عن عمارتها وأداء خراجها قيل له إن أديت خراجها تركت في يديك ، وإن لم تؤده فسخت عنك وكنت مفلسا وجد عين المال عنده ودفعت إلى من يؤدي خراجها .

    قال : وللعامل على العشر مثل ما له على الصدقات ; لأن كليهما صدقة فله بقدر أجر مثله على كل واحد منهما ، أو على أيهما عمل .

    قال : وإذا فتحت الأرض عنوة فجميع ما كان عامرا فيها للذين فتحوها وأهل الخمس فإن [ ص: 15 ] تركوا حقوقهم منها لجماعة المسلمين فذلك لهم وما كان من أرض العنوة مواتا فهو لمن أحياه من المسلمين ; لأنه كان ، وهو غير مملوك لمن فتح عليه فيملك بملكه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحيا مواتا فهو له } ، ولا يترك ذمي يحييه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله لمن أحياه من المسلمين فلا يكون للذمي أن يملك على المسلمين ما تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك لمن أحياه منهم ، وإذا كان فتحها صلحا فهو على ما صالحوا عليه .
    كراء الأرض البيضاء

    ( أخبرنا الربيع ) قال : قال الشافعي : ولا بأس بكراء الأرض البيضاء بالذهب والورق والعروض وقول سالم بن عبد الله أكثر ورافع لم يخالفه في أن الكراء بالذهب والورق لا بأس به إنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كرائها ببعض ما يخرج منها ، ولا بأس أن يكري الرجل أرضه البيضاء بالتمر وبكل ثمرة يحل بيعها إلا أن من الناس من كره أن يكريها ببعض ما يخرج منها ومن قال هذا القول قال : إن زرعت حنطة كرهت كراءها بالحنطة ; لأنه نهى أن يكون كراؤها بالثلث والربع ، وقال غيره : كراؤها بالحنطة ، وإن كانت إلى أجل غير ما يخرج منها ; لأنها موصوفة لا يلزمه إذا جاء بها على صفة أن يعطيه مما يخرج من الأرض ، ولو جاءت الأرض بحنطة على غير صفتها لم يكن للمكتري أن يعطيه غير صفته ، وإذا تعجل المكري الأرض كراءها من الحنطة فلا بأس بذلك في القولين معا .

    قال : ولا تكون المساقاة في الموز ، ولا القصب ، ولا يحل بيعهما إلى أجل لا يحل بيعهما إلا أن يريا القصب جزة والموز بجناه ، ولا يحل أن يباع ما لم يخلق منهما ، وإذا لم يحل أن يبيعهما مثل أن يكونا بصفة لم يحل أن يباع منهما ما لم يكن منهما بصفة ، ولا غير صفة ; لأنه في معنى ما كرهنا وأزيد منه ; لأنه لم يخلق قط ، ولا بأس أن يتكارى الرجل الأرض للزرع بحنطة ، أو ذرة ، أو غير ذلك مما تنبت الأرض ، أو لا تنبته مما يأكله بنو آدم ، أو لا يأكلونه مما تجوز به إجازة العبد والدار إذا قبض ذلك كله قبل دفع الأرض ، أو مع دفعها كل ما جازت به الإجارة في البيوت والرقيق جازت به الإجارة في الأرض .

    قال : وإنما { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض } فيما روي عنه فأما ما أحاط العلم أني قد قبضته ودفعت الأرض إلى صاحبها فليس في معنى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه إنما معنى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه أن تكون الإجارة بشيء قد يكون الأشياء ويكون ألفا من الطعام ويكون إذا كان جيدا أو رديئا غير موصوف ، وهذا يفسد من وجهين : إذا كان إجارة من وجه أنه مجهول الكيل والإجارة لا تحل بهذا ومن وجه أنه مجهول الصفة ، ولو كان معروف الكيل ، وهو مجهول الصفة لم تحل الإجارة بهذا فأما ما فارق هذا المعنى فلا بأس به ، ولو شرط الإجارة إلى أجل ، ولم يسم لها أجلا ، ولم يتقابضا كانت الإجارة من طعام لا تنبته الأرض ، أو غيره من نبات الأرض ، أو هو مما تنبت الأرض غير الطعام ، أو عرض أو ذهب ، أو فضة فلا بأس بالإجارة إذا قبض الأرض ، وإن لم يقبض الإجارة كانت إلى أجل ، أو غير أجل ، وإن [ ص: 16 ] شرطها بشيء من الطعام مكيل مما تخرجه الأرض كرهته احتياطا ، ولو وقع الأجر بهذا وكان طعاما موصوفا ما أفسدته من قبل أن الطعام مكيل معلوم الكيل موصوف معلوم الصفة وأنه لازم للمستأجر أخرجت الأرض شيئا ، أو لم تخرجه ، وقد تخرج الأرض طعاما بغير صفته فلا يلزم المستأجر أن يدفعه ويدفعه بالصفة فعلى هذا الباب كله وقياسه
    ( قال الشافعي ) إذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين ، أو النهر نيل ، أو غير نيل ، أو الغيل ، أو الآبار على أن يزرعها غلة الشتاء والصيف فزرعها إحدى الغلتين والماء قائم ثم نضب الماء فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الأرض بذهاب الماء فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كانت حصة الزرع الذي حصد الثلث ، أو النصف ، أو الثلثين أو أقل ، أو أكثر أدى إلى ذلك وسقطت عنه حصة الزرع الثاني الذي انقطع الماء قبل أن يكون ، وهذا مثل الدار يكتريها فيسكنها بعض السنة ثم تنهدم في آخرها فيكون عليه حصة ما سكن وتبطل عنه حصة ما لم يقدر على سكنه فالماء إذا كان لا صلاح للزرع إلا به كالبناء الذي لا صلاح للمسكن إلا به ، وإذا تكارى من الرجل الأرض السنة على أن يزرعها ما شاء فزرعها وانقضت السنة ، وفيها زرع لم يبلغ أن يحصد فإن كانت السنة قد يمكنه فيها أن يزرع زرعا يحصد قبلها فالكراء جائز وليس لرب الزرع أن يثبت زرعه وعليه أن ينقله عن رب الأرض إلا أن يشاء رب الأرض تركه قرب ذلك ، أو بعد ، لا خلاف في ذلك ، وإن كان شرط أن يزرعها صنفا من الزرع يستحصد ، أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقت من السنة وانقضت السنة قبل بلوغه فكذلك أيضا ، وإن تكاراها مدة هي أقل من سنة ، وشرط أن يزرعها شيئا بعينه ويتركه حتى يستحصد فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل هذه المدة التي تكاراها إليها فالكراء فاسد من قبل أني أثبت بينهما شرطهما ، ولو أثبت على رب الأرض أن يبقي زرعه فيها بعد انقطاع المدة أبطل شرط رب الزرع أن يتركه حتى يستحصد ، وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الأرض فكان هذا كراء فاسدا ولرب الأرض كراء مثل أرضه إذا زرع وعليه ترك الزرع حتى يستحصد ، وإن ترافعا قبل أن يزرع فسخت الكراء بينهما .

    وإذا تكارى الرجل من الرجل الأرض التي لا ماء لها والتي إنما تسقى بنطف السماء ، أو السيل إن حدث فلا يصلح كراؤها إلا على أن يكريه إياها أرضا بيضاء لا ماء لها يصنع بها المكتري ما شاء في سنة إلا أنه لا يبني ، ولا يغرس فيها ، وإذا وقع على هذا الكراء صح ، فإذا جاءه ماء من سيل ، أو مطر فزرع عليه ، أو لم يزرع ، أو لم يأته ماء فالكراء له لازم ، وكذلك إن كان شرطه أن يزرعها ، وقد يمكنه زرعها عثريا بلا ماء ، أو يمكنه أن يشتري لها ماء من موضع فأكراه إياها أرضا بيضاء لا ماء لها على أن يزرعها إن شاء ، أو يفعل بها ما شاء صح الكراء ولزمه زرع أو لم يزرع ، وإن أكراه إياها على أن يزرعها ، ولم يقل أرضا بيضاء لا ماء لها وهما يعلمان أنها لا تزرع إلا بمطر ، أو سيل يحدث فالكراء فاسد في هذا كله فإن زرعها فله ما زرع وعليه أجر مثلها .

    ( وقال الربيع ) فإن قال قائل : لم أفسدت الكراء في هذا ؟ قيل : من قبل أنه قد لا يجيء الماء عليها فيبطل الكراء ، وقد يجيء فيتم الكراء . فلما كان مرة يتم ومرة لا يتم بطل الكراء
    ( قال الشافعي ) : وإذا تكارى الرجل الأرض ذات النهر مثل النيل وغيره مما يعلو الأرض على أن يزرعها زرعا هو معروف أن ذلك الزرع لا يصلح إلا بأن يرويها النيل لا يتركها ، ولا تشرب غيره كرهت هذا الكراء وفسخته إذا كانت الأرض بيضاء ثم لم يصح حتى يعلو الماء الأرض علوا يكون ريا لها ، أو يصلح به الزرع بحال ، فإذا تكوريت ريا بعد نضوب الماء فالكراء صحيح لازم للمكتري زرع ، أو لم يزرع قل ما يخرج [ ص: 17 ] من الزرع ، أو كثر ، وإن تكاراها والماء قائم عليها ، وقد ينحسر لا محالة في وقت يمكن فيه الزرع فالكراء فيه جائز ، وإن كان قد ينحسر ، ولا ينحسر كرهت الكراء إلا بعد انحساره وكل شيء أجزت كراءه أو بيعه أجزت النقد فيه ، وإن تكارى الرجل للزرع فزرعها أو لم يزرعها حتى جاء عليها النيل ، أو زاد ، أو أصابها شيء يذهب الأرض انتقض الكراء بين المستأجر ورب الأرض من يوم تلفت الأرض ، ولو كان بعض الأرض تلف وبعض لم يتلف ، ولم يزرع فرب الزرع بالخيار إن شاء أخذ ما بقي بحصته من الكراء ، وإن شاء ردها ; لأن الأرض لم تسلم له كلها ، وإن كان زرع أبطل عنه ما تلف ولزمته حصة ما زرع من الكراء وهكذا كراء الدور وأثمان المتاع والطعام إذا جمعت الصفقة منه مائة صاع بثمن معلوم فتلف خمسون صاعا فالمشتري بالخيار في أن يأخذ الخمسين بحصتها من الثمن أو يرد البيع ; لأنه لم يسلم له كله كما اشترى
    ( قال الشافعي ) ، وإذا اكترى الرجل الأرض من الرجل بالكراء الصحيح ثم أصابها غرق منعه الزرع ، أو ذهب بها سيل أو غصبها فحيل بينه وبينها سقط عنه الكراء من يوم أصابها ذلك وهي مثل الدار يكتريها سنة ويقبضها فتهدم في أول السنة ، أو آخرها والعبد يستأجره السنة فيموت في أول السنة أو آخرها فيكون عليه من الإجارة بقدر ما سكن واستخدم ويسقط عنه ما بقي ، وإن أكراه أرضا بيضاء يصنع فيها ما شاء ، أو لم يذكر أنه اكتراها للزرع ثم انحسر الماء عنها في أيام لا يدرك فيها زرعا فهو بالخيار بين أن يأخذ ما بقي بحصته من الكراء ، أو يرده ; لأنه قد انتقص مما اكترى ، وكذلك إن اكتراها للزرع وكراؤها للزرع أبين في أن له أن يردها إن شاء ، وإن كان مر بها ماء فأفسد زرعه ، أو أصابه حريق ، أو ضريب أو جراد ، أو غير ذلك فهذا كله جائحة على الزرع لا على الأرض فالكراء له لازم فإن أحب أن يجدد زرعا جدده إن كان ذلك يمكنه ، وإن لم يمكنه فهذا شيء أصيب به في زرعه لم تصب به الأرض فالكراء له لازم ، وهذا مفارق للجائحة في الثمرة يشتريها الرجل فتصيبها الجائحة في يديه قبل أن يمكنه جدادها ، ومن وضع الجائحة ثم انبغى أن لا يضعها ههنا فإن قال قائل : إذا كانتا جائحتين فما بال إحداهما توضع والأخرى لا توضع ، فإن من وضع الجائحة الأولى فإنما يضعها بالخبر ، وبأنه إذا كان البيع جائزا في شراء الثمرة إذا بدا صلاحها وتركها حتى تجد فإنما ينزلها بمنزلة الكراء الذي يقبض به الدار ثم تمر به أشهر ثم تتلف الدار فيسقط عنه الكراء من يوم تلفت وذلك أن العين التي اكترى واشترى تلفت وكان الشراء في هذا الموضع إنما يتم بسلامته إلى أن يجد والمكتري الأرض لم يشتر من رب الأرض زرعا إنما اكترى أرضا .

    ألا ترى أنه لو تركها فلم يزرعها حتى تمضي السنة كان عليه كراؤها ، ولو أراد أن يزرعها بشيء يقيم تحت الأرض حتى لو مر به سيل لم ينزعه كان ذلك له ؟ ، ولو تكاراها حتى إذا استحصدت فأصاب الأرض حريق فاحترق الزرع لم يرجع على رب الأرض بشيء من قبل أنه لم يتلف شيء كان أعطاه إياه إنما تلف شيء يضعه الزارع من ماله كما لو تكارى منه دارا للبر فاحترق البر ، ولا مال له غيره وبقيت الدار سالمة لم ينتقص سكنها كان الكراء له لازما ، ولم يكن احتراق المتاع من معنى الدار بسبيل .

    وإذا تكارى الرجل من الرجل الأرض سنة مسماة أو سنته هذه فزرعها وحصد وبقي من سنته هذه شهر ، أو أكثر أو أقل لم يكن لرب الأرض أن يخرجها من يده حتى تكمل سنته ، ولا يكون له أن يأخذ جميع الكراء إلا باستيفاء المكتري جميع السنة وسواء كانت الأرض أرض المطر ، أو أرض السقي ; لأنه قد يكون فيها منافع من زرع وعثري وسيل ومطر ، ولا يؤيس من المطر على حال ولمنافع سوى هذا لا يمنعها المكتري ، وإذا استأجر الرجل من الرجل [ ص: 18 ] الأرض ليزرعها قمحا فأراد أن يزرعها شعيرا ، أو شيئا من الحبوب سوى القمح فإن كان الذي أراد أن يزرعه لا يضر بالأرض إضرارا أكثر من إضرار ما شرط أنه يزرع ببقاء عروقه في الأرض ، أو إفساده الأرض بحال من الأحوال فله زرعها ما أراد بهذا المعنى كما يكتري منه الدار على أن يسكنها فيسكنها مثله ، وإن كان ما أراد زرعها ينقصها بوجه من الوجوه أكثر من نقص ما اشترط أن يزرعها لم يكن له زرعها فإن زرعها فهو متعد ورب المال بالخيار بين أن يأخذ منه الكراء الذي سمى له وما نقص زرعه الأرض عما ينقصها الزرع الذي شرط له أو يأخذ منه كراء مثلها في مثل ذلك الزرع ، وإن كان قائما في وقت يمكنه فيه الزرع كان لرب الأرض قطع زرعه إن شاء ويزرعها المكتري مثل الزرع الذي شرط له ، أو ما لا يضر أكثر من إضراره .

    وإذا تكارى الرجل من الرجل البعير ليحمل عليه خمسمائة رطل قرطا فحمل عليه خمسمائة رطل حديد ، أو تكارى ليحمل عليه حديدا فحمل عليه قرطا بوزنه فتلف البعير فهو ضامن من قبل أن الحديد يستجمع على ظهره استجماعا لا يستجمعه القرط فبهذه يتلف وأن القرط ينتشر على ظهر البعير انتشارا لا مر الحديد فيعمه فيتلف وأصل هذا أن ينظر إذا اكترى منه بعيرا على أن يحمل عليه وزنا من شيء بعينه فحمل عليه وزنه من شيء غيره فإن كان الشيء الذي حمل عليه يخالف الشيء الذي شرط أن يحمله حتى يكون أضر بالبعير منه فتلف ضمن ، وإن كان لا يكون أضر به منه وكان مثله ، أو أحرى أن لا يتلف البعير فحمله فتلف لم يضمن .

    وكذلك إن تكارى دابة ليركبها فحمل عليها غيره مثله في الخفة ، أو أخف منه فهكذا لا يضمن ، وإن كان أثقل منه فتلف ضمن ، وإن كان أعنف ركوبا منه ، وهو مثله في الخفة فانظر إلى العنف فإن كان العنف شيئا ليس كركوب الناس وكان متلفا ضمن ، وإن كان كركوب الناس لم يضمن وذلك أن أركب الناس قد يختلف بركوب ، ولا يوقف للركوب على حد إلا أنه إذا فعل في الركوب ما يكون خارجا به من ركوب العامة ومتلفا فتلف الدابة ضمن .

    وإذا تكارى الرجل من الرجل أرضا عشر سنين على أن يزرع فيها ما شاء فلا يمنع من شيء من الزرع بحال ، فإن أراد الغراس فالغراس غير الزرع ; لأنه يبقى فيها بقاء لا يبقاه الزرع ويفسد منها ما لا يفسد الزرع فإن تكاراها مطلقة عشر سنين ثم اختلفا فيما يزرع فيها ، أو يغرس كرهت الكراء وفسخته ، ولا يشبه هذا السكن شيء على وجه الأرض ، وهذا شيء على وجهها وبطنها ، فإذا تكاراها على أن يغرس فيها ويزرع ما شاء ، ولم يزد على ذلك فالكراء جائز ، وإذا انقضت يرعى لم يكن لرب الأرض قلع غراسه حتى يعطيه قيمته في اليوم الذي يخرجه منها قائما على أصوله وبثمره إن كان فيه ثمر ولرب الغراس إن شاء أن يقلعه على أن عليه إذا قلعه ما نقص الأرض والغراس كالبناء إذا كان بإذن مالك الأرض مطلقا لم يكن لرب الأرض أن يقلع البناء حتى يعطيه قيمته قائما في اليوم الذي يخرجه




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #147
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (147)
    صــــــــــ 19 الى صـــــــــــ26



    ( قال الشافعي ) : وإذا استأجر الرجل من الرجل الأرض يزرعها ، وفيها نخله أو مائة نخلة ، أو أقل ، أو أكثر ، وقد رأى ما استأجر منه من البياض زرع في البياض ، ولم يكن له من ثمر النخل قليل ، ولا كثير وكان ثمر النخل لرب النخل ، ولو استأجرها منه بألف دينار على أن له ثمر نخله يسوى درهما أو أقل ، أو أكثر كانت الإجارة فاسدة من قبل أنها انعقدت عقدة واحدة على حلال ومحرم فالحلال الكراء والحرام ثمر النخلة إذا كان هذا قبل أن يبدو صلاحه ، وإن كان بعدما يبدو صلاحه فلا [ ص: 19 ] بأس به إذا كانت النخلة بعينها ( قال الشافعي ) وسواء في هذا كثر الكراء في الأرض ، أو الدار وقلت الثمرة ، أو كثرت ، أو قل الكراء كما كان لا يحل أن تباع ثمرة نخلة قبل أن يبدو صلاحها وكان هذا فيها محرما كما هو في ألف نخلة ، وكذلك إذا وقعت الصفقة على بيعه قبل يبدو صلاحه بحال ; لأن الذي يحرم كثيرا يحرم قليلا وسواء كانت النخلة صنوانا واحدا في الأرض أو مجتمعة في ناحية ، أو متفرقة
    ( قال الشافعي ) وإذا تكارى الرجل الدار ، أو الأرض إلى سنة كراء فاسدا فلم يزرع الأرض ، ولم ينتفع بها ، ولم يسكن الدار ، ولم ينتفع بها إلا أنه قد قبضها عند الكراء ومضت السنة لزمه كراء مثلها كما كان يلزمه إن انتفع بها ، ألا ترى أن الكراء لو كان صحيحا فلم ينتفع بواحدة منهما حتى تمضي سنة لزمه الكراء كله من قبل أنه قبضه وسلمت له منفعته فترك حقه فيها فلا يسقط ذلك حق رب الدار عليه فلما كان الكراء الفاسد إذا انتفع به المكتري يرد إلى كراء مثله كان حكم كراء مثله في الفاسد كحكم الكراء الصحيح ، وإذا تكارى الرجل من الرجل الدار سنة فقبضها المكتري ثم غصبه إياها من لا يقوى عليه سلطان ، أو من يرى أنه يقوى عليه سلطان فسواء لا كراء عليه في واحد منهما ، ولو أراد المكتري أن يكون خصما للغاصب لم يكن له خصما إلا بوكالة من رب الدار وذلك أن الخصومة للغاصب إنما تكون في رقبة الدار فلا يجوز أن يكون خصما في الدار إلا رب الدار ، أو وكيل لرب الدار والكراء لا يسلم للمكتري إلا بأن يكون المكري مالكا للدار والمكتري لم يكتر على أن يكون خصما لو كان ذلك جائزا له ، أرأيت لو خاصمه فيها سنة فلم يتبين للحاكم أن يحكم بينهما أتجعل على المكتري كراء ، ولم يسلم له أم تجعل للمخاصم إجارة على رب الدار في عمله ، ولم يوكله ؟ أو رأيت لو أقر رب الدار بأنه كان غصبها من الغاصب ، ألا يبطل الكراء ؟ أو رأيت لو أقر المتكاري أن رب الدار غصبها من الغاصب أيقضى على رب الدار أنه غاصب بإقرار غير مالك ، ولا وكيل ؟ فهل يعدو المكتري إذا قبض الدار ثم غصبت أن يكون الغصب على رب الدار ، ولم تسلم للمكتري المنفعة بلا مؤنة عليه كما اكترى ؟ فإن كان هذا هكذا فسواء غصبها من لا يقوى عليه سلطان ، أو من يقوى عليه سلطان ، ولا يكون عليه كراء ; لأنه لم تسلم له المنفعة أو يكون الغصب على المكتري دون رب الدار ويكون ذلك شيئا أصيب به المكتري كما يصاب ماله فيلزمه الكراء غصبها إياه من يقوى عليه السلطان ، أو من لا يقوى عليه .

    وإذا ابتاع الرجل من الرجل العبد ودفع إليه الثمن ، أو لم يدفعه وافترقا عن تراض منهما ثم مات العبد قبل أن يقبضه المشتري ، وإن لم يحل البائع بينه وبينه كان حاضرا عندهما قبل البيع وبعده حتى توفي العبد فالعبد من مال البائع لا من مال المبتاع ، وإن حدث بالعبد عيب كان المبتاع بالخيار بين أن يقبض العبد أو يرده ، وكذلك لو اشتراه وقبضه كان الثمن دارا ، أو عبدا ، أو ذهبا بأعيانها ، أو عرضا من العروض فتلف الذي ابتاع به العبد مما وصفنا في يدي مشتري العبد كان البيع منتقضا وكان من مال مالكه ، فإن قال قائل : قد هلك هذا العبد ، وهذا العرض ثم لم يحدث واحد منهما حولا بينه وبين ملكه إياه فكيف يكون من مال البائع حتى يسلمه للمبتاع ؟ فقيل له بالأمر البين مما لا يختلف الناس فيه من أن من كان بيده ملك لرجل مضمونا عليه أن يسلمه إليه من دين عليه أو حق لزمه من وجه من الوجوه أرش جناية ، أو غيرها ، أو غصب ، أو أي شيء ما كان فأحضره ليدفع إلى مالكه حقه فيه عرضا بعينه أو غير عينه فهلك في يده لم يبرأ بهلاكه في يده ، وإن لم يحل بينه وبين صاحبه وكان ضمانه منه حتى يسلمه إليه ، ولو أقاما بعد إحضاره إياه في مكان واحد يوما واحدا ، أو سنة ، أو أقل أو أكثر ; لأن ترك الحول بغير الدفع لا يخرج من عليه [ ص: 20 ] الدفع إلا بالدفع فكان أكثر ما على المتبايعين أن يسلم هذا ما باع ، وهذا ما اشترى به فلما لم يفعلا لم يخرجا من ضمان بحال وقال الله جل وعلا { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } ، فلو أن امرأ نكح امرأة واستخزنها ماله ، ولم يحل بينها وبين قبض صداقها ، ولم يدفعه إليها لم يبرأ منه بأن يكون واجدا له وغير حائل دونه وأن تكون واجدة له غير محول بينها وبينه وقال الله عز وجل { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، فلو أن امرأ أحضر مساكين وأخبرهم أن لهم في ماله دراهم أخرجها بأعيانها من زكاة ماله فلم يقبضوها ، ولم يحل بينهم وبينها لم تخرج من أن تكون مضمونة عليه حتى يؤديها ، ولو تلفت في يده تلفت من ماله ، وكذلك لو تطهر للصلاة وقام يريدها ، ولا يصليها لم يخرج من فرضها حتى يصليها .

    ولو وجب عليه أن يقتص من نفسه من دم ، أو جرح فأحضر الذي له القصاص وخلى بينه وبين نفسه ، أو خلى الحاكم بينه وبينه فلم يقتص ، ولم يعف لم يخرج هذا مما عليه من القصاص ثم لا يخرج أحدهما مما قبله إلا بأن يؤديه إلى من هو له ، أو يعفوه الذي هو له وهكذا أصل فرض الله جل وعز في جميع ما فرض ، قال الله عز وجل { ودية مسلمة إلى أهله } فجعل التسلم الدفع لا الوجود وترك الحول والدفع وقال في اليتامى { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } ففرض على كل من صار إليه حق لمسلم ، أو حق له أن يكون مؤديه وأداؤه دفعه لا ترك الحول دونه سواء دعاه إلى قبضه ، أو لم يدعه ما لم يبرئه منه فيبرأ منه بالبراءة أو يقبضه منه في مقامه ، أو غير مقامه ثم يودعه إياه ، وإذا قبضه ثم أودعه إياه فضمانه من مالكه ( قال الربيع ) يريد القابض له ، وهو المشتري
    ( قال الشافعي ) : وإذا اكترى الرجل من الرجل الأرض ، أو الدار كراء صحيحا بشيء معلوم سنة أو أكثر تم قبض المكتري ما اكترى فالكراء له لازم فيدفعه حين يقبضه إلا أن يشترطه إلى أجل فيكون إلى أجله فإن سلم له ما اكترى ، فقد استوفى ، وإن تلف رجع بما قبض منه من الكراء كله فيما لم يستوف فإن قال قائل فكيف يجوز أن يكون يدفع إليه الكراء كله ولعل الدار أن تتلف ، أو الأرض قبل أن يستوفى ؟ قيل : لا أعلم يجوز غير هذا من أن تكون الدار التي ملك منفعتها مدفوعة إليه فيستوفي المنفعة المدة التي شرطت له وأولى الناس أن يقول بهذا من زعم أن الجائحة موضوعة ، وقد دفع البائع الثمرة إلى المشتري ، ولو شاء المشتري أن يقطعها كلها قطعها فلما كان المشتري إذا تركها إلى أوان يرجو أن تكون خيرا له فتلف رجع بحصة ما تلف كان في الدار التي لا يقدر على قبض منفعتها إلا في مدة تأتي عليها أولى أن يجعل الثمن للمكري حالا كما يجعله للثمرة إلا أن يشترطه إلى أجل .

    فإن قال قائل : من قال هذا ؟ قيل له عطاء بن أبي رباح وغيره من المكيين فإن قال فما حجتك على من قال من المشرقيين إذا تشارطا فهو على شرطهما ، وإن لم يتشارطا فكلما مر عليه يوم له حصة من الكراء كان عليه أن يدفع كراء يومه قيل له : من قال هذا لزمه في أصل قوله أن يجيز الدين بالدين إذا لم يقل كما قلنا : إن الكراء يلزم بدفع الدار ; لأنه لا يوجد في هذا أبدا دفع غيره ، وقال : المنفعة تأتي يوما بعد يوم فلا أجعل دفع الدار يكون في حكم دفع المنفعة ، قيل : فالمنفعة دين لم يأت والمال دين لم يأت ، وهذا الدين بالدين وسواء كانت أرض نيل أو غيرها ، أو أرض مطر
    ( قال ) وإذا تكارى الرجل المسلم من الذمي أرض عشر ، أو خراج فعليه فيما أخرجت من الزرع الصدقة فإن قال قائل : فما الحجة في هذا ؟ قيل لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة من [ ص: 21 ] قوم كانوا يملكون أرضهم من المسلمين وهذه أرض من زرعها من المسلمين فإنما زرع ما لا يملك من الأرض وما كان أصله فيئا ، أو غنيمة ، فإن الله جل ذكره خاطب المؤمنين بأن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وخاطبهم بأن قال { وآتوا حقه يوم حصاده } فلما كان الزرع مالا من مال المسلم والحصاد حصاد مسلم تجب فيه الزكاة وجب عليه ما كان لا يملك رقبة الأرض ، فإن قال فهل من شيء توضحه غير هذا ؟ قيل : نعم الرجل يتكارى من الرجل الأرض أو يمنحه إياها فيكون عليه في زرعها الصدقة كما يكون عليه لو زرع أرض نفسه ، فإن قال : فهذه لمالك معروف ، قيل : فكذلك يتكارى في الأرض الموقوفة على أبناء السبيل وغيرهم ممن لا يعرف بعينه ، وإنما يعرف بصفته فيكون عليه في زرعها الصدقة .

    فإن قال : هذا هكذا ، ولكن أصل هذه لمسلم ، أو لمسلمين وأصل تلك لمشرك قيل لو كانت لمشرك ما حل لنا إلا بطيب نفسه ، ولكن لما كانت عنوة ، أو صلحا كانت مالا للمسلمين كما تغنم أموالهم من الذهب والفضة فيكون علينا فيها الصدقة كما يكون علينا فيما ورثنا من آبائنا ; لأن ملكهم قد انقطع عنهم فصار لنا ، وكذلك الأرض فإن قال قائل فهي لقوم غير معروفين ، قيل هي لقوم معروفين بالصفة من المسلمين ، وإن لم يكونوا معروفين أعيانهم كما تكون الأرض الموقوفة لقوم موصوفين ، فإن قال : فالخراج يؤخذ منها ، قيل : لولا أن الخراج كراء ككراء الأرض الموقوفة وكراء الأرض للرجل حرم على المسلم أن يؤدي خراجا وعلى الآخذ منه أن يأخذ منها خراجا ، ولكنه إنما هو كراء ، ألا ترى أن الرجل يكتري الأرض بالشيء الكثير فلا يحسب عليه ، ولا له فيخفف عنه من صدقتها شيء لما أدى من كرائها
    ( قال الشافعي ) فإذا ابتاع الرجل من الرجل عبدا فتصادقا على البيع والقبض واختلفا في الثمن والعبد قائم تحالفا وترادا فإن كان العبد تالفا تحالفا ببلعه قيمة العبد ، وإذا كان قائما وهما يتصادقان في البيع ويختلفان في الثمن رد العبد بعينه فكل ما كان على إنسان أن يرده بعينه ففات رده بقيمته ; لأن القيمة تقوم مقام العين إذا فاتت العين فإن كان هذا في كل شيء فما أخرج هذا من تلك الأشياء ؟ لا يجوز أن يفرق بين المجتمع في المعنى إلا بخبر يلزم وهكذا في الدور والأرضين إذا اختلفا قبل أن يسكن أو يزرع تحالفا ببلعه ، فإذا اختلفا بعد الزرع والسكن تحالفا ببلعه قيمة الكراء ، وإن سكن بعضا رد قيمة ما سكن وفسخ الكراء فيما لم يسكن ، وإن تكارى أرضا لزرع فزرعها وبقي له سنة ، أو أكثر تحالفا وتفاسخا فيما بقي ورد كراء مثلها فيما زرع .

    قال : وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة بعشرة تصادقا على الكراء ومبلغه واختلفا في الموضع الذي تكارى إليه فقال المكتري اكتريتها إلى المدينة بعشرة وقال المكري اكتريتها بعشرة إلى أيلة فإن لم يكن ركب الدابة تحالفا ببلعه ، وإن كان ركبها تحالفا وكان لرب الدابة كراء مثلها إلى الموضع الذي ركبها إليه وفسخ الكراء في ذلك الموضع ; لأن كليهما مدع ومدعى عليه ; لأن الكراء بيع من البيوع ، وهذا مثل معنى قولنا في البيوع ، وإذا استأجر الرجل من الرجل الأرض ليزرعها فغرقت كلها قبل الزرع رجع بالإجارة ; لأن المنفعة لم تسلم له وهي مثل الدار تنهدم قبل السكنى فإن غرق بعضها فهذا نقص دخل عليه فيما اكترى وله الخيار بين حبسها بالكراء أو ردها ; لأنه لم يسلم له ما اكترى كما اكترى كما يكون له في الدار لو انهدم بعضها أن يحبس ما بقي بحصته من الكراء كأن انهدم نصفها فأراد أن يقيم في نصفها الباقي بنصف الكراء فذلك له ; لأنه نقص دخل عليه فرضي [ ص: 22 ] بالنقص ، وإن شاء أن يخرج ويفسخ الكراء كان ذلك له إذا كان بعض ما بقي من الدار والأرض ليس مثل ما ذهب .

    ( قال الشافعي ) : وكذلك لو اشترى مائة إردب طعاما فلم يستوفها حتى تلف نصفها في يدي البائع كان له إن شاء أن يأخذ النصف بنصف الثمن ( قال الربيع ) الطعام عندي خلاف الدار ينهدم بعضها ; لأن الطعام شيء واحد والدار لا يكون بعضها مثل بعض سواء مثل الطعام .

    ( قال الشافعي ) وأصل هذا أن ينظر إلى البيعة ، فإذا وقعت على شيء يتبعض ويجوز أن يقبض بعضه دون بعض فتلف بعضه قلت فيه هكذا ، وإن وقعت على شيء لا يتبعض مثل عبد اشتريته فلم تقبضه حتى حدث به عيب كنت فيه بالخيار بين أخذه بجميع الثمن أو رده ; لأنه لم يسلم لك فتقبضه غير معيب .

    فإن قال قائل : ما فرق ما بين هذين ؟ قيل : لا يكون العبد يتبعض من العيب ، ولا العيب يتبعض من العبد ، فقد يكون المسكن متبعضا من المسكن من الدار والأرض ، وكذلك إذا تكارى الرجل من الرجل الأرض عشر سنين بمائة دينار لم يجز حتى يسمي لكل سنة شيئا معلوما ، وإذا اكترى الرجل من الرجل أرضه ، أو داره فقال : أكتريها منك كل سنة بدينار أو أكثر ، ولم يسم السنة التي يكتريها ، ولا السنة التي ينقطع إليها الكراء فالكراء فاسد لا يجوز إلا على أمر يعرفه المكري والمكتري .

    كما لا تجوز البيوع إلا على ما يعرف ، وهذا كلام يحتمل أن يكون الكراء فيه ينقضي إلى مائة سنة ، أو أكثر أو أقل ويحتمل أن يكون سنة ويحتمل أقل من سنة فكان هذا كراء مجهولا يفسخه قبل السكنى .

    فإن فات فيه السكنى جعلنا فيه على المكتري أجر مثله كان أكثر مما وقع به الكراء ، أو أقل : إذا أبطلنا أصل العقد فيه وصيرناه قيمة لم نجعل الباطل دليلا على الحق
    ( قال الشافعي ) : فإذا زرع الرجل أرض رجل فادعى أن رب الأرض أكراه ، أو أعاره إياها وجحد رب الأرض فالقول قول رب الأرض مع يمينه ويقلع الزارع في زرعه وعلى الزارع كراء مثل أرضه إلى يوم يقلع زرعه .

    ( قال الشافعي ) وسواء كان ذلك في إبان الزرع ، أو في غير إبانه إذا كان زارع الأرض المدعي للكراء حبسها عن مالكها فإنما أحكم عليه حكم الغاصب ، وإذا تكارى الرجل من الرجل أرضا فيها زرع لغيره لا يستطيع إخراجه منها إلى أن يحصده فالكراء مفسوخ لا يجوز حتى يكون المكتري يرى الأرض لا حائل دونها من الزرع ويقبضها لا حائل دونها من الزارعين لأنا نجعله بيعا من البيوع فلا يجوز أن يبيع لرجل عينا لا يقدر المبتاع على قبضها حين تجب له ويدفع الثمن ، ولا أن نجعل على المبتاع والمكتري الثمن ولعل المكترى أن يتلف قبل أن يقبضه ، ولا يجوز أن نقول له الثمن دين إلى أن يقبض فذلك دين بدين
    ( قال الشافعي ) ولا بأس بالسلف في الأرض والدار قبل أن يكتريهما ويقبضهما ، ولكن يكتري الأرض والدار ويقبضهما مكانهما لا حائل بينهما ومتى حدث على واحد منهما حادث يمنع من منفعته رجع المكتري بحصته من الكراء من يوم حدث الحادث ، وهكذا العبد وجميع الإجارات وليس هذا بيع وسلف إنما البيع والسلف أن تنعقد العقدة على إيجاب بيع وسلف بين المتبايعين فيكون الثمن غير معلوم من قبل أن للمبيع حصته من السلف في أصل ثمنه لا تعرف ; لأن السلف غير مملوك ( قال الشافعي ) وكل ما جاز لك أن تشتريه على الانفراد جاز لك أن تكتريه على الانفراد والكراء بيع من البيوع وكل ما لم يجز لك أن تشتريه على الانفراد لم يجز لك أن تكتريه على [ ص: 23 ] الانفراد ، ولو أن رجلا اكترى من رجل أرضا بيضاء ليزرعها شجرا قائما على أن له الشجر وأرضه كان في الشجر ثم بالغ ، أو غض ، أو لم يكن فيه كان هذا كراء جائزا كما يكون بيعا جائزا ( قال الربيع ) يريد أن لصاحب الأرض البيضاء الشجر وأرض الشجر
    ( قال الشافعي ) : ولو تكارى الأرض بالثمرة دون الأرض والشجر فإن كانت الثمرة قد حل بيعها جاز الكراء بها ، وإن كانت لم يحل بيعها لم يحل الكراء بها . قال الله تبارك وتعالى { ، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال عز وجل { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } فكانت الآيتان مطلقتين على إحلال البيع كله إلا أن تكون دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في إجماع المسلمين الذين لا يمكن أن يجهلوا معنى ما أراد الله ، تخص تحريم بيع دون بيع فنصير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ; لأنه المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد الله خاصا وعاما ووجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم شيئين : أحدهما : التفاضل في النقد ، والآخر : النسيئة كلها وذلك أنه يحرم الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد ، وكذلك الفضة ، وكذلك أصناف من الطعام الحنطة والشعير والتمر والملح فحرم في هذا كله معنيان التفاضل في الجنس الواحد وأباح التفاضل في الجنسين المختلفين وحرم فيه كله النسيئة فقلنا : الذهب والورق هكذا ; لأن نصه في الخبر وقلنا كل ما كان مأكولا ومشروبا هكذا ; لأنه في معنى ما نص في الخبر ، وما سوى هذا فعلى أصل الآيتين من إحلال الله ، البيع حلال كله بالتفاضل في بعضه على بعض يدا بيد ونسيئة فكانت لنا بهذا دلائل مع وصفنا ، منها { أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدا بعبدين } وأجاز ذلك علي بن أبي طالب وابن المسيب وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم ، ولو لم يكن فيه هذا الخبر ما جاز فيه إلا هذا القول على هذا المعنى أو قول ثان ، وهو أن يقال : إذا كان الشيئان من صنف واحد فلا يجوز إلا أن يكونا سواء بسواء وعينا بعين ومثلا بمثل كما يكون الذهب بالذهب ، وإذا اختلفا فلا بأس بالتفاضل يدا بيد ، ولا خير فيه نسيئة كما يكون الذهب بالورق والتمر بالحنطة .

    ثم لم يجز أن يباع بعير ببعيرين يدا بيد من قبل أنهما من صنف واحد ، وإن اختلفت رحلتهما ونجابتهما ، وإذا لم يجز يدا بيد كانت النسيئة أولى أن لا تجوز ، فإن قال قائل : قد يختلفان في الرحلة ، وكذلك التمر قد يختلف في الحلاوة والجودة حتى يكون المد من البرني خيرا من المدين من غيره ، ولا يجوز إلا مثل بمثل ويدا بيد ; لأنهما تمران يجمعان معا على صاحبهما في الصدقة ; لأنهما جنس ، وكذلك البعيران جنس يجتمعان على صاحبهما في الصدقة ، وكذلك الذهب منه ما يكون المثقال ثمن ثلاثين درهما لجودته ومنه ما يكون المثقال بشيء أقل منه بكثير لتفاضلهما ، ولا يجوز ، وإن تفاضلا أن يباعا إلا مثلا بمثل يدا بيد ويجمعان على صاحبهما في الصدقة ، فإما أن تجري الأشياء كلها قياسا عليه ، وإما أن يفرق بينها وبينه كما قلنا وبالدلائل التي وصفنا ، وبأن المسلمين أجمعوا على أن الذهب والورق يسلمان فيما سواهما بخلاف ما سواهما فيهما ، فأما أن يتحكم المتحكم فيقول مرة في شيء من الجنس لا يجوز الفضل في بعضه على بعض قياسا على هذا .

    ثم يقول مرة أخرى ليس هو من هذا فإن كان هذا جائزا لأحد جاز لكل امرئ أن يقول ما خطر على قلبه ، وإن لم يكن من أهل العلم ; لأن الخاطر لا يعدو أن يوافق أثرا ، أو يخالفه ، أو قياسا أو يخالفه ، فإذا جاز لأحد الأخذ بالأثر وتركه والأخذ بالقياس وتركه لم يكن ها هنا معنى إلا أن يقول امرؤ بما شاء ، وهذا محرم على الناس
    ( قال الشافعي ) الإجارة كما وصفت بيعا من البيوع فلا بأس أن تستأجر العبد سنة بخمسة دنانير فتعجل الدنانير ، أو تكون إلى سنة ، أو سنتين ، أو عشر سنين فلا [ ص: 24 ] بأس إن كانت عليك خمسة دنانير حالة أن تؤاجر بها عبدا لك من رب الدنانير إذا قبض العبد وليس من هذا شيء دينا بدين الحكم في المستأجر أن يدفع إلى المستأجر له نقدا غير أن صاحبه يستوفي الإجارة في مدة تأتي ، ولولا أن الحكم فيه هكذا ما جازت الإجارة بدين أبدا من قبل أن هذا دين بدين ، ولا عرفت لها وجها تجوز فيه وذلك أني إن قلت لا تجب الإجارة إلا باستيفاء المستأجر من المنفعة ما يكون له حصة من الثمن كانت الإجارة منعقدة والمنفعة دين فكان هذا دينا بدين . ولو قلت : يجوز أن أستأجر منك عبدك بعشرة دنانير شهرا ، فإذا مضى الشهر دفعت إليك العشرة كانت العشرة دينا وكانت المنفعة دينا فكان هذا دينا بدين ، ولو قلت أدفع إليك عشرة وأقبض العبد يخدمني شهرا كان هذا سلفا في شيء غير موصوف وسلفا غير مضمون على صاحبه وكان هذا في هذه المعاني كلها إبطال الإجارات ، وقد أجازها الله تعالى وأجازتها السنة وأجازها المسلمون ، وقد كتبنا تثبيت إجازتها في كتاب الإجارات ، ولولا أن ما قلت كما قلت إن دفع المستأجر من دار وعبد إلى المستأجر دفع العين التي فيها المنفعة فيحل في الإجارة النقد والتأخير ; لأن هذا نقد بنقد ونقد بدين ما جازت الإجارات بحال أبدا فإن قال قائل : فهي لا يقدر على المنفعة فيها إلا في مدة تأتي قلنا قد عقلنا أن الإجارات منذ كانت هكذا ، فإن حكمها حكم الطعام يبتاع كيلا فتشرع في كيله فلا تأخذ منه ثانيا أبدا إلا بعد بادئ ، وكذلك أنه لا يمكنك فيه غير هذا ، وكذلك السكنى والخدمة لا يمكن فيهما أبدا غير هذا فأما من قال ممن أجاز الإجارات يجوز أن يستأجر العبد شهرا بدينار ، أو شهرين ، أو ثلاثة ثم قال : ولا يجوز أن يكون لي عليك دينار فأستأجره منك به ; لأن هذا دين بدين فالذي أجاز هو الدين بالدين إذا كانت الإجارة دينا لا شك والذي أبطل هو الذي ينبغي أن يجيز من قبل أنه يجوز لي أن يكون لي عليك دينار فآخذ به منك دراهم ويكون كينونته عليك كقبضك إياه من يدي ، ولا يجوز أن يعطيك دراهم بدينار مؤجل ويزعم هنا في الصرف أنه نقد ويزعم في الإجارة أنه دين فلا بد أن يكون الحكم أنه نقد فيهما جميعا ، أو دين فيهما جميعا فإن جاز هذا جاز لغيره أن يجعله نقدا حيث جعله دينا ودينا حيث جعله نقدا
    ( قال الشافعي ) البيوع الصحيحة صنفان : بيع عين يراها المشتري والبائع ، وبيع صفة مضمونة على البائع ، وبيع ثالث وهو الرجل يبيع السلعة بعينها غائبة عن البائع والمشتري غير مضمونة على البائع إن سلمت السلعة حتى يراها المشتري كان فيها بالخيار باعه إياها على صفة وكانت على تلك الصفة التي باعه إياها أو مخالفة لتلك الصفة ; لأن بيع الصفات التي تلزم المشتري ما كان مضمونا على صاحبه ، ولا يتم البيع في هذا حتى يرى المشتري السلعة فيرضاها ويتفرقان بعد البيع من مقامهما الذي رآها فيه فحينئذ يتم البيع ويجب عليه الثمن كما يجب عليه الثمن في سلعة حاضرة اشتراها حتى يتفرقا بعد البيع عن تراض فيلزمهما ، ولا يجوز أن تباع هذه السلعة بعينها إلى أجل من الآجال قريب ، ولا بعيد من قبل أنه إنما يلزم بالأجل ويجوز فيما حل لصاحبه وأخذه مشتريه ولزمه بكل وجه .

    فأما بيع لم يلزم فلا يجوز أن يكون إلى أجل وكيف يكون على المشتري دين إلى أجل ، ولم يتم له بيع ، ولم يره ، ولم يرضه ؟ فإن تطوع فنقد فيه على أنه إن رضي كان نقد الثمن ، وإن سخط رجع بالثمن لم يكن بهذا بأس وليس هذا من بيع وسلف ، ولا أن أسلفك في الطعام إلى أجل فآخذ منك بعد مجيء الأجل بعض طعام وبعض رأس مال فإن ذهب ذاهب إلى أن هذين أو أحدهما ، أو ما كان في مثل معناهما ، أو معنى واحد منهما من بيع وسلف فليس هذا من ذلك بسبيل ، ألا ترى أن معقولا لا شك فيه في الحديث إذا كان إنما نهى [ ص: 25 ] عن بيع وسلف فإنما نهى أن يجمعا ونهيه أن يجمعا معقول ، وذلك أن الأثمان لا تحل إلا معلومة ، فإذا اشتريت شيئا بعشرة على أن أسلفك عشرة أو تسلفني عشرة فهذا بيع وسلف ; لأن الصفقة جمعتهما معلوم السلف غير مملوك للمستسلف فله حصة من الثمن غير معلومة أو لا ترى بأن لا بأس بأن أبيعك على حدة وأسلفك على حدة إنما النهي أن يكونا بالشرط مجموعين في صفقة ، فأما إذا أعطيتك عشرة دنانير على مائة فرق إلى أجل فحلت فإنما لي عليك المائة فإن أخذتها كلها فهي مالي ، وإن أخذت بعضها فهي مالي وأقيلك فيما بقي منها بإحداث شيء لم يكن علي ، ولم يكن في أصل عقد البيع فيحرم به البيع ، وإذا جاز أن أقيلك منها كلها فيكون هذا إحداث إقالة لم تكن علي جاز هذا في بعضها .

    ( قال الربيع ) ( قال الشافعي ) البيع بيعان لا ثالث لهما أحدهما بيع عين يراها البائع والمشتري عند تبايعهما وبيع مضمون بصفة معلومة وكيل معلوم وأجل معلوم والموضع الذي يقبض فيه .

    ( قال الربيع ) : وقد كان الشافعي يجيز بيع السلعة بعينها غائبة بصفة ثم قال لا يجوز من قبل أنها قد تتلف فلا يكون يتم البيع فيها فلما كانت مرة تسلم فيتم البيع ومرة تعطب فلا يتم البيع كان هذا مفسوخا .
    كراء الدواب

    أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال وإذا تكارى رجل دابة من مكة إلى مر فركبها إلى المدينة فعليه الكراء الذي تراضيا عليه إلى مر . فإن سلمت الدابة فعليه كراء مثلها إلى المدينة ، وإن عطبت الدابة فعليه الكراء إلى مر وقيمة الدابة ، وإن نقصت بعيب دخلها من ركوبه فأثر فيها مثل الدبر والعور وما أشبه ذلك ردها وأخذ قيمة ما نقصها كما يأخذ قيمتها لو هلكت ، وإذا رجعت إلى صاحبها أخذ ما نقصها وكراء مثلها إلى حيث تعدى ، وإذا هلكت الدابة فلم يتعد المكتري البلد الذي تكاراها إليه ، ولم يتعد بأن يحمل عليها ما ليس له ، ولا أن يركبها ركوبا لا تركبه الدواب فلا ضمان عليه ، وإن كان الكراء ذاهبا وجائيا فإنما عليه في الذهاب نصف الكراء إلا أن يكون الذهاب والجيئة يختلفان فيقسم الكراء على قدر اختلافهما بقول أهل العلم باختلافهما ، ولو تعدى عليها بعدما بلغت المكان الذي تكارها إليه ميلا ، أو أقل ثم ردها فعطبت في الموضع الذي اكتراها إليه ضمن لا يخرج من الضمان الذي تعدى إلا بأدائها سالمة إلى ربها .
    الإجارات

    أخبرنا الربيع قال ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال قائل ليس كراء البيوت ، ولا الأرضين ، ولا الظهر يلازم ، ولا جائز وذلك أنه تمليك والتمليك بيع ولما رأينا البيوع تقع على أعيان حاضرة ترى وأعيان غائبة موصوفة مضمونة ، والكراء ليس بعين حاضر ، ولا غائب يرى أبدا ورأينا من أجازهما ، قال إذا انهدم المنزل ، أو هلك العبد انتقض الكراء والإجارة فيهما ، وإنما التمليك ما انقطع ملك صاحبه عنه إلى من ملكه إياه ، وهو إذا ملك مستأجره منفعته فالإجارة ليست هكذا ملك العبد لمالكه ، ومنفعته لمستأجره إلى المدة التي تشترط وخدمة العبد مجهولة أيضا مختلفة بقدر نشاطه وبذله وكسله وضعفه [ ص: 26 ] وكذلك الركوب مختلف ففيها أمور تفسدها وهي عندنا بيع والبيوع ما وصفنا ، ومن أجازها ، فقد يحكم فيها بحكم البيع ; لأنها تمليك ويخالف بينها وبين البيع في أنها تمليك وليست محاطا بها ، فإن قال أشبهها بالبيع فليحكم لها بحكمه ، وإن قال هي بيع ، فقد أجاز فيها ما لا يجيزه في البيع .

    ( قال الشافعي ) : وهذا القول جهل ممن قاله والإجارات أصول في أنفسها بيوع على وجهها ، وهذا كله جائز قال الله تبارك وتعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فأجاز الإجارة على الرضاع والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود وقلته وكثرة اللبن وقلته ، ولكن لما لم يوجد فيه إلا هذا جازت الإجارة عليه ، وإذا جازت عليه جازت على مثله وما هو في مثل معناه وأحرى أن يكون أبين منه ، وقد ذكر الله عز وجل الإجارة في كتابه وعمل بها بعض أنبيائه . قال الله عز وجل : { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } الآية .

    ( قال الشافعي ) قد ذكر الله عز وجل أن نبيا من أنبيائه آجر نفسه حججا مسماة ملكه بها بضع امرأة ، فدل على تجويز الإجارة على أنه لا بأس بها على الحجج إن كان على الحجج استأجره ، وإن كان استأجره على غير حجج فهو تجويز الإجارة بكل حال ، وقد قيل : استأجره على أن يرعى له والله تعالى أعلم .

    ( قال الشافعي ) فمضت بها السنة وعمل بها غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف أهل العلم ببلدنا علمناه في إجارتها وعوام فقهاء الأمصار ( أخبرنا ) مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة من قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض فقال : أبالذهب والورق ؟ قال أما بالذهب والورق فلا بأس به } .

    ( قال الشافعي ) فرافع سمع النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بمعنى ما سمع ، وإنما حكى رافع النهي عن كرائها بالثلث والربع ، وكذلك كانت تكرى ، وقد يكون سالم سمع عن رافع بالخبر جملة فرأى أنه حدث به عن الكراء بالذهب والورق فلم ير بالكراء بالذهب والورق بأسا ; لأنه لا يعلم أن الأرض تكرى بالذهب والورق ، وقد بينه غير مالك عن رافع أنه على كراء الأرض ببعض ما يخرج منها ( أخبرنا ) مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه سأله عن استكراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به ( أخبرنا ) مالك عن هشام بن عروة عن أبيه شبيها به ، أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه مثله ، أخبرنا مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن عوف تكارى أرضا فلم تزل بيده حتى هلك قال ابنه : فما كنت أراها إلا أنها له من طول ما مكثت بيده حتى ذكرها عند موته فأمرنا بقضاء شيء بقي عليه من كرائها من ذهب ، أو ورق
    ( قال الشافعي ) والإجارات صنف من البيوع ; لأن البيوع كلها إنما هي تمليك من كل واحد منهما لصاحبه يملك بها المستأجر المنفعة التي في العبد والبيت والدابة إلى المدة التي اشترط حتى يكون أحق بالمنفعة التي ملك من مالكها ويملك بها مالك الدابة والبيت العوض الذي أخذه عنها ، وهذا البيع نفسه ، فإن قال قائل : قد تخالف البيوع في أنها بغير أعيانها وأنها غير عين إلى مدة .

    ( قال الشافعي ) فهي منفعة معقولة من عين معروفة فهي كالعين


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #148
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (148)
    صــــــــــ 27 الى صـــــــــــ34





    ( قال الشافعي ) والبيوع قد تجتمع في معنى أنها ملك وتختلف في أحكامها ، ولا يمنعها اختلافها في عامة أحكامها وأنه يضيق في بعضها الأمر ويتسع في غيره من أن تكون كلها بيوعا يحللها ما يحلل البيع ويحرمها ما يحرم البيع في الجملة ثم تختلف بعد في معان أخر فلا يبطل صنف منها خالف صنفا في بعض أمره بخلافه صاحبه ، وإن كانا قد يتفقان في معنى غير المعنى الذي اختلفا فيه فالبيوع لا تحل إلا [ ص: 27 ] برضا من البائع والمشتري وثمن معلوم ، وعندنا لا تجب إلا بأن يتفرق البائع والمشتري من مقامهما ، أو أن يخير أحدهما صاحبه بعد البيع فيختار إجازة البيع ثم تختلف البيوع فيكون منها المتصارفان لا يحل لهما أن يتبايعا ذهبا بذهب ، وإن تفاضلت الذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد وزنا بوزن ثم يكونان إن تصارفا ذهبا بورق فلا بأس بالفضل في أحدهما على الآخر يدا بيد فإن تفرق المتصارفان الأولان ، أو هذان قبل أن يتقابضا انتقض البيع بينهما ويكون المتبايعان السلعة سوى الصرف يتبايعان الثوب بالنقد ويقبض الثوب المشتري ، ولا يدفع الثمن إلا بعد حين فلا يفسد البيع ويكون السلف في الشيء المضمون إلى أجل يعجل الثمن ويكون المشترى غير حال على صاحبه إلا أنه يكون مضمونا ويضيق فيما كان يكون غير هذا من البيوع التي جازت في هذا مع اختلاف البيوع في غير هذا وكل ما يقع عليه جملة اسم البيع ، ولا يحل إلا بتراض منهما فحكمهما في هذا واحد وفي سواه مختلف
    ( قال الشافعي ) وقبض الإجارات الذي يجب به على المستأجر دفع الثمن كما يجب دفع الثمن إذا دفعت السلعة المشتراة بعينها أن يدفع الشيء الذي فيه المنفعة إن كان عبدا استؤجر دفع العبد ، وإن كان بعيرا دفع البعير ، وإن كان مسكنا دفع المسكن حتى يستوفي المنفعة التي فيه كمال الشرط إلى المدة التي اشترط وذلك أنه لا يوجد له دفع إلا هكذا فإن قال قائل : هذا دفع ما لا يعرف فهذا من علة أهل الجهالة الذين أبطلوا الإجارات .

    ( قال الشافعي ) والمنفعة من عين معروفة قائمة إلى مدة كدفع العين ، وإن كانت المنفعة غير عين ترى فهي معقولة من عين وليس دفع المنفعة بدفع الشيء الذي به المنفعة ، وإن كانت المنفعة غير عين ترى حين دفعت فأولى أن يفسد البيع من ملك المنفعة ، وإن كانت غير عين ، وإذا صح أن يملكها من السلعة والمسكن وهي غير عين ، ولا مضمونة فلم تفسد كما زعم من أفسدها ; لأنها ، وإن كانت غير عين فهي كالعين بأنها من عين ، فكأنه شيء انتفعوا به من عين معروفة وأجازه المسلمون له فدفعه إذا دفع كما لا يستطاع غيره أولى أن يقوم مقام الدفع من الأعيان والدفع أخف من ملك العقدة ; لأن العقدة تفسد فيبطل الدفع والدفع يفسد ، ولا تفسد العقدة ، فإذا جاز أن يكون ملك المنفعة معروفا ، وإن كان بغير عينه من عين فيصح ويلزم كما يصح ملك الأعيان جاز أن يكون الدفع للعين التي فيها المنفعة يقوم مقام دفع الأعيان إذا دفعت العين التي فيها المنفعة فهو كدفع العين إذا كان هذا الدفع الذي لا يستطاع فيها غيره أبدا .

    ( قال الشافعي ) فقال قولنا في إجازة الإجارات بعض الناس وشددها واحتج فيها بالآثار وزعم أن ما احتججنا به فيها حجة على من خالفنا في ردها لا يخرج منها ثم عاد لما ثبت منها فقال فيها أقاويل كأنه عمد نقض بعض ما ثبت منها وتوهين ما شدد فقال : الإجارات جائزة ، وقال : إذا استأجر الرجل من الرجل عبدا ، أو منزلا لم يكن للمستأجر أن يأخذ المؤجر بالإجارة ، وإنما يجب له من الإجارة بقدر ما اختدم العبد ، أو سكن المسكن كأنه تكارى بيتا بثلاثين درهما في كل شهر فما لم يسكن لم يجب عليه شيء ثم إذا سكن يوما ، فقد وجب عليه درهم ثم هكذا على هذا الحساب .

    ( قال الشافعي ) فقلت لبعض من يقول هذا القول " الخبر وإجماع الفقهاء بإجازة الإجارة ثابت عندنا ، وعندك والإجارة ملك من المستأجر للمنفعة ومن المؤجر للعوض الذي بالمنفعة والبيوع إنما هي تحويل الملك من شيء لملك غيره ، وكذلك الإجارة فقال منهم قائل ليست الإجارة ببيع قلنا وكيف زعمت أنها ليست ببيع وهي تمليك شيء بتمليك غيره ؟ قال ، ألا ترى [ ص: 28 ] أن لها اسما غير البيع ؟ قلنا : قد يكون للبيوع أسماء مختلفة تعرف دون البيوع والبيوع تجمعها مثل الصرف والسلم يعرفان بلا اسم بيع ، وهما من البيوع عندنا ، وعندك قال : فكيف يقع البيع مغيبا لعله لا يتم قلنا أو ليس قد نوقع نحن وأنت البيع على المغيب إلى المدة البعيدة في السلم ونوقعها أيضا على الرطب بكيل والرطب قد ينفد ثم تخير أنت المشتري إذا لم يقبض حتى ينفد في رده إلى رأس ماله وأن تترك إلى رطب قابل فإما أخر ماله عن غلة سنة إلى سنة أخرى وإما رجع إليه رأس ماله بعد حبسه ، وقد كان يملك به رطبا بكيل معلوم فلم يقبض ما ملك ، ولم يكن في يديه رأس ماله ؟

    قال : هذا كله مضمون قلنا : أولست قد جعلته مضمونا ثم صرت إلى أن تحكم به في المضمون بأحد حكمين تخيره أنت في أن يرد رأس المال وتبطل ما وجب له وضمن الرطب بعدما انتفع به المسلم إليه ولم ينتفع المسلم ، وإما أن يؤخر ماله عن غلة سنة بلا طيب من نفسه إلى سنة أخرى فقال هذا كله كما قلت ، ولكني لا أجد غيره فيه قلت : فإذا كان قولك لا أجد غيره فيه حجة فكيف لم تجعل لنا الذي هو أوضح وأبين ونحن لا نجد فيه غيره حجة ؟ قال وما ذاك ؟ قلنا زعمنا أن البيوع تجوز ويحل ثمنها مقبوضا وأن القبض مختلف ، فمنه ما يقبض باليد ومنه ما يدفع إليه المفتاح وذلك في الدور ومنه ما يخلى المالك بينه وبين المشتري ، وهو لا يغلق عليه ، ولا يقبضه بيده وذلك مثل الأرض المحدودة ، ومنه ما هو مشاع في الأرض لا يدرى أشرقيها هو أم غربيها ؟ غير أنه شريك في كلها ومنه ما هو مشاع في العبد لا ينفصل أبدا وكل هذا يقال له دفع يقبض به الثمن ويجب دفعه ويتم به البيع ، وهو قبض مختلف وذلك أنه لا يوجد فيه مع اختلافه غير هذا .

    فلو قال لك مشتري نصف العبد : البيع يتم مقبوضا والقبض ما يكون منفصلا معروفا وليس يكون في نصف العبد قبض فأنا أنقض البيع قلت : القبض يختلف ، فإذا لم يكن دون نصف العبد حائل وسلمه إليك فهذا القبض الذي لا يستطاع غيره في هذا ومن الدفع الذي لا يستطاع غيره ، فقد وجب له الثمن فالمنفعة التي في العبد بالإجارة لا يستطاع دفعها إلا بأن يسلم العبد ، أو المسكن ، فإذا دفعت كما لا يستطاع غيره فلم لا يجب ما تملك به المنفعة ؟ ما بين هذا فرق وقبض الإجارة إنما هو دفع الذي فيه الإجارة وسلامته ، فإذا دفع الدار وسلمت فله سكناها إلى المدة ، وإذا دفع العبد وسلم فله خدمته إلى مدة شرطه وخدمته حركة يحدثها العبد وليست في الدار حركة تحدثها إنما منفعته فيها محليته إياها ، ولا يستطاع أبدا في دفع ما ملك المستأجر غير تسليم ما فيه المنفعة إليه وسلامة ما فيه المنفعة حتى تتم المنفعة إلى مدتها .

    فإن قال قائل : فهذا ليس كدفع الأعيان الأعيان بدفع يرى ، وهذا بدفع لا يرى ، قيل : وما يختلف دفع الأعيان فيه فتكون عينا أشتريها بعينها عندك ونصف لي فإذا رأيتها كنت بالخيار ، وقد كانت عند تبايعنا عينا مضمونة كالسلم مضمونا ويكون السلم بالصفة بغير عينه ويجب ثمنه ، وإنما هو صفة لا عين ، فإذا أراد المسلم نقض البيع ، أو المسلم إليه لم يكن ذلك لواحد منهما ، وإن جاء به المسلم إليه فقال المسلم : لا أرضى ، قلت له : ليس ذلك لك إذا جاء على الصفة التي شرطت لم يكن لك خيار قال بلى قد يفعل هذا كله ، ولكن الإجارات مغيبة قلنا مغيبة معقولة كالسلم مغيب موصوف ، قال : هو وإن كان موصوفا بغير عينه يصير إلى أن يكون عينا ، قلت : يكون عينا ، وهو لم ير فلا يكون فيها خيار كما يكون في الأعيان التي لم تر ، قال : فهي على الصفة ، قلنا : ولم لا تجعل ما اشتري ، ولم ير من غير السلم ، وقد وصف كما وصف السلم إذا جاء على الصفة يلزم كما يلزم السلم ؟ قال : البيوع قد تختلف ، قلنا : فنراك تجيزها مع اختلافها لنفسك وتريد أن لا تجيزها مع اختلافها لنا قال : إني وإن أجزتها فهي صائرة عينا ، قلنا : الصفة في السلم قبل يكون الشراء مغيبة موصوف بها شيء لم يخلق بعد من ثياب وطعام قال : ولكنها تقع على عين [ ص: 29 ] فتعرف قلنا فالإجارة في عين قائم تكون في ذلك العين قائمة تعرف فإن زعمت أن الإجارة إنما هي منفعة والمنفعة مغيبة ، وقد تختلف فلم أجزتها ، ولم تقل فيها قول من ردها وعبت من ردها ونسبته إلى الجهالة ؟ قال : لأنه ترك السنة وإجماع الفقهاء وليس في السنة ولا إجماع الفقهاء إلا التسليم ، ولا تضرب له الأمثال ، ولا تدخل عليه المقاييس قلنا : فإذا اجتمع الفقهاء على إجازتها وصيروها ملك منفعة معقولة ، وإن كانت لا تكون شيئا يكال ، ولا يوزن ، ولا يذرع وأجازها مغيبة وأوجبوها كما أوجبوا غيرها من البيوع ثم صرت إلى عيب قولنا فيها وأنت تجيزها .

    وقولنا قول مستقيم على السنة والآثار وصرت بحجة من أبطلها ، فإذا قيل لك : إن كانت في هذا حجة فأبطلها ، وإن لم يكن فيه حجة فلا تحتج به قلت : لا أبطلها ; لأنها السنة وإجماع الفقهاء ، فإن قال قائل : فدع حجة من أخطأ في إبطالها وأجزها كما أجازها الفقهاء ، فقد أجازوها ، وإذا أجازوها فلا يجوز عندنا أن يكونوا أجازوها إلا على أنها تمليك منفعة معقولة وما كان تمليكا ، فقد يوجب ثمنه وإلا صرت إلى حجة من أبطلها .

    فإن قال لك قائل : فكيف صيرت هذا قبضا والقبض ما يصير في يدي صاحبه الذي قبضه ويقطع عنه ملك الذي دفعه ؟ قيل له : إن الدفع من المالك لمن ملكه يختلف ، ألا ترى أن رجلا لو ابتاع بيوعا ودفع إليه أثمانها ثم حاكمه إلى القاضي قضى عليه بدفعها فإن كان عبدا ، أو ثوبا ، أو شيئا واحدا سلمه إليه ، وإن كان شيئا يتجزأ بعينه فكان طعاما في بيت استوجبه كله بكيل على أن كل مد بدرهم قال كله له فكان يقبضه شيئا بعد شيء لا جملة كقبضه الواحدة فيقضي عليه بدفع كل صنف من هذا كما يستطاع قبضه فكذلك قضى عليه بدفع الإجارة كما يستطاع ، ولا يستطاع فيها أكثر من تسليم الذي فيه المنفعة إلى الذي ملك فيه المنفعة ، والمنفعة فيها معروفة كما الشراء في الدار المشاعة معروف بحساب وفي غيره .

    فإن قال قائل : فإن الذي فيه المنفعة بسلم ثم ينهدم المنزل ، أو يموت العبد فتكون أوجبت عليه دفع ماله ، وهو مائة ثم لا يستوفي بالمائة إلا حق بعضها ويكون المؤاجر قد انتفع بالثمن قلنا بذلك رضي المستأجر قال ما رضي إلا بأن يستوفي قلنا إن قدر على الاستيفاء فذلك له ، وإن لم يقدر أخذ ماله قال وأي شيء يشبه هذا من البيوع ؟ قلنا ما وصفنا من السلم أدفع لهذا مائة درهم في رطب فمضى الرطب ، ولم يوف منه شيئا فيعود إلى أن يقول لي خذ رأس مالك ، وقد انتفع به المسلم إليه ، أو أخر مالك بعد محله سنة بلا رضا منك إلى سنة أخرى ، فإذا قلت : قد انتفع بمالي فإن أخذته ، فقد أخذ منفعة مالي بلا عوض أخذته ، وإن أخرته سنة ، فقد انتفع بمالي سنة بلا طيب نفسي ، ولا عوض أعطيته منه قال : لا أجد إلا هذا فإن قلت لك وصدقني المسلم إليه بأنه تغيب مني حتى مضى الرطب قلت : لا أجد شيئا أعديك عليه ; لأنك رضيت أمانته ، قلت : ما رضيت إلا بالاستيفاء ، وقد كان يقدر على أن يوفيني قلت : وقد فات الرطب الذي يوفيك منه . قيل : فالمستأجر للعين إنما استأجره ، وهو يعلم أن العين إذا ذهبت المنفعة فكيف عبته فيه ، وهو يعلمه ، ولم تعب في المسلم إليه الذي ضمن لصاحبه الرطب كيلا معلوما بصفة من غير شيء يعينه المسلم إليه كان أولى أن تعيبه فيه من المستأجر .

    وهو يقول : في الرجل يبتاع الشيء من الرجل والشيء المبتاع بعينه ببلد غائب عن المتبايعين ويدفع المشتري إلى المشترى منه الثمن وافيا على أن يسلم البائع للمشتري ما اشترى منه وأشهد به له ودفع إليه ثمنه ثم هلك الشيء المبتاع فيقول يرجع المشتري بالثمن ، وقد انتفع به رب السلعة ، ولم يأخذ رب المال عوضا فيقول للمشتري أنت رضيت بذلك ، وقد كانت لك السلعة لو تمت فلما لم تتم انتقض البيع ، وإنما رضيت بتمامها ويقول أيضا في الرجل ينكح المرأة بعبد فتخليه ونفسها فلم يدخل بها وتخليتها إياه ونفسها هو الذي يلزمها ، فإذا فعلت جبرته على دفع العبد إليها ويكون ملكها له صحيحا فإن باعت ، أو [ ص: 30 ] وهبت أو أعتقت ، أو دبرت ، أو كاتبت جاز ; لأنه لها ملك تام فإن طلقها قبل يكون من هذا شيء رجع بنصف العبد فكان شريكها فيه ، فقد زعمت أن ملكها فيه تام كما يتم ملك من دفع العوض بالعبد ثم انتقض ملكها في نصفه فإن قيل لك كيف يتم ملكها ثم ينتقض ؟ قلت ليس في هذا قياس هو لم يدخل بها فلها نصف المهر إذا طلقها فإن قيل لك كيف ينتقض نصفه رأيت ذلك جهلا ممن يقوله ؟

    وقلت : هذا مما لا يختلف فيه الفقهاء وتزعم أيضا أنه إذا اشترى عبدا فدلس له فيه عيب كان ملكا صحيحا إن باع أو وهب ، أو أعتق فإن لم يفعل فشاء حبسه بالعيب حبسه ، وإن لم يشأ حبسه وشاء نقض البيع ، وقد كان تاما نقضه ، وقد يبيع الرجل الشقص من الرجل فيكون المشتري تام الملك لا سبيل للبائع عليه ، ولا على أخذه منه ويكون له أن يبيع ويهب ويصنع ما يصنع ذو المال في ماله فإن كان له شفيع فأراد أخذه من يديه بالثمن الذي اشتراه به ، وإن كان كارها أخذه ، وقد نجعل نحن وأنت ملكا تاما ويؤخذ به الثمن ثم ينتقض بأسباب بعد تمامه فكيف عبت هذا في الإجارة وأن ما نقوله في الإجارة إذا فات الشيء فيه الذي فيه المنفعة فلم يكن إلى الاستيفاء سبيل ويرد المستأجر ما بقي من حقه كما يرده لو اشترى سفينة طعام كل قفيز بكذا فاستوفى عشرة أقفزة ثم استهلكها ثم هلك ما بقي من الطعام رددناه بما بقي من المال وألزمناه عشرة بحصتها من الثمن وأنت تنقض الملك والأعيان التي فيها الملك قائمة ثم لو عابك أحد بهذا قلت : هذا من أمر الناس فإن كان في نقض الإجارة إذا كانت العين التي فيها المنفعة قد فاتت عيب فنقض الملك والعين المملوكة قائمة أعيب فإن لم يكن فيه عيب فعيبه فيه جهل .

    ( قال الشافعي ) ثم قالوا فيها أيضا إن دفع المستأجر الإجارة كلها إلى المؤجر قبل أن يسكن البيت ، أو يركب الدابة ثم أراد أن يرجع فيما دفع لم يكن ذلك له فإن كان دفع ما يجب عليه فهو ما قلنا ، وإن كان دفع ما لا يجب عليه فلم لا يرجع به فهو لم يهبه ، ولم يقطع عنه ملكه إلا بأمر يزعم أنه لا يجب عليه أن يدفعه ، ولا يحق عليه منه شيء إلا أن يسكن ، أو يركب وهم يقولون إذا انفسخت الإجارة رده ; لأنه إنما دفعه باسم الإجارة لا واهبا له فإن كان دفعه بالإجارة والإجارة لا يلزمه بها دفع فينبغي أن يرده عليه متى شاء ثم قال فيه قولا آخر أعجب من هذا قال إن تكارى دابة بمائة درهم فلم يجب من المائة شيء فأراد أن يدفعها دنانير يصرفها كان حلالا فقيل له أتعني به تحول الكراء إلى الدنانير وتنقضه من الدراهم ؟ قال لا : ولكنه يصارفه بها بسعر يومه قلنا أو يحل الصرف في شيء لم يجب ؟ قال هو واجب فلما قالوا يجب على صاحبه إذا لم يسم له أجلا دفع مكانه كما لو اشترى رجل سلعة بمائة أو ضمن عن رجل مائة ، ولم يسم أجلا كان عليه أن يدفع المائة مكانه ، وهذا قولنا وقولك في الواجب كله إذا لم يسم له أجلا فكيف قلت في المستأجر الإجارة واجبة عليه وليس عليه أن يدفعها وله أن يصارف بها والإجارة إلى غير أجل .

    ( قال الشافعي ) فإن قال : هي إلى أجل معلوم وذلك أنه إذا استأجر عبدا سنة فكل يوم من السنة أجل معلوم ولكل يوم من السنة أجرة معلومة والمائة الدرهم التي استأجر بها العبد السنة لازمة على هذا الحساب قيل له فما تقول فيه إن مرض أحد عشر شهرا من السنة ، أو شهرا من أولها ، أو وسطها فلم يقدر على الخدمة ؟ أليس إن قلت ينتظر ، فإذا صح استخدمه فيما يستقبل ؟ ، فقد زعمت أن حصة الأحد عشر شهرا ، أو الشهر قد كانت في وقت لازم ثم استأجر عنه ، أو كان واجبا ثم بطل فإن جعلت له أن يستخدمه أحد عشر شهر ، أو شهرا من سنة أخرى ، فقد جعلت أجلا بعد أجل ونقلت عمل سنة في سنة أخرى ، وإن قلت واجبة إن كانت فهذا الفساد الذي لا شكل ; لأن الإجارة تمليك منفعة من عين معروف والمنفعة معروفة بتمليك دراهم مسماة ، فإذا كان التمليك مغيبا لا يدري أيكون أم لا يكون ; لأنه قد يموت العبد [ ص: 31 ] ويأبق ويمرض فكيف يجوز أن تملك منفعة مغيبة بدراهم معينة مسماة ؟ هذا تمليك الدين بالدين والمسلمون ينهون عن بيع الدين بالدين والتمليك بيع ، فإن قلت : يملك المنفعة إن كانت فهذا أفسد من قبل أن هذا مخاطرة ويلزم أن تفسد الإجارة كما أفسدها من عاب قوله قال : فقد يلزمك في هذا شبيه بما يلزمني فليس يلزمني إذا زعمت أن الإجارة تجب بالقبض وأن المنفعة معلومة وأنه لا قبض لها إلا بقبض الذي فيه المنفعة ، فإذا قبضت كان ذلك قبضا للمنفعة إن سلمت المنفعة .

    وقد أجاز المسلمون هذا كله كما أجازوا البيوع على اختلافها وكما يحل بيع الطعام بضربين : أحدهما بصفة والآخر عين ، فلو اشتريت من طعام عين مائة قفيز كان صحيحا فإن أخذت في اكتياله واستهلكت ما اكتلت منه وهلك بعض المائة القفيز وجب على ما استهلكت بحصته من الثمن وبطل عني ثمن ما هلك ، فإن قال : فالخدمة ليست ثمنا فهي معلومة من عين لا يوصل إلى أخذها لتستوفى إلا بأخذ العين فأخذ العين بكمالها التي هي أكثر من المنفعة يوجب الثمن على شرط سلامة المنفعة لا تعدو الإجارة أن تكون واجبة فعليه دفعها ، أو تكون غير واجبة والصرف عندنا ، وعندك فيها ربا .

    ( قال الشافعي ) : فإذا قيل له : فإن كانت أثمان الإجارات غير واجبة فلا يحل له أن يأخذ بشيء لم يكن ، ولا يدري أيكون أم لا يكون ثم يأخذ من جهة الصرف فيفسد من أنه غير واجب ; لأن الصرف فيما لم يجب ربا قال : نعم ، ولكن الإجارة واجبة وثمنها واجب فلا يكون ربا ، فإذا قيل له ، وإذا كان واجبا فليدفعه قال ليس بواجب ، وهم يروون عن عمر ، أو ابن عمر أنه تكارى من رجل بالمدينة ثم صارفه قبل أن يركب فإن كان ثابتا عن عمر فهو موافق قولنا وحجة لنا عليهم
    قال : وإذا تكارى الرجل الدار من الرجل فالكراء لازم له لا ينفسخ بموت المكتري ولا المكرى ، ولا بحال أبدا ما دامت الدار قائمة ، فإذا دفع الدار إلى المكتري كان الكراء لازما للمكتري كله إلا أن يشترط عند عقدة الكراء أنه إلى أجل معلوم فيكون إليه كالبيوع وقال بعض الناس تفسخ الإجارات بموت أيهما مات ويفسخها بالعذر ثم ذكر أشياء يفسخها بها قد يكون مثلها ، ولا يفسخها به ( قال الشافعي ) فقيل لبعض من يقول هذا القول أقلت هذا بخبر ؟ قال : روينا عن شريح أنه قال : إذا ألقى المفتاح برئ فقيل : له أكذا نقول بقول شريح فشريح لا يرى الإجارة لازمة ويرى أن لكل واحد منهما فسخها بلا موت ، ولا عذر قال : هكذا قال : شريح ولسنا نأخذ بقوله قيل فلم تحتج بما تخالف فيه وتزعم أنه ليس بحجة ؟ قال : فما عندنا فيه خبر ، ولكنه يقبح أن يتكارى رجل منزلا يسكنه فيموت وولده لا يحتاجون إليه فيقال إن شئتم فاسكنوه وهم أيتام ويقبح أن يموت المؤجر فيتحول ملك الدار لغيره فتكون الدار لولده والميت لا يملك شيئا ويسكنها المستأجر بأمر الميت والميت لا أمر له حين مات فقيل له : أو يملكها الوارث إلا بملك الميت ؟ قال : لا قيل : أفيزيد الوارث أبدا على أن يقوم إلا مقام الميت فيها ؟ قال : لا قلنا فالميت قبل موته كان يقدر أن يفسخ هذه الإجارة عن داره ساعة واحدة قبل انقضاء مدتها عندك من غير عذر ؟ قال : لا ، قيل : أفيكون الوارث الذي إنما ملك عن الميت الكل ، أو البعض أحسن حالا من المالك ؟ .

    قال : فهل رأيت ملكا ينتقل ويملك على من انتقل إليه فيه شيء ؟ قلنا الذي وصفنا لك من أنه إنما ملك ما كان الميت يملك كاف لك منه ونحن نوجدك ملكا ينتقل ويملك على من انتقل إليه فيه شيء قال : وأين ؟ قلنا : أرأيت رجلا رهن رجلا دارا تسوى ألفا بمائة ثم مات الراهن أينفسخ الرهن ؟ قال : لا . قلنا ولم ، وقد انتقل ملك الدار فصار للوارث ؟ قال : إنما يملكها الوارث كما كان يملكها الميت والميت قد أوجب فيها حقا لم يكن له فسخه إلا بإيفاء الغريم حقه فالوارث أولى أن لا يفسخه ، قلنا فلا نسمعك تقبل مثل هذا ممن يحتج به عليك في الإجارة وتحتج به في الرهن ، ولا بد من أن تكون تاركا للحق في رده في [ ص: 32 ] الإجارة ، أو في إنفاذه في الرهن ; لأن حالهما واحد قد أوجب الميت في كليهما حقا عندنا ، وعندك فلا نفسخه بوجه حتى يستوفيه من أوجبه له عندنا بحال ، وعندك إلا من عذر ثم تفسخه بعد الموت في الإجارة مما لا يكون عذرا في حياة المؤاجر والعذر أيضا شيء ما وضعته أنت لا أثرا ، ولا معقولا وأنت لا تفسخه بعذر ، ولا غير عذر في الرهن وما بينهما في هذا فرق كلاهما أوجب له فيه مالكه حقا جائزا عندنا ، وعندك فإما أن يثبتا معا بكل حال وإما أن يزول أحدهما بشيء فيزول الآخر ، أرأيت لو قال لك قائل : وضعت العذر تفسخ به الإجارة وأنا أبطله في الإجارة وأضعه في الرهن فأفسخ به الرهن أتكون الحجة عليه ؟ إلا أن يقال : ما ثبت فيه حق لمسلم وكان الحق حلالا لم يفسخه عذر ، وقد تقدمه الحق الواجب عند المسلمين .

    ( قال الشافعي ) مع كثير من مثل هذا يقولونه من ذلك الرجل يوصي للرجل برقبة داره ولآخر أن ينزلها في كل سنة عشرة أيام ثم يموت الموصى له برقبة الدار فيملك وارثه الدار فإن أراد منع الموصى له بالنزول قيل : ليس ذلك لك أنت للدار مالك ، ولهذا شرط في النزول ، ولا تملك عن أبيك إلا ما كان يملك ، ولا يكون لك فيها أكثر مما كان له ( قال الشافعي ) فأما قوله إن مات المستأجر فلا حاجة بالورثة إلى المسكن ، فلو قاله غيره أشبه أن يقول له لست تعرف ما تقول
    ( قال الشافعي ) أرأيت لو أن رجلا كان يريد التجارة فاشترى دابة بألف ، وهو لا يملك إلا ألفا فلما استوجبها مات وله ورثة أطفال والراحلة تسوى ألفا ، أو مائة فقال عنهم وصي أو كان فيهم مدرك محتاج كان أبو هؤلاء يعني بالرواحل لتكسبه فيها وهؤلاء لا يكتسبون ، أو يعني بها لضرب من الخسارة ، وقد أصبح هؤلاء أيتاما وناقة الرجل في يده لم تخرج بعد من يده فأفسخ البيع ورد الدراهم لحاجة الأيتام ، ولا تنزعها من أيديهم إن لم يكن أبوهم دفعها ، أو كان هذا في حمام اشتراه أو ما أشبهه مما لا منفعة فيه أو مما فيه المنفعة اليسيرة ، قال : لا أفسخ شيئا من هذا وأمضي عليهم ما فعل أبوهم في ماله ; لأنه فعله وهو يملك فأملكهم عنه ما كان هو يملك في حياته ، ولا يكونون أحسن حالا من أبيهم فيما ملكوه عنه
    ( قال الشافعي ) قيل : وكذلك الكراء يتكاراه ، وهو حلال جائز له ، فقد ملكوا ما ملك أبوهم من منفعة المسكن فإن شاءوا سكنوا فإن شاءوا أكروا . قال : وزعم أن رجلا لو تكارى من الرجل ألف بعير على أن يسير من بغداد ثمان عشرة إلى مكة فخلف الجمال إبله وعلفها بأثمانها ، أو أقل ، أو أكثر وخرج الحاج فلم يبق إلا هو وترك الجمال الكراء من غيره للشرط حتى فاته الحج كان له ذلك ، ولم يغرم شيئا ، فإن قال لك الجمال : قد غررتني ومنعتني الكراء من غيرك وكلفتني مؤنة أتت على أثمان إبلي وصدقه المكتري فلا يقضى له عليه بشيء ويجلس بلا مؤنة عليه ; لأنه لم يأخذ منه شيئا ، وإن كان قد غره ، وقال قائل هذا القول فإن أراد الجمال أن يجلس وقال : بدا لي أن أدع الحج وأنصرف إلى غيره فليس ذلك له ، فإذا قيل له ولم لا يكون ذلك له ؟ قال : من قبل أنه غره فمنعه أن يكتري من غيره وعقد له عقدة حلالا فليس له أن يفسخها .

    ( قال الشافعي ) فلم لا يكون للجمال على المتكاري أن يجلس ، وقد عقد له كما قال عقدة حلالا وغره كما كان للمتكاري أن يجلس وحالهما وحجتهما واحدة لو كان يكون لأحدهما في العقدة ما ليس للآخر انبغى أن يكون الكراء للمتكاري ألزم بكل وجه من قبل أن المؤنة على الجمال في العلف وحبس الإبل وضمانها ومن قبل أن لا مؤنة على المكتري فعمد إلى حقهما لو تفرق الحكم فيهما أن يلزمه فأبطل عنه وأحقهما أن يبطل عنه فألزمه ؟ قال : ولا فرق بينهما من قبل أن العقدة حلال لا تنفسخ إلا باجتماعهما على فسخها .

    ( قال الشافعي ) وسئل هل وجد عقدة حلالا لا شرط فيها ، ولا عيب يكون لأحد المتعاقدين فيها ما ليس ليس للآخر فلا أعلمه ذكرها ؟ فقيل وما بال هذه العقدة من بين العقد لا خبر ، ولا قياس ؟
    ( قال [ ص: 33 ] الشافعي ) : وإذا اختلف المكارى والمكتري في قولنا وقولهم تحالفا وترادا ، قيل لهم في هذا كيف تحكمون بحكم البيوع ؟ قال : هو تمليك ، وإنما البيوع تمليك فقيل لهم فاحكموا له بحكم البيوع فيما أثبتم فيه حكم البيوع فيقولون ليس ببيع وهم لا يقبلون هذا من أحد ، فإذا قيل لبعضهم أنتم لا تصيرون في هذه الأقاويل إلى خبر يكون حجة زعمتم ، ولا قياس ، ولا معقول فكيف قلتموه ؟ قالوا قال أصحابنا وقال لنا بعضهم ما في الإجارة إلا ما قلتم من أن نحكم لها بحكم البيوع ما كانت السلامة للمنفعة قائمة ، أو تبطل ، ولا تجوز بحال فقيل له فتصير إلى أحد القولين فلا أعلمه صار إليه
    ( قال ) وإن تكارى رجل من رجل دابة من مكة إلى مر فتعدى بها إلى عسفان فإن سلمت الدابة كان عليه كراؤها إلى مر وكراء مثلها إلى عسفان فإن عطبت الدابة فله الكراء إلى مر وقيمة الدابة في أكثر ما كانت ثمنا من حين تعدى بها من الساعة التي تعدى بها فيها كان ، أو بعدها ، ولا يكون عليه قيمتها قبل التعدي إنما يكون عليه حين صار ضامنا في حال التعدي .

    وقال بعضهم لصاحب الدابة : إن شاء الكراء بحساب ، وإن شاء يضمنه قيمة الدابة وإن سلمت ، وليس نقول بهذا ، قولنا هو الأول لا يضمنها حتى تعطب
    ( قال الشافعي ) ومن أعطى مالا رجلا قراضا ونهاه عن سلعة يشتريها بعينها فاشتراها فصاحب المال بالخيار ، إن أحب أن تكون السلعة قراضا على شرطها ، وإن شاء ضمن المقارض رأس ماله . قال الربيع وله قول آخر أنه إذا أمره أن يشتري سلعة بعينها فتعدى فاشترى غيرها فإن كان عقد الشراء بالعين بعينها فالشراء باطل ، وإن كان الشراء بغير العين فالشراء قد تم ولزم المشتري الثمن والربح له والنقصان عليه ، وهو ضامن للمال ; لأنه لما اشترى بغير عين المال صار المال في ذمة المشتري وصار له الربح والخسارة عليه ، وهو ضامن المال لصاحب المال
    ( قال الشافعي ) فإن أعطى رجل رجلا شيئا ليشتري له شيئا بعينه فاشترى له ذلك الشيء وغيره بما أعطاه ، أو أمره أن يشتري له شاة فاشترى شاتين ، أو عبدا فاشترى عبدين ففيها قولان : أحدهما أن صاحب المال بالخيار في أخذ ما أمر به وما ازداد له بغير أمره ، أو أخذ ما أمره به بحصته من الثمن والرجوع على المشتري بما يبقى من الثمن وتكون الزيادة التي اشترى للمشتري ، وكذلك إن اشترى بذلك الشيء وباع والخيار في ذلك إلى رب المال ; لأنه بماله ملك ذلك كله وبماله باع ، وفي ماله كان الفضل ، والقول الآخر أنه قد رضي أن يشتري له شيئا بدينار فاشتراه وازداد معه شيئا فهو له فإن شاء أمسكه ، وإن شاء وهبه ; لأن من رضي شيئا بدينار فلم يتعد من زاده معه غيره ; لأنه قد جاء بالذي رضي وزاده شيئا لا مؤنة عليه في ماله ، وهو معنى قول الشافعي . وقال بعض الناس في الدابة يسقط الكراء حيث تعدى ; لأنه ضامن ، وقال في المقارض إذا تعدى ضمن وكان له الفضل بالضمان ، ولا أدري أقال : يتصدق به أم لا ؟

    ( قال الشافعي ) وقال في الذي اشترى ما أمره به وغيره معه للآمر ما أمره به بحصته من الثمن وللمأمور ما بقي ، ولا يكون للآمر بحال ; لأنه اشترى بغير أمره

    ( قال الشافعي ) فجعل هذا القول بابا من العلم ثبته أصلا قاس عليه في الإجارات والبيوع والمقارضة شيئا أحسبه لو جمع كان دفاتر ( قال الشافعي ) فقيل لبعض من قال هذا القول : قد زعمنا وزعمتم أن الأصل من العلم لا يكون أبدا إلا من كتاب الله تعالى ، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، أو أمر أجمعت عليه عوام الفقهاء في الأمصار فهل قولكم هذا واحد من هذا ؟ قال : لا قيل : فإلى أي شيء ذهبتم فيه ؟ قال : قال شريح في بعضه قلنا قد رددنا نحن وأنتم هذا الكلام وأكثرنا أتزعمون أن شريحا حجة على أحد إن لم يقله إلا شريح ؟ قال : لا ، وقد نخالف شريحا في كثير من أحكامه بآرائنا : قلنا ، فإذا لم يكن شريح عندكم حجة على الانفراد فيكون حجة على خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 34 ] أو على أحد من أصحابه ؟ قال : لا وقال : ما دلكم على أن الكراء والربح والضمان قد يجتمع ؟ فقلنا لو لم يكن فيه خبر كان معقولا وقلنا دلنا عليه الخبر الثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عمر والخبر عندكم الذي تثبتونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ( قال الشافعي ) : ولو كان ما قالوا من أن من ضمنت له دابته ، أو بيته ، أو شيء من ملكه لم يكن له إجارة ، أو ماله لم يكن له من ربحه شيء كانوا قد أكثروا خلافه .

    ( قال الشافعي ) وهم يزعمون أن رجلا لو تكارى من رجل بيتا لم يكن له أن يعمل فيه رحى ، ولا قصارة ، ولا عمل الحدادين ; لأن هذا مضر بالبناء فإن عمل هذا فانهدم البيت فهو ضامن لقيمة البيت ، وإن سلم البيت فله أجره ، ويزعمون أن من تكارى قميصا فليس له أن يأتزر به ; لأن القميص لا يلبس هكذا فإن فعل فتخرق ضمن قيمة القميص ، وإن سلم كان له أجره ويزعمون أنه لو تكارى قبة لينصبها فنصبها في شمس ، أو مطر ، فقد تعدى لإضرار ذلك بها فإن عطبت ضمن ، وإن سلمت فعليه أجرها مع أشياء من هذا الضرب يكتفى بأقلها حتى يستدل على أنهم قد تركوا ما قالوا ودخلوا فيما عابوا مما مضت به الآثار ومما فيه صلاح الناس .

    ( قال الشافعي ) : وأما ما قالوا : الحيلة يسيرة لمن لا يخاف الله أن يعطى مالا قراضا فيغيب به ويتعدى فيه فيأخذ فضله ويمنعه رب المال ويتكارى دابة ميلا فيسير عليها أشهرا بلا كراء ، ولا مؤنة إن سلمت قال قائل منهم : إنا لنعلم أن قد تركنا قولنا حيث ألزمنا الضمان والكراء ، ولكنا استحسنا قولنا ، قلنا : إن كان قولك عندك حقا فلا ينبغي أن تدعه ، وإن كان غير حق فلا ينبغي أن تقيم على شيء منه فما الأحاديث التي عليها اعتمدتم ؟ قلنا لهم : أما أحاديثكم ، فإن سفيان بن عيينة أخبرنا عن شبيب بن غرقدة أنه سمع الحي يحدثون عن عروة بن أبي الجعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة ، أو أضحية فاشترى له شاتين فباع إحداهما بدينار وأتاه بشاة ودينار فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعه بالبركة فكان لو اشترى ترابا لربح فيه } .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #149
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله




    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (149)
    صــــــــــ 35 الى صـــــــــــ42



    ( قال الشافعي ) وروى هذا الحديث غير سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة فوصله ويرويه عن عروة بن أبي الجعد بمثل هذه القصة أو معناها .

    ( قال الشافعي ) فمن قال له جميع ما اشترى له بأنه بماله اشترى فهو ازدياد مملوك له قال : إنما كان ما فعل عروة من ذلك ازديادا ونظرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظره وازدياده واختار أن لا يضمنه وأن يملك ما ملك عروة بماله ودعا له في بيعه ورأى عروة بذلك محسنا غير عاص ، ولو كان معصية نهاه ، ولم يقبلها ، ولم يملكها في الوجهين معا
    ( قال الشافعي ) ومن رضي أن يملك شاة بدينار فملك بالدينار شاتين كان به أرضى ، وإن معنى ما تضمنه إن أراد مالك المال بأنه إنما أراد ملك واحدة وملكه المشتري الثانية بلا أمره ، ولكنه إن شاء ملكها على المشتري ، ولم يضمنه . ومن قال : هما له جميعا بلا خيار قال : إذا جاز عليه أن يشتري شاة بدينار فأخذ شاتين ، فقد أخذ واحدة تجوز بجميع الدينار فأوفاه وازداد له بديناره شاة لا مؤنة عليه في ماله في ملكها ، وهذا أشبه القولين بظاهر الحديث والله تعالى أعلم .

    ( قال الشافعي ) والذي يخالفنا يقول في مثل هذه المسألة هو مالك لشاة بنصف دينار والشاة الأخرى وثمن إن كان لها للمشتري لا يكون للآمر أن يملكها أبدا بالملك الأول والمشتري ضامن لنصف دينار .

    ( أخبرنا ) مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل لعمر فرحب بهما وسهل ، وهو أمير البصرة ، وقال : لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت . ثم قال : بلى ها هنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح [ ص: 35 ] فقالا : وددنا ففعل وكتب لهما إلى عمر أن يأخذ منهما المال فلما قدما المدينة باعا فربحا فلما دفعا إلى عمر قال لهما أكل الجيش أسلفه كما أسلفكما ؟ فقالا لا : فقال عمر : قال أنا أمير المؤمنين فأسلفكما فأديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت ، وأما عبيد الله فقال : ما ينبغي لك هذا يا أمير المؤمنين لو هلك المال ، أو نقص لضمناه فقال أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح ذلك المال .

    ( قال الشافعي ) ألا ترى إلى عمر يقول " أكل الجيش أسلفه كما أسلفكما ؟ " كأنه والله أعلم يرى أن المال لا يحمل إليه مع رجل يسلفه فيبتاع ويبيع إلا وفي ذلك حبس للمال بلا منفعة للمسلمين وكان عمر والله تعالى أعلم يرى أن المال يبعث به ، أو يرسل به مع ثقة يسرع به المسير ويدفعه عند مقدمه لا حبس فيه ، ولا منفعة للرسول ، أو يدفع بالمصر الذي يجتاز إليه إلى ثقة يضمنه ويكتب كتابا بأن يدفع في المصر الذي فيه الخليفة بلا حبس ، أو يدفع قراضا فيكون فيه الحبس بلا ضرر على المسلمين ويكون فضل إن كان فيه حبس إن كان له فلما لم يكن المال المدفوع إلى عبد الله وعبيد الله بواحد من هذه الوجوه ، ولم يكن ملكا للوالي الذي دفعه إليهما فيجيز أمره فيما يملك إليه فيما يرى أن الربح والمال للمسلمين فقال عمر " أدياه وربحه " فلما راجعه عبيد الله وأشار عليه بعض جلسائه وبعض جلسائه عندنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله قراضا رأى أن يفعل وكأنه والله تعالى أعلم رأى أن الوالي القائم به الحاكم فيه حتى يصير إلى عمر ورأى أن له أن ينفذ ما صنع الوالي مما يوافق الحكم فلما كان لو دفعه الوالي قراضا كان على عمر أن ينفذ الحبس له والعوض بالمنفعة للمسلمين في فضله رد ما صنع الوالي إلى ما يجوز مما لو صنعه لم يرده عليه ، ورد منه فضل الربح الذي لم ير له أن يعطيهما وأنفذ لهما نصف الربح الذي كان له أن يعطيهما .

    ( قال الشافعي ) قد كانا ضامنين للمال وعلى الضمان أخذاه لو هلك ضمناه ، ألا ترى أن عمر لم يرد على عبيد الله قوله لو هلك أو نقص كنا له ضامنين ، ولم يرده أحد ممن حضره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل عمر ، ولا أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكما الربح بالضمان ، بل جمع عليهما الضمان وأخذ منهما بعض الربح ، فقال قائل : فلعل عمر استطاب أنفسهما ، قلنا : أوما في الحديث دلالة على أنه إنما حكم عليهما ، ألا ترى أن عبيد الله راجعه قال : فلم أخذ نصف الربح ، ولم يأخذه كله ؟ قلنا : حكم فيه بأن أجاز منه ما كان يجوز على الابتداء ; لأن الوالي لو دفعه إليهما على المقارضة جاز ، فلما رأى ومن حضره أن أخذهما المال غير تعد منهما وأنهما أخذاه من وال له فكانا يريان والوالي أن ما صنع جائز فلم يزعم ومن حضره ما صنع يجوز إلا بمعنى القراض أنفذ فيه القراض ; لأنه كان نافذا لو فعله الوالي ، أو لا ورد فيه الفضل الذي جعله لهما على القراض ، ولم يره ينفذ لهما بلا منفعة للمسلمين فيه .

    ( أخبرنا ) عبد الوهاب عن داود بن أبي هند عن رياح بن عبيدة قال : بعث رجل مع رجل من أهل البصرة بعشرة دنانير إلى رجل بالمدينة فابتاع بها المبعوث معه بعيرا ثم باعه بأحد عشر دينارا فسأل عبد الله بن عمر فقال : الأحد عشر لصاحب المال ، ولو حدث بالبعير حدث كنت له ضامنا .

    ( أخبرنا ) الثقة من أصحابنا عن عبد الله بن عمر مثل معناه ( قال : الشافعي ) وابن عمر يرى على المشتري بالبضاعة لغيره الضمان ويرى الربح لصاحب البضاعة ، ولا يجعل الربح لمن ضمن إذا المبضع معه تعدى في مال رجل بعينه والذي يخالفنا في هذا يجعل له الربح ، ولا أدري أيأمره أن يتصدق به أم لا ؟ وليس معه خبر إلا توهم عن شريح وهم يزعمون أن الأقاويل التي تلزم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن رجل من أصحابه ، أو اجتمع الناس عليه فلم يختلفوا وقولهم هذا ليس داخلا في [ ص: 36 ] واحد من هذه الأشياء التي تلزم عندنا ، وعندهم .
    كراء الإبل والدواب

    ( قال : الشافعي ) رحمه الله تعالى : كراء الإبل جائز للمحامل والزوامل والرواحل وغير ذلك من الحمولة ، وكذلك كراء الدواب للسروج والأكف والحمولة ( قال : الشافعي ) : ولا يجوز من ذلك شيء على شيء مغيب لا تجوز حتى يرى الراكب والراكبين وظرف المحمل والوطاء وكيف الظل إن شرطه ; لأن ذلك يختلف فيتباين ، أو تكون الحمولة بوزن معلوم أو كيل معلوم ، أو ظروف ترى ، أو تكون إذا شرطت عرفت مثل غرائر الحلبة وما أشبه هذا ( قال : الشافعي ) فإن قال : أتكارى منك محملا ، أو مركبا ، أو زاملة فهو مفسوخ ، ألا ترى أنهما إذا اختلفا لم يوقف على حد هذا ، وإن شرط وزنا ؟ وقال : المعاليق أو أراه محملا وقال : ما يصلحه فالقياس في هذا كله أنه فاسد ; لأن ذلك غير موقوف على حده ، وإن شرط وزنا وقال : المعاليق أو أراه محملا فكذلك ومن الناس من قال : أجيزه بقدر ما يراه الناس وسطا .

    ( قال الشافعي ) فعقدة الكراء لا تجوز إلا بأمر معلوم كما لا تجوز البيوع إلا معلومة
    ( قال الشافعي ) : وإذا تكارى رجل محملا من المدينة إلى مكة فشرط سيرا معلوما فهو أصح ، وإن لم يشترط فالذي أحفظ أن المسير معلوم وأنه المراحل فيلزمان المراحل ; لأنها الأغلب من سير الناس ، فإن قال قائل : كيف لا يفسد في هذا الكراء والسير يختلف ؟ قيل ليس للإفساد ها هنا موضع فإن قال : فبأي شيء قسته ؟ قيل : بنقد البلد ، البلد له نقد وصنج وغلة مختلفة فيبيع الرجل بالدراهم ، ولا يشترط نقدا بعينه ، ولا يفسد البيع ويكون له الأغلب من نقد البلد ، وكذلك يلزمهما الغالب من مسير الناس .

    ( قال الشافعي ) فإن أراد المكتري مجاوزة المراحل أو الجمال التقصير عنها أو مجاوزتها فليس ذلك لواحد منهما إلا برضاهما فإن كان بعدد أيام فأراد الجمال أن يقيم ثم يطوي بقدر ما أقام أو أراد المكتري فليس لواحد منهما وذلك أنه يدخل على المكتري التعب والتقصير ، وكذلك يدخل على الجمال .

    ( قال الشافعي ) فإن تكارى منه لعبده عقلة فأراد أن يركب الليل دون النهار بالأميال ، أو النهار دون الليل ، أو أراد ذلك به الجمال فليس ذلك لواحد منهما ويركب على ما يعرف الناس العقبة ثم ينزل فيمشي بقدر ما يركب ثم يركب بقدر ما مشى ، ولا يتابع المشي فيفدحه ، ولا الركوب فيضر بالبعير ، قال : وإن تكارى إبلا بأعيانها ركبها ، وإن تكارى حمولة ، ولم يذكر بأعيانها ركب ما يحمله فإن حمله على بعير غليظ فإن كان ذلك ضررا متفاحشا أمر أن يبدله ، وإن كان شبيها بما يركب الناس لم يجبر على إبداله
    ( قال الشافعي ) وإن كان البعير يسقط ، أو يعثر فيخاف منه العنت على راكبه أمر بإبداله .

    ( قال الشافعي ) وعليه أن يركب المرأة البعير باركا وتنزل عنه باركا ; لأن ذلك ركوب النساء أما الرجال فيركبون على الأغلب من ركوب الناس وعليه أن ينزله للصلوات وينتظر حتى يصليها غير معجل له ولما لا بد له منه كالوضوء وليس عليه أن ينتظره لغير ما لا بد له منه ، قال : وليس للجمال إذا كانت القرى هي المنازل أن يتعداها إن أراد الكلأ ، ولا للمكتري إذا أراد عزلة الناس ، وكذلك إن اختلفا في الساعة التي يسيران فيها ، فإن أراد الجمال ، أو المكتري ذلك في حر شديد نظر إلى مسير الناس بقدر المرحلة التي يريدان
    ( قال الشافعي ) ولا خير في أن يتكارى بعيرا بعينه إلى أجل معلوم ، ولا يجوز أن يتكارى إلا عند خروجه ; لأن المكارى ينتفع بما أخذ من المكتري ، ولا يلزم الجمال الضمان للحمولة إن مات البعير بعينه لا يجوز أن يشتري شيئا غائبا بعينه إلى أجل ، وإنما يجوز الكراء على مضمون بغير عينه [ ص: 37 ] مثل السلم ، أو على شيء يقبض المكتري فيه ما اكترى عند اكترائه كما يقبض المبيع
    ( قال الشافعي ) فإن تكارى إبلا بأعيانها فركبها ثم ماتت رد الجمال مما أخذ منه بحساب ما بقي ، ولم يضمن له الحمولة وذلك بمنزلة المنزل يكتريه والعبد يستأجره ، وإنما تلزمه الحمولة إذا شرطها عليه غير إبل بأعيانها كانت لازمة للجمال بكل حال والكراء لازم للمكتري والكراء بكل حال لا يفسخ أبدا بموتهما ، ولا بموت واحد منهما ، هو في مال الجمال إن مات ومال المكتري إن مات وتحمل ورثة الميت حمولته ، أو وزنها وراكبا مثله وورثة الجمال إن شاءوا قاموا بالكراء وإلا باع السلطان في ماله واستأجر عليه من يوفي المكتري ما شرط له من الحمولة
    ( قال الشافعي ) : وإن اختلفا في الرحلة رحل لا مكبوبا ، ولا مستلقيا ، وإن انكسر المحل ، أو الظل أبدل محملا مثله ، أو ظلا مثله ، وإن اختلفا في الزاد الذي ينفد بعضه فقال صاحب الزاد أبدله بوزنه فالقياس أن يبدل له حتى يستوفي الوزن ، قال : ولو قال قائل : ليس له أن يبدل من قبل أنه معروف أن الزاد ينقص قليلا ، ولا يبدل مكانه كان مذهبا - والله أعلم - من مذاهب الناس
    ( قال الشافعي ) والدواب في هذا مثل الإبل إذا اختلفا في المسير سار كما يسير الناس إن لم يكن بينهما شرط لا متعبا ، ولا مقصرا كما يسير الأكثر من الناس ويعرف خلاف الضرر بالمكتري للدابة والمكرى فإن كانت صعبة نظرا فإن كانت صعوبتها مشابهة صعوبة عوام الدواب ، أو تقاربها لزمت المكتري ، وإن كان ذلك منها مخوفا فإن تكاراها بعينها ، ولم يعلم تناقضا الكراء إن شاء المكتري ، وإن تكارى مركبا فعلى المكري الدابة له غيرها مما لا يباين دواب الناس
    ( قال الشافعي ) وعلف الدواب والإبل على الجمال أو مالك الدواب فإن تغيب واحد منهما فعلف المكتري فهو متطوع إلا أن يرفع ذلك إلى السلطان ، وينبغي للسلطان أن يوكل رجلا من أهل الرفقة بأن يعلف ويحسب ذلك على رب الدابة والإبل ، وإن ضاق ذلك فلم يوجد أحد غير الراكب فإن قال قائل : يأمر الراكب أن يعلف ; لأن من حقه الركوب والركوب لا يصلح إلا بعلف ويحسب ذلك على صاحب الدابة ، وهذا موضع ضرورة ولا يوجد فيه إلا هذا ; لأنه لا بد من العلف وإلا تلفت الدابة ، ولم يستوف المكتري الركوب كان مذهبا .

    ( قال الشافعي ) وفي هذا أن المكتري يكون أمين نفسه وإن رب الدابة إن قال : لم يعلفها إلا بكذا وقال الأمين علفتها بكذا لأكثر فإن قبل قول رب الدابة في ماله سقط كثير من حق العالف ، وإن قيل : قول المكتري العالف كان القول قوله فيما يلزم غيره ، وإن نظر إلى علف مثلها فصدق به فيه ، فقد خرج مالك الدابة والمكتري من أن يكون القول قولهما ، وقد ترد أشباه من هذا في الفقه فيذهب بعض أصحابنا إلى أن لا قياس وأن القياس ضعيف ، وقد ذكر في غير هذا الموضع ويقولون يقضي فيما بين الناس بأقرب الأمور في العدل فيما يراه إذا لم يجد فيه متقدم من حكم يتبعه .

    ( قال الشافعي ) فيعيب هذا المذهب بعض الناس ويقول لا بد من القياس على متقدم الأحكام ثم يصير إلى أن يكثر القول بما عاب ويرد ما يشبه هذا فيما يرى رده من كره الرأي فإن جاز أن يحكم فيه بما يكون عدلا عند الناس فيما يرى الحاكم فهو مذهب أصحابنا في بعض أقاويلهم ، وإن لم يجز ، فقد يترك أهل القياس القياس فيكون والله أعلم فمن ذهب مذهب أصحابنا حمل الناس على أكثر معاملتهم وعلى الأقرب من صلاحهم وأنفذ الحكم على كل أحد من المتنازعين بقدر ما يحضره مما يسمع من قضيتهما مما يشبه الأغلب ومن ذهب مذهب القياس أعاد الأمور إلى الأصول ثم قاسها عليها وحكم لها بأحكامها ، وهذا ربما تفاحش .
    [ ص: 38 ] مسألة الرجل يكتري الدابة فيضربها فتموت

    ( أخبرنا الربيع ) قال ( قال الشافعي ) ، وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة فضربها ، أو نخسها بلجام ، أو ركضها فماتت سئل أهل العلم بالركوب فإن كان فعل من ذلك ما تفعل العامة فلا يكون فيه عندهم خوف تلف أو فعل بالكبح والضرب مثل ما يفعله بمثلها عندما فعله فلا أعد ذلك خرقة ، ولا شيء عليه ، وإن كان فعل ذلك عند الحاجة إليه بموضع قد يكون بمثله تلف ، أو فعله في الموضع الذي لا يفعل في مثله ثمن في كل حال من قبل أن هذا تعد والمستعير هكذا إن كان صاحبه لا يريد أن يضمنه فإن أراد صاحبه أن يضمنه العارية فهو ضامن تعدى أو لم يتعد ، وأما الرائض فإن من شأن الرواض الذي يعرف به إصلاحهم للدواب الضرب على حملها من السير والحمل عليها من الضرب أكثر ما يفعل الركاب غيرهم ، فإذا فعل من ذلك ما يكون عند أهل العلم بالرياضة إصلاحا وتأديبا للدابة بلا إعناف بين لم يضمن إن عيت . وإن فعل خلاف هذا كان متعديا وضمن والمستعير الدابة هكذا كالمكتري في ركوبها إذا تعدى ضمن ، وإذا لم يتعد لم يضمن .

    ( قال الربيع ) قوله الذي نأخذ به في المستعير أنه يضمن تعدى أو لم يتعد لحديث النبي صلى الله عليه وسلم { العارية مضمونة مؤداة } ، وهو آخر قوله .

    ( قال الشافعي ) والراعي إذا فعل ما للرعاء أن يفعلوه مما لا صلاح للماشية إلا به وما يفعله أهل الماشية بمواشي أنفسهم على استصلاحها ومن إذا رأوا من يفعله بمواشيهم ممن يلي رعيتها كان عندهم صلاحا لا تلفا ، ولا خرقة ففعله الراعي لم يضمن ، وإن تلف فيه ، وإن فعل ما يكون عندهم خرقة فتلف منه شيء ضمنه عند من لا يضمن الأجير ومن ضمن الأجير ضمنه في كل حال .
    مسألة الأجراء

    ( أخبر الربيع ) قال : أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى قال : الأجراء كلهم سواء ، فإذا تلف في أيديهم شيء من غير جنايتهم فلا يجوز أن يقال فيه إلا واحد من قولين أحدهما أن يكون كل من أخذ إكراء على شيء كان له ضامنا يؤديه على السلامة ، أو يضمنه ، أو ما نقصه ومن قال هذا القول فينبغي أن يكون من حجته أن يقول : الأمين هو من دفعت إليه راضيا بأمانته لا معطي أجرا على شيء مما دفعت إليه وإعطائي هذا الأجر تفريق بينه وبين الأمين الذي أخذ ما استؤمن عليه بلا جعل ، أو يقول قائل : لا ضمان على أجير بحال من قبل أنه إنما يضمن من تعدى فأخذ ما ليس له ، أو أخذ الشيء على منفعة له فيه إما بتسلط على إتلافه كما يأخذ سلفا فيكون مالا من ماله فيكون إن شاء ينفقه ويرد مثله .

    وإما مستعير سلط على الانتفاع بما أعير فيضمن ; لأنه أخذ ذلك لمنفعة نفسه لا لمنفعة صاحبه فيه ، وهذان معا نقص على المسلف والمعير أو غير زيادة له والصانع والأجير من كان ليس في هذا المعنى فلا يضمن بحال إلا ما جنت يده كما يضمن المودع ما جنت يده وليس في هذا سنة أعلمها ، ولا أثر يصح عند أهل الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي فيه شيء عن عمر وعلي ليس يثبت عند [ ص: 39 ] أهل الحديث عنهما ، ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الأجراء من كانوا فيضمن أجير الرجل وحده والأجير المشترك والأجير على الحفظ والرعي وحمل المتاع والأجير على الشيء يصنعه ; لأن عمر إن كان ضمن الصناع فليس في تضمينه لهم معنى إلا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجرا على ما ضمنوا فكل من كان أخذ أجرا فهو في معناهم ، وإن كان علي رضي الله عنه ضمن القصار والصائغ فكذلك كل صانع وكل من أخذ أجرة ، وقد يقال للراعي صناعته الرعية وللحمال صناعته الحمل للناس ، ولكنه ثابت عن بعض التابعين ما قلت أولا من التضمين ، أو ترك التضمين ، ومن ضمن الأجير بكل حال فكان مع الأجير ما قلت مثل أن يستحمله الشيء على ظهره أو يستعمله الشيء في بيته ، أو غير بيته ، وهو حاضر لماله ، أو وكيل له بحفظه فتلف ماله بأي وجه ما تلف به إذا لم يجن عليه جان فلا ضمان على الصانع ، ولا على الأجير .

    وكذلك إن جنى عليه غيره فلا ضمان عليه والضمان على الجاني ، ولو غاب عنه ، أو تركه يغيب عليه كان ضامنا له من أي وجه ما تلف ، وإن كان حاضرا معه فعمل فيه عملا فتلف بذلك العمل وقال الأجير هكذا يعمل هذا فلم أتعد بالعمل وقال المستأجر ليس هكذا يعمل ، وقد تعديت وبينهما بينة ، أو لا بينة بينهما فإن كانت البينة سئل عدلان من أهل ذلك الصناعة ، فإن قالا هكذا يعمل هذا فلا يضمن ، وإن قالا هذا تعدى في عمل هذا ضمن كان التعدي ما كان قل أو كثر ، وإذا لم تكن بينة كان القول قول الصانع مع يمينه ثم لا ضمان عليه ، وإذا سمعتني أقول : القول قول أحد فلست أقوله إلا على معنى ما يعرف إذا ادعى الذي جعل القول قوله ما يمكن بحال من الحالات جعلت القول قوله ، وإذا ادعى ما لا يمكن بحال من الحالات لم أجعل القول قوله . ومن ضمن الصانع فيما يغيب عليه فجنى جان على ما في يديه فأتلفه فرب المال بالخيار في تضمين الصانع ; لأنه كان عليه أن يرده إليه على السلامة فإن ضمنه رجع به الصانع على الجاني ، أو يضمن الجاني فإن ضمنه لم يرجع به الجاني على الصانع ، وإذا ضمنه الصانع فأفلس به الصانع كان له أن يأخذ من الجاني وكان الجاني في هذا الموضع كالحميل ، وكذلك لو ضمنه الجاني فأفلس به الجاني رجع به على الصانع إلا أن يكون أبرأ كل واحد منهما عند تضمين الآخر فلا يرجع به وللصانع في كل حال ويرجع به على الجاني إذا أخذ من الصانع وليس للجاني أن يرجع به على الصانع إذا أخذ منه بحال .

    قال : وإذا تكارى الرجل من الرجل على الوزن المعلوم والكيل المعلوم والبلد المعلوم فزاد الوزن ، أو الكيل ، أو نقصا وتصادقا على أن رب المال ولي الوزن والكيل .

    قلنا : في الزيادة والنقصان لأهل العلم بالصناعة هل يزيد ما بين الوزنين وينقص ما بينهما . وبين الكيلين هكذا فيما لم تدخله آفة ؟ فإن قالوا نعم قد يزيد وينقص . قلنا في النقصان لرب المال قد يمكن عما زعم أهل العلم بلا جناية ، ولا آفة ، فلما كان النقص يكون ولا يكون ، قلنا : إن شئت أحلفنا لك الحمال ما خانك ، ولا تعدى بشيء أفسد متاعك ثم لا ضمان عليه وقلنا للحمال في الزيادة كما قلنا لرب المال في النقصان إذا كانت الزيادة قد تكون لا من حادث ، ولا زيادة ويكون النقصان وكانت ها هنا زيادة فإن لم تدعها فهي لرب المال ، ولا كراء لك فيها ، وإن ادعيتها أوفينا رب المال ماله تاما ، ولم نسلم لك الفضل إلا بأن تحلف ما هو من مال رب المال وتأخذه ، وإن كان زيادة لا يزيد مثلها أوفينا رب المال ماله وقلنا الزيادة لا يدعيها رب المال فإن كانت لك فخذها ، وإن لم تكن لك جعلناها كمال في يديك لا مدعي له وقلنا الورع أن لا تأكل ما ليس لك فإن ادعاها رب المال وصدقته كانت الزيادة له وعليه كراء مثلها ، وإن كنت أنت الكيال للطعام بأمر رب الطعام ، ولا أمين معك قلنا لرب الطعام هو يقر بأن هذه الزيادة لك . فإن ادعيتها فهي لك وعليك في المكيلة التي اكتريت عليها ما سميت من الكراء وعليك اليمين ما [ ص: 40 ] رضيت أن يحمل لك الزيادة ثم هو ضامن لأن يعطيك مثل قمحك ببلدك الذي حمل ; لأنه متعد إلا بأن ترضى أن تأخذه من موضعك فلا يحال بينك وبين عين مالك ، ولا كراء عليك بالعدوان ، وإن قلت رضيت بأن يحمل لي مكيلة بكراء معلوم وما زاد فبحسابه فالكراء في المكيلة جائز ، وفي الزيادة فاسد والطعام لك وله كراء مثله في كله فإن كان نقصان لا ينقص مثله ، فالقول فيه كالقول في المسألة الأولى . فمن رأى تضمين الحمال ضمن ما نقص عن المكيلة لا يرفع عنه شيئا ، ومن لم ير تضمينه لم يضمنه وطرح عنه من الكراء بقدر النقصان .
    اختلاف الأجير والمستأجر

    ( أخبرنا الربيع ) قال ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ، وإذا اختلف الرجلان في الكراء وتصادقا في العمل تحالفا وكان للعامل أجر مثله فيما عمل قال : وإذا اختلفا في الصنعة فقال : أمرتك أن تصبغه أصفر [ ص: 41 ] أو تخيط قميصا فخطته قباء ، وقال الصانع : عملت ما قلت لي تحالفا وكان على الصانع ما نقص الثوب ، ولا أجر له ، وإن زاد الصبغ فيه كان شريكا بما زاد الصبغ في الثوب ، وإن نقصت منه فلا ضمانة عليه ، ولا أجر له .

    ( قال الربيع ) الذي يأخذ به الشافعي في هذا أن القول قول رب الثوب وعلى الصانع ما نقص الثوب ، وإن كان نقصه شيئا ; لأنه مقر يأخذ الثوب صحيحا ومدع على أنه أمره بقطعه ، أو صبغه كما وصفت فعليه البينة بما قال فإن لم يكن بينة حلف رب الثوب ولزم الصانع ما نقصته الصنعة ، وإن كانت زادت الصنعة فيه شيئا كان الصانع شريكا بها إن كانت عينا قائمة فيه مثل الصبغ ، ولا يأخذ من الأجرة شيئا [ ص: 42 ] كانت زادت الصنعة فيه شيئا كان الصانع شريكا بها إن كانت عينا قائمة فيه مثل الصبغ ، ولا يأخذ من الأجرة شيئا فإن لم تكن عين قائمة فلا شيء له .
    إحياء الموات

    ( أخبرنا الربيع ) قال : قال محمد بن إدريس الشافعي : ولم أسمع هذا الكتاب منه ، وإنما أقرأه على معرفة أنه كان من كلامه قال : وبلاد المسلمين شيئان عامر وموات فالعامر لأهله وكل ما صلح به العامر إن كان مرفقا لأهله من طريق وفناء ومسيل ماء ، أو غيره فهو كالعامر في أن لا يملكه على أهل العامر أحد إلا بإذنهم والموات شيئان موات قد كان عامرا لأهل معروفين في الإسلام ثم ذهبت عمارته فصار مواتا لا عمارة فيه فذلك لأهله كالعامر لا يملكه أحد أبدا إلا عن أهله ، وكذلك مرافقه وطريقه وأفنيته ومسايل مائه ومشاربه .

    والموات الثاني ما لم يملكه أحد في الإسلام بعرف ، ولا عمارة ، ملك في الجاهلية ، أو لم يملك فذلك الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحيا مواتا فهو له } والموات الذي للسلطان أن يقطعه من يعمره خاصة وأن يحمي منه ما رأى أن يحميه عاما لمنافع المسلمين وسواء كل موات لا مالك له إن كان إلى جنب قرية جامعة عامرة ، وفي واد عامر بأهله وبادية عامرة بأهلها وقرب نهر عامر ، أو صحراء أو أين كان لا فرق بين ذلك ، قال وسواء من أقطعه الخليفة أو الوالي ، أو حماه هو بلا قطع من أحد مواتا لا مالك له وكل هؤلاء أحياء لا فرق بينهم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #150
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (150)
    صــــــــــ 43 الى صـــــــــــ50


    ما يكون إحياء

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإنما يكون الإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا إن كان مسكنا فأن يبنى بمثل ما يبنى به مثله من بنيان حجر ، أو لبن ، أو مدر يكون مثله بناء وهكذا ما أحيا الآدمي من منزل له أو لدواب من حظار ، أو غيره فأحياه ببناء حجر ، أو مدر ، أو بماء ; لأن هذه العمارة بمثل هذا ، ولو جمع ترابا لحظار أو خندق لم يكن هذا إحياء ، وكذلك لو بنى خياما من شعر ، أو جريد أو خشب لم يكن هذا إحياء تملك له الأرض بالإحياء ، وما كان هذا قائما لم يكن لأحد أن يزيله ، فإذا أزاله صاحبه لم يملكه وكان لغيره أن ينزله ويعمره ، وهذا كالفسطاط يضربه المسافر ، أو المنتجع لغيث وكالخباء وكالمناخ وغيره ويكون الرجل أحق به حتى يفارقه ، فإذا فارقه لم يكن فيه حق وهكذا الحظار بالشوك والخصاف وغيره ، وعمارة الغراس والزرع أن يغرس الرجل الأرض فالغراس كالبناء إذا أثبته في الأرض كان كالبناء يبنيه انقطع الغراس كان كانهدام البناء وكان مالكا للأرض ملكا لا يحول عنه إلا منه وبسببه ، وأقل عمارة الزرع الذي لا يظهر ماء لرجل عليه التي تملك بها الأرض كما يملك ما ينبت من الغراس أن يحظر على الأرض بما يحظر بمثله من حجر ، أو مدر ، أو سعف ، أو تراب مجموع ويحرثها ويزرعها ، فإذا اجتمع هذا ، فقد أحياها إحياء تكون به له وأقل ما يكفيه من هذا أن يجمع ترابا يحيط بها ، وإن لم يكن مرتفعا أكثر من أن تبين به الأرض مما حولها ويجمع مع هذا حرثها وزرعها وهكذا [ ص: 43 ] إن ظهر عليه ماء سيل ، أو غيل مشترك أو ماء مطر ; لأن الماء مشترك فإن كان له ماء خاص وذلك ماء عين ، أو نهر يحفرها يسقي بها أرضا فهذا إحياء لها وهكذا إن ساق إليها من نهر ، أو واد ، أو غيل مشترك في ماء عين له ، أو خليج خاصة فسقاها به ، فقد أحياها الإحياء الذي يملكها به
    ( قال الشافعي ) ما لا يملكه أحد من المسلمين صنفان : أحدهما يجوز أن يملكه من يحييه وذلك مثل الأرض تتخذ للزرع والغراس والآبار والعيون والمياه ومرافق هذا الذي لا يكمل صلاحه إلا به ، وهذا إنما تجلب منفعته بشيء من غيره لا كبير منفعة فيه هو نفسه ، وهذا إذا أحياه رجل بأمر وال ، أو غير أمره ملكه ، ولم يملك أبدا إلا أن يخرجه من أحياه من يده ، والصنف الثاني ما تطلب المنفعة منه نفسه ليخلص إليها لا شيء يجعل فيه من غيره وذلك المعادن كلها الظاهرة والباطنة من الذهب والتبر والكحل والكبريت والملح وغير ذلك ، وأصل المعادن صنفان ما كان ظاهرا كالملح الذي يكون في الجبال ينتابه الناس فهذا لا يصلح لأحد أن يقطعه أحدا بحال والناس فيه شرع ، وهكذا النهر والماء الظاهر فالمسلمون في هذا كلهم شركاء ، وهذا كالنبات فيما لا يملكه أحد وكالماء فيما لا يملكه أحد ، فإن قال قائل : ما الدليل على ما وصفت ؟ قيل :

    ( أخبرنا ) ابن عيينة عن معمر عن رجل من أهل مأرب عن أبيه { أن الأبيض بن حمال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعه ملح مأرب فأراد أن يقطعه ، أو قال : أقطعه إياه ، فقيل له إنه كالماء العد } ، قال : فلا إذن .

    ( قال الشافعي ) فنمنعه إقطاع مثل هذا فإنما هذا حمى ، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا حمى إلا لله ورسوله } فإن قال قائل : فكيف يكون حمى ؟ قيل : هو لا يحدث فيه شيئا تكون المنفعة فيه من عمله ، ولا يطلب فيه شيئا لا يدركه إلا بالمؤنة عليه إنما يستدرك فيه شيئا ظاهرا ظهور الماء والكلأ ، فإذا تحجر ما خلق الله من هذا ، فقد حمى لخاصة نفسه فليس ذلك له ، ولكنه شريك فيه كشركته في الماء والكلأ الذي ليس في ملك أحد ، فإن قال قائل : فإقطاع الأرض للبناء والغراس ليس حمى ، قيل : إنه إنما يقطع من الأرض ما لا يضر بالناس وما يستغني به وينتفع به هو وغيره ، قال : ولا يكون ذلك إلا بما يحدثه هو فيه من مال فتكون منفعته بما استحدث من ماله من بناء أحدثه ، أو غرس ، أو زرع لم يكن لآدمي وماء احتفره ، ولم يكن وصل إليه آدمي إلا باحتفاره ، وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم الدور والأرضين ، فدل على أن الحمى الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن يحمي الرجل الأرض لم تكن ملكا له ، ولا لغيره بلا مال ينفقه فيها ، ولا منفعة يستحدثها بها فيها لم تكن فيها فهذا معنى قطيع مأذون فيه لا حمى منهي عنه .

    ( قال الربيع ) يريد الذي هو مأذون فيه الذي استحدث فيه بالنفقة من ماله ، وأما ما كان فيه منفعة بلا نفقة على من حماه فليس له أن يحميه .

    ( قال الشافعي ) ومثل هذا كل عين ظاهرة كنفط ، أو قار ، أو كبريت ، أو مومياء أو حجارة ظاهرة كمومياء في غير ملك لأحد فليس لأحد أن يتحجرها دون غيره ، ولا لسلطانها أن يمنعها لنفسه ، ولا لخاص من الناس ; لأن هذا كله ظاهر كالماء والكلأ ، وهكذا عضاه الأرض ليس للسلطان أن يقطعها لمن يتحجرها دون غيره ; لأنها ظاهرة ، ولو أقطعه أرضا يعمرها فيها عضاه فعمرها كان ذلك له ; لأنه حينئذ يحدث فيها ما وصفت بماله مما هو أنفع مما كان فيها ، ولو تحجر رجل لنفسه من هذا شيئا ، أو منعه له سلطان كان ظالما .

    ولو أخذ في هذا الحال من هذا شيئا لم يكن عليه أن يرده إلا أنه يشرك فيه من منعه منه ، ولا أن يغرم لمن منعه شيئا بمنعه ، وذلك أنه لم يأخذ شيئا كان لأحد فيضمن له ما أخذ منه ، وإن منع الرجل مما للرجل أن يأخذه من جهة الإباحة ، لا يلزمه غرما إلا أنه لم يمنعه أن يحتطب حطبا ، أو ينزل أرضا لم يضمن له شيئا إنما يضمن ما أتلف لرجل أو أخذ مما كان ملكه لرجل ، ولو أحدث على شيء من هذا بناء قيل له حول [ ص: 44 ] بناءك ، ولا قيمة له فيما أحدث بتحويله ; لأنه أحدث فيما ليس له بغير إذن فإن كان أحدث البناء في عين لا يمنع منفعتها لم يحول بناؤه ، وقيل له لك بناؤك ، ولا تمنع أحدا من هذه المنفعة ، ولا يمنعك وأنت وهم فيها شرع ، ولو كان بقعة من الساحل ، أو الأرض يرى أنها تصلح للملح لا يوجد فيها إلا بصنعة وذلك أن يحفر ترابا من أعلاها فينحي ثم يسرب إليها ماء فيدخلها فيظهر ملحها بذلك ، أو يحفر عنها التراب فيظهر فيها من وقت من الأوقات ماء ثم يظهر فيها كان للسلطان - والله تعالى أعلم - أن يقطعها وللرجل أن يعمرها ثم تكون له كما تكون له الأرض بالزرع والبناء ، وذلك أن هذا أكثر عمارتها وأن هذا شيء لا تأتي منفعته إلا بصنعة ، وفي وقت ليس بدائم وحديث معمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الملح } فلما أخبر أنه دائم كالماء منعه ذلك ، وهذا كالأرض يقطعها فيحفر فيها البئر ; لأن المنفعة كانت محولا دونها إلا بعمله ، وقد يعمل فيها فتقل المنفعة وتكثر ويخلف ، ولا يخلف .

    ( قال الشافعي ) ثم تفرق القطائع فرقين فتكون بما وصفت مما إذا أقطعه الرجل فأحياه ملكه من الأرض بالبناء والغراس والزرع والآبار والملح وما أشبه هذا ، فإذا ملكه لم يملك أبدا إلا عنه وهكذا إذا أحياه ولم يقطعه ; لأن كل من أحيا مواتا فيقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياه وعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عطاء كل أحد بعده من سلطان وغيره ، ثم يكون شيء يقطعه المرء فيكون له الانتفاع به ومنعه من غيره ما أقام فيه أو وكيل له ، فإذا فارقه لم يكن ملكا له ، ولا يكون له أن يبيعه ، وذلك أنه إقطاع إرفاق لا تمليك وذلك مثل المقاعد بالأسواق التي هي طرق المسلمين كافة . فمن قعد في موضع منها لبيع كان أحق به بقدر ما يصلح له ومتى قام عنه لم يكن له أن يمنعه من غيره ، قال : وهكذا القوم من العرب يحلون الموضع من الأرض في أبنيتهم من الشعر وغيره ، ثم ينتجعون عنه لا تكون هذه عمارة يملكون بها حيث نزلوا ، وكذلك لو بنوا خياما ; لأن الخيام تجف وتحول تحويل أبنية الشعر والفساطيط ، وهذا والمقاعد بالسوق ليس بإحياء موات ، وفي إقطاع المعادن قولان أحدهما أنه مخالف لإقطاع الأرض ; لأن من أقطع أرضا فيها معادن ، أو عملها ليست لأحد فسواء في ذلك كله وسواء كانت المعادن ذهبا ، أو فضة أو نحاسا ، أو حديدا ، أو شيئا في معنى الذهب والفضة مما لا يخلص إلا بمؤنة ، ولم يكن ملكا لأحد فللسلطان أن يقطعها من استقطعه إياها ممن يقوم به وكانت هذه كالموات في أن له أن يقطعه إياها ومخالفة للموات في أحد القولين ، وإن الموات إذا أحييت مرة ثبت إحياؤها وهذه إذا أحييت مرة ثم تركت دثر إحياؤها وكانت في كل يوم مبتدأ الإحياء يطلبون فيها مما يطلب في المعادن فإقطاعه الموات ليحييه يثبته له ملكا ، ولا ينبغي أن يقطعه المعادن إلا على أن يكون له منفعتها ما أحياها وإحياؤها إدامة العمل فيها ، فإذا عطلها فليس له منعها من أحد عمل فيها ، ولا ينبغي أن يقطعه منها ما لا يعمل ، ولا وقت في قدر ما يقطعه منها إلا ما احتمل عمله قل منها ما عمل ، أو كثر والتعطيل للمعادن أن يقول قد عجزت عنها .

    ( قال الشافعي ) فمن خالف بين إقطاع المعادن والأرضين للزرع انبغى أن يكون من حجته أن يقول إن المعادن إنما هي شيء يطلب فيه ذهب ، أو فضة ، أو غير ذلك مما هو غائب عن الطالب مخلوق فيه ليست للآدميين فيه صنعة إنما يلتمسونه ويخلصونه والتماسه وتخليصه ليس صنعة فيه فلا يكون لأحد أن يحتجزه على أحد إلا ما كان يعمل فيه ، فأما أن يمنع المنفعة فيه غيره ، ولا يعمل هو فيه فليس له ولقد رأيت للسلطان أن لا يقطع معدنا إلا على ما أصف من أن يقول أقطع فلانا معادن كذا على أن يعمل فيها فما رزق الله أدى ما يجب عليه [ ص: 45 ] فيما يخرج منه ، وإذا عطلها كان لمن يحييها العمل فيها وليس له أن يبيعها له قال : ومن حجة من فرق بين ملكها وبين ملك الأرض أن يقول ليس له بيعها ، ولا بيع الأرض لا معدن فيها ، قال : ومن قال : هذا قال ولو ملكه إياها السلطان ، وهو يعملها ملكا بكل حال لم يكن له إلا على ما وصفت وكان هذا جورا من السلطان يرد ، وإن عملها هو بغير عطاء من السلطان كانت له حتى يعطلها ، ومن قال هذا أشبه أن يحتج بأن الرجل يحفر البئر بالبادية فتكون له ، فإذا أورد ماشيته لم يكن له منع فضل مائها وجعل عمله فيها غير إحياء له جعله مثل المنزل ينزل بالبادية فلا يكون لأحد أن يحوله عنه ، وإذا خرج منه لم يمنع منه من ينزله وجعله غير مملوك ، وسواء في هذا معدن الذهب والفضة وكل تبر وغيره مما يطلب بالعمل ، ولا يكون ظاهرا كظهور الماء والملح الظاهر ، وأما ما كان من هذا ظاهرا من ذهب ، أو غيره فليس لأحد أن يقطعه ، ولا يمنعه وللناس أن يأخذوا منه ما قدروا عليه ، وكذلك الشذر يوجد في الأرض ، ولو أن رجلا أقطع أرضا فأحياها بعمارة بناء ، أو زرع أو غيره فظهر فيها معدن كان يملكه ملك الأرض وكان له منعه كما يمنع أرضه في القولين معا .

    والقول الثاني أن الرجل إذا أقطع المعدن فعمل فيه ، فقد ملكه ملك الأرض ، وكذلك إذا عمله بغير إقطاع ، وما قلت في القولين معا في المعادن فإنما أردت بها الأرض القفر تكون أرض معادن فيعملها الرجل معادن ، وفي القول الأول يكون عمله فيها لا يملكه إياها إلا ملك الاستمتاع يمنعه ما كان يعمل فيه ، فإذا عطله لم يمنعه غيره ، وفي القول الثاني إذا عمل فيها فهو كإحياء الأرض يملكها أبدا ، ولا تملك إلا عنه .

    ( قال ) وكل معدن عمل جاهليا ثم أراد رجل استقطاعه ففيه أقاويل :

    منها أنه كالبئر الجاهلية والماء المعد فلا يمنع أحد العمل فيه ، ولا يكون أحد أولى به من أحد يعمل فيه ، فإذا استبقوا إليه فإن وسعهم عملوا معا ، وإن ضاق أقرع بينهم أيهم يبدأ ثم يتبع الآخر فالآخر حتى يتواسوا فيه .

    والثاني : أن للسلطان أن يقطعه على المعنى الأول يعمل فيه من أقطعه ، ولا يملكه ملك الأرض ، فإذا تركه عمل فيه غيره .

    والثالث : يقطعه فيملكه ملك الأرض إذا أحدث فيه عمارة وكل ما وصفت من إحياء الموت وإقطاع المعادن وغيرها فإنما أعني في عفو بلاد العرب الذي عامره عشر وعفوه غير مملوك قال : وكل ما ظهر عليه عنوة من بلاد العجم فعامره كله لمن ظهر عليه من المسلمين على خمسة أسهم لأهل الخمس سهم وأربعة لمن أوجف عليه فيقسم بينهم قسم الميراث وما ملكوا بوجه من الوجوه وما كان في قسم أحدهم من معدن فهو له كما يظهر المعدن في دار الرجل فيكون له ويظهر بئر الماء فيكون له .

    ( قال الشافعي ) : وإن كان فيها معدن ظاهر فوقع في قسم رجل بقيمته فذلك له كما يقع في قسمه العمارة بقيمة فتكون له وكل ما كان في بلاد العنوة مما عمر مرة ثم ترك فهو كالعامر القائم العمارة وذلك ما ظهرت عليه الأنهار وعمر بغير ذلك على نطف السماء وبالرشاء وكل ما كان لم يعمر قط من بلادهم ، وكان مواتا فهو كالموات من بلاد العرب لا يختلف في أنه ليس بملك لأحد دون أحد ومن أراد أن يقطع منه أقطع ممن أوجف ، أو لم يوجف هم سواء فيه لا تختلف حالاتهم فيما أحيوا وأرادوا من الإقطاع ، قال : وما كان من بلاد العجم صلحا فانظر مالكه فإن كان المشركون مالكيه فهو لهم ليس لأحد أن يعمل فيه معدنا ، ولا غيره إلا بإذنهم وعليهم ما صولحوا عليه . قال : وإن كان المسلمون مالكين شيئا منه بشيء ترك لهم فخمس ما صولح عليه المسلمون لأهل الخمس وأربعة أخماسه لجماعة أهل الفيء من المسلمين حيث كانوا فيقسم لأهل الخمس رقبة الأرض والدور ولجماعة المسلمين أربعة أخماس فمن وقع في ملكه شيء كان له .

    وإن صالحوا المسلمين على موات مع العامر فالموات مملوك كالعامر وما كان في حق امرئ من معدن فهو له وما كان في حق جماعة من معدن فبينهم كما يكون بينهم ما سواه ، وإن صالحوا المسلمين على [ ص: 46 ] أن لهم الأرض ويكونون أحرارا ثم عاملهم المسلمون بعد فإن الأرض كلها صلح وخمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها لجماعة المسلمين كما وصفت ، وإذا وقع صلحهم على العامر ، ولم يذكروا العامر فقالوا : لكم أرضنا فلهم من أرضهم ما وصفت من العامر والعامر ما فيه أثر عمارة أو ظهر عليه النهر ، أو عرفت عمارته بوجه وما كان من الموات في بلادهم فمن أراد إقطاعه ممن صالح عليه ، أو لم يصالح أو عمره ممن صالح ، أو لم يصالح فسواء ; لأن ذلك كان غير مملوك كما كان عفو بلاد العرب غير مملوك لهم ، ولو وقع الصلح على عامرها ومواتها كان الموات مملوكا لمن ملك العامر كما يجوز بيع الموات من بلاد المسلمين إذا حازه رجل يجوز الصلح من المشركين إذا جازوه دون المسلمين فمن عمل في معدن في أرض ملكها لواحد ، أو جماعة فجميع ما خرج من المعدن لمن ملك الأرض ، ولا شيء للعامل في عمله ; لأنه متعد بالعمل ومن عمل في معدن بينه وبين غيره أدى إلى غيره نصيبه مما خرج من المعدن وكان متطوعا بالعمل لا أجر له فيه ، وإن عمل بإذنه ، أو على أن له ما خرج من عمله فسواء وأكثر هذا أن يكون هبة لا يعرفها الواهب ، ولا الموهوب له ، ولم يقبض فالآذن في العمل والقائل اعمل ولك ما خرج من عملك سواء له الخيار في أن يتم ذلك للعامل ، وكذلك أحب له أن يرجع فيأخذ نصيبه مما خرج من غلة ويرجع عليه العامل بأجر مثله في قول من قال : يرجع وليس هذا كالدابة يأذن له في ركوبها ; لأنه قد عرف ما أعطاه وقبضه .
    عمارة ما ليس معمورا من الأرض التي لا مالك لها

    ( قال الشافعي ) كان يقال الحرم دار قريش ويثرب دار الأوس والخزرج وأرض كذا دار بني فلان على معنى أنهم ألزم الناس لها وأن من نزلها غيرهم إنما ينزلها شبيها بالمجتاز وعلى معنى أن لهم مياهها التي لا تصلح مساكنها إلا بها ، وليس ما سمته العرب من هذا دارا لبني فلان بالموجب لهم أن يكون ملكا مثل ما بنوه ، أو زرعوه أو اختبروه ; لأنه موات أحيي كماء نزلوه مجتازين وفارقوه وكما يحيا ما قارب ما عمروا ، وإنما يملكون بما أحيوا ما أحيوا ، ولا يملكون ما لم يحيوا .

    ( قال الشافعي ) وبيان ما وصفت في السنة ثم الأثر منه ما وصفت قبل هذا الباب من قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا حمى إلا لله ورسوله } ثم قول عمر رضي الله عنه إنها لبلادهم ، ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله تعالى ما حميت عليهم من بلادهم شبرا أي أنها تنسب إليهم إذا كانوا ألزم الناس لها وأمنعه .

    ( أخبرنا ) مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أحيا مواتا فهو له وليس لعرق ظالم فيه حق } .

    ( قال الشافعي ) وجماع العرق الظالم كل ما حفر أو غرس أو بني ظلما في حق امرئ بغير خروجه منه ( أخبرنا ) سفيان عن طاوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أحيا مواتا من الأرض فهو له وعادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني } .

    ( قال الشافعي ) ففي هذين الحديثين وغيرهما الدلالة على أن الموات ليس ملكا لأحد بعينه وأن من أحيا مواتا من المسلمين فهو له وأن الإحياء ليس هو بالنزول فيه وما أشبهه وأن الإحياء الذي يعرفه الناس هو العمارة بالحجر والمدر والحفر لما بني دون اضطراب الأبنية وما أشبه ذلك ومن الدليل على ما وصفت أيضا أن ابن عيينة أخبرنا عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقطع الناس الدور فقال حي من بني زهرة يقال لهم بنو عبد بن زهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نكب عنا ابن أم عبد فقال [ ص: 47 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ابتعثني الله إذا ؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه } .

    ( قال الشافعي ) والمدينة بين لابتين تنسب إلى أهلها من الأوس والخزرج ومن فيه من العرب والعجم لما كانت المدينة صنفين : أحدهما ، معمور ببناء وحفر وغراس وزرع ، والآخر خارج من ذلك فأقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخارج من ذلك من الصحراء استدللنا على أن الصحراء ، وإن كانت منسوبة إلى حي بأعيانهم ليست ملكا لهم كملك ما أحيوا ومما يبين ذلك أن مالكا أخبرنا عن ابن هشام عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : كان الناس يحتجرون على عهد عمر بن الخطاب فقال عمر من أحيا أرضا مواتا فهي له .

    ( أخبرنا ) عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي عن أبيه عن علقمة بن نضلة أن أبا سفيان بن حرب قام بفناء داره فضرب برجله وقال : سنام الأرض أن لها أسناما زعم ابن فرقد الأسلمي أني لا أعرف حقي من حقه ، لي بياض المروة له سوادها ولي ما بين كذا إلى كذا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال : ليس لأحد إلا أحاطت عليه جدرانه إن إحياء الموات ما يكون زرعا أو حفرا ، أو يحاط بالجدران ، وهو مثل إبطاله التحجير بغير ما يعمر به مثل ما يحجر .

    ( قال الشافعي ) وإذا أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أحيا أرضا مواتا فهي له والموات ما لا ملك فيه لأحد خالصا دون الناس فللسلطان أن يقطع من طلب مواتا ، فإذا أقطع كتب في كتابه ، ولم أقطعه حق مسلم ، ولا ضررا عليه .

    ( قال الشافعي ) وخالفنا في هذا بعض الناس فقال : ليس لأحد أن يحمي مواتا إلا بإذن سلطان ورجع صاحبه إلى قولنا فقال : وعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت العطايا فمن أحيا مواتا فهو له بعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس للسلطان أن يعطي إنسانا ما لا يحل للإنسان أن يأخذه من موات لا مالك له ، أو حق لغيره يعرفه له والسلطان لا يحل له شيئا ، ولا يحرمه ، ولو أعطى السلطان أحدا شيئا لا يحل له لم يكن له أخذه

    ( أخبرنا ) ابن عيينة عن هشام عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا } وأن عمر رضي الله عنه أقطع العقيق وقال : أين المستقطعون منذ اليوم أخبرناه مالك عن ربيعة .

    ( قال الشافعي ) ومن أقطعه السلطان اليوم قطيعا ، أو تحجر أرضا فمنعها من أحد يعمرها ، ولم يعمرها رأيت للسلطان والله أعلم أن يقول له هذه أرض كان المسلمون فيها سواء لا يمنعها منهم أحد ، وإنما أعطيناكها ، أو تركناك وجوزها ; لأنا رأينا العمارة لها غير ضرر بين على جماعة المسلمين منفعة لك وللمسلمين فيها ينالون من رفقها فإن أحييتها وإلا خلينا من أراد إحياءها من المسلمين فأحياها فإن أراد أجلا رأيت أن يؤجل .

    ( قال الشافعي ) : وإذا كان هذا هكذا كان للسلطان أن لا يعطيه ، ولا يدعه يتحجر على المسلمين شيئا لا يعمره ، ولم يدعه أن يتحجر كثيرا يعلمه لا يقوى عليه وتركه وعمارة ما يقوى عليه .

    ( قال الشافعي ) وإن كانت أرضا يطلب غير واحد عمارتها ، فإن كانت تنسب إلى قوم فطلبها بعضهم وغيرهم كان أحب إلي أن يعطيها من تنسب إليهم دون غيرهم ، ولو أعطاها الإمام غيرهم لم أر بذلك بأسا إن كانت غير مملوكة لأحد ، ولو تشاحوا فيها فضاقت عن أن تسعهم رأيت أن يقرع بينهم فأيهم خرج سهمه أعطاه إياها ، ولو أعطاهم بغير قرعة لم أر عليه بأسا إن شاء الله ، وإن اتسع الموضع أقطع من طلب منه فإن بدأ بأحد فأقطعه ترك له حريما للطريق ومسيلا للماء ومغيضة وكل ما لا صلاح لما أقطعه إلا به .
    من أحيا مواتا كان لغيره

    ( قال الشافعي ) أخبرنا عبد العزيز بن محمد بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب [ ص: 48 ] رضي الله عنه استعمل مولى له يقال له هني على الحمى فقال له يا هني ضم جناحك للناس واتق دعوة المظلوم ، فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة وإياي ونعم ابن عفان ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع ، وإن رب الصريمة والغنيمة يأتي بعياله فيقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أهون علي من الدنانير والدراهم وايم الله لعلى ذلك إنهم ليرون أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام ، ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا فقال : ولو ثبت هذا عن عمر بإسناد موصول أخذت به ، وهذا أشبه ما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه ليس لأحد أن يتحجر .
    من قال : لا حمى إلا حمى من الأرض الموات وما يملك به الأرض وما لا يملك وكيف يكون الحمى

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا حمى إلا لله ورسوله } ( وحدثنا ) غير واحد من أهل العلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع } .

    ( قال الشافعي ) كان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان به ، أو نشز إن لم يكن جبل ثم استعواه ووقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية فيرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته وما أراد قرنه معها فيرعى معها فنرى أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم " { لا حمى إلا لله ورسوله } لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله كل محمي وغيره ورسوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصة نفسه وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا ما لا غناء به وبعياله عنه ومصلحتهم حتى يصير ما ملكه الله من خمس الخمس مردودا في مصلحتهم ، وكذلك ماله إذا حبس فوق سنته مردودا في مصلحتهم في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله وأن ماله ونفسه كان مفرغا لطاعة الله تعالى فصلى الله عليه وسلم وجزاه أفضل ما جزى به نبيا عن أمته .

    ( قال الشافعي ) والحمى ليس بإحياء موات فيكون لمن أحياه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا حمى إلا لله ورسوله } يحتمل معنيين أحدهما أن لا يكون لأحد أن يحمي للمسلمين غير ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذهب هذا المذهب قال : يحمي الوالي كما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاد لجماعة المسلمين على ما حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون لوال إن رأى صلاحا لعامة من حمى أن يحمي بحال شيئا من بلاد المسلمين والمعنى الثاني أن قوله { لا حمى إلا لله ورسوله } يحتمل لا حمى إلا على مثل ما حمى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذهب هذا المذهب قال : للخليفة خاصة دون الولاة أن يحمي على مثل ما حمى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والذي عرفناه نصا ودلالة فيما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمى لنقيع والنقيع بلد ليس بالواسع الذي إذا حمي ضاقت البلاد بأهل المواشي حوله حتى يدخل ذلك الضرر على مواشيهم ، أو أنفسهم كانوا يجدون فيما سواه من البلاد سعة لأنفسهم ومواشيهم وأن ما سواه مما لا يحمى أوسع منه وأن النجع يمكنهم فيه وأنه لو ترك فكان [ ص: 49 ] أوسع عليهم لا يقع موقع ضرر بين عليهم ; لأنه قليل من كثير غير مجاوز القدر ، وفيه صلاح لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدة لسبيل الله وما فضل من سهمان أهل الصدقات وما فضل من النعم التي تؤخذ من أهل الجزية ترعى فيه فأما الخيل فقوة لجميع المسلمين ، وأما نعم الجزية فقوة لأهل الفيء من المسلمين ومسلك سبل الخير أنها لأهل الفيء المحامين المجاهدين قال : وأما الإبل التي تفضل عن سهمان أهل الصدقة فيعاد بها على أهل سهمان الصدقة لا يبقى مسلم إلا دخل عليه من هذا صلاح في دينه ونفسه ومن يلزمه أمره من قريب ، أو عامة من مستحقي المسلمين فكان ما حمي عن خاصتهم أعظم منفعة لعامتهم من أهل دينهم وقوة على من خالف دين الله من عدوهم وحمى القليل الذي حمى عن عامة المسلمين وخواص قراباتهم الذين فرض الله لهم الحق في أموالهم ، ولم يحم عنهم شيئا ملكوه بحال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #151
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (151)
    صــــــــــ 50 الى صـــــــــــ56






    ( قال الشافعي ) أخبرني عمي محمد بن علي عن الثقة أحسبه محمد بن علي بن حسين ، أو غيره عن مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه قال : بينا أنا مع عثمان في ماله بالعالية في يوم صائف إذ رأى رجلا يسوق بكرين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر فقال : ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح ثم دنا الرجل فقال : انظر من هذا فقلت أنا رجلا معمما بردائه يسوق بكرين ثم دنا الرجل فقال : انظر فنظرت ، فإذا عمر بن الخطاب فقلت هذا أمير المؤمنين فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب فأداه لفح السموم فأعاد رأسه حتى حاذاه فقال : ما أخرجك هذه الساعة ؟ [ ص: 50 ] فقال : بكران من إبل الصدقة تخلفا ، وقد مضى بإبل الصدقة فأردت أن ألحقهما بالحمى وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما فقال عثمان يا أمير المؤمنين هلم إلى السماء والظل وتكفيك فقال : عد إلى ظلك فقلت عندنا من يكفيك فقال : عد إلى ظلك فمضى فقال عثمان " من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا " فعاد إلينا فألقى نفسه .

    ( قال الشافعي ) في حكاية قول عمر لعثمان في البكرين اللذين تخلفا وقول عثمان " من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا " ( أخبرنا ) مالك عن ابن شهاب يعني بما حكاه عن عمر وعثمان .

    ( قال الشافعي ) وإن كان للخليفة مال يحمل عليه في سبيل الله من إبل وخيل فلا بأس أن يدخلها الحمى ، وإن كان منها مال لنفسه فلا يدخلها الحمى فإنه إن يفعل ظلم ; لأنه منع منه وأدخل لنفسه ، وهو من أهل القوة .

    ( قال الشافعي ) وهكذا من كان له مال يحمل عليه في سبيل الله دون الخليفة قال : ومن سأل الوالي أن يقطعه في الحمى موضعا يعمره فإن كان حمى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا منعه إياه وأن عمر أبطل عمارته وكان كمن عمر فيما ليس له أن يعمر فيه ، وإن كان حمى أحدث بعده فكان يرى الحمى حقا كان له منعه ذلك ، وإن أراد العمارة كان له منعه العمارة ، وإن سبق فعمر لم يبن لي أن تبطل عمارته والله تعالى أعلم . ويحتمل إذا جعل الحمى حقا وكان هو في معنى ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه حمى لمثل ما حماه له أن يبطل عمارته ، وإن أذن له الوالي بعمارة لم يكن له إبطال عمارته ; لأن إذنه له إخراج له من الحمى ، وقد يجوز أن يخرج ما أحدث حماه من الحمى ويحمي غيره إذا كان غير ضرر على من حماه عليه ، وليس للوالي بحال أن يحمي من الأرض إلا أقلها ، وقد يوسع الحمى حتى يقع موقعا ويبين ضرره على من حمى عليه ، وما أحدث من حمى فرعاه أحد لم يكن عليه في رعيته شيء أكثر من أن يمنع رعيته ، فأما غرم ، أو عقوبة فلا أعلمه عليه .
    تشديد أن لا يحمي أحد على أحد

    ( قال الشافعي ) أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة } .

    ( قال الشافعي ) ففي هذا الحديث ما دل على أنه ليس لأحد أن يمنع فضل مائه ، وإنما يمنع فضل رحمة الله بمعصية الله فلما كان منع فضل الماء معصية لم يكن لأحد منع فضل الماء ، وفي هذا الحديث دلالة على أن مالك الماء أولى أن يشرب به ويسقي وأنه إنما يعطي فضله عما يحتاج إليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته } وفضل الماء الفضل عن حاجة مالك الماء .

    ( قال الشافعي ) : وهذا أوضح حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماء ، وأشبه معنى ; لأن مالكا روى عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يمنع نفع البئر } .

    ( قال الشافعي ) فكان هذا جملة ندب المسلمون إليها في الماء ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أصحها وأبينها معنى .

    ( قال الشافعي ) وكل ماء ببادية يزيد في عين ، أو بئر ، أو غيل أو نهر بلغ مالكه منه حاجته لنفسه وماشيته وزرع إن كان له فليس له منع فضله عن حاجته من أحد يشرب ، أو يسقي ذا روح خاصة دون الزرع وليس لغيره أن يسقي منه زرعا ، ولا شجرا إلا أن يتطوع بذلك مالك الماء ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته } ففي هذا [ ص: 51 ] دلالة إذا كان الكلأ شيئا من رحمة الله أن رحمة الله رزقه خلقه عامة للمسلمين وليس لواحد منهم أن يمنعها من أحد إلا بمعنى ما وصفنا من السنة والأثر الذي في معنى السنة ، وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين : أحدهما أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل ، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى .

    ( قال الشافعي ) فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يحرم ; لأنه في معنى تلف على ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين وغيرهم ، فإذا منعوا فضل الماء منعوا فضل الكلأ ، والمعنى الأول أشبه والله أعلم ، فلو أن جماعة كان لهم مياه ببادية فسقوا بها واستقوا ، وفضل منها شيء فجاء من لا ماء له يطلب أن يشرب أو يسقي إلى واحد منهم دون واحد لم يجز لمن معه فضل من الماء ، وإن قل منعه إياه إن كان في عين ، أو بئر ، أو نهر ، أو غيل ; لأنه فضل ماء يزيد ويستخلف ، وإن كان الماء في سقاء ، أو جرة ، أو وعاء ما كان ، فهو مختلف للماء الذي يستخلف فلصاحبه منعه ، وهو كطعامه إلا أن يضطر إليه مسلم والضرورة أن يكون لا يجد غيره بشراء ، أو يجد بشراء ، ولا يجد ثمنا فلا يسع عندي والله أعلم منعه ; لأن في منعه تلفا له ، وقد وجدت السنة توجب الضيافة بالبادية والماء أعز فقدا وأقرب من أن يتلف من منعه وأخف مؤنة على من أخذ منه من الطعام فلا أرى من منع الماء في هذه الحال إلا آثما إذا كان معه فضل من ماء في وعاء ، فأما من وجد غنى عن الماء بماء غير ماء صاحب الوعاء فأرجو أن لا يخرج من منعه .
    إقطاع الوالي

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال : { لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقطع الناس الدور فقال حي من بني زهرة يقال لهم بنو عبد بن زهرة نكب عنا ابن أم عبد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ابتعثني الله إذا ؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه } .

    ( قال الشافعي ) في هذا الحديث دلائل :

    منها أن حقا على الوالي إقطاع من سأله القطيع من المسلمين ; لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه } دلالة أن لمن سأله الإقطاع أن يؤخذ للضعيف فيهم حقه وغيره ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الناس بالمدينة وذلك بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل والنخل فلم يكن لهم بالعامر منع غير العامر ، ولو كان لهم لم يقطعه الناس ، وفي هذا دلالة على أن ما قارب العامر وكان بين ظهرانيه وما لم يقارب من الموات سواء في أنه لا مالك له فعلى السلطان إقطاعه ممن سأله من المسلمين .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا ابن عيينة عن هشام عن عروة عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا } وأن عمر بن الخطاب أقطع العقيق أجمع وقال أين المستقطعون ؟ .

    ( قال الشافعي ) والعقيق قريب من المدينة وقوله " أين المستقطعون نقطعهم " ، وإنما أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر ومن أقطع ما لا يملكه أحد يعرف من الموات ، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحيا مواتا فهو له } دليل على أن من أحيا مواتا كان له كما يكون له إن أقطعه واتباع في أن يملك [ ص: 52 ] من أحيا الموات ما أحيا كاتباع أمره في أن يقطع الموات من يحييه لا فرق بينهما ، ولا يجوز أن يقطع الموات من يحييه ولا مالك له ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحيا مواتا فهو له } فعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لمن أحيا الموات فمن أحيا الموات فبعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياه ، وعطيته في الجملة أثبت من عطية من بعده في النص والجملة ، وقد روي عن عمر مثل هذا المعنى لا يخالفه .
    باب الركاز يوجد في بلاد المسلمين

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : الركاز دفن الجاهلية أخبرنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا حمى إلا لله ورسوله } .

    ( قال الشافعي ) فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا حمى إلا لله ورسوله } لم يكن لأحد أن ينزل بلدا غير معمور فيمنع منه شيئا يرعاه دون غيره وذلك أن البلاد لله عز وجل لا مالك لها من الآدميين ، وإنما سلط الله الآدميين على منع مالهم خاصة لا منع ما ليس لأحد بعينه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا حمى إلا لله ولرسوله } أن لا حمى إلا حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاح المسلمين الذين هم شركاء في بلاد الله ليس أنه حمى لنفسه دونهم ولولاة الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا من الأرض شيئا لمن يحتاج إلى الحمى من المسلمين ، وليس لهم أن يحموا شيئا لأنفسهم دون غيرهم .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يقال له هني على الحمى .

    ( قال الشافعي ) وقول عمر إنهم ليرون أني قد ظلمتهم يقول يذهب رأيهم أني حميت بلادا غير معمورة لنعم الصدقة ولنعم الفيء وأمرت بإدخال أهل الحاجة الحمى دون أهل القوة على المرعى في غير الحمى إلى أني قد ظلمتهم .

    ( قال الشافعي ) ولم يظلمهم عمر رضي الله عنه وإن رأوا ذلك ، بل حمى على معنى ما حمى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الحاجة دون أهل الغنى وجعل الحمى حوزا لهم خالصا كما يكون ما عمر الرجل له خالصا دون غيره ، وقد كان مباحا قبل عمارته فكذلك الحمى لمن حمى له من أهل الحاجة ، وقد كان مباحا قبل يحمى .

    قال : وبيان ذلك في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا أنه لم يحم إلا لما يحمل عليه لمن يحتاج إلى الحمى من المسلمين أن يحموا ورأى إدخال الضعيف حقا له دون القوي فكل ما لم يعمر من الأرض فلا يحال بينه وبين المسلمين أن ينزلوا ويرعوا فيه حيث شاءوا إلا ما حمى الوالي لمصلحة عوام المسلمين فجعله لما يحمل عليه في سبيل الله من نعم الجزية وما يفضل من نعم الصدقة فيعده لمن يحتاج إليه من أهلها ، وما يصير إليه من ضوال المسلمين وماشية أهل الضعف دون أهل القوة .

    ( قال الشافعي ) وكل هذا عام المنفعة بوجوه ; لأن من حمل في سبيل الله فذلك لجماعة المسلمين ومن أرصد له أن يعطي من ماشية الصدقة فذلك لجماعة ضعفاء المسلمين ، وكذلك من ضعف من المسلمين فرعيت له ماشيته [ ص: 53 ] فذلك لجماعة ضعفاء المسلمين وأمر عمر رضي الله عنه أن لا يدخل نعم ابن عفان وابن عوف لقوتهما في أموالهما وإنهما لو هلكت ماشيتهما لم يكونا ممن يصير كلا على المسلمين فكذلك يصنع بمن له غنى غير الماشية .
    الأحباس

    أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى قال جميع ما يعطي الناس من أموالهم ثلاثة وجوه . ثم يتشعب كل وجه منها ، والعطايا منها في الحياة وجهان ، وبعد الوفاة واحد : فالوجهان من العطايا في الحياة مفترقا الأصل والفرع ، فأحدهما يتم بكلام المعطي والآخر يتم بأمرين ، بكلام المعطي وقبض المعطى أو قبض من يكون قبضه له قبضا .

    ( قال الشافعي ) والعطايا التي تتم بكلام المعطي دون أن يقبضها المعطى ما كان إذا خرج به الكلام من المعطى له جائرا على ما أعطى لم يكن للمعطي أن يملك ما خرج منه فيه الكلام بوجه أبدا وهذه العطية الصدقات المحرمات الموقوفات على قوم بأعيانهم ، أو قوم موصوفين وما كان في معنى هذه العطايا مما سبل محبوسا على قوم موصوفين ، وإن لم يسم ذلك محرما فهو محرم باسم الحبس .

    ( قال الشافعي ) : فإذا أشهد الرجل على نفسه بعطية من هذه فهي جائزة لمن أعطاها ، قبضها ، أو لم يقبضها ، ومتى قام عليه أخذها من يدي معطيها وليس لمعطيها حبسها عنه على حال بل يجبر على دفعها إليه ، وإن استهلك منها شيئا بعد إشهاده بإعطائها ضمن ما استهلك كما يضمنه أجنبي لو استهلكه ; لأنه إذا خرج من ملكه فهو والأجنبي فيما استهلك منه سواء ، ولو مات من جعلت هذه الصدقة عليه قبل قبضها ، وقد أغلت غلة أخذ وارثه حصته من غلتها ; لأن الميت قد كان مالكا لما أعطى ، وإن لم يقبضه كما يكون له غلة أرض لو غصبها ، أو كانت وديعة في يدي غيره فجحدها ثم أقر بها ، وإن لم يكن قبض ذلك ، ولو مات بها قبل أن يقبضها من تصدق بها عليه لم يكن لوارثه منها شيء وكانت لمن تصدق بها عليه ، ولا يجوز أن يقال ترجع موروثة والموروث إنما يورث ما كان ملكا للميت ، فإذا لم يكن للمتصدق الميت أن يملك شيئا في حياته ، ولا بحال أبدا لم يجز أن يملك الوارث عنه بعد وفاته ما لم يكن له أن يملك في حياته بحال أبدا .

    قال : وفي هذا المعنى العتق ، إذا تكلم الرجل يعتق من يجوز له عتقه تم العتق ، ولم يحتج إلى أن يقبله المعتق ، ولم يكن للمعتق ملكه ، ولا لغيره ملك رق يكون له فيه بيع ، ولا هبة ، ولا ميراث بحال .

    والوجه الثاني من العطايا في الحياة ما أخرجه المالك من يده ملكا تاما لغيره بهبته ، أو ببيعه ويورث عنه ، وهذا من العطايا يحل لمن أخرجه من يديه أن يملكه بوجوه ، وذلك أن يرث من أعطاه ، أو يرد عليه المعطى العطية ، أو يهبها له ، أو يبيعه إياها ، وهذا مثل النحل والهبة والصدقة غير المحرمة ، ولا التي في معناها بالتسبيل وغيره وهذه العطية تتم بأمرين :

    إشهاد من أعطاها وقبضها بأمر من أعطاها والمحرمة والمسبلة تجوز بلا قبض . قيل : تقليد الهدي وإشعاره وسياقه وإيجابه بغير تقليد يكون على مالكه بلاغه البيت ونحوه والصدقة فيه بما صنع منه ، ولم يقبضه من جعل له وليس كذلك ما تصدق به بغير حبس مما لا يتم إلا بقبض من أعطيها لنفسه ، أو قبض غيره له ممن قبضه له قبض ، وهذا الوجه من العطايا لمعطيه أن يمنعه من أعطاه إياه ما لم يقبضه ، ومتى رجع في عطيته قبل قبض من أعطيه فذلك له ، وإن مات المعطى قبل يقبض العطية فالمعطي بالخيار إن أحب أن يعطيها ورثته عطاء مبتدأ لا عطاء موروثا عن المعطى ; لأن المعطى لم يملكها فعل وذلك أحب إلي له ، وإن شاء حبسها [ ص: 54 ] عنهم ، وإن مات المعطي قبل يقبضها المعطى فهي لورثة المعطي ; لأن ملكها لم يتم للمعطى . قال : والعطية بعد الموت هي الوصية لمن أوصى له في حياته فقال : إذا مت فلفلان كذا فله أن يرجع في الوصية ما لم يمت ، فإذا مات ملك أهل الوصايا وصاياهم بلا قبض كان من المعطى ، ولا بعده وليس للورثة أن يمنعوه الموصى لهم ، وهو لهم ملكا تاما - قال : وأصل ما ذهبنا إليه أن هذا موجود في السنة والآثار ، أو فيهما ففرقنا بينه اتباعا وقياسا .
    الخلاف في الصدقات المحرمات

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : فخالفنا بعض الناس في الصدقات المحرمات وقال من تصدق بصدقة محرمة وسبلها فالصدقة باطل وهي ملك للمتصدق في حياته ولوارثه بعد موته قبضها من تصدق بها عليه ، أو لم يقبضها وقال لي بعض من يحفظ قول قائل هذا : إنا رددنا الصدقات الموقوفات بأمور قلت له وما هي ؟ فقال قال شريح جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس فقلت له وتعرف الحبس التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقها ؟ قال لا أعرف حبسا إلا الحبس بالتحريم فهل تعرف شيئا يقع عليه اسم الحبس غيرها ؟

    ( قال الشافعي ) فقلت له أعرف الحبس التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقها وهي غير ما ذهبت إليه وهي بينة في كتاب الله عز وجل قال اذكرها قلت : قال الله عز وجل { ما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ، ولا وصيلة ، ولا حام } فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها فأبطل الله شروطهم فيها وأبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال الله إياها وهي أن الرجل كان يقول : إذا نتج فحل إبله ثم ألقح فأنتج منه هو حام أي قد حمى ظهره فيحرم ركوبه ويجعل ذلك شبيها بالعتق له ويقول في البحيرة والوصيلة على معنى يوافق بعض هذا ويقول لعبده أنت حر سائبة لا يكون لي ، ولاؤك ، ولا علي عقلك قال : فهل قيل في السائبة غير هذا ؟ فقلت نعم قيل إنه أيضا في البهائم قد سيبتك ( قال الشافعي ) فلما كان العتق لا يقع على البهائم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك البحيرة والوصيلة والحام إلى مالكه وأثبت العتق وجعل الولاء لمن أعتق السائبة وحكم له بمثل حكم النسب ، ولم يحبس أهل الجاهلية علمته دارا ولا أرضا تبررا بحبسها ، وإنما حبس أهل الإسلام ( قال الشافعي ) فالصدقات يلزمها اسم الحبس وليس لك أن تخرج مما لزمه اسم الحبس شيئا إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ما قلت وقلت أخبرنا سفيان عن عبد الله بن عمر بن حفص العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر { أن عمر بن الخطاب ملك مائة سهم من خيبر اشتراها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أصبت مالا لم أصب مثله قط ، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل فقال حبس الأصل ، وسبل الثمرة } .

    ( قال الشافعي ) وأخبرني عمر بن حبيب القاضي عن عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر { بأن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله إني أصبت مالا من خيبر لم أصب مالا قط أعجب إلي أو أعظم عندي منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت حبست أصله وسبلت ثمره } فتصدق به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم حكى صدقته به .

    ( قال الشافعي ) فقال : إن كان هذا ثابت فلا يجوز إلا أن يكون الحبس التي أطلق غير الحبس التي أمر بحبسها قلت هذا عندنا ، وعندك ثابت ، وعندنا أكثر من هذا ، وإن كانت الحجة تقوم عندنا ، وعندك بأقل [ ص: 55 ] منه قال فكيف أجزت الصدقات المحرمات ، وإن لم يقبضها من تصدق بها عليه ؟ فقلت اتباعا وقياسا فقال : وما الاتباع ؟ فقلت له لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماله فأمره أن يحبس أصل ماله ويسبل ثمره دل ذلك على إجازة الحبس وعلى أن عمر كان يلي حبس صدقته ويسبل ثمرها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لا يليها غيره ، قال : فقال : أفيحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم حبس أصلها وسبل ثمرها اشترط ذلك ؟ قلت نعم والمعنى الأول أظهرهما وعليه من الخبر دلالة أخرى قال وما هي ؟ قلت إذا كان عمر لا يعرف وجه الحبس أفيعلمه حبس الأصل وسبل الثمر ويدع أن يعلمه أن يخرجها من يديه إلى من يليها عليه ولمن حبسها عليه ; لأنها لو كانت لا تتم إلا بأن يخرجها المحبس من يديه إلى من يليها دونه ، كان هذا أولى أن يعلمه ; لأن الحبس لا يتم إلا به ، ولكنه علمه ما يتم له ، ولم يكن في إخراجها من يديه شيء يزيد فيها ، ولا في إمساكها يليها هو شيء ينقص صدقته ، ولم يزل عمر بن الخطاب المتصدق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يلي فيما بلغنا صدقته حتى قبضه الله تبارك وتعالى ، ولم يزل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلي صدقته بينبع حتى لقي الله عز وجل ، ولم تزل فاطمة عليها السلام تلي صدقتها حتى لقيت الله تبارك وتعالى .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا بذلك أهل العلم من ولد فاطمة وعلي وعمر ومواليهم ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه ، وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكما وصفت لم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف يلونها حتى ماتوا وأن نقل الحديث فيها كالتكلف ، وإن كنا قد ذكرنا بعضه قبل هذا .

    فإذا كنا إنما أجزنا الصدقات ، وفيها العلل التي أبطلها صاحبك بها من قول شريح جاء محمد بإطلاق الحبس بأنه لا يجوز أن يكون مال مملوكا ثم يخرجه مالكه من ملكه إلى غير مالك له كله إلا بالسنة واتباع الآثار فكيف اتبعناهم في إجازتها وإجازتها أكثر ونترك اتباعهم في أن يحوزها كما حازوها ، ولم يولوها أحدا ؟ فقال : فما الحصة فيه من القياس ؟ قلت له لما { أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحبس الأصل أصل المال وتسبل الثمرة } دل ذلك على أنه أجاز أن يخرجه مالك المال من ملكه بالشرط إلى أن يصير المال محبوسا لا يكن لمالكه بيعه ، ولا أن يرجع إليه بحال كما لا يكون لمن سبل ثمره عليه بيع الأصل ، ولا ميراثه فكان هذا مالا مخالفا لكل مال سواه ; لأن كل مال سواه يخرج من مالكه إلى مالك فالمالك يملك بيعه وهبته ويجوز للمالك الذي أخرجه من ملكه أن يملكه بعد خروجه من يديه ببيع وهبة وميراث وغير ذلك من وجوه الملك ويجامع المال المحبوس الموقوف العتق الذي أخرجه مالكه من ماله بشيء جعله الله إلى غير ملك نفسه ، ولكن ملكه منفعة نفسه بلا ملك لرقبته كما ملك المحبس من جعل منفعة المال له بغير ملك منه لرقبة المال وكان بإخراجه الملك من يديه محرما على نفسه أن يملك المال بوجه أبدا كما كان محرما أن يملك العبد بشيء أبدا فاجتمعا في معنيين ، وإن كان العبد مفارقه في أنه لا يملك منفعة نفسه غير نفسه كما يملك منفعة المال مالك ، وذلك أن المال لا يكون مالكا إنما يملك الآدميون ، فلو قال قائل لماله أنت حر لم يكن حرا ، ولو قال أنت موقوف لم يكن موقوفا ; لأنه لم يملك منفعته أحدا ، وهو إذا قال لعبده أنت حر ، فقد ملكه منفعة نفسه فقال قد قال فيها فقهاء المكيين وحكامهم قديما وحديثا ، وقد علمنا أنهم يقولون قولك ، وأبو يوسف حين أجاز الصدقات قال قولك في أنها تجوز ، وإن وليها صاحبها حتى يموت واحتج فيها بأنه إنما أجازها اتباعا وأن المتصدقين بها من السلف ولوها حتى ماتوا ، ولكنا قد ذهبنا فيها وبعض البصريين إلى أن الرجل إن لم يخرجها من [ ص: 56 ] ملكه إلى من يليها دونه في حياته لمن تصدق بها عليه كانت منتقضة وأنزلها منزلة الهبات ، وتابعنا بعض المدنيين فيها وخالفنا في الهبات .

    ( قال الشافعي ) فقلت له قد حفظنا عن سلفنا ما وصفت وما أعرف عن أحد من التابعين أنه أبطل صدقة بأن لم يدفعها المتصدق بها إلى وال في حياته وما هذا إلا شيء أحدثه منهم من لا يكون قوله حجة على أحد وما أدري لعله سمع قولكم ، أو قول بعض البصريين فيه فاتبعه فقال وأنا أقوم بهذا القول عليك قلت له هذا قول تخالفه فكيف تقوم به ؟ قال أقوم به لمن قاله من أصحابنا وأصحابك فأقول إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نحل عائشة جداد عشرين وسقا فمرض قبل أن تقبضه فقال لها : لو كنت خزنتيه وقبضتيه كان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث ، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فإن مات أحدهم قال مال أبي نحلنيه ، وإن مات ابنه قال مالي وبيدي لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد حتى يكون إن مات أحق بها " وأنه شكا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قول عمر فرأى أن الوالد يجوز لولده ما داموا صغارا ، فأقول إن الصدقات الموقوفات قياسا على هذا .
    ولا أزعم ما زعمت من أنها مفترقة فقلت له أفرأيت لو اجتمعت هي والصدقات في معنى واختلفتا في معنيين ، أو أكثر الجمع بينهما أولى بتأويل ، أو التفريق ؟ قال بل التفريق فقلت له أفرأيت الهبات كلها والنحل والعطايا سوى الوقف لو تمت لمن أعطيها ثم ردها على الذي أعطاها ، أو لم يقبلها منه ، أو رجعت إليه بميراث ، أو شراء ، أو غير ذلك من وجوه الملك أيحل له أن يملكها ؟ قال نعم : قلت ، ولو تمت لمن أعطيها حل له بيعها وهبتها ؟ قال : نعم ، قلت : أفتجد الوقف إذا تم لمن وقف له يرجع إلى مالكه أبدا بوجه من الوجوه ، أو يملكه من وقف عليه ملكا يكون له فيه بيعه وهبته وأن يكون موروثا عنه ؟ قال : لا ، قلت والوقوف خارجه من ملك مالكها بكل حال ومملوكة المنفعة لمن وقفت عليه غير مملوكة الأصل ؟ قال نعم : قلت أفترى العطايا تشبه الوقوف في معنى واحد من معانيها ؟ قال في أنها لا تجوز إلا مقبوضة قلت : كذلك قلت أنت فأراك جعلت قولك أصلا قال : قسته على ما ذكرت إن خالف بعض أحكامه قلت : فكيف يجوز أن يقاس الشيء بخلافه وهي مخالفة لما ذكرت من العطايا غيرها ؟ أورأيت لو قال لك قائل : أراك تسلك بالعطايا كلها مسلكا واحدا فأزعم أن الرجل إذا أوجب الهدي على نفسه بكلام ، أو ساقه ، أو قلده أو أشعره كان له أن يبيعه ويهبه ويرجع ; لأنه لمساكين الحرم ، ولم يقبضوه أله ذلك ؟ قال : لا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #152
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله




    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (152)
    صــــــــــ 57 الى صـــــــــــ63






    قلت وأنت تقول لو دفع رجل إلى وال مالا يحمل به في سبيل الله ، أو يتصدق به متطوعا لم يكن له أن يخرجه من يدي الوالي بل يدفعه ؟ قال نعم قال ما العطايا بوجه واحد قلت فعمدت إلى ما دلت عليه السنة وجاءت الآثار بإجازته من الصدقات المحرمات فجعلته قياسا على ما يخالفه وامتنعت من أن تقيس عليه ما هو أقرب منه مما لا أصل فيه تفرق بينه وبينه . قال : وقلت له لو قال لك قائل : أنا أزعم أن الوصية لا تجوز إلا مقبوضة . قال : وكيف تكون الوصية مقبوضة ؟ قلت بأن يدفعها الموصي إلى الموصى له ويجعلها له بعد موته فإن مات جازت ، وإن لم يدفعها لم تجز كما أعتق رجل مماليك له فأنزلها النبي صلى الله عليه وسلم وصية ، وكما يهب في المرض فيكون وصية قال ليس ذلك له . قلت : فإن قال لك ولم ؟ قال أقول ; لأن الوصايا مخالفة للعطايا في الصحة قلت : فأذكر من قال يجوز بغير ما وصفنا من السلف . قال : ما أحفظه عن السلف وما أعلم فيه اختلافا قلنا : فبان لك أن المسلمين فرقوا بين العطايا ، قال : ما وجدوا بدا من التفريق بينهما . قلت : والوصايا بالعطايا أشبه من الوقف بالعطايا ، فإن للموصي أن يرجع في وصيته بعد الإشهاد عليها ويرجع في ماله إن مات من أوصى له بها ، أو ردها فكيف باينت بين [ ص: 57 ] العطايا والوصايا سواها وامتنعت من المباينة بين الوقف والعطايا سواه وأنت تفرق بين العطايا سواه فرقا بينا فنقول في العمرى هي لصاحبها لا ترجع إلى الذي أعطاها ، ولا تقول هذا في العارية ، ولا العطية غير العمرى ، قال بالسنة . قلت : وإذا جاءت السنة اتبعتها ؟ قال فذلك يلزمني . قلت : فقد وصفت لك في الوقف السنة والخبر العام عن الصحابة ، ولم تتبعه ، وقلت له أرأيت النحل والهبة والعطايا غير الوقف ألصاحبها أن يرجع فيها ما لم يقبضها من جعلها له ؟ قال : نعم ، قلت : فمن تقويت به فمن قال قولك من أصحابنا يقول لا يرجع فيها ، وإن مات قبل يقبضها من أعطيها رجعت ميراثا يكون في ذلك الوقف فيسوي بين قوليه ، قال : فهذا قول لا يستقيم ، ولا يجوز فيه إلا واحد من قولين إما أن يكون كما قلت إذا تكلم بالوقف ، أو العطية تمت لمن جعلها له وجبر على إعطائها إياه ، وإما أن يكون لا يتم إلا بالقبض مع العطايا فيكون له أن يرجع ما لم تتم بقبض من أعطيها ، ولا يجوز أبدا أن يكون له حبسها إذا تكلم بإعطائها ، ولا يكون لوارثه ملكها عنه إذا لم ترجع في حياته إلى ملكه لم ترجع في وفاته إلى ملكه فتكون موروثة عنه ، وهذا قول محال وكل ما وهبت لك فلي الرجوع فيه ما لم تقبضه ، أو يقبض لك ، وهذا مثل أن أقول : قد بعتك عبدي بألف فإن قلت قد رجعت قبل أن تختار أخذه كان لي الرجوع وكل أمر لا يتم إلا بأمرين لم يجز أن يملك بواحد . فقلت : هذا كما قلت إن شاء الله ، ولكن رأيتك ذهبت إلى رد الصدقات قال ما عندي فيها أكثر مما وصفت فهل لك فيها حجة غير ما ذكرت مما لزمك به عندنا إثبات الصدقات ؟ قال ما عندي فيها أكثر مما وصفت .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله قلت ففيما وصفت أن صدقات المهاجرين والأنصار بالمدينة معروفة قائمة ، وقد ورث المهاجرين والأنصار النساء الغرائب والأولاد ذوو الدين والإهلاك لأموالهم والحاجة إلى بيعه فمنعهم الحكام في كل دهر إلى اليوم فكيف أنكرت إجازتها مع عموم العلم ؟ وأنت تقول لو أخرج رجل بيتا من داره فبناه مسجدا وأذن فيه لمن صلى ، ولم يتكلم بوقفه كان وقفا للمصلين ، ولم يكن له أن يعود في ملكه إذا أذن للمصلين فيه ، وفي قولك هذا أنه لم يخرجه من ملكه ، ولو كان إذنه في الصلاة إخراجه من ملكه كان إخراجه إلى غير مالك بعينه فكان مثل الحبس الذي يلزمك إطلاقها لحديث شريح فعمدت إلى ما جاءت به السنة من الوقف في الأموال والدور وما أخرجه مالكه من ملك نفسه فأبطلته بعلة وأجزت المسجد بلا خبر من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاوزت القصد فيه فأخرجته من ملك صاحبه ، ولم يخرجه صاحب من ملكه إنما يخرجه بالكلام وأنت تعيب على المدنيين أن يقضوا بحيازة عشرة وعشرين سنة .

    إذا حاز الرجل الدار والمحوز عليه حاضر يراه يبنيها ويهدمها ، وهو يبيع المنازل لا يكلمه فيها . وقلت الصمت والحوز لا يبطل الحق إنما يبطله القول وتجعل إذن صاحب المسجد - ، وهو لم ينطق بوقفه - وقفا فتزكن عليه وتعيب ما هو أقوى في الحجة من قول المدنيين في الحيازة من قولك في المسجد وتقول هذا وهو إزكان ، وقلت له : أرأيت لو أذن في داره للحاج أن ينزلوها سنة ، أو سنتين أتكون صدقة عليهم ؟ قال لا وله منعهم متى شاء من النزول فيها ، قلت : فكيف لم تقل هذا في المسجد يخرجه من الدار ، ولا يتكلم بوقفه . فقال : إن صاحبينا قد عابا قول صاحبهم وصارا إلى قولكم في إجازة الصدقات ، فقلت له ما زاد قولنا قوة بنزوعهما إليه ، ولا ضعفا بفراقهما حين فارقاه ولهما بالرجوع إليه أسعد ، وما علمتهما أفادا حين رجعا إليه علما كانا يجهلانه ، قال : ولكن قد يصح عندهما الشيء بعد أن لم يصح ، فقلت : الله أعلم كيف كان رجوعهما ومقامهما والرجوع بكل حال خير لهما إن شاء الله وقلت له أيجوز لعالم أن يأتيه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر منصوص فيقول به ، وإن عارضه [ ص: 58 ] معارض بخبر غير منصوص فيقول به ثم يأتي مثله فلا يقبله ويصرف أصلا إلى أصل ؟ قال : لا ، قلت : فقد فعلت وصرفت الصدقات إلى النحل وهما مفترقان عندك . وقلت له : أيجوز أن يأتيك الحديث عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات بأمر يدل على أنهم تصدقوا بها وولوها وهم لا يفعلون إلا الجائز عندهم ، ثم يقولون في النحل عندهم : إنما تكون بأن تكون مقبوضات ، فتقول : أجعلوا الصدقات مثله ؟ قال : لا ، قلت : فقد فعلت قال : فلو كان هذا مأثورا عندهم عرفه الحجازيون ، فقلت قد ذكرت لك بعض ما حضرني من الأخبار على الدلالة عليه وأنه قول المكيين ، ولا أعلم من متقدمي المدنيين أحدا قال بخلافه .

    ( قال الشافعي ) ووصفت لك أن أهل هذه الصدقات من آل علي وغيرهم قد ذكروا ما وصفت من أن عليا رضي الله عنه ومن تصدق لم يزل يلي صدقته وصدقاتهم فيه جارية ثم ثبتت قائمة مشهورة القسم والموضع إلى اليوم ، وهذا أقوى من خبر الخاصة ، فقال فما تقول في الرجل يتصدق على ابنه ، أو ذي رحمه ، أو أجنبي بصدقة غير محرمة ، ولا في سبيل المحرمة بالتسبيل أيكون له ما لم يقبضها المتصدق عليه أن يرجع فيها ؟ قلت : نعم ، قال وسبيلها سبيل الهبات والنحل ؟ قلت : نعم . قال فأين هذا لي ؟ قلت معنى تصدقت عليك متطوعا معنى وهبت لك ونحلتك ; لأنه إنما هو شيء من مالي لم يلزمني أن أعطيكه ، ولا غيرك أعطيتك متطوعا ، وهو يقع عليه اسم صدقة ونحل وهبة وصلة وإمتاع ومعروف وغير ذلك من أسماء العطايا وليس يحرم علي لو أعطيتكه فرددته علي أن أملكه ، ولو مت أن أرثه كما يحرم علي لو تصدقت عليك بصدقة محرمة أن أملكها عنك بميراث ، أو غيره ، وقد لزمها اسم صدقة بوجه أبدا ؟ قلت له نعم أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عبد الله بن يزيد الأنصاري ذكر الحديث .

    ( قال الشافعي ) وأخبرنا الثقة ، أو سمعت مروان بن معاوية عن عبد الله بن عطاء المديني عن ابن بريدة الأسلمي عن أبيه { أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني تصدقت على أمي بعبد وإنها ماتت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجبت صدقتك ، وهو لك بميراثك } قال فلم جعلت ما تصدق به غير واجب عليه على أحد بعينه في معنى الهبات تحل لمن لا تحل له الصدقة الواجبة فهل من دليل على ما وصفت ؟ قلت : نعم أخبرني محمد بن علي بن شافع قال أخبرني عبد الله بن حسن بن حسين عن غير واحد من أهل بيته وأحسبه قال زيد بن علي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بمالها على بني هاشم وبني المطلب وأن عليا رضي الله عنه تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم .

    ( قال الشافعي ) وأخرج إلى والي المدينة صدقة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبرني أنه أخذها من آل أبي رافع وأنها كانت عندهم فأمر بها فقرئت علي ، فإذا فيها تصدق بها علي رضي الله عنه على بني هاشم وبني المطلب وسمى معهم غيرهم ، قال وبنو هاشم وبنو المطلب تحرم عليهم الصدقة المفروضة ، ولم يسم علي ، ولا فاطمة منهم غنيا ، ولا فقيرا ، وفيهم غني .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا إبراهيم عن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات كان يضعها الناس بين مكة والمدينة فقلت أو قيل له ؟ فقال : إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة .

    ( قال الشافعي ) فقال أفتجيز أن يتصدق الرجل على الهاشمي والمطلبي والغني منهم ومن غيرهم متطوعا ؟ فقلت : نعم استدلالا بما وصفت وأن الصدقة تطوعا إنما هي عطاء ، ولا بأس أن يعطى الغني تطوعا قال : فهل تجد أنه يجوز أن يعطى الغني ؟ فقلت : ما للمسألة من هذا موضع ، ولا بأس أن يعطى الغني قال : فاذكر فيه حجة قلت أخبرنا سفيان عن معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : استعملني ، قال : فهل تحرم الصدقة [ ص: 59 ] تطوعا على أحد ؟ فقلت : لا إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأخذها ويأخذ الهدية ، وقد يجوز تركه إياها على ما رفعه الله به وأبانه من خلقه تحريما ويجوز لغير ذلك ; لأن معنى الصدقات من العطايا هبة لا يراد ثوابها ومعنى الهدية يراد ثوابها قال : أفتجد دليلا على قبوله الهدية ؟ فقلت : نعم ، أخبرنيه مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال ألم أر برمة لحم فقالوا ذلك شيء تصدق به على بريرة فقال هو لها صدقة ، وهو لنا هدية } فقال : ما الذي يجوز أن يكون صدقة محرمة ؟ قلت : كل ما كان الشهود يسمونه بحدود من الأرضين والدور معمورها وغير معمورها والرقيق فقال أما الأرضون والدور فهي صدقات من مضى فكيف أجزت الرقيق وأصحابنا لا يجيزون الصدقة بالرقيق إلا أن يكونوا في الأرض المتصدق بها فقلت له تصدق السلف بالدور والنخل ولعل في النخل زرعا أفرأيت إن قال قائل لا أجيز الصدقة بحمام ، ولا مقبرة ; لأنهما مخالفان للدور وأراضي النخل والزرع هل الحجة عليه إلا أن يقال إذا كان السلف تصدقوا بدور وأراضي نخل وزرع فكان ذلك إنما يعرف بالحدود وقد تتغير ، وكذلك الحمام والمقبرة يعرفان بحد ، وإن تغيرا قال هذه حجة عليه قال ، فإذا كانوا يعرفون العبيد بأعيانهم أتجدهم في معرفة الشهود بهم في معنى الأرضين والنخل ، أو أكثر بأنهم إذا عرفوا بأعيانهم كانوا كأرض تعرف حدودها ؟ قال إنهم لقريب مما وصفت قلت فكيف أبطلت الصدقة المحرمة فيهم ؟ قال قد يهلكون ويأبقون وتنقطع منفعتهم قلت فكل هذا يدخل الأرض والشجر قد تخرب الأرض بذهاب الماء ويأتي عليها السيل فيذهب بها وتنهدم الدار ويذهب بها السيل فما كانت قائمة فهي موقوفة ، ولا جناية لنا فيما أتى عليها من قضاء الله عز وجل قلت : وكذلك العبد لا جناية لنا في ذهابه ، ولا نقصه .

    ( قال الشافعي ) وكل ما عرف بعينه وقطع عليه الشهود مثل الإبل والبقر والغنم أنه صدقة محرمة جازت الصدقة في الماشية قال وتتم الصدقات المحرمات أن يتصدق بها مالكها على قوم معروفين بأعيانهم وأنسابهم وصفاتهم ويجمع في ذلك أن يقول المتصدق بها تصدقت بداري هذه على قوم ، أو رجل معروف بعينه يوم تصدق بها ، أو صفته أو نسبه حتى يكون إنما أخرجها من ملكه لمالك ملكه منفعتها يوم أخرجها ويكون مع ذلك أن يقول : صدقة لا تباع ، ولا توهب ، أو يقول : لا تورث ، أو يقول : غير موروثة أو يقول : صدقة محرمة ، أو يقول : صدقة مؤبدة ، فإذا كان واحد من هذا ، فقد حرمت الصدقة فلا تعود ميراثا أبدا ، وإن قال : صدقة محرمة على من لم يكن بعدي بعينه ولا نسبه ثم على بني فلان ، أو قال : صدقة محرمة على من كان بعدي بعينه فالصدقة منفسخة ، ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة له فيها يوم يخرجها إليه ، وإذا انفسخت عادت في ملك صاحبها كما كانت قبل أن يتصدق بها .

    ولو تصدق بداره صدقة محرمة على رجل بعينه ، أو قوم بأعيانهم ، ولم يسلبها على من بعدهم كانت محرمة أبدا ، فإذا انقرض الرجل المتصدق بها عليه ، أو القوم المتصدق بها عليهم كانت هذه صدقة محرمة بحالها أبدا ورددناها على أقرب الناس بالرجل الذي تصدق بها يوم ترجع الصدقة إنما تصير غير راجعة موروثة بواحد مما وصفنا أو ما كان في معناه ، وإنما فسخناها إذا تصدق بها فكانت حين عقدت صدقة لا مالك لمنفعتها ; لأنه لا يجوز أن تخرج من مالك إلى غير مالك منفعة ; لأنها لا تملك منفعة نفسها كما يملك العبد منفعة نفسه بالعتق ، ولا يزول عنها الملك إلا إلى مالك منفعة فيها فأما إذا لم يقل في صدقته محرمة ، أو بعض ما قلنا مما هو في معنى تحريمها من شرط المتصدق فالصدقة كالهبات تملك بما تملك به الأموال غير المحرمات وكالعمرى ، أو غيرها من العطايا . وسواء في الصدقات المحرمات يوم يتصدق بها إلى مالك يملك منفعتها سبلت بعده ، أو لم تسبل [ ص: 60 ] أو دفعت إليه ، أو إلى غير المتصدق أو لم تدفع كل ذلك يحرم بيعها بكل حال وسواء في الصدقات كل ما جازت فيه الصدقات المحرمات من أرض ودار وغيرهما وعلى ما شرط المتصدق لمن تصدق بها عليه من منفعتها فإن شرط أن لبعضهم على بعض الأثرة بالتقدمة ، أو الزيادة من المنفعة فذلك على ما اشترط فإن شرطها عليهم بأسمائهم وأنسابهم فسواء كانوا أغنياء ، أو فقراء فإن قال الأحوج منهم فالأحوج كانت على ما شرط لا يعدى بها شرطه ، وإن شرطها على جماعة رجال ونساء تخرج النساء منها إذا تزوجن ويرجعن إليها بالفراق وموت الأزواج كانت على ما شرط ، وكذلك إن شرط بأن يخرج الرجال منها بالغين ويدخلوا صغارا ، أو يخرجوا أغنياء ويدخلوا فقراء ، أو يخرجوا غيبا عن البلد الذي به الصدقة ويدخلوا حضورا كيفما شرط أن يكون ذلك كان إذا بقي لمنفعتها مالك سوى من أخرجه منها .
    الخلاف في الحبس وهي الصدقات الموقوفات

    ( قال الشافعي ) رحمه الله : وخالفنا بعض الناس في الصدقات الموقوفات فقال لا تجوز بحال قال وقال شريح جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس قال وقال شريح لا حبس عن فرائض الله تعالى .

    ( قال الشافعي ) والحبس التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقها والله أعلم ما وصفنا من البحيرة والوصيلة والحام والسائبة إن كانت من البهائم فإن قال قائل ما دل على ما وصفت ؟ قيل ما علمنا جاهليا حبس دارا على ولد ، ولا في سبيل الله ، ولا على مساكين وحبسهم كانت ما وصفنا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقها والله أعلم وكان بينا في كتاب الله عز وجل إطلاقها ، فإن قال قائل : فهو يحتمل ما وصفت ويحتمل إطلاق كل حبس فهل من خبر يدل على أن هذا الحبس في الدور والأموال خارجة من الحبس المطلقة ؟ قيل : نعم أخبرنا سفيان عن عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال { جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أصبت مالا لم أصب مثله قط ، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس أصله وسبل ثمرته } .

    ( قال الشافعي ) وحجة الذي أبطل الصدقات الموقوفات أن شريحا قال : لا حبس عن فرائض الله تعالى لا حجة فيها عندنا ، ولا عنده ; لأنه يقول قول شريح على الانفراد لا يكون حجة ، ولو كان حجة لم يكن في هذا حبس عن فرائض الله عز وجل فإن قال : وكيف ؟ قيل : إنما أجزنا الصدقات الموقوفات إذا كان المتصدق بها صحيحا فارغة من المال فإن كان مريضا لم نجزها إلا من الثلث إذا مات من مرضه ذلك وليس في واحدة من الحالين حبس عن فرائض الله تعالى فإن قال قائل : وإذا حبسها صحيحا ثم مات لم تورث عنه قيل : فهو أخرجها ، وهو مالك لجميع ماله يصنع فيه ما يشاء ويجوز له أن يخرجها لأكثر من هذا عندنا ، وعندك أرأيت لو وهبها لأجنبي ، أو باعه إياها فحاباه أيجوز ؟ فإن قال : نعم ، قال : فإذا فعل ثم مات أتورث عنه ؟ فإن قال : لا ، قيل : فهذا قرار من فرائض الله تعالى فإن قال : لا ; لأنه أعطى ، وهو يملك وقبل وقوع فرائض الله تعالى قيل : وهكذا الصدقة تصدق بها صحيحا قبل وقوع [ ص: 61 ] فرائض الله تعالى ، وقولك : لا حبس عن فرائض الله تعالى محال ; لأنه فعله قبل أن تكون فرائض الله في الميراث ; لأن الفرائض إنما تكون بعد موت المالك ، وفي المرض .

    ( قال الشافعي ) وحجة الذي صار إليه من أبطل الصدقات أن قال : إنها في معنى البحيرة والوصيلة والحامي ; لأن سيدها أخرجها من ملكه إلى غير مالك قيل : له قد أخرجها إلى مالك يملك منفعتها بأمر جعله لله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والبحيرة والوصيلة والحامي لم تخرج رقبته ، ولا منفعته إلى مالك فهما متباينان فكيف تقيس أحدهما بالآخر ؟

    ( قال الشافعي ) والذي يقول هذا القول يزعم أن الرجل إذا تصدق بمسجد له جاز ذلك ، ولم يعد في ملكه وكان صدقة موقوفا على من صلى فيه ، فإذا قيل له : فهل أخرجه إلى مالك يملك منه ما كان مالكه يملك ؟ قال : لا ، ولكن ملك من صلى فيه الصلاة وجعله لله تبارك وتعالى ، فلو لم يكن عليه حجة بخلاف السنة إلا ما أجازه في المسجد مما ليس فيه سنة ورد من الدور والأرضين ، وفي الأرضين سنة كان محجوجا فإن قال قائل : أجيز الأرضين والدور ; لأن في الأرضين سنة والدور مثلها ; لأنها أرضون تغل ، وأراد المساجد كان أولى أن يكون قوله مقبولا ممن رد الدور والأرضين وأجاز المساجد ثم تجاوز في المساجد إلى أن قال : لو بنى رجل في داره مسجدا فأخرج له بابا وأذن للناس أن يصلوا فيه كان حبسا وقفا ، وهو لم يتكلم بوقفه ، ولا بحبسه وجعل إذنه بالصلاة كالكلام بحبسه ووقفه .

    ( قال الشافعي ) فعاب هذا القول عليه صاحباه واحتجا عليه بما ذكرنا وأكثر منه وقالا : هذا جهل ، صدقات المسلمين في القديم والحديث أشهر من أن ينبغي أن يجهلها عالم ، وأجازوا الصدقات المحرمات في الدور والأرضين على ما أجزناها عليه ثم اعتدل قول أبي يوسف فيها فقال : بأحسن قول فقال : تجوز الصدقات المحرمات إذا تكلم بها صاحبها قبضت ، أو لم تقبض وذلك أنا إنما أجزناها اتباعا لمن كان قبلنا مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهم وهم ولوا صدقاتهم حتى ماتوا فلا يجوز أن نخالفهم في أن لا نجيزها إلا مقبوضة وهم قد أجازوها غير مقبوضة بالكلام بها فنوافقهم في إجازتها .

    ( قال الشافعي ) وما قال فيها أبو يوسف كما قال .

    ( قال الشافعي ) أخبرني غير واحد من آل عمر وآل علي أن عمر ولى صدقته حتى مات وجعلها بعده إلى حفصة وولى علي صدقته حتى مات ووليها بعده الحسن بن علي رضي الله عنهما وأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليت صدقتها حتى ماتت وبلغني عن غير واحد من الأنصار أنه ولي صدقته حتى مات .

    ( قال الشافعي ) وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يسبل ثمر أرضه ويحبس أصلها دليل على أنه رأى ما صنع جائزا فبهذا نراه بلا قبض جائزا ، ولم يأمره أن يخرجه عمر من ملكه إلى غيره إذا حبسه ولما صارت الصدقات مبدأة في الإسلام لا مثال لها قبله علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فلم يكن فيما أمره به إذا حبس أصلها وسبل ثمرتها أن يخرجها إلى أحد يحوزها دونه دلالة على أن الصدقة تتم بأن يحبس أصلها ويسبل ثمرتها دون وال يليها كما كان في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا إسرائيل أن يصوم ويستظل ويجلس ويتكلم دلالة على أن لا كفارة عليه ، ولم يأمره في ذلك بكفارة .

    ( قال الشافعي ) وخالفنا بعض الناس في الصدقات المحرمات فقال : لا تجوز حتى يخرجها المتصدق بها إلى من يحوزها عليه والحجة عليه ما وصفنا وغيره من افتراق الصدقات الموقوفات وغيرها مما يحتاج فيه إلى أن لا يتم إلا بقبض . [ ص: 62 ] وثيقة في الحبس

    ( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال : أخبرنا الشافعي إملاء قال : هذا كتاب كتبه فلان بن فلان الفلاني في صحة من بدنه وعقله وجواز أمره وذلك في شهر كذا من سنة كذا إني تصدقت بداري التي بالفسطاط من مصر في موضع كذا أحد حدود جماعة هذه الدار ينتهي إلى كذا والثاني والثالث والرابع تصدقت بجميع أرض هذه الدار وعمارتها من الخشب والبناء والأبواب وغير ذلك من عمارتها وطرقها ومسايل مائها وأرفاقها ومرتفقها وكل قليل وكثير هو فيها ومنها وكل حق هو لها داخل فيها وخارج منها وحبستها صدقة بتة مسبلة لوجه الله وطلب ثوابه لا مثنوية فيها ، ولا رجعة حبسا محرمة لا تباع ، ولا تورث ، ولا توهب حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين وأخرجتها من ملكي ودفعتها إلى فلان بن فلان يليها بنفسه وغيره ممن تصدقت بها عليه على ما شرطت وسميت في كتابي هذا وشرطي فيه أني تصدقت بها على ولدي لصلبي ذكرهم وأنثاهم من كان منهم حيا اليوم ، أو حدث بعد اليوم وجعلتهم فيها سواء ذكرهم وأنثاهم صغيرهم وكبيرهم شرعا في سكناها وغلتها لا يقدم واحد منهم على صاحبه ما لم تتزوج بناتي ، فإذا تزوجت واحدة منهن وباتت إلى زوجها انقطع حقها ما دامت عند زوج وصار بين الباقين من أهل صدقتي كما بقي من صدقتي يكونون فيهم شرعا ما كانت عند زوج .

    فإذا رجعت بموت زوج ، أو طلاق كانت على حقها من داري كما كانت عليه قبل أن تتزوج وكلما تزوجت واحدة من بناتي فهي على مثل هذا الشرط تخرج من صدقتي ناكحة ويعود حقها فيها مطلقة أو ميتا عنها لا تخرج واحدة منهن من صدقتي إلا بزوج .

    وكل من مات من ولدي لصلبي ذكرهم وأنثاهم رجع حقه على الباقين معه من ولدي لصلبي ، فإذا انقرض ولدي لصلبي فلم يبق منهم واحد كانت هذه الصدقة حبسا على ولد ولدي الذكور لصلبي وليس لولد البنات من غير ولدي شيء ثم كان ولد ولدي الذكور من الإناث والذكور في صدقتي هذه على مثل ما كان عليه ولدي لصلبي الذكر والأنثى فيها سواء وتخرج المرأة منهم من صدقتي بالزوج وترد إليها بموت الزوج ، أو طلاقه وكل من حدث من ولدي الذكور من الإناث والذكور فهو داخل في صدقتي مع ولد ولدي وكل من مات منهم رجع حقه على الباقين معه حتى لا يبقى من ولد ولدي أحد .

    فإذا لم يبق من ولد ولدي لصلبي أحد كانت هذه الصدقة بمثل هذا الشرط على ولد ولد ولدي للذكور الذين إلى عمود نسبهم تخرج منها المرأة بالزوج وترد إليها بموته ، أو فراقه ويدخل عليهم من حدث أبدا من ولد ولد ولدي ، ولا يدخل قرن ممن إلى عمود نسبه من ولد ولدي ما تناسلوا على القرن الذين هم أبعد إلي منهم ما بقي من ذلك القرن أحد ، ولا يدخل عليهم أحد من ولد بناتي الذين إلى عمود انتسابهم إلا أن يكون من ولد بناتي من هو من ولد ولدي الذكور الذين إلى عمود نسبه فيدخل مع القرن الذين عليهم صدقتي لولادتي إياه من قبل أبيه لا من قبل أمه ثم هكذا صدقتي أبدا على من بقي من ولد أولادي الذين إلى عمودي نسبهم ، وإن سفلوا ، أو تناسخوا حتى يكون بيني وبينهم مائة أب وأكثر ما بقي أحد إلى عمود نسبه ، فإذا انقرضوا كلهم فلم يبق منهم أحد إلى عمود نسبه فهذه الدار حبس صدقة لا تباع ، ولا توهب لوجه الله تعالى على ذوي رحمي المحتاجين من قبل [ ص: 63 ] أبي وأمي يكونون فيها شرعا سواء ذكرهم وأنثاهم والأقرب إلي منهم والأبعد مني ، فإذا انقرضوا ، ولم يبق منهم أحد فهذه الدار حبس على موالي الذين أنعمت عليهم وأنعم عليهم آبائي بالعتاقة لهم وأولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا ذكرهم وأنثاهم صغيرهم وكبيرهم ومن بعد إلي وإلى آبائي نسبه بالولاء ونسبه إلى من صار مولاي بولاية سواء ، فإذا انقرضوا فلم يبق منهم أحد فهذه الدار حبس صدقة لوجه الله تعالى على من يمر بها من غزاة المسلمين وأبناء السبيل وعلى الفقراء والمساكين من جيران هذه الدار وغيرهم من أهل الفسطاط وأبناء السبيل والمارة من كانوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها .

    ويلي هذه الدار ابني فلان بن فلان الذي وليته في حياتي وبعد موتي ما كان قويا على ولايتها أمينا عليها بما أوجب الله تعالى عليه من توفير غلة إن كانت لها والعدل في قسمها ، وفي إسكان من أراد السكن من أهل صدقتي بقدر حقه فإن تغيرت حال فلان بن فلان ابني يضعف عن ولايتها ، أو قلة أمانة فيها أوليها من ولدي أفضلهم دينا وأمانة على الشروط التي شرطت على ابني فلان ويليها ما قوي وأدى الأمانة ، فإذا ضعف ، أو تغيرت أمانته فلا ولاية له فيها وتنتقل الولاية عنه إلى غيره من أهل القوة والأمانة من ولدي ثم كل قرن صارت هذه الصدقة إليه وليها من ذلك القرن أفضلهم قوة وأمانة ومن تغيرت حاله ممن وليها بضعف ، أو قلة أمانة نقلت ولايتها عنه إلى أفضل من عليه صدقتي قوة وأمانة وهكذا كل قرن صارت صدقتي هذه إليه يليها منه أفضلهم دينا وأمانة على مثل ما شرطت على ولدي ما بقي منهم أحد ثم من صارت إليه هذه الدار من قرابتي ، أو موالي وليها ممن صارت إليه أفضلهم دينا ، ولا أمانة ما كان في القرن الذي تصير إليهم هذه الصدقة ذو قوة وأمانة ، وإن حدث قرن ليس فيهم ذو قوة ، ولا أمانة ولى قاضي المسلمين صدقتي هذه من يحمل ولايتها بالقوة والأمانة من أقرب الناس إلي رحما ما كان ذلك فيهم فإن لم يكن ذلك فيهم فمن موالي وموالي آبائي الذين أنعمنا عليهم فإن لم يكن ذلك فيهم فرجل يختاره الحاكم من المسلمين فإن حدث من ولدي أو من ولد ولدي ، أو من موالي رجل له قوة وأمانة نزعها الحاكم من يدي من ولاه من قبله وردها إلى من كان قويا وأمينا ممن سميت وعلى كل وال يليها أن يعمر ما وهي من هذه الدار ويصلح ما خاف فساده منها ويفتح فيها من الأبواب ويصلح منها ما فيه الصلاح لها والمسترد في غلتها وسكنها مما يجتمع من غلة هذه الدار ثم يفرق ما يبقى على من له هذه الغلة سواء بينهم ما شرطت لهم ، وليس للوالي من ولاة المسلمين أن يخرجها من يدي من وليته إياها ما كان قويا أمينا عليها ، ولا من يدي أحد من القرن الذي تصير إليهم ما كان فيهم من يستوجب ولايتها بالقوة والأمانة ، ولا يولي غيرهم ، وهو يجد فيهم من يستوجب الولاية ، شهد على إقرار فلان بن فلان ، فلان بن فلان ومن شهد .
    كتاب الهبة




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #153
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله




    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (153)
    صــــــــــ 64 الى صـــــــــــ70



    وترجم في اختلاف مالك والشافعي " باب القضاء في الهبات "

    ( أخبرنا الربيع ) قال : أخبرنا الشافعي رحمه الله قال : أخبرنا مالك عن داود بن الحصين عن أبي الغطفان بن طريف المري عن مروان بن الحكم أن عمر بن الخطاب قال : " ومن وهب هبة لصلة رحم ، أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد به الثواب فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها " وقال : مالك إن الهبة إذا تغيرت عند الموهوب للثواب بزيادة أو نقصان ، فإن على [ ص: 64 ] الموهوب له أن يعطي الواهب قيمتها يوم قبضها فقلت للشافعي فإنا نقول بقول صاحبنا فقال الشافعي ، فقد ذهب عمر في الهبة يراد ثوابها أن الواهب على هبته إن لم يرض منها أن للواهب الخيار حتى يرضى من هبته ، ولو أعطى أضعافها في مذهبه - والله أعلم - كان له أن يرجع فيها ، ولو تغيرت عند الموهوب له بزيادة كان له أخذها وكان كالرجل يبيع الشيء وله فيه الخيار عبد ، أو أمة فيزيد عند المشتري فيختار البائع نقض البيع فيكون له نقضه ، وإن زاد العبد المبيع أو الأمة المبيعة فكثرت زيادته ومذهبكم خلاف ما رويتم عن عمر بن الخطاب .
    وفي اختلاف العراقيين " باب الصدقة والهبة "

    ( قال الشافعي ) رحمه الله وإذا وهبت المرأة لزوجها هبة ، أو تصدقت ، أو تركت له من مهرها ثم قالت أكرهني وجاءت على ذلك ببينة فإن أبا حنيفة كان يقول لا أقبل بينتها وأمضي عليها ما فعلت من ذلك وكان ابن أبي ليلى يقول أقبل بينتها على ذلك وأبطل ما صنعت .

    ( قال الشافعي ) وإذا تصدقت المرأة على زوجها بشيء ، أو وضعت له من مهرها ، أو من دين كان لها عليه فأقامت البينة أنه أكرهها على ذلك والزوج في موضع القهر للمرأة أبطلت ذلك عنها كله
    وإذا وهب الرجل هبة وقبضها الموهوبة له وهي دار فبناها بناء وأعظم النفقة ، أو كانت جارية صغيرة فأصلحها ، أو صنعها حتى شبت وأدركت ، فإن أبا حنيفة كان يقول : لا يرجع الواهب في شيء من ذلك ، ولا من كل هبة زادت عند صاحبها خيرا ، ألا ترى أنه قد حدث فيها في ملك الموهوبة له شيء لم يكن في ملك الواهب ، أرأيت إن ولدت الجارية ولدا أكان للواهب أن يرجع فيه ، ولم يهبه له ، ولم يملكه قط ؟ وبهذا يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول له أن يرجع في ذلك كله ، وفي الولد .

    ( قال الشافعي ) وإذا وهب الرجل للرجل جارية ، أو دارا فزادت الجارية في يديه ، أو بنى الدار فليس للواهب الذي ذكر أنه وهب للثواب ، ولم يشترط ذلك أن يرجع في الجارية أي حال ما كانت زادت خيرا أو نقصت كما لا يكون له إذا أصدق المرأة جارية فزادت في يديها ثم طلقها أن يرجع بنصفها زائدة فأما الدار ، فإن الباني إنما بنى ما يملك فلا يكون له أن يبطل بناءه ، ولا يهدمه ويقال له : إن أعطيته قيمة البناء أخذت نصف الدار والبناء كما يكون لك وعليك في الشفعة يبني فيها صاحبها ، ولا ترجع بنصفها كما لو أصدقها دارا فبنتها لم يرجع بنصفها ; لأن مبنيا أكثر قيمة منه غير مبني ، ولو كانت الجارية ولدت كان الولد للموهوبة له ; لأنه حادث في ملكه بائن منها كمباينة الخراج والخدمة لها كما لو ولدت في يد المرأة المصدقة ثم طلقت قبل الدخول كان الولد للمرأة ورجع بنصف الجارية إن أراد ذلك ، وإذا وهب الرجل جاريته لابنه وابنه كبير ، وهو في عياله ، فإن أبا حنيفة كان يقول : لا يجوز إلا أن يقبض وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول إذا كان الولد في عيال أبيه ، وإن كان قد أدرك فهذه الهبة له جائزة ، وكذلك الرجل إذا وهب لامرأته .

    ( قال الشافعي )
    وإذا وهب الرجل لابنه جارية وابنه في عياله فإن كان الابن بالغا لم تكن الهبة تامة حتى يقبضها الابن وسواء كان في عياله ، أو لم يكن كذلك روي عن أبي بكر وعائشة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم في البالغين وعن عثمان أنه رأى أن الأب يحوز لولده ما كانوا صغارا فهذا يدل على أنه لا يحوز لهم إلا في حال الصغر .

    ( قال الشافعي ) وهكذا كل هبة ونحلة وصدقة غير محرمة فهي كلها من العطايا التي لا يؤخذ عليها عوض ، ولا تتم إلا بقبض المعطي
    وإذا وهب الرجل دارا لرجلين ، أو متاعا وذلك المتاع مما يقسم فقبضاه جميعا فإن [ ص: 65 ] أبا حنيفة كان يقول لا تجوز تلك الهبة إلا أن يقسم لكل واحد منهما حصته وكان ابن أبي ليلى يقول الهبة جائزة وبهذا يأخذ ، وإذا وهب اثنان لواحد وقبض فهو جائز وقال : أبو يوسف هما سواء .

    ( قال الشافعي ) وإذا وهب الرجل لرجلين بعض دار لا تقسم ، أو طعاما ، أو ثيابا أو عبدا لا تنقسم فقبضا جميعا الهبة فالهبة جائزة كما يجوز البيع ، وكذلك لو وهب اثنان دارا بينهما تنقسم ، أو لا تنقسم أو عبد الرجل وقبض جازت الهبة ، وإذا كانت الدار لرجلين فوهب أحدهما حصته لصاحبه ، ولم يقسمه له ، فإن أبا حنيفة كان يقول الهبة في هذا باطلة ، ولا تجوز وبهذا يأخذ ومن حجته في ذلك أنه قال : لا تجوز الهبة إلا مقسومة معلومة مقبوضة بلغنا عن أبي بكر رحمه الله أنه نحل عائشة أم المؤمنين جداد عشرين وسقا من نخل له بالعالية فلما حضره الموت قال لعائشة " إنك لم تكوني قبضتيه ، وإنما هو مال الوارث فصار بين الورثة " ; لأنها لم تكن قبضته وكان إبراهيم يقول لا تجوز الهبة إلا مقبوضة وبه يأخذ وكان ابن أبي ليلى يقول إذا كانت الدار بين رجلين فوهب أحدهما لصاحبه نصيبه فهذا قبض منه للهبة وهذه معلومة وهذه جائزة ، وإذا وهب الرجلان دارا لرجل فقبضها فهو جائز في قول أبي حنيفة ، ولا تفسد الهبة ; لأنها كانت لاثنين وبه يأخذ .

    ( قال الشافعي ) وإذا كانت الدار بين رجلين فوهب أحدهما لصاحبه نصيبه فقبض الهبة فالهبة جائزة
    والقبض أن تكون كانت في يدي الموهوبة له ، ولا وكيل معه فيها ، أو يسلمها ربها ويخلي بينه وبينها حتى يكون لا حائل دونها دونها هو ، ولا وكيل له ، فإذا كان هذا هكذا كان قبضا ، والقبض في الهبات كالقبض في البيوع ما كان قبضا في البيع كان قبضا في الهبة وما لم يكن قبضا في البيع لم يكن قبضا في الهبة ، وإذا وهب الرجل للرجل الهبة وقبضها دارا ، أو أرضا ثم عوضه بعد ذلك منها عوضا وقبضه الواهب ، فإن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول : ذلك جائز ولا تكون فيه شفعة ، وبه يأخذ وليس هذا بمنزلة الشراء ويأخذ الشفيع بالشفعة بقيمة العوض ، ولا يستطيع الواهب أن يرجع في الهبة بعد العوض في قولهما جميعا
    ( قال الشافعي ) وإذا وهب الرجل لرجل شقصا من دار فقبضه ثم عوضه الموهوبة له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب فإن قال : وهبتها للثواب كان فيها شفعة ، وإن قال : وهبتها لغير ثواب لم يكن فيها شفعة وكانت المكافأة كابتداء الهبة ، وهذا كله في قول من قال : للواهب الثواب إذا قال : أردته فأما من قال : لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شيء وهبه ، ولا الثواب منه .

    ( قال الربيع ) وفيه قول آخر ، وإذا وهب واشترط الثواب فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا ، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه الموهوب فليس له أن يرجع في شيء وهبه ، وهو معنى قول الشافعي ، وإذا وهب الرجل للرجل هبة في مرضه فلم يقبضها الموهوبة له حتى مات الواهب ، فإن أبا حنيفة كان يقول : الهبة في هذا باطل لا تجوز وبه يأخذ ، ولا يكون له وصية إلا أن يكون ذلك في ذكر وصية ، وكان ابن أبي ليلى يقول هي جائزة من الثلث
    ( قال الشافعي ) وإذا وهب الرجل في مرضه الهبة فلم يقبضها الموهوبة له حتى مات الواهب لم يكن للموهوبة له شيء وكانت الهبة للورثة . الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة . الأعمش عن إبراهيم قال : الصدقة إذا علمت جازت الهبة لا تجوز إلا مقبوضة وكان أبو حنيفة يأخذ بقول ابن عباس في الصدقة ، وهو قول أبي يوسف .

    ( قاله الشافعي ) وليس للواهب أن يرجع في الهبة إذا قبض منها عوضا ، قل ، أو كثر .
    [ ص: 66 ] باب في العمرى من كتاب اختلاف مالك والشافعي رضي الله عنهما .

    ( قال الربيع ) سألت الشافعي عمي أعمر عمرى له ولعقبه فقال هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها فقلت : ما الحجة في ذلك ؟ قال : السنة الثابتة من حديث الناس وحديث مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    ( أخبرنا ) مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها } ; لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث .

    ( قال الشافعي ) وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الأمصار بغير المدينة وأكابر أهل المدينة ، وقد روى هذا مع جابر بن عبد الله زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت للشافعي فإنا نخالف هذا فقال : تخالفونه وأنتم تروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : إن حجتنا فيه أن مالكا قال أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها فقال : له القاسم ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم ، وفيما أعطوا .

    ( قال الشافعي ) ما أجابه القاسم في العمرى بشيء وما أخبره إلا أن الناس على شروطهم فإن ذهب ذاهب إلى أن يقول العمرى من المال والشرط فيها جائز ، فقد يشترط الناس في أموالهم شروطا لا تجوز لهم . فإن قال قائل : وما هي ؟ قيل : الرجل يشتري العبد على أن يعتقه والولاء للبائع فيعتقه فهو حر والولاء للمعتق والشرط باطل . فإن قال : السنة تدل على إبطال هذا الشرط قلنا والسنة تدل على إبطال الشرط في العمرى فلم أخذتم بالسنة مرة وتركتموها مع أن قول القاسم رحمه الله لو كان قصد به قصد العمرى فقال : إنهم على شروطهم فيها لم يكن في هذا ما يرد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟

    فإن قال قائل : ولم ؟ قيل : نحن لا نعلم أن القاسم قال : هذا إلا بخبر يحيى عن عبد الرحمن عنه ، وكذلك علمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في العمرى بخبر ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، فإذا قبلنا خبر الصادقين فمن روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح مما روى هذا عن القاسم لا يشك عالم أن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال : به مما قاله ناس بعده قد يمكن فيهم أن لا يكونوا سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلغهم عنه شيء وأنهم أناس لا نعرفهم .

    فإن قال قائل : لا يقول القاسم قال : الناس إلا لجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أهل العلم لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة ، ولا يجتمعون أبدا من جهة الرأي ، ولا يجتمعون إلا من جهة السنة ، فقيل : له قد أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أن رجلا كانت عنده وليدة لقوم فقال : لأهلها شأنكم بها فرأى الناس أنها تطليقة وأنتم تزعمون أنها ثلاث ، وإذا قيل لكم لم لا تقولون قول القاسم والناس إنها تطليقة ؟ قلتم لا ندري من الناس الذين يروي هذا عنهم القاسم فلئن لم يكن قول القاسم رأى الناس حجة عليكم في رأي أنفسكم لهو عن أن يكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة أبعد ولئن كان حجة لقد أخطأتم بخلافكم إياه برأيكم . وإنا لنحفظ عن ابن عمر في العمرى مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

    . ( أخبرنا ) ابن عيينة عن عمرو بن دينار وحميد الأعرج عن حبيب بن أبي ثابت قال : كنت عند ابن عمر فجاءه رجل من أهل البادية فقال : إني وهبت لابني هذا ناقة في حياته وإنها تناتجت إبلا فقال ابن عمر هي له حياته وموته فقال : إني تصدقت عليه بها قال : ذلك أبعد لك منها .

    ( أخبرنا ) سفيان عن ابن أبي نجيح عن حبيب بن أبي ثابت مثله إلا أنه قال [ ص: 67 ] أضنت

    يعني كبرت واضطربت ( أخبرنا ) الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سليمان بن يسار أن طارقا قضى بالمدينة بالعمرى عن قول جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أخبرنا ) ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العمرى للوارث ( أخبرنا ) سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تعمروا ، ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا ، أو أرقبه فهو سبيل الميراث } ( أخبرنا ) سفيان عن أيوب عن ابن سيرين قال : حضرت شريحا قضى لأعمى بالعمرى فقال : له الأعمى يا أبا أمية بم قضيت لي ؟ فقال شريح لست أنا قضيت لك ، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم قضى لك منذ أربعين سنة قال : " من أعمر شيئا حياته فهو لورثته إذا مات " .

    ( قال الشافعي ) فتتركون ما وصفتم من العمرى مع ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وابن عمر وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وهكذا عندكم عمل بعد النبي صلى الله عليه وسلم لتوهم في قول القاسم وأنتم تجدون في قول القاسم يعني في رجل قال لأمة قوم شأنكم بها فرأى الناس أنها تطليقة ثم تخالفونه برأيكم وما روى القاسم عن الناس . ، وفي بعض النسخ مما ينسب للأم ( في العمرى )

    ( قال الشافعي ) وهو يروى عن ربيعة إذ ترك حديث العمرى أنه يحتج بأن الزمان قد طال وأن الرواية يمكن فيها الغلط ، فإذا روى الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم { من أعمر عمرى له ولعقبه فهي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطى ; لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث } .

    ( قال الشافعي ) وقد أخبرنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أعمر شيئا فهو له } .

    ( قال الشافعي ) وأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { العمرى للوارث } .

    ( قال الشافعي ) وأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار وابن أبي نجيح عن حبيب بن أبي ثابت قال كنا عند عبد الله بن عمر فجاءه أعرابي فقال : له إني أعطيت بعض بني ناقة حياته قال : عمر ، وفي الحديث وإنها تناتجت . وقال ابن أبي نجيح في حديثه وإنها أضنت واضطربت فقال : هي له حياته وموته . قال : فإني تصدقت بها عليه قال : " فذلك أبعد لك منها " .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن أيوب عن محمد بن سيرين أن شريحا قضى بالعمرى لأعمى فقال : بم قضيت لي يا أبا أمية ؟ فقال ما أنا قضيت لك ، ولكن قضى لك محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعين سنة قضى من أعمر شيئا حياته فهو له حياته وموته . قال سفيان وعبد الوهاب فهو لورثته إذا مات .

    ( قال الشافعي ) فترك هذا ، وهو يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله من وجوه ثابتة وزيد بن ثابت ويفتي به جابر بالمدينة ويفتي به ابن عمر ويفتي به عوام أهل البلدان لا أعلمهم يختلفون فيه بأن قال أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقوله الناس فيها فقال [ ص: 68 ] القاسم ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم ، وفيما أعطوا .

    ( قال الشافعي ) والقاسم يرحمه لم يجبه في العمرى بشيء إنما أخبره أنه إنما أدرك الناس على شروطهم ، ولم يقل له : إن العمرى من تلك الشروط التي أدرك الناس عليها ، ويجوز أن لا يكون القاسم سمع الحديث ، ولو سمعه ما خالفه إن شاء الله . قال : فإذا قيل لبعض من يذهب مذهبه : لو كان القاسم قال هذا في العمرى أيضا فعارضك معارض بأن يقول : أخاف أن يغلط على القاسم من روى هذا عنه إذا كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفنا يروى من وجوه يسندونه . قال : لا يجوز أن يتهم أهل الحفظ بالغلط فقيل : ولا يجوز أن يتهم من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال : لا يجوز قلنا ما يثبت عن النبي أولى أن يكون لازما لأهل دين الله ، أو ما قال القاسم أدركت الناس ولسنا نعرف الناس الذين حكي هذا عنهم ، فإن قال : لا يجوز على مثل القاسم في علمه أن يقول أدركت الناس إلا والناس الذين أدرك أئمة يلزمه قولهم قيل له : فقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم أن رجلا كانت عنده وليدة لقوم فقال : لأهلها شأنكم بها فرأى الناس أنها تطليقة ، وهو يفتي برأي نفسه أنها ثلاث تطليقات فإن قال : في هذه لا أعرف الناس الذين روى القاسم هذا عنهم جاز لغيره أن يقول لا أعرف الناس الذين روى هذا عنهم في الشروط ، وإن كان يقول إن القاسم لا يقول الناس إلا الأئمة الذين يلزمه قولهم ، فقد ترك قول القاسم برأي نفسه وعاب على غيره اتباع السنة .
    كتاب اللقطة الصغيرة .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : في اللقطة مثل حديث مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء { وقال : في ضالة الغنم إذا وجدتها في موضع مهلكة فهي لك فكلها ، فإذا جاء صاحبها فاغرمها له . } { وقال : في المال يعرفه سنة ثم يأكله إن شاء فإن جاء صاحبه غرمه له } ، وقال : { يعرفها سنة ثم يأكلها موسرا كان ، أو معسرا إن شاء } إلا أني لا أرى له أن يخلطها بماله ، ولا يأكلها حتى يشهد على عددها ووزنها وظرفها وعفاصها ووكائها فمتى جاء صاحبها غرمها له ، وإن مات كانت دينا عليه في ماله ، ولا يكون عليه في الشاة يجدها بالمهلكة تعريف إن أحب أن يأكلها فهي له ومتى لقي صاحبها غرمها له ، وليس ذلك له في ضالة الإبل ، ولا البقر ; لأنهما يدفعان عن أنفسهما ، وإنما كان ذلك له في ضالة الغنم والمال ; لأنهما لا يدفعان عن أنفسهما ، ولا يعيشان والشاة يأخذها من أرادها وتتلف لا تمتنع من السبع إلا أن يكون معها من يمنعها والبعير والبقرة يردان المياه ، وإن تباعدت ويعيشان أكثر عمرهما بلا راع فليس له أن يعرض لواحد منهما والبقر قياسا على الإبل .

    ( قال الشافعي ) وإن وجد رجل شاة ضالة في الصحراء فأكلها ثم جاء صاحبها قال : يغرمها خلاف مالك .

    ( قال الشافعي ) ابن عمر لعله أن لا يكون سمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة ، ولو لم يسمعه انبغى أن يقول لا يأكلها كما قال ابن عمر انبغى أن يفتيه أن يأخذها وينبغي للحاكم أن ينظر فإن كان الآخذ لها ثقة أمره بتعريفها وأشهد شهودا على عددها وعفاصها ووكائها أمره أن يوقفها في يديه إلى أن يأتي ربها فيأخذها ، وإن لم يكن ثقة في ماله وأمانته أخرجها من يديه إلى من يعف عن الأموال ليأتي ربها وأمره بتعريفها لا يجوز لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان من أهل الأمانة ، ولو وجدها فأخذها ثم أراد تركها لم يكن ذلك له ، وهذا في كل ما [ ص: 69 ] سوى الماشية فأما الماشية فإنها تخرق بأنفسها فهي مخالفة لها ، وإذا وجد رجل بعيرا فأراد رده على صاحبه فلا بأس بأخذه ، وإن كان إنما يأخذه ليأكله فلا ، وهو ظالم ، وإن كان للسلطان حمى ، ولم يكن على صاحب الضوال مؤنة تلزمه في رقاب الضوال صنع كما صنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه تركها في الحمى حتى يأتي صاحبها ، وما تناتجت فهو لمالكها ويشهد على نتاجها كما يشهد على الأم حين يجدها ويوسم نتاجها ويوسم أمهاتها ، وإن لم يكن للسلطان حمى وكان يستأجر عليها فكانت الأجرة تعلق في رقابها غرما رأيت أن يصنع كما صنع عثمان بن عفان إلا في كل ما عرف أن صاحبه قريب بأن يعرف بعير رجل بعينه فيحبسه ، أو يعرف وسم قوم بأعيانهم حبسها لهم اليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك .
    اللقطة الكبيرة ( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : إذا التقط الرجل اللقطة مما لا روح له ما يحمل ويحول ، فإذا التقط الرجل لقطة ، قلت ، أو كثرت ، عرفها سنة ويعرفها على أبواب المساجد والأسواق ومواضع العامة ويكون أكثر تعريفه إياها في الجماعة التي أصابها فيها ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتب ويشهد عليه فإن جاء صاحبها وإلا فهي له بعد سنة على أن صاحبها متى جاء غرمها ، وإن لم يأت فهي مال من ماله ، وإن جاء بعد السنة ، وقد استهلكها والملتقط حي أو ميت فهو غريم من الغرماء يحاص الغرماء فإن جاء وسلعته قائمة بعينها فهي له دون الغرماء والورثة وأفتي الملتقط إذا عرف رجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه لم يدع باطلا أن يعطيه ، ولا أجبره في الحكم إلا ببينة تقوم عليها كما تقوم على الحقوق فإن ادعاها واحد أو اثنان ، أو ثلاثة فسواء لا يجبر على دفعها إليهم إلا ببينة يقيمونها عليه ; لأنه قد يصيب الصفة بأن الملتقط وصفها ويصيب الصفة بأن الملتقطة عنه قد وصفها فليس لإصابته الصفة معنى يستحق به أحد شيئا في الحكم .

    وإنما قوله أعرف عفاصها ووكاءها والله أعلم أن تؤدي عفاصها ووكاءها مع ما تؤدي منها ولنعلم إذا وضعتها في مالك أنها اللقطة دون مالك ويحتمل أن يكون ليستدل على صدق المعترف ، وهذا الأظهر إنما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي } فهذا مدع أرأيت لو أن عشرة ، أو أكثر وصفوها كلهم فأصابوا صفتها ألنا أن نعطيهم إياها يكونون شركاء فيها ، ولو كانوا ألفا ، أو ألفين ونحن نعلم أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه ولعل الواحد يكون كاذبا ليس يستحق أحد بالصفة شيئا ، ولا تحتاج إذا التقطت أن تأتي بها إماما ، ولا قاضيا .

    ( قال الشافعي ) فإذا أراد الملتقط أن يبرأ من ضمان اللقطة ويدفعها إلى من اعترفها فليفعل ذلك بأمر حاكم ; لأنه إن دفعها بغير أمر حاكم ثم جاء رجل فأقام عليه البينة ضمن .
    قال : وإذا كان في يدي رجل العبد الآبق أو الضالة من الضوال فجاء سيده فمثل اللقطة ليس عليه أن يدفعه إلا ببينة يقيمها ، فإذا دفعه ببينة يقيمها عنده كان الاحتياط له أن لا يدفعه إلا بأمر الحاكم لئلا يقيم عليه غيره بينة فيضمن ; لأنه إذا دفعه ببينة تقوم عنده ، فقد يمكن أن تكون البينة غير عادلة ويقيم آخر بينة عادلة فيكون أولى ، وقد تموت البينة ويدعي هو أنه دفعه ببينة فلا يقبل قوله غير أن الذي قبض منه إذا أقر له فيضمنه القاضي للمستحق الآخر رجع هذا على المستحق الأول إلا أن يكون أقر أنه له فلا يرجع عليه ، وإذا أقام رجل شاهدا على اللقطة ، أو ضالة حلف مع شاهده وأخذ ما أقام عليه بينة ; لأن هذا مال ، وإذا أقام الرجل بمكة بينة على عبد ووصفت البينة العبد وشهدوا أن هذه صفة عبده وأنه لم [ ص: 70 ] يبع ، ولم يهب ، أو لم نعلمه باع ، ولا وهب وحلف رب العبد كتب الحاكم بينته إلى قاضي بلد غير مكة فوافقت الصفة العبد الذي في يديه لم يكن للقاضي أن يدفعه إليه بالصفة ، ولا يقبل إلا أن يكون شهود يقدمون عليه فيشهدون عليه بعينه ، ولكن إن شاء الذي له عليه بينة أن يسأل القاضي أن يجعل هذا العبد ضالا فيبيعه فيمن يزيد ويأمر من يشتريه ثم يقبضه من الذي اشتراه .

    ( قال الشافعي ) وإذا أقام عليه البينة بمكة بعينه أبرأ القاضي الذي اشتراه من الثمن بإبراء رب العبد ويرد عليه الثمن إن كان قبضه منه ، وقد قيل : يختم في رقبة هذا العبد ويضمنه الذي استحقه بالصفة فإن ثبت عليه الشهود فهو له ويفسخ عنه الضمان ، وإن لم يثبت عليه الشهود رد ، وإن هلك فيما بين ذلك كان له ضامنا ، وهذا يدخله أن يفلس الذي ضمن ويستحقه ربه فيكون القاضي أتلفه ويدخله أن يستحقه ربه ، وهو غائب فإن قضى على الذي دفعه إليه بإجازته في غيبته قضى عليه بأجر ما لم يغصب ، ولم يستأجر ، وإن أبطل عنه كان قد منع هذا حقه بغير استحقاق له ويدخله أن يكون جارية فارهة لعلها أم ولد لرجل فيخلي بينها وبين رجل يغيب عليها ، ولا يجوز فيه إلا القول الأول
    ( قال الشافعي ) وإذا اعترف الرجل الدابة في يدي رجل فأقام رجل عليها بينة أنها له قضى له القاضي بها فإن ادعى الذي هي في يديه أنه اشتراها من رجل غائب لم يحبس الدابة عن المقضي له بها ، ولم يبعث بها إلى البلد الذي فيها البيع كان البلد قريبا ، أو بعيدا ، ولا أعمد إلى مال رجل فأبعث به إلى البلد لعله يتلف قبل أن يبلغه بدعوى إنسان لا أدري كذب أم صدق ، ولو علمت أنه صدق ما كان لي أن أخرجها من يدي مالكها نظرا لهذا أن لا يضيع حقه على المغتصب لا تمنع الحقوق بالظنون ، ولا تملك بها وسواء كان الذي استحق الدابة مسافرا أو غير مسافر ، ولا يمنع منها ، ولا تنزع من يديه إلا أن يطيب نفسا عنها ، ولو أعطي قيمتها أضعافا ; لأنا لا نجبره على بيع سلعته .

    ( قال الشافعي ) ويأكل اللقطة الغني والفقير ومن تحل له الصدقة ومن لا تحل له ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب ، وهو أيسر أهل المدينة ، أو كأيسرهم وجد صرة فيها ثمانون دينارا أن يأكلها ( أخبرنا ) الدراوردي عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار { عن علي بن أبي طالب رحمه الله أنه وجد دينارا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يعرفه فلم يعترف فأمره أن يأكله ثم جاء صاحبه فأمره أن يغرمه } .

    ( قال الشافعي ) وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ممن تحرم عليه الصدقة ; لأنه من صلبية بني هاشم ، وقد روى { عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن بأكل اللقطة بعد تعريفها سنة } علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد بن خالد الجهني وعبد الله بن عمرو بن العاص وعياض بن حماد المجاشعي رضي الله عنهم
    ( قال الشافعي ) والقليل من اللقطة والكثير سواء لا يجوز أكله إلا بعد سنة فأما أن آمر الملتقط وإن كان أمينا أن يتصدق بها فما أنصفت الملتقط ولا الملتقط عنه إن فعلت ، إن كانت اللقطة مالا من مال الملتقط بحال فلم آمره أن يتصدق وأنا لا آمره أن يتصدق به ، ولا بميراثه من أبيه ، وإن أمرته بالصدقة فكيف أضمنه ما آمره بإتلافه ؟ ، وإن كانت الصدقة مالا من مال الملتقط عنه فكيف آمر الملتقط بأن يتصدق بمال غيره بغير إذن رب المال ؟ ثم لعله يجده رب المال مفلسا فأكون قد أتويت ماله ، ولو تصدق بها ملتقطها كان متعديا فكان لربها أن يأخذها بعينها فإن نقصت في أيدي المساكين ، أو تلفت رجع على الملتقط إن شاء بالتلف والنقصان ، وإن شاء أن يرجع بها على المساكين رجع بها إن شاء




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #154
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله




    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (154)
    صــــــــــ 71 الى صـــــــــــ77




    ( قال الشافعي ) وإذا التقط العبد اللقطة فعلم السيد باللقطة فأقرها بيده فالسيد ضامن لها في ماله في رقبة العبد وغيره إذا استهلكها العبد قبل السنة أو بعدها دون مال السيد ; لأن أخذه اللقطة عدوان ، إنما يأخذ اللقطة من له ذمة يرجع بها عليه [ ص: 71 ] ومن له مال يملكه والعبد لا مال له ، ولا ذمة ، وكذلك إن كان مدبرا ، أو مكاتبا ، أو أم ولد ، والمدبر والمدبرة كلهم في معنى العبد إلا أن أم الولد لا تباع ويكون في ذمتها إن لم يعلمه السيد ، وفي مال المولي إن علم .

    ( قال الربيع ) وفي القول الثاني إن علم السيد أن عبده التقطها ، أو لم يعلم فأقرها في يده فهي كالجناية في رقبة العبد ، ولا يلزم السيد في ماله شيء
    ( قال الشافعي ) والمكاتب في اللقطة بمنزلة الحر ; لأنه يملك ماله والعبد بعضه حر وبعضه عبد يقضي بقدر رقه فيه فإن التقط اللقطة في اليوم الذي يكون لنفسه فيه أقرت في يديه وكانت مالا من ماله ; لأن ما كسب في ذلك اليوم في معاني كسب الأحرار ، وإن التقطها في اليوم الذي هو فيه للسيد أخذها السيد منه ; لأن ما كسبه في ذلك اليوم للسيد ، وقد قيل : إذا التقطها في يوم نفسه أقر في يدي العبد بقدر ما عتق منه وأخذ السيد بقدر ما يرق منه ، وإذا اختلفا فالقول قول العبد مع يمينه ; لأنها في يديه ، ولا يحل للرجل أن ينتفع من اللقطة بشيء حتى تمضي سنة ، وإذا باع الرجل الرجل اللقطة قبل السنة ثم جاء ربها كان له فسخ البيع ، وإن باعها بعد السنة فالبيع جائز ويرجع رب اللقطة على البائع بالثمن ، أو قيمتها إن شاء فأيهما شاء كان له .

    ( قال : الربيع ) ليس له إلا ما باع إذا كان باع بما يتغابن الناس بمثله ، فإن كان باع بما لا يتغابن الناس بمثله ، غله ما نقص عما يتغابن الناس بمثله .

    ( قال الشافعي ) وإذا كانت الضالة في يدي الوالي فباعها فالبيع جائز ولسيد الضالة ثمنها فإن كانت الضالة عبدا فزعم سيد العبد أنه أعتقها قبل البيع قبلت قوله مع يمينه إن شاء المشتري يمينه وفسخت البيع وجعلته حرا ورددت المشتري بالثمن الذي أخذ منه .

    ( قال : الربيع ) وفيه قول آخر أنه لا يفسخ البيع إلا ببينة تقوم ; لأن بيع الوالي كبيع صاحبه فلا يفسخ بيعه إلا ببينة أنه أعتقه قبل بيعه ; لأن رجلا لو باع عبدا ثم أقر أنه أعتقه قبل أن يبيعه لم يقبل قوله فيفسخ على المشتري بيعه إلا ببينة تقوم على ذلك
    ( قال الشافعي ) وإذا التقط الرجل الطعام الرطب الذي لا يبقى فأكله ثم جاء صاحبه غرم قيمته وله أن يأكله إذا خاف فساده ، وإذا التقط الرجل ما يبقى لم يكن له أكله إلا بعد سنة مثل الحنطة والتمر وما أشبهه
    ( قال الشافعي ) والركاز دفن الجاهلية فما وجد من مال الجاهلية على وجه الأرض فهو لقطة من اللقط يصنع فيه ما يصنع في اللقطة ; لأن وجوده على ظهر الأرض ، وفي مواضع اللقطة يدل على أنه ملك سقط من مالكه ، ولو تورع صاحب فأدى خمسه كان أحب إلي ، ولا يلزمه ذلك
    ( قال الشافعي ) وإذا وجد الرجل ضالة الإبل لم يكن له أخذها فإن أخذها ثم أرسلها حيث وجدها فهلكت ضمن لصاحبها قيمتها والبقر والحمير والبغال في ذلك بمنزلة ضوال الإبل وغيرها ، وإذا أخذ السلطان الضوال فإن كان لها حمى يرعونها فيه بلا مؤنة على ربها رعوها فيه إلى أن يأتي ربها ، وإن لم يكن لها حمى باعوها ودفعوا أثمانها لأربابها ، ومن أخذ ضالة فأنفق عليها فهو متطوع بالنفقة لا يرجع على صاحبها بشيء ، وإن أراد أن يرجع على صاحبها بما أنفق فليذهب إلى الحاكم حتى يفرض لها نفقة ويوكل غيره بأن يقبض لها تلك النفقة منه وينفق عليها ، ولا يكون للسلطان أن يأذن له أن ينفق عليها إلا اليوم واليومين وما أشبه ذلك مما لا يقع من ثمنها موقعا ، فإذا جاوز ذلك أمر ببيعها .
    ومن التقط لقطة فاللقطة مباحة فإن هلكت منه بلا تعد فليس بضامن لها والقول قوله مع يمينه ، وإذا التقطها ثم ردها في موضعها فضاعت فهو ضامن لها ، وإن رآها فلم يأخذها فليس بضامن لها وهكذا إن دفعها إلى غيره فضاعت أضمنه من ذلك ما أضمن المستودع وأطرح عنه الضمان فيما أطرح عن المستودع
    ( قال الشافعي ) وإذا حل الرجل دابة الرجل فوقفت ثم مضت ، أو فتح قفصا لرجل عن طائر ثم خرج بعد لم يضمن ; لأن الطائر والدابة أحدثا الذهاب والذهاب غير فعل الحال والفاتح وهكذا الحيوان كله وما فيه روح وله عقل يقف فيه [ ص: 72 ] بنفسه ويذهب بنفسه فأما ما لا عقل له ، ولا روح فيه مما يضبطه الرباط مثل زق زيت وراوية ماء فحلها الرجل فتدفق الزيت فهو ضامن إلا أن يكون حل الزيت ، وهو مستند قائم فكان الحل لا يدفقه فثبت قائما ثم سقط بعد فإن طرحه إنسان فطارحه ضامن لما ذهب منه ، وإن لم يطرحه إنسان لم يضمنه الحال الأول ; لأن الزيت إنما ذهب بالطرح دون الحل وأن الحل قد كان ، ولا جناية فيه
    ( قال الشافعي ) ولا جعل لأحد جاء بآبق ، ولا ضالة إلا أن يكون جعل له فيه فيكون له ما جعل له وسواء في ذلك من يعرف بطلب الضوال ومن لا يعرف به ومن قال : لأجنبي إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرة دنانير ثم قال : لآخر إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرون دينارا ثم جاءا به جميعا فلكل واحد منهما نصف جعله ; لأنه إنما أخذ نصف ما جعل عليه كله كان صاحب العشرة قد سمع قوله لصاحب العشرين ، أو لم يسمعه ، وكذلك لو قال لثلاثة فقال لأحدهم : إن جئتني به فلك كذا ولآخر ولآخر فجعل أجعالا مختلفة ثم جاءوا به جميعا فلكل أحد منهم ثلث جعله .
    ، وفي اختلاف مالك والشافعي اللقطة .

    ( قال : الربيع ) سألت الشافعي رحمه الله عمن وجد لقطة قال : يعرفها سنة ثم يأكلها إن شاء موسرا كان ، أو معسرا ، فإذا جاء صاحبها ضمنها له فقلت : له وما الحجة في ذلك ؟ فقال : السنة الثابتة وروى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها وأبي من مياسير الناس يومئذ وقبل وبعد ( أخبرنا ) مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } .

    ( أخبرنا ) مالك عن أيوب بن موسى عن معاوية بن عبد الله بن بدر أن أباه أخبره أنه نزل منزل قوم بطريق الشام فوجد صرة فيها ثمانون دينارا فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال : له عمر عرفها على أبواب المساجد واذكرها لمن يقدم من الشام سنة ، فإذا مضت السنة فشأنك بها .

    ( قال الشافعي ) فرويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن عمر أنه أباح بعد سنة أكل اللقطة ثم خالفتم ذلك فقلتم يكره أكل اللقطة للغني والمسكين .

    ( أخبرنا الربيع ) قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن نافع أن رجلا وجد لقطة فجاء إلى عبد الله بن عمر فقال : إني وجدت لقطة فماذا ترى ؟ فقال : له ابن عمر عرفها ، قال : قد فعلت ، قال فزد قال : فعلت قال : لا آمرك أن تأكلها ، ولو شئت لم تأخذها .

    ( قال الشافعي ) وابن عمر لم يوقت في التعريف وقتا وأنتم توقتون في التعريف سنة وابن عمر كره للذي وجد اللقطة أكلها غنيا كان أو فقيرا وأنتم ليس هكذا تقولون وابن عمر يكره له أخذها وابن عمر كره له أن يتصدق بها وأنتم لا تكرهون له أخذها بل تستحبونه وتقولون : لو تركها ضاعت .
    وترجم في كتاب اختلاف علي وابن مسعود رضي الله عنهما اللقطة

    ( أخبرنا الربيع ) قال : أخبرنا الشافعي قال دخل علي ابن قيس قال : سمعت هزيلا يقول رأيت عبد الله أتاه رجل بصرة مختومة فقال : عرفتها ، ولم أجد من يعرفها قال : استمتع بها ، وهذا قولنا إذا عرفها سنة فلم يجد [ ص: 73 ] من يعرفها فله أن يستمتع بها وهكذا السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود يشبه السنة ، وقد خالفوا هذا كله ورووا حديثا عن عامر عن أبيه عن عبد الله أنه اشترى جارية فذهب صاحبها فتصدقوا بثمنها وقال : اللهم عن صاحبها فإن كره فلي وعلي الغرم ، ثم قال : وهكذا نفعل باللقطة فخالفوا السنة في اللقطة التي لا حجة فيها ، وخالفوا حديث ابن مسعود الذي يوافق السنة ، وهو عندهم ثابت واحتجوا بهذا الحديث الذي عن عامر وهم يخالفونه فيما هو بعينه يقولون : إن ذهب البائع فليس للمشتري أن يتصدق بثمنها ، ولكنه يحبسه حتى يأتي صاحبها متى جاء .
    كتاب اللقيط

    ( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال : سمعت الشافعي رحمه الله يقول في المنبوذ : هو حر ولا ولاء له ، وإنما يرثه المسلمون بأنهم قد خولوا كل مال لا مالك له ، ألا ترى أنهم يأخذون مال النصراني ، ولا وارث له ؟ ولو كانوا أعتقوه لم يأخذوا ماله بالولاء ، ولكنهم خولوا ما لا مالك له من الأموال ، ولو ورثه المسلمون وجب على الإمام أن لا يعطيه أحدا من المسلمين دون أحد وأن يكون أهل السوق والعرب من المسلمين فيه سواء ثم وجب عليه أن يجعل ولاءه يوم ولدته أمه لجماعة الأحياء من المسلمين الرجال والنساء ثم يجعل ميراثه لورثته من كان حيا من المسلمين من الرجال دون النساء كما يورث الولاء ، ولكنه مال كما وصفنا لا مالك له ويرد على المسلمين يضعه الإمام على الاجتهاد حيث يرى .
    وترجم في سير الأوزاعي الصبي يسبى ثم يموت

    سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الصبي يسبى وأبوه كافر وقعا في سهم رجل ثم مات أبوه ، وهو كافر ثم مات الغلام قبل أن يتكلم بالإسلام فقال : لا يصلى عليه ، وهو على دين أبيه ; لأنه لا يقر بالإسلام وقال الأوزاعي : مولاه أولى من أبيه يصلى عليه وقال : لو لم يكن معه أبوه وخرج أبوه مستأمنا لكان لمولاه أن يبيعه من أبيه وقال : أبو يوسف إذا لم يسب معه أبوه صار مسلما ليس لمولاه أن يبيعه من أبيه إذا دخل بأمان ، وهو ينقض قول الأوزاعي إنه لا بأس أن يبتاع السبي ويرد إلى دار الحرب في مسألة قبل هذا فالقول في هذا ما قال أبو حنيفة : إذا كان معه أبواه ، أو أحدهما فهو على دينه حتى يقر بالإسلام ، وإذا لم يكن معه أبواه أو أحدهما فهو مسلم .

    ( قال الشافعي ) { سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء بني قريظة وذراريهم فباعهم من المشركين فاشترى أبو الشحم اليهودي أهل بنت عجوز ولدها من النبي صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما بقي من السبايا أثلاثا ثلثا إلى تهامة وثلثا إلى نجد وثلثا إلى طريق الشام } فبيعوا بالخيل والسلاح والإبل والمال ، وفيهم الصغير والكبير ، وقد يحتمل هذا أن يكونوا من أجل أن أمهات الأطفال معهم ويحتمل أن يكون في الأطفال من لا أم له ، فإذا سبوا مع أمهاتهم فلا بأس أن يباعوا من المشركين ، وكذلك لو سبوا مع آبائهم ، ولو مات أمهاتهم وآباؤهم قبل أن يبلغوا فيصفوا الإسلام لم يكن لنا أن نصلي عليهم ; لأنهم على دين الأمهات والآباء إذا كان النساء بلغا فلنا بيعهم بعد موت أمهاتهم من المشركين ; لأنا قد حكمنا عليهم بأن حكم الشرك ثابت عليهم إذا تركنا الصلاة عليهم كما حكمنا به وهم مع آبائهم لا فرق بين ذلك إذا لزمهم حكم الشرك كان لنا بيعهم من المشركين [ ص: 74 ] وكذلك النساء البوالغ قد { استوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية بالغا من أصحابه ففدى بها رجلين }
    وترجم في اختلاف مالك والشافعي باب المنبوذ ( أخبرنا ) مالك عن ابن شهاب عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب فجاء به إلى عمر فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ قال وجدتها ضائعة فأخذتها فقال عريفي يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح فقال : أكذلك ؟ قال : نعم قال : عمر اذهب فهو حر وولاؤه لك وعلينا نفقته قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في المنبوذ أنه حر وأن ، ولاءه للمسلمين فقلت : للشافعي فبقول مالك نأخذ .

    ( قال الشافعي ) فقد تركتم ما روي عن عمر في المنبوذ فإن كنتم تركتموه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الولاء لمن أعتق } ، فقد زعمتم أن في ذلك دليلا على أن لا يكون الولاء إلا لمن أعتق ، ولا يزول عن معتق ، فقد خالفتم عمر استدلالا بالسنة ثم خالفتم السنة فزعمتم أن السائبة لا يكون ولاؤه للذي أعتقه ، وهو معتق فخالفتموهما جميعا وخالفتم السنة في النصراني يعتق العبد المسلم فزعمتم أن لا ولاء له ، وهو معتق وخالفتم السنة في المنبوذ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول { فإنما الولاء لمن أعتق } فهذا نفى أن يكون الولاء لمن أعتق والمنبوذ غير معتق ولا ولاء له فمن أجمع ترك السنة وخالف عمر فيا ليت شعري من هؤلاء المجمعين لا يسمون فإنا لا نعرفهم ، وهو المستعان ، ولم يكلف الله أحدا أن يأخذ دينه عمن لا يعرفه ، ولو كلفه أفيجوز له أن يقبل عمن لا يعرف ؟ إن هذه لغفلة طويلة فلا أعرف أحدا عنه هذا العلم يؤخذ عليه مثل هذا في قوله واحد يترك ما روي في اللقيط عن عمر للسنة ثم يدع السنة فيه في موضع آخر في السائبة والنصراني يعتق المسلم .

    ( قال الشافعي ) وقد خالفنا بعض الناس في هذا فكان قوله أشد توجيها من قولكم قالوا : يتبع ما جاء عن عمر في اللقيط ; لأنه قد يحتمل أن لا يكون خلافا للسنة وأن تكون السنة في المعتق فيمن لا ولاء له ويجعل ولاء الرجل يسلم على يديه الرجل للمسلم بحديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : في السائبة والنصراني يعتق المسلم قولنا فزعمنا أن عليهم حجة بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم { فإنما الولاء لمن أعتق } لا يكون الولاء إلا لمعتق ، ولا يزول عن معتق فإن كانت لنا عليهم بذلك حجة فهي عليكم أبين ; لأنكم خالفتموه حيث ينبغي أن توافقوه ووافقتموه حيث كان لكم شبهة لو خالفتموه .
    [ ص: 75 ] باب الجعالة وليس في التراجم

    وفي آخر اللقطة الكبيرة .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ولا جعل لأحد جاء بآبق ، ولا ضالة إلا أن يكون جعل له فيه فيكون له ما جعل له وسواء في ذلك من يعرف بطلب الضوال ومن لا يعرف به ومن قال لأجنبي : إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرة دنانير ثم قال الآخر : إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرون دينارا ثم جاءا به جميعا فلكل واحد منهما نصف جعله ; لأنه إنما أخذ نصف ما جعل عليه كان صاحب العشرة قد سمع قوله لصاحب العشرين ، أو لم يسمعه ، وكذلك لو قال لثلاثة فقال : لأحدهم إن جئتني به فلك كذا ، ولآخر ولآخر . فجعل أجعالا مختلفة ثم جاءوا به معا فلكل واحد منهم ثلث جعله
    كتاب الفرائض

    " باب المواريث " من سمى الله تعالى له الميراث وكان يرث ، ومن خرج من ذلك .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فرض الله تعالى ميراث الوالدين والإخوة والزوجة والزوج فكان ظاهره أن من كان والدا ، أو أخا محجوبا وزوجا وزوجة ، فإن ظاهره يحتمل أن يرثوا وغيرهم ممن سمي له ميراث إذا كان في حال دون حال فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقاويل أكثر أهل العلم على أن معنى الآية أن أهل المواريث إنما ورثوا إذا كانوا في حال دون حال .

    قلت للشافعي : وهكذا نص السنة ؟ قال : لا ، ولكن هكذا دلالتها ، قلت وكيف دلالتها ؟ قال : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال : قولا يدل على أن بعض من سمي له ميراث لا يرث . فيعلم أن حكم الله تعالى لو كان على أن يرث من لزمه اسم الأبوة والزوجة وغيره عاما لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد لزمه اسم الميراث بأن لا يرث بحال . قيل : للشافعي فاذكر الدلالة فيمن لا يرث مجموعة . قال : لا يرث أحد ممن سمي له ميراث حتى يكون دينه دين الميت الموروث ويكون حرا ، ويكون بريئا من أن يكون قاتلا للموروث ، فإذا برئ من هذه الثلاث الخصال ورث ، وإذا كانت فيه واحدة منهن لم يرث ، فقلت : فاذكر ما وصفت ، قال : أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم } وأخبرنا مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم } وأخبرنا مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين قال : إنما ورث أبا طالب عقيل وطالب ، ولم يرثه علي ، ولا جعفر . قال : فلذلك تركنا نصيبنا [ ص: 76 ] من الشعب .

    ( قال الشافعي ) فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وصفت لك من أن الدينين إذا اختلفا بالشرك والإسلام لم يتوارث من سميت له فريضة ، أخبرنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من باع عبدا له مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع } .

    ( قال الشافعي ) فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مال العبد إذا بيع لسيده دل هذا على أن العبد لا يملك شيئا ، وأن اسم ماله إنما هو إضافة المال إليه ، كما يجوز في كلام العرب أن يقول الرجل لأجير في غنمه وداره وأرضه هذه أرضك وهذه غنمك على الإضافة لا الملك ، فإن قال قائل : ما دل على أن هذا معناه ، وهو يحتمل أن يكون المال ملكا له ؟ قيل : له قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ماله للبائع دلالة على أن ملك المال لمالك الرقبة وأن المملوك لا يملك شيئا ، ولم أسمع اختلافا في أن قاتل الرجل عمدا لا يرث من قتل من دية ، ولا مال شيئا .

    ثم افترق الناس في القاتل خطأ ، فقال : بعض أصحابنا يرث من المال ، ولا يرث من الدية وروي ذلك عن بعض أصحابنا عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ، وقال غيرهم : لا يرث قاتل الخطأ من دية ، ولا مال ، وهو كقاتل العمد ، وإذا لم يثبت الحديث فلا يرث قاتل عمد ، ولا خطأ شيئا أشبه بعموم أن لا يرث قاتل ممن قتل .
    باب الخلاف في ميراث أهل الملل ، وفيه شيء يتعلق بميراث العبد والقاتل .

    ( قال الربيع ) ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فوافقنا بعض الناس ، فقال : لا يرث مملوك ، ولا قاتل عمدا ، ولا خطأ ، ولا كافر شيئا ، ثم عاد فقال : إذا ارتد الرجل عن الإسلام فمات على الردة ، أو قتل ورثه ورثته المسلمون .

    ( قال الشافعي ) فقيل لبعضهم : أيعدو المرتد أن يكون كافرا أو مسلما ؟ قال : بل كافر ، قيل : فقد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يرث الكافر المسلم } ، ولم يستثن من الكفار أحدا فكيف ورثت مسلما كافرا ؟ فقال : إنه كافر قد كان ثبت له حكم الإسلام ثم أزاله عن نفسه ، قلنا فإن كان زال بإزالته إياه ، فقد صار إلى أن يكون ممن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يرثه مسلم ، ولا يرث مسلما ، وإن كان لم يزل بإزالته إياه ، أفرأيت أن من مات له ابن مسلم ، وهو مرتد أيرثه ؟ قال : لا ، قلنا : ولم حرمته ؟ قال : للكفر ، قلنا : فلم لا يحرم منه بالكفر كما حرمته ؟ هل يعدو أن يكون في الميراث بحاله قبل أن يرتد فيرث ويورث أو يكون خارجا من حاله قبل أن يرتد فلا يرث ، ولا يورث ، وقد قتلته ؟ وذلك يدل على أن قد زالت بإزالته وحرمت عليه امرأته وحكمت عليه حكم المشركين في بعض وحكم المسلمين في بعض قال : فإني إنما ذهبت إلى أن عليا رضي الله عنه ورث ورثة مرتد قتله من المسلمين ماله قلنا : قد رويته عن علي رضي الله عنه وقد زعم بعض أهل العلم بالحديث قبلك أنه غلط على علي كرم الله وجهه ، ولو كان ثابتا عنه كان أصل مذهبنا ومذهبك أنه لا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فيحتمل أن يكون لا يرث الكافر الذي لم يزل كافرا قلنا فإن كان حكم المرتد مخالفا حكم من لم يزل كافرا فورثه فورثته المسلمون إذا ماتوا قبله فعلي لم ينهك عن هذا قال : هو داخل في جملة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت : فإن كان داخلا في جملة الحديث [ ص: 77 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم لزمك أن تترك قولك في أن ورثته من المسلمين يرثونه ( قال الشافعي ) وقد روي عن معاذ بن جبل ومعاوية ومسروق وابن المسيب ومحمد بن علي بن الحسين أن المؤمن يرث الكافر ، ولا يرثه الكافر وقال : بعضهم كما تحل لنا نساؤهم ، ولا تحل لهم نساؤنا فإن قال لك قائل : { قضاء النبي صلى الله عليه وسلم كان في كافر من أهل الأوثان } وأولئك لا تحل ذبائحهم ، ولا نساؤهم وأهل الكتاب غيرهم فيرث المسلمون من أهل الكتاب اعتمادا على ما وصفنا ، أو بعضهم ; لأنه يحتمل لهم ما احتمل لك بل لهم شبهة ليست لك بتحليل ذبائح أهل الكتاب ونسائهم قال : لا يحل له ذلك قلنا ولم ؟ قال ; لأنهم داخلون في الكافرين وحديث النبي صلى الله عليه وسلم جملة . قلنا : فكذلك المرتد داخل في جملة الكافرين




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #155
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله




    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (155)
    صــــــــــ 78 الى صـــــــــــ84




    باب من قال : لا يورث أحد حتى يموت .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال الله عز وجل { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } وقال الله عز وجل { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم [ ص: 78 ] يكن لهن ولد } وقال عز وعلا { ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد } وقال : النبي صلى الله عليه وسلم { لا يرث المسلم الكافر } .

    ( قال الشافعي ) وكان معقولا عن الله عز وجل ثم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في لسان العرب وقول عوام أهل العلم ببلدنا أن امرأ لا يكون موروثا أبدا حتى يموت ، فإذا مات كان موروثا وأن الأحياء خلاف الموتى فمن ورث حيا دخل عليه - والله تعالى أعلم - خلاف حكم الله - عز وجل - وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : والناس معنا بهذا لم يختلف في جملته وقلنا به في المفقود وقلنا لا يقسم ماله حتى يعلم يقين وفاته .

    وقضى عمر وعثمان في امرأته بأن تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا ، وقد يفرق بين الرجل والمرأة بالعجز عن إصابتها . ونفرق نحن بالعجز عن نفقتها وهاتان سببا ضرر ، والمفقود قد يكون سبب ضرر أشد من ذلك ، فعاب بعض المشرقيين القضاء في المفقود ، وفيه قول عمر وعثمان وما وصفنا مما يقولون فيه بقولنا ويخالفونا ، وقالوا : كيف يقضي لامرأته بأن يكون ميتا بعد مدة ، ولم يأت يقين موته ؟ ثم دخلوا في أعظم مما عابوا خلاف الكتاب والسنة . وجملة ما عابوا ، فقالوا في الرجل يرتد في ثغر من ثغور المسلمين فيلحق بمسلحة من مسالح المشركين فيكون قائما فيها يترهب ، أو جاء إلينا مقاتلا يقسم ميراثه بين ورثته المسلمين وتحل ديونه ويعتق مدبروه وأمهات أولاده ويحكم عليه حكم الموتى في جميع أمره ثم يعود لما حكم به عليه فيقول فيه قولا متناقضا خارجا كله من أقاويل الناس والقياس والمعقول .

    ( قال الشافعي ) فقال : ما وصفت بعض من هو أعلمهم عندهم ، أو كأعلمهم فقلت له ما وصفت ، وقلت : له أسألك عن قولك ، فقد زعمت أن حراما أن يقول أحد أبدا قولا ليس خبرا لازما ، أو قياسا أقولك في أن يورث المرتد ، وهو حي إذا لحق بدار الكفر خبرا ، أو قياسا ؟ فقال : أما خبر فلا ، فقلت : فقياس ؟ قال : نعم من وجه ، قلت فأوجدنا ذلك الوجه قال : ألا ترى أنه لو كان معي في الدار وكنت قادرا عليه قتلته ؟ فقلت فإن لم تكن قادرا عليه فتقتله أفمقتول هو أم ميت بلا قتل ؟ قال : لا قلت : فكيف حكمت عليه حكم الموتى ، وهو غير ميت ؟ أورأيت لو كانت علتك بأنك لو قدرت عليه في حاله تلك فقتلته فجعلته في حكم الموتى فكان هاربا في بلاد الإسلام مقيما على الردة دهرا من دهره أتقسم ميراثه ؟ قال : لا ، قلت : فأسمع علتك بأنك لو قدرت عليه قتلته . قال : فإن لم تقدر عليه حكم عليه حكم الموتى كانت باطلا عندك فرجعت إلى الحق عندك في أن لا تقتله إذا كان هاربا في بلاد الإسلام وأنت لو قدرت عليه قتلته .

    ولو كانت عندك حقا فتركت الحق في قتله إذا كان هاربا في بلاد الإسلام . قلت : فإنما قسمت ميراثه بلحوقه بدار الكفر دون الموت ؟ قال : نعم ، قلت : فالمسلم يلحق بدار الكفر أيقسم ميراثه إذا كان في دار لا يجري عليه فيها الحكم ؟ قال : لا . قلنا فالدار لا تميت أحدا ، ولا تحييه ، فهو حي حيث كان حيا وميت حيث كان ميتا .

    قال نعم : قلنا أفتستدرك على أحد أبدا بشيء من جهة الرأي أقبح أن تقول الحي ميت ؟ أرأيت لو تابعك أحد على أن تزعم أن حيا يقسم ميراثه ما كان يجب عليك أن من تابعك على هذا مغلوب على عقله ، أو غبي لا يسمع منه . فكيف إذا كان الكتاب والسنة يدلان معا على دلالة المعقول على خلافكما معا ؟ .

    ( قال الشافعي ) وقلت : له عبتم على من قال : قول عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما في امرأة المفقود ومن أصل ما تذهبون كما تزعمون أن الواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : قولا كان قوله غاية ينتهى إليها وقبلتم عن عمر أنه قال : إذا أرخيت الستور وجب المهر والعدة ورددتم على من تأول الآيتين وهما قول الله عز وجل { ، وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وقوله { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ، وقد روي هذا [ ص: 79 ] عن ابن عباس وشريح وذهبنا إلى أن الإرخاء والإغلاق لا يصنع شيئا إنما يصنعه المسيس فكيف لم تجيزوا لمن تأول على قول عمر وقال : بقول ابن عباس ؟ وقلتم عمر في إمامته أعلم بمعنى القرآن ، ثم امتنعتم من القبول عن عمر وعثمان القضاء في امرأة المفقود وهما لم يقضيا في ماله بشيء علمناه ، وقلتم لا يجوز أن يحكم عليه حكم الموتى قبل أن تستيقن وفاته ، وإن طال زمانه .

    ثم زعمتم أنكم تحكمون على رجل حكم الموت وأنت على يقين من حياته في طرفة عين فلقلما رأيتكم عبتم على أحد في الأخبار التي انتهى إليها شيئا قط إلا قلتم من جهة الرأي بمثله وأولى أن يكون معيبا فأي جهل أبين من أن تعيب في الخبر الذي هو عندك فيما تزعم ؟ غاية ما نقول من جهة الرأي ما عبت منه ، أو مثله ، وقلت لبعضهم : أرأيت قولك لو لم يعب بخلاف كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس ، ولا معقول وسكت لك عن هذا كله ، ألا يكون قولك معيبا بلسانك ؟ .

    ( قال ) وأين ؟ قلت : أرأيت إذا كانت الردة اللحوق بدار الحرب يوجب عليه حكم الموت لم زعمت أن القاضي إن فرط ، أو لم يرفع ذلك إليه حتى يمضي سنين ، وهو في دار الحرب . ثم رجع قبل أن يحكم القاضي مسلما أنه على أصل ملكه ، ولم زعمت أن القاضي إن حكم في طرفة عين عليه بحكم الموت ثم رجع مسلما كان الحكم ماضيا في بعض دون بعض ؟ ما زعمت أن حكم الموت يجب عليه بالردة واللحوق بدار الحرب ; لأنك لو زعمت ذلك ، قلت : لو رجع مسلما أنفذ عليه الحكم ; لأنه وجب ، ولو زعمت أن الحكم إذا أنفذ عليه ورجع مسلما رد الحكم فلا ينفذ فأنت زعمت أن ينفذ بعضا ويرد بعضا .

    ( قال ) وما ذلك ؟ قلت : زعمت أنه يعتق مدبروه وأمهات أولاده ويعطي غريمه الذي حقه إلى ثلاثين سنة حالا ويقسم ميراثه فيأتي مسلما ومدبروه وأمهات أولاده وماله قائم في يدي غريمه يقر به ويشهد عليه ولا يرد من هذا شيئا ، وهو ماله بعينه فكل مال في يدي الغريم ماله بعينه وتقول لا ينقض الحكم . ثم تنزع ميراثه من يدي ورثته فكيف نقضت بعض الحكم دون بعض ؟ قال : قلت : هو ماله بعينه لم يحلل له ومدبروه وأمهات أولاده بأعيانهم . ثم زعمت أنه ينقض الحكم للورثة وأنه إن استهلك بعضهم ماله ، وهو موسر لم يغرمه إياه ، وإن لم يستهلكه بعضهم أخذته ممن لم يستهلكه هل يستطيع أحد كمل عقله وعلمه لو تخاطأ أن يأتي بأكثر من هذا في الحكم بعينه ؟ أرأيت من نسبتم إليه الضعف من أصحابنا وتعطيل النظر وقلتم إنما يتخرص فيلقى ما جاء على لسانه هل كان تعطيل النظر يدخل عليه أكثر من خلاف كتاب وسنة ، فقد جمعتهما جميعا ، أو خلاف معقول ، أو قياس أو تناقض قول ، فقد جمعته كله فإن كان أخرجك عند نفسك من أن تكون ملوما على هذا إنك أبديته وأنت تعرفه فلا أحسب لمن أتى ما ليس له ، وهو يعرفه عذرا عندنا ; لأنه إذا لم يكن للجاهل بأن يقول من قبل أنه يخطئ ، ولا يعلم فأحسب العالم غير معذور بأن يخطئ ، وهو يعلم .

    ( قال الشافعي ) فقال : فما تقول أنت ؟ فقلت : أقول إني أقف ماله حتى يموت فأجعله فيئا ، أو يرجع إلى الإسلام فأرده إليه ، ولا أحكم بالموت على حي فيدخل علي بعض ما دخل عليك .
    باب رد المواريث

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ، قال الله عز وجل { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } وقال : الله عز وجل { ، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر [ ص: 80 ] مثل حظ الأنثيين } وقال : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها ، أو دين } وقال : تعالى { ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم } وقال : عز اسمه { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس } .

    ( قال الشافعي ) فهذه الآي في المواريث كلها تدل على أن الله عز وجل انتهى بمن سمى له فريضة إلى شيء ، فلا ينبغي لأحد أن يزيد من انتهى الله به إلى شيء غير ما انتهى به ، ولا ينقصه فبذلك قلنا : لا يجوز رد المواريث .

    ( قال الشافعي ) وإذا ترك الرجل أخته أعطيتها نصف ما ترك وكان ما بقي للعصبة فإن لم تكن عصبة فلمواليه الذين أعتقوه ، فإن لم يكن له موال أعتقوه كان النصف مردودا على جماعة المسلمين من أهل بلده ، ولا تزاد أخته على النصف ، وكذلك لا يرد على وارث ذي قرابة ، ولا زوج ، ولا زوجة له فريضة ، ولا تجاوز بذي فريضة فريضته والقرآن إن شاء الله تعالى يدل على هذا ، وهو قول زيد بن ثابت وقول الأكثر ممن لقيت من أصحابنا .
    باب الخلاف في رد المواريث

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فقال لي بعض الناس إذا ترك الميت أخته ، ولا وارث له غيرها ، ولا مولى أعطيت الأخت المال كله ، قال : فقلت لبعض من يقول هذا إلى أي شيء ذهبتم ؟ قال : ذهبنا إلى أن روينا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود رد المواريث فقلت : له ما هو عن واحد منهما فيما علمته بثابت ، ولو كان ثابتا كنت قد تركت عليهما أقاويل لهما في الفرائض غير قليلة لقول زيد بن ثابت فكيف إن كان زيد لا يقول بقولهما لا يرد المواريث لم لم تتبعه دونهما كما اتبعته دونهما في غير هذا من الفرائض ؟ .

    ( قال الشافعي ) فقال : فدع هذا ، ولكن أرأيت إذا اختلف القولان في رد المواريث أليس يلزمنا أن نصير إلى أشبه القولين بكتاب الله تبارك وتعالى ؟ قلنا بلى قال فعدهما خالفاه أي القولين أشبه بكتاب الله تبارك وتعالى ؟ قلنا قول زيد بن ثابت لا شك إن شاء الله تعالى قال : وأين الدلالة على موافقة قولكم في كتاب الله عز وجل دون قولنا ؟ قلت قال الله عز وجل { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } وقال : { فإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } فذكر الأخت منفردة فانتهى بها إلى النصف وذكر الأخ منفردا فانتهى به إلى الكل وذكر الأخ والأخت مجتمعين فجعلها على النصف من الأخ في الاجتماع كما جعلها في الانفراد أفرأيت إن أعطيتها الكل منفردة أليس قد خالفت حكم الله تبارك وتعالى نصا ؟ لأن الله عز وجل انتهى بها إلى النصف وخالفت معنى حكم الله إذ سويتها به ، وقد جعلها الله تبارك وتعالى معه على النصف منه .

    ( قال الشافعي ) فقلت له وآي المواريث كلها تدل على خلاف رد المواريث قال : فقال أرأيت إن قلت : لا أعطيها النصف الباقي ميراثا ؟ قلت : له قل ما شئت قال : أراها موضعه قلت : فإن رأى غيرك غيرها موضعه فأعطاها جارة له محتاجة ، أو جارا له محتاجا أو غريبا محتاجا ؟ قال : فليس له ذلك قلت : ولا لك بل هذا أعذر منك ، هذا لم يخالف حكم الكتاب نصا ، وإنما خالف قول عوام المسلمين ; لأن عوام منهم يقولون هو لجماعة المسلمين .
    [ ص: 81 ] باب المواريث أخبرنا الربيع بن سليمان قال : ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال الله تبارك وتعالى { ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني } وقال عز وجل { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } فنسب إبراهيم إلى أبيه وأبوه كافر ونسب ابن نوح إلى أبيه نوح وابنه كافر وقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في زيد بن حارثة { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } وقال : تبارك وتعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } فنسب الموالي نسبان أحدهما إلى الآباء والآخر إلى الولاء وجعل الولاء بالنعمة وقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرطه أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتقه } فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولاء إنما يكون للمعتق قال وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب } فدل الكتاب والسنة على أن الولاء إنما يكون بمتقدم فعل من المعتق كما يكون النسب بمتقدم ولاد من الأب ، ألا ترى أن رجلا لو كان لا أب له يعرف جاء رجلا فسأل أن ينسبه إلى نفسه ورضي ذلك الرجل لم يجز أن يكون له ابنا أبدا فيكون مدخلا به على عاقلته مظلمة في أن يعقلوا عنه ويكون ناسبا إلى نفسه غير من ولد ، وإنما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { الولد للفراش } ، وكذلك إذا لم يعتق الرجل الرجل لم يجز أن يكون منسوبا إليه بالولاء فيدخل على عاقلته المظلمة في عقلهم عنه وينسب إلى نفسه ولاء من لم يعتق ، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الولاء لمن أعتق } فبين في قوله { إنما الولاء لمن أعتق } أنه لا يكون الولاء إلا لمن أعتق ، أولا ترى أن رجلا لو أمر ابنه أن ينتسب إلى غيره ، أو ينتفي من نسبه وتراضيا على ذلك لم تنقطع أبوته عنه بما أثبت الله عز وجل لكل واحد منهما على صاحبه ؟ أولا ترى أنه لو أعتق عبدا له ثم أذن له بعد العتق أن يوالي من شاء أو ينتفي من ولايته ورضي بذلك المعتق لم يكن لواحد منهما أن يفعل ذلك لما أثبت الله تعالى عليه من النعمة ؟ فلما كان المولى في المعنى الذي فيه النسب ثبت الولاء بمتقدم المنة كما ثبت النسب بمتقدم الولادة لم يجز أن يفرق بينهما أبدا إلا بسنة ، أو إجماع من أهل العلم وليس في الفرق بينهما في هذا المعنى سنة ، ولا إجماع .

    ( قال الشافعي ) قد حضرني جماعة من أصحابنا من الحجازيين وغيرهم فكلمني رجل من غيرهم بأن قال إذا أسلم الرجل على يدي رجل فله ولاؤه إذا لم يكن له ولاء نعمة وله أن يوالي من شاء ، وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه ، فإذا عقل عنه لم يكن له أن ينتقل عنه ، وقال لي فما حجتك في ترك هذا ؟ قلت : خلافه ما حكيت من قول الله عز وجل { ادعوهم لآبائهم } الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم { فإنما الولاء لمن أعتق } فدل ذلك على أن النسب يثبت بمتقدم الولاد كما ثبت الولاء بمتقدم العتق ، وليس كذلك الذي يسلم على يدي الرجل ، فكان النسب شبيها بالولاء والولاء شبيها بالنسب ، فقال لي قائل : إنما ذهبت في هذا إلى حديث رواه ابن موهب عن تميم الداري قلت لا يثبت ، قال : أفرأيت إذا كان هذا الحديث ثابتا أيكون مخالفا لما رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم { الولاء لمن أعتق } قلت : لا ، قال : فكيف تقول ؟ .

    قلت : أقول : إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما الولاء لمن أعتق } { ونهيه عن بيع الولاء وعن هبته } ، وقوله { الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ، ولا يوهب } فيمن أعتق ; لأن العتق نسب والنسب لا يحول ، والذي يسلم على يدي الرجل ليس هو المنهي أن يحول ، ولاؤه ، قال : فبهذا قلنا ، فما منعك منه إذا كان الحديثان [ ص: 82 ] محتملين أن يكون لكل واحد منهما وجه ؟ قلت : منعني أنه ليس بثابت ، إنما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب عن تميم الداري ، وابن موهب ليس بالمعروف عندنا ، ولا نعلمه لقي تميما ، ومثل هذا لا يثبت عندنا ، ولا عندك من قبل أنه مجهول ، ولا نعلمه متصلا ، قال : فإن من حجتنا أن عمر قال : في المنبوذ هو حر ولك ، ولاؤه ، يعني للذي التقطه ، قلت : وهذا لو ثبت عن عمر حجة عليك ; لأنك تخالفه ، قال : ومن أين ؟ قلت : أنت تزعم أنه لا يوالي عن الرجل إلا نفسه بعد أن يعقل ، وأن له إذا والى عن نفسه أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه ، فإن زعمت أن موالاة عمر عنه ; لأنه وليه جائزة عليه ، فهل لوصي اليتيم أن يوالي عنه ؟ قال : ليس ذلك له ، قلت : فإن زعمت أن ذلك للوالي دون الوصي ، فهل وجدته يجوز للوالي شيء في اليتيم لا يجوز للوصي ؟ فإن زعمت أن ذلك حكم من عمر والحكم لا يجوز عندك على أحد إلا بشيء يلزمه نفسه ، أو فيما لا بد له منه مما لا يصلحه غيره ، ولليتيم بد من الولاء .

    فإن قلت : هو حكم فلا يكون له أن ينتقل به فكيف يجوز أن يكون له أن ينتقل إذا عقد على نفسه عقدا ما لم يعقل عنه ، ولا يكون له أن ينتقل إن عقده عليه غيره ؟ .

    ( قال ) فإن قلت : هو أعلم بمعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : ونعارضك بما هو أثبت عن ميمونة وابن عباس من هذا عن عمر بن الخطاب ، قال : وما هو ؟ قلت : وهبت ميمونة ، ولاء بني يسار لابن أختها عبد الله بن عباس فاتهبه ، فهذه زوج النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس وهما اثنان ، قال : فلا يكون في أحد ، ولو كانوا عددا كثيرا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة ، قلنا : فكيف احتججت بأحد على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هكذا يقول بعض أصحابنا ، قلت : أبيت أن تقبل هذا من غيرك ، فقال : من حضرنا من المدنيين هذه حجة ثابتة ، قال فأنتم إن كنتم ترونها ثابتة ، فقد تخالفونها في شيء قالوا ما نخالفها في شيء ، وما نزعم أن الولاء يكون إلا لذي نعمة .

    ( قال الشافعي ) فقال لي قائل أعتقد عنهم جوابهم ، فأزعم أن للسائبة أن يوالي من شاء ، قلت : لا يجوز هذا إذا كان من احتججنا به من الكتاب والسنة والقياس ، إلا أن يأتي فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أجمع الناس عليه فنخرجه من جملة المعتقين اتباعا ، قال : فهم يروون أن حاطبا أعتق سائبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قلنا ونحن : لا نمنع أحدا أن يعتق سائبة . فهل رويت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولاء السائبة إليه يوالي من شاء ؟ قال : لا ، قلت : فداخل هو في معنى المعتقين ؟ قال : نعم ، قلت : أفيجوز أن يخرج ، وهو معتق من أن يثبت له وعليه الولاء .

    قال : فإنهم يروون أن رجلا قتل سائبة فقضى عمر بعقله على القاتل فقال : أبو القاتل أرأيت لو قتل ابني ؟ قال : إذا لا يغرم ، قال : فهو إذا مثل الأرقم ، قال : عمر فهو مثل الأرقم ، فاستدلوا بأمه لو كانت له عاقلة بالولاء قضى عمر بن الخطاب على عاقلته ؟ قلت فأنت إن كان هذا ثابتا عن عمر محجوج به ، قال : وأين ؟ قلت : تزعم أن ولاء السائبة لمن أعتقه ، قال : فأعفني من ذا فإنما أقوم لهم بقولهم . قلت : فأنت تزعم أن من لا ولاء له من لقيط ومسلم وغيره إذا قتل إنسانا قضى بعقله على جماعة المسلمين ; لأن لهم ميراثه ، وأنت تزعم أن عمر لم يقض بعقله على أحد . قال : وهكذا يقول جميع المفتين . قلت : أفيجوز لجميع المفتين أن يخالفوا عمر ؟ قال : لا هو عن عمر منقطع ليس بثابت . قلت : فكيف احتججت به ؟ قال : لا أعلم [ ص: 83 ] لهم حجة غيره . قلت : فبئس ما قضيت على من قمت بحجته إذا كان احتج بغير حجة عندك ، قال : فعندك في السائبة شيء مخالف لهذا ؟ قلت : إن قبلت الخبر المنقطع فنعم .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا سعيد ومسلم عن ابن جريج عن عطاء أن طارق بن المرقع أعتق أهل أبيات من أهل اليمن سوائب فانقلعوا عن بضعة عشر ألفا فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فأمر أن تدفع إلى طارق ، أو إلى ورثة طارق .

    ( قال الشافعي ) فهذا إن كان ثابتا يدلك على أن عمر يثبت ولاء السائبة لمن سيبه .

    وهذا معروف عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في تركة سالم الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة أن أبا بكر أعطى فضل ميراثه عمرة بنت يعار الأنصارية وكانت أعتقته سائبة . وروي عن ابن مسعود أنه قال : في السائبة شبيها بمعنى ذلك فيما أظن حديث منقطع .

    قال : فهل عندك حجة تفرق بين السائبة وبين الذي يسلم على يدي الرجل غير الحديث المنقطع قلت : نعم من القياس . قال : ما هو ؟ قلت : إن الذي يسلم على يدي الرجل وينتقل بولائه إلى موضع إنما ذلك برضا المنتسب والمنسوب إليه وله أن ينتقل بغير رضا من انتسب إليه ، وإن السائبة يقع العتق عليه بلا رضى منه وليس له أن ينتقل منه ، ولو رضي بذلك هو ومعتقه ، وإنه ممن يقع عليه عتق المعتق مع دخوله في جملة المعتقين . كان أهل الجاهلية يبحرون البحيرة ويسيبون السائبة ويوصلون الوصيلة ويعفون الحامي وهذه من الإبل والغنم . فكانوا يقولون في الحامي إذا ضرب في إبل الرجل عشر سنين وقيل : نتج له عشرة حام أي حمى ظهره فلا يحل أن يركب .

    ويقولون في الوصيلة وهي من الغنم إذا وصلت بطونا توما ونتج نتاجها فكانوا يمنعونها مما يفعلون بغيرها مثلها ، ويسيبون السائبة . فيقولون قد أعتقناك سائبة ولا ولاء لنا عليك ، ولا ميراث يرجع منك ليكون أكمل لتبررنا فيك . فأنزل الله عز وجل { ما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ، ولا وصيلة ، ولا حام } الآية فرد الله ثم رسوله صلى الله عليه وسلم الغنم إلى مالكها إذا كان العتق من لا يقع على غير الآدميين ، وكذلك لو أنه أعتق بعيره لم يمنع بالعتق منه إذا حكم الله عز وجل أن يرد إليه ذلك ويبطل الشرط فيه . فكذلك أبطل الشروط في السائبة ورده إلى ، ولاء من أعتقه مع الجملة التي وصفنا لك .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا إبراهيم بن محمد أن عبد الله بن أبي بكر وعبد العزيز أخبراه أن عمر بن عبد العزيز كتب في خلافته في سائبة مات أن يدفع ميراثه إلى الذي أعتقه .

    ( قال الشافعي ) وإن كانت الكفاية فيما ذكرنا من الكتاب والسنة والقياس . فقال : فما تقول في النصراني يعتق العبد المسلم ؟ قلت : فهو حر . قال : فلمن ولاؤه ؟ قلت : للذي أعتقه . قال : فما الحجة فيه ؟ قلت : ما وصفت لك إذ كان الله عز وجل نسب كافرا إلى مسلم ومسلما إلى كافر والنسب أعظم من الولاء . قال : النصراني لا يرث المسلم ، قلت : وكذلك الأب لا يرث ابنه إذا اختلف أديانهما وليس منعه ميراثه بالذي قطع نسبه منه هو ابنه بحاله إذ كان ثم متقدم الأبوة ، وكذلك العبد مولاه بحاله إذ كان ثم متقدم العتق .

    قال : وإن أسلم المعتق ؟ قلت : يرثه . قال : فإن لم يسلم ؟ قلت : فإن كان للمعتق ذوو رحم مسلمون فيرثونه . قال : وما الحجة في هذا ؟ ولم إذا دفعت الذي أعتقه عن ميراثه تورث به غيره إذ لم يرث هو فغيره أولى أن لا يرث بقرابته منه ؟ قلت هذا من شبهك ، قال : فأوجدني الحجة فيما قلت : ؟ قلت : أرأيت الابن إذا كان مسلما فمات وأبوه كافر ؟ قال : لا يرثه قلت : فإن كان له إخوة ، أو أعمام ، أو بنو عم مسلمون ؟ قال : يرثونه ، قلت وبسبب من ورثوه ؟ قلت : بقرابتهم من الأب ، قلت : فقد منعت الأب من الميراث وأعطيتهم بسببه ، قال إنما منعته بالدين فجعلته إذا خالف دينه كأنه ميت وورثته أقرب الناس به ممن هو على دينه قلت : فما منعنا من هذه الحجة في النصراني ؟ قال : هي لك ونحن نقول بها معك ، ولكنا احتججنا لمن خالفك من [ ص: 84 ] أصحابك ، قلت : أو رأيت فيما احتججت به حجة ؟ قال لا وقال : أرأيت إذا مات رجل ، ولا ولاء له ؟ قلت : فميراثه للمسلمين ، قال : بأنهم مواليه ؟ قلت : لا ، ولا يكون المولى إلا معتقا ، وهذا غير معتق ، قال : فإذا لم تورثهم بأنهم موال وليسوا بذوي نسب فكيف أعطيتهم ماله ؟ قلت : لم أعطهموه ميراثا ، ولو أعطيتهموه ميراثا وجب علي أن أعطيه من على الأرض حين يموت كما أجعله لو كانوا معا أعتقوه ، وأنا وأنت إنما نصيره للمسلمين يوضع منهم في خاصة والمال الموروث لا يوضع في خاصة فكان يدخل عليك لو زعمت بأنه ورث بالولاء هذا وأن تقول انظر اليوم الذي أسلم فيه فأثبت ، ولاءه لجماعة من كان حيا من المسلمين يومئذ فيرثه ورثة أولئك الأحياء دون غيرهم ويدخل عليك في النصراني يموت ، ولا وارث له فتجعل ماله لجماعة المسلمين ، وقد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يرث المسلم الكافر } قال : فبأي شيء تعطي المسلمين ميراث من لا نسب له ، ولا ولاء له من المسلمين وميراث النصراني إذا لم يكن له نسب ، ولا ولاء ؟ قلت : بما أنعم الله تعالى به على أهل دينه فخولهم من أموال المشركين إذا قدروا عليها ومن كل مال لا مالك له يعرف من المسلمين . مثل الأرض الموات فلم يحرم عليهم أن يحيوها ، فلما كان هذان المالان لا مالك لهما يعرف خولهما الله أهل دين الله من المسلمين




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #156
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (156)
    صــــــــــ 85 الى صـــــــــــ91







    الرد في المواريث .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ومن كانت له فريضة في كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو ما جاء عن السلف انتهينا به إلى فريضته ، فإن فضل من المال شيء لم نرده عليه ، وذلك أن علينا شيئين : أحدهما : أن لا ننقصه مما جعله الله تعالى له ، والآخر : أن لا نزيده عليه والانتهاء إلى حكم الله عز وجل هكذا وقال : بعض الناس نرده عليه إذا لم يكن للمال من يستغرقه وكان من ذوي الأرحام وأن لا نرده على زوج ، ولا زوجة وقالوا روينا قولنا هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : لهم أنتم تتركون ما تروون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود في أكثر الفرائض لقول زيد بن ثابت وكيف لم يكن هذا مما تتركون ؟ قالوا إنا سمعنا قول الله عز وجل { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فقلنا معناها على غير ما ذهبتم إليه ، ولو كان على ما ذهبتم إليه كنتم قد تركتموه قالوا فما معناها ؟ قلنا توارث الناس بالحلف والنصرة ثم توارثوا بالإسلام والهجرة ، ثم نسخ ذلك فنزل قول الله عز وجل { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } على معنى ما فرض الله عز ذكره وسن رسوله صلى الله عليه وسلم لا مطلقا هكذا .

    ألا ترى أن الزوج يرث أكثر مما يرث ذوو الأرحام ، ولا رحم له ، أولا ترى أن ابن العم البعيد يرث المال كله ، ولا يرثه الخال والخال أقرب رحما منه فإنما معناها على ما وصفت لك من أنها على ما فرض الله لهم وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنتم تقولون : إن الناس يتوارثون بالرحم وتقولون خلافه في موضع آخر تزعمون أن الرجل إذا مات وترك أخواله ومواليه فماله لمواليه دون أخواله ، فقد منعت ذوي الأرحام الذين قد تعطيهم في حال وأعطيت المولى الذي لا رحم له المال . قال : فما حجتك في أن لا ترد المواريث ؟ قلنا : ما وصفت لك من الانتهاء إلى حكم الله عز وجل وأن لا أزيد ذا سهم على سهمه ، ولا أنقصه قال : فهل من شيء تثبته سوى هذا ؟ قلت : نعم ، قال : الله عز وجل { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } وقال : عز ذكره { ، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر [ ص: 85 ] مثل حظ الأنثيين } فذكر الأخ والأخت منفردين فانتهى بالأخت إلى النصف وبالأخ إلى الكل وذكر الإخوة والأخوات مجتمعين فحكم بينهم مثل حكمه بينهم منفردين قال : { فللذكر مثل حظ الأنثيين } فجعلها على النصف منه في كل حال ، فمن قال برد المواريث قال : أورث الأخت المال كله فخالف قوله الحكمين معا . قلت : فإن قلتم نعطيها النصف بكتاب الله عز وجل ونرد عليها النصف لا ميراثا .

    قلنا بأي شيء ترده عليها ؟ قال : ما نرده أبدا إلا ميراثا أو يكون مالا حكمه إلى الولاة فما كان كذلك فليس الولاة بمخيرين ، وعلى الولاة أن يجعلوه لجماعة المسلمين ، ولو كانوا فيه مخيرين كان للوالي أن يعطيه من شاء والله تعالى الموفق .
    باب ميراث الجد .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وقلنا إذا ورث الجد مع الإخوة قاسمهم ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث ، فإذا كان الثلث خيرا له منها أعطيه ، وهذا قول زيد بن ثابت وعنه قبلنا أكثر الفرائض ، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان أنهما قالا فيه مثل قول زيد بن ثابت ، وقد روي هذا أيضا عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول الأكثر من فقهاء البلدان ، وقد خالفنا بعض الناس في ذلك فقال : الجد أب ، وقد اختلف فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبو بكر وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عتبة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه . إنه أب إذا كان معه الإخوة طرحوا وكان المال للجد دونهم ، وقد زعمنا نحن وأنت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا لم نصر إلى قول واحد منهم دون قول الآخر إلا بالتثبت مع الحجة البينة عليه وموافقته للسنة وهكذا نقول وإلى الحجة ذهبنا في قول زيد بن ثابت ومن قال قوله .

    قالوا : فإنا نزعم أن الحجة في قول من قال : الجد أب لخصال منها أن الله عز وجل قال : { يا بني آدم } وقال : { ملة أبيكم إبراهيم } فأقام الجد في النسب أبا وأن المسلمين لم يختلفوا في أن لم ينقصوه من السدس ، وهذا حكمهم للأب وأن المسلمين حجبوا بالجد الأخ للأم وهكذا حكمهم في الأب فكيف جاز أن يجمعوا بين أحكامه في هذه الخصال وأن يفرقوا بين أحكامه وحكم الأب فيما سواها قلنا إنهم لم يجمعوا بين أحكامه فيها قياسا منهم للجد على الأب قالوا وما دل على ذلك ؟ قلنا أرأيتم الجد لو كان إنما يرث باسم الأبوة هل كان اسم الأبوة يفارقه لو كان دونه أب ، أو يفارقه لو كان قاتلا أو مملوكا ، أو كافرا ؟ قال : لا قلنا ، فقد نجد اسم الأبوة يلزمه ، وهو غير وارث ، وإنما ورثناه بالخبر في بعض المواضع دون بعض لا باسم الأبوة قال : فإنهم لا ينقصونه من السدس وذلك حكم الأب قلنا ونحن لا ننقص الجدة من السدس أفترى ذلك قياسا على الأب فتقفها موقف الأب فتحجب بها الإخوة ؟ قالوا : لا ولكن قد حجبتم الإخوة من الأم بالجد كما حجبتموهم بالأب قلنا نعم قلنا هذا خبرا لا قياسا ، ألا ترى أنا نحجبهم بابنة ابن متسفلة ، ولا نحكم لها بحكم الأب .

    وهذا يبين لكم أن الفرائض تجتمع في بعض الأمور دون بعض قالوا وكيف لم تجعلوا أبا الأب كالأب كما جعلتم ابن الابن كالابن ؟ قلنا لاختلاف الأبناء والآباء ; لأنا وجدنا الأبناء أولى بكثرة المواريث من الآباء وذلك أن الرجل يترك أباه وابنه فيكون لابنه خمسة أسداس ولأبيه السدس ويكون له بنون يرثونه معا ، ولا يكون أبوان يرثانه معا ، وقد نورث نحن وأنتم الأخت ، ولا نورث ابنتها أو نورث الأم ، ولا نورث ابنتها إذا كان دونها غيرها ، وإن ورثناها لم نورثها قياسا على أمها ، وإنما ورثناها خبرا لا قياسا قال : فما حجتكم [ ص: 86 ] في أن أثبتم فرائض الإخوة مع الجد ؟ قلنا ما وصفنا من الاتباع وغير ذلك قالوا وما غير ذلك ؟ قلنا أرأيت رجلا مات وترك أخاه وجده هل يدلي واحد منهما إلى الميت بقرابة نفسه ؟ قالوا : لا ، قلنا : أليس إنما يقول أخوه أنا ابن أبيه ويقول جده أنا أبو أبيه وكلاهما يطلب ميراثه لمكانه من أبيه ؟ قالوا بلى قلنا أفرأيتم لو كان أبوه الميت في تلك الساعة أيهما أولى بميراثه ؟ قال : يكون لابنه خمسة أسداسه ولأبيه السدس قلنا ، وإذا كانا جميعا إنما يدليان بالأب فابن الأب أولى بكثرة ميراثه من أبيه فكيف جاز أن يحجب الذي هو أولى بالأب الذي يدليان بقرابته بالذي هو أبعد منه ؟ قلنا : ميراث الإخوة ثابت في القرآن .

    ولا فرض للجد فيه فهو أقوى في القرآن والقياس في ثبوت الميراث قال : فكيف جعلتم الجد إذا كثر الإخوة أكثر ميراثا من أحدهم ؟ قلنا خبرا ، ولو كان ميراثه قياسا جعلناه أبدا مع الواحد وأكثر من الإخوة أقل ميراثا فنظرنا كل ما صار للأخ ميراثا فجعلنا للأخ خمسة أسهم وللجد سهما كما ورثناهما حين مات ابن الجد أبو الابن قال : فلم لم تقولوا بهذا ؟ قلنا لم نتوسع بخلاف ما روينا عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يخالف بعضهم إلى قول بعض فنكون غير خارجين من أقاويلهم .
    ميراث ولد الملاعنة .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وقلنا إذا مات ولد الملاعنة وولد الزنا ورثت أمه حقها في كتاب الله عز وجل وإخوته لأمه حقوقهم ونظرنا ما بقي فإن كانت أمه مولاة عتاقة كان ما بقي ميراثا لموالي أمه ، وإن كانت عربية أو لا ، ولاء لها كان ما بقي لجماعة المسلمين وقال : بعض الناس بقولنا فيها إلا في خصلة واحدة إذا كانت أمه عربية أو لا ولاء لها ردوا ما بقي من ميراثه على عصبة أمه وكان عصبة أمه عصبته واحتجوا فيه برواية ليست بثابتة وأخرى ليست مما يقوم بها حجة وقالوا كيف لم تجعلوا عصبته عصبة أمه كما جعلتم مواليه موالي أمه ؟ قلنا بالأمر الذي لم نختلف نحن وأنتم في أصله ثم تركتم قولكم فيه قلت : أرأيتم المولاة العتيقة تلد من مملوك ، أو ممن لا يعرف أليس يكون ولاء ولدها تبعا لولائها حتى يكونوا كأنهم أعتقوا معا ما لم يجر أب ولاءهم ؟ قالوا : بلى ، قلنا : أو يعقل عنهم موالي أمهم ويكونون أولياء في التزويج لهم ؟ قالوا : بلى ، قلنا : فإن كانت عربية فتكون عصبتها عصبة ولدها فيعقلون عنهم ويزوجون بناتهم قالوا : لا ، قلنا : فإذا كان موالي الأم يقومون مقام العصبة في ولد مولاتهم وكان الأخوال لا يقومون ذلك المقام في بني أختهم فكيف أنكرت ما قلنا والأصل الذي ذهبنا إليه واحد ؟
    ميراث المجوس ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وقلنا : إذا أسلم المجوسي وابنة الرجل امرأته ، أو أخته أمه نظرنا إلى أعظم السببين فورثناها به وألغينا الآخر وأعظمهما أثبتهما بكل حال ، وإذا كانت أم أختا ورثناها بأنها أم وذلك أن الأم قد تثبت في كل حال والأخت قد تزول وهكذا جميع فرائضهم على هذه المنازل ، وقال بعض الناس أورثها من الوجهين معها فقلنا له أرأيت إذا كان معها أخت وهي أخت أم ؟ قال أحجبها من الثلث بأن معها أختين وأورثها من الوجه الآخر ; لأنها أخت قلنا أرأيت حكم الله عز وجل إذ جعل للأم الثلث في حال ونقصها منه بدخول الإخوة عليها أليس إنما نقصها بغيرها لا بنفسها ؟ قال : بلى [ ص: 87 ] بغيرها نقصها فقلنا وغيرها خلافها ؟ قال : نعم قلنا ، فإذا نقصتها بنفسها أفليس قد نقصتها بخلاف ما نقصها الله عز وجل به ؟ وقلنا أرأيت إذا كانت أما على الكمال فكيف يجوز أن تعطيها بنقصها دون الكمال وتعطيها أما كاملة وأختا كاملة وهما بدنان ، وهذا بدن ؟ قال : فقد دخل عليك أن عطلت أحد الحقين قلنا لما لم يكن سبيل إلى استعمالهما إلا بخلاف الكتاب وخلاف المعقول لم يجز إلا تعطيل أصغرهما لا أكبرهما قال : فهل تجد علينا شيئا من ذلك ؟ قلنا نعم قد تزعم أن المكاتب ليس بكامل الحرية ، ولا رقيق وأن كل من لم تكمل فيه الحرية صار إلى حكم العبيد ; لأنه لا يرث ، ولا يورث ، ولا تجوز شهادته ، ولا يحد من قذفه ، ولا يحد هو إلا حد العبيد فتعطل موضع الحرية منه قال : إني أحكم عليه أنه رقيق قلت : أفي كل حال ، أو في بعض حال دون بعض ؟ قال : بل في بعض حاله دون بعض ; لأني لو قلت : لك في كل حاله قلت لسيد المكاتب أن يبيعه ويأخذ ماله ، قلت : فإذا كان قد اختلط أمره فلم يمحض عبدا ، ولم يمحض حرا فكيف لم تقل فيه بما رويته عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يعتق منه بقدر ما أدى وتجوز شهادته بقدر ما أدى ويحد بقدر ما أدى ويرث ويورث بقدر ما أدى ؟

    قال : لا تقول به قلنا وتصير على أصل أحكامه ، وهو حكم العبيد فيما نزل به وتمنعه الميراث ؟ قال : نعم قلنا فكيف لم تجز لنا في فرض المجوس ما وصفنا ؟ وإنما صيرنا المجوس إلى أن أعطيناهم بأكثر ما يستوجبون فلم نمنعهم حقا من وجه إلا أعطيناهم ذلك الحق ، أو بعضه من وجه آخر وجعلنا الحكم فيهم حكما واحدا معقولا لا متبعضا لا أنا جعلنا بدنا واحدا في حكم بدنين .
    ميراث المرتد .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يرث المسلم الكافر ، ولا [ ص: 88 ] الكافر المسلم } .

    ( قال الشافعي ) وبهذا نقول فكل من خالف دين الإسلام من أهل الكتاب ومن أهل الأوثان فإن ارتد أحد من هؤلاء عن الإسلام لم يرثه المسلم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطع الله الولاية بين المسلمين والمشركين ، فوافقنا بعض الناس على كل كافر إلا المرتد وحده فإنه قال ترثه ورثته من المسلمين فقلنا فيعدو المرتد أن يكون داخلا في معنى الكافرين ، أو يكون في أحكام المسلمين ؟ فإن قلت : هو في بعض حكمه في أحكام المسلمين ، قلنا أفيجوز أن يكون كافرا في حكم مؤمنا في غيره ؟ فيقول لك غيرك فهو كافر حيث جعلته مؤمنا ومؤمن حيث جعلته كافرا ، قال : لا ، قلنا أفليس يجوز لك [ ص: 89 ] من هذا شيء إلا جاز عليك مثله ؟ قال : فإنا إنما صرنا في هذا إلى أثر رويناه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل المستورد وورث ميراثه ورثته المسلمين قلنا ، فقد زعم بعض أهل الحديث منكم أنه غلط ونحن نجعله لك ثابتا أفرأيت حكمه في سوى الميراث أحكم مشرك ، أو مسلم ؟ قال : بل حكم مشرك قلنا فإن حبست المرتد لقتله أو لتستتيبه فمات ابن له مسلم أيرثه ؟ قال : لا ، قلنا أفرأيت أحدا قط لا يرث ولده إلا أن يكون قاتله ويرثه ولده ؟ إنما أثبت الله عز وجل المواريث للأبناء من الآباء حيث أثبت المواريث للآباء من الأبناء وقطع ولاية المسلمين من المشركين وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 90 ] أن { لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم } فإن كان المرتد خارجا من معنى حكم الله تبارك وتعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم من بين المشركين بالأثر الذي زعمت لزمك أن تكون قد خالفت الأثر ; لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يمنعه ميراث ولده لو ماتوا ، وهو لو ورث ولده منه انبغى أن يورثه ولده إذا كان عنده مخالفا لغيره من المشركين ، ولو جاز أن يرثوه ، ولا يرثهم كان في مثل معنى ما حكم به معاوية بن أبي سفيان وتابعه عليه غيره فقال : نرث المشركين ، ولا يرثونا كما تحل لنا نساؤهم ، ولا تحل لهم نساؤنا أفرأيت إن احتج عليك أحد بهذا من قول معاوية ومن تابعه عليه منهم سعيد بن المسيب ومحمد بن علي بن الحسين وغيرهما ، وقد روي عن معاذ بن جبل شبيهه .

    وقد قاله معاوية ومعاذ في أهل الكتاب ، وقال : لك إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحكم به على أهل الأوثان والنساء اللاتي يحللن للمسلمين نساء أهل الكتاب لا نساء أهل الأوثان فقال : لمعاذ بن جبل ولمعاوية ولهما فقه وعلم فلم لم توافق قولهما ؟ وقد يحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم } أن يكون أراد به الكفار من أهل الأوثان وأتبع معاوية ومعاذا في أهل الكتاب فأورث المسلم من الكافر ، ولا أورث الكافر من المسلم كما أقول في نكاح نسائهم قال : لا يكون ذلك له ; لأنه إذا قال : النبي صلى الله عليه وسلم { لا يرث المسلم الكافر } فهذا على جميع الكفار ، قلنا ولم لا تستدل بقول من سمينا مع أن الحديث محتمل له ؟ قال إنه قل حديث إلا وهو يحتمل معاني والأحاديث على ظاهرها لا تحال عنه إلى معنى تحتمله إلا بدلالة عمن حدث عنه قلنا ، ولا يكون أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مقدما حجة في أن يقول بمعنى يحتمله الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا قلنا فكل ما قلت : من هذا حجة عليك في ميراث المرتد ، وفيما رويت عن علي بن أبي طالب [ ص: 91 ] مثله .

    ( قال الشافعي ) وقلنا لا يؤخذ مال المرتد عنه حتى يموت أو يقتل على ردته ، وإن رجع إلى الإسلام كان أحق بماله . وقال بعض الناس إذا ارتد فلحق بدار الحرب قسم الإمام ميراثه كما يقسم ميراث الميت وأعتق أمهات أولاده ومدبريه وجعل دينه المؤجل حالا وأعطى ورثته ميراثه فقيل : له عبت أن يكون عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما حكما في دار السنة والهجرة في امرأة المفقود الذي لا يسمع له بخبر والأغلب أنه قد مات بأن تتربص امرأته أربع سنين ثم أربعة أشهر وعشرا ثم تنكح فقلت : وكيف نحكم بحكم الوفاة على رجل امرأته ، وقد يمكن أن يكون حيا ؟ وهم لم يحكموا في ماله بحكم الحياة إنما حكموا به لمعنى الضرر على الزوجة ، وقد نفرق نحن وأنت بين الزوج وزوجته بأقل من هذا الضرر على الزوجة فنزعم أنه إذا كان عنينا فرق بينهما ثم صرت برأيك إلى أن حكمت على رجل حي لو ارتد بطرسس فامتنع بمسلحة الروم ونحن نرى حياته بحكم الموتى في كل شيء في ساعة من نهار خالفت فيه القرآن ودخلت في أعظم من الذي عبت . وخالفت من عليك عندك اتباعه فيما عرفت وأنكرت .

    قال : وأين القرآن الذي خالفت ؟ قلت : قال الله عز وجل { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } وقال : جل وعز { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } فإنما نقل ملك الموتى إلى الأحياء والموتى خلاف الأحياء ، ولم ينقل بميراث قط ميراث حي إلى حي فنقلت ميراث الحي إلى الحي ، وهو خلاف حكم الله تبارك وتعالى . قال : فإني أزعم أن ردته ولحوقه بدار الحرب مثل موته ، قلت : قولك هذا خبر ؟ قال : ما فيه خبر ، ولكني قلته قياسا . قلت : فأين القياس ؟ قال : ألا ترى أني لو وجدته في هذه الحال قتلته فكان ميتا ، قلت : قد علمت أنك إذا قتلته مات فأنت لم تقتله فأين القياس ؟ إنما قتله لو أمته فأنت لم تمته .

    ولو كنت بقولك لو قدرت عليه قتلته كالقاتل له لزمك إذا رجع إلى بلاد الإسلام أن يكون حكمه الميت فتنفذ عليه حكم الموتى . قال : ما أفعل وكيف أفعل ، وهو حي ؟ قلت : قد فعلت أولا ، وهو حي ثم زعمت أنك إن حكمت عليه بحكم الموتى فرجع تائبا وأم ولده قائمة ومدبره قائم ، وفي يد غريمه ماله بعينه الذي دفعته إليه ، وهو إلى عشر سنين ، وفي يد أبيه ميراثه فقال : لك رد علي مالي ، وهذا غريمي يقول هذا مالك بعينه لم أغيره ، وإنما هو لي إلى عشر سنين وهذه أم ولدي ومدبري بأعيانهما .

    قال : لا أرده عليه ; لأن الحكم قد نفذ فيه ، قلنا فكيف رددت عليه ما في يدي وارثه ، وقد نفذ له به الحكم ؟ قال : هذا ماله بعينه ، قلنا : والمال الذي في يد غريمه وأم ولده ومدبره ماله بعينه ، فكيف نقضت الحكم في بعضه دون بعض ؟ هل قلت : هذا خبرا ، أو قياسا قال : ما قلته خبرا ، ولكن قلته قياسا ، قلنا فعلى أي شيء قسته ؟ قال على أموال أهل البغي يصيبها أهل العدل ، فإن تاب أهل البغي فوجدوا أموالهم بأعيانها أخذوها ، وإن لم يجدوها بأعيانها لم يغرمها أهل العدل ، وكذلك ما أصاب أهل العدل لأهل البغي ، قلنا فهذا وجد ماله بعينه فرددت بعضه ، ولم تردد بعضه فأما أهل العدل لو أصابوا لأهل البغي أم ولد ، أو مدبرة رددتهما على صاحبهما وقلت : لا يعتقان ، ولا يملكهما غير صاحبهما وليس هكذا قلت : في مال المرتد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #157
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (157)
    صــــــــــ 92 الى صـــــــــــ98






    ميراث المشركة

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قلنا : إن المشركة زوج وأم وأخوان لأب وأم وأخوان لأم فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث ويشركهم بنو الأب ; لأن الأب لما سقط حكمه صاروا [ ص: 92 ] بني أم معا وقال : بعض الناس مثل قولنا إلا أنهم قالوا لا يشركهم بنو الأب والأم واحتجوا علينا بأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيها فقال بعضهم قولنا وقال بعضهم قولهم فقالوا اخترنا قول من قلنا بقوله من قبل أنا وجدنا بني الأب والأم قد يكونون مع بني الأم فيكون للواحد منهم الثلثان وللجماعة من بني الأم الثلث ووجدنا بني الأب والأم قد يشركهم أهل الفرائض فيأخذون أقل مما يأخذ بنو الأم فلما وجدناهم مرة يأخذون أكثر مما يأخذون ومرة أقل مما يأخذون فرقنا بين حكميهم فورثنا كلا على حكمه ; لأنا وإن جمعتهم الأم لم نعطهم دون الأب ، وإن أعطيناهم بالأب مع الأم فرقنا بين حكميهم فقلنا إنا إنما أشركناهم مع بني الأم ; لأن الأم جمعتهم وسقط حكم الأب ، فإذا سقط حكم الأب كان كأن لم يكن ، ولو صار للأب موضع يكون له فيه حكم استعملناه قل نصيبهم ، أو كثر قال : فهل تجد مثل ما وصفت من أن يكون الرجل مستعملا في حال ثم تأتي حال فلا يكون مستعملا فيها ؟ قلنا نعم ، قال : وما ذاك ؟ قلنا ما قلنا نحن وأنت وخالفت فيه صاحبك من الزوج ينكح المرأة بعد ثلاث تطليقات ثم يطلقها فتحل للزوج قبله ويكون مبتدئا لنكاحها وتكون عنده على ثلاث ، ولو نكحها بعد واحدة ، أو اثنتين لم يهدم الواحد ، ولا الثنتين كما يهدم الثلاث ; لأنه لما كان له معنى في إحلال المرأة هدم الطلاق الذي تقدمه إذا كانت لا تحل إلا به ولما لم يكن له معنى في الواحدة والثنتين وكانت تحل لزوجها بنكاح قبل زوج كما كانت تحل لو لم يطلقها لم يكن له معنى فلم نستعمله قال : إنا لنقول هذا خبرا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت : وقياسا كما وصفنا ; لأنه قد خالف عمر فيه غيره .

    قال : فهل تجد لي هذا في الفرائض ؟ قلت : نعم الأب يموت ابنه وللابن إخوة فلا يرثون مع الأب ، فإذا كان الأب قاتلا ورثوا ، ولم يورث الأب من قبل أن حكم الأب قد زال وما زال حكمه كان كمن لم يكن فلم نمنعهم الميراث له إذا صار لا حكم له كما منعناهم به إذا كان له حكم ، وكذلك لو كان كافرا أو مملوكا قال : فهذا لا يرث بحال وأولئك يرثون بحال قلنا : أوليس إنما ننظر في الميراث إلى الفريضة التي يدلون فيها بحقوقهم لا ننظر إلى حالهم قبلها ، ولا بعدها ؟ قال : وما تعني بذلك ؟ قلت : لو لم يكن قاتلا ورث ، وإذا صار قاتلا لم يرث ، ولو كان مملوكا فمات ابنه لم يرث ، ولو عتق قبل أن يموت ورث قال : هذا هكذا ؟ قلنا فنظرنا إلى الحال التي لم يكن فيها للأب حكم في الفريضة أسقطناه ووجدناهم لا يخرجون من أن يكونوا إلى بني الأم .
    كتاب الوصايا

    أخبرنا الربيع بن سليمان قال : كتبنا هذا الكتاب من نسخة الشافعي من خطه بيده ، ولم نسمعه منه وذكر الربيع في أوله ، وإذا أوصى الرجل للرجل بمثل نصيب أحد ولده وذكر بعده تراجم ، وفي آخرها ما ينبغي أن يكون مقدما ، وهو : باب الوصية وترك الوصية .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية : إن قوله صلى الله عليه وسلم { ما حق امرئ له مال يحتمل ما لامرئ أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده } ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من وجه الفرض . [ ص: 93 ] باب الوصية بمثل نصيب أحد ولده ، أو أحد ورثته ونحو ذلك ، وليس في التراجم .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا وصى الرجل للرجل بمثل نصيب أحد ولده ، فإن كانوا اثنين فله الثلث ، وإن كانوا ثلاثة فله الربع حتى يكون مثل أحد ولده ، وإن كان أوصى بمثل نصيب ابنه ، فقد أوصى له بالنصف فله الثلث كاملا إلا أن يشاء الابن أن يسلم له السدس .

    ( قال ) وإنما ذهبت إذا كانوا ثلاثة إلى أن يكون له الربع ، وقد يحتمل أن يكون له الثلث ; لأنه يعلم أن أحد ولده الثلاثة يرثه الثلث وأنه لما كان القول محتملا أن يكون أراد أن يكون كأحد ولده وأراد أن يكون له مثل ما يأخذ أحد ولده ، جعلت به الأقل فأعطيته إياه ; لأنه اليقين ومنعته الشك ، وهكذا لو قال : أعطوه مثل نصيب أحد ولدي فكان في ولده رجال ونساء أعطيته نصيب امرأة ; لأنه أقل ، وهكذا لو كان ولده ابنة وابن ابن ، فقال : أعطوه مثل نصيب أحد ولدي أعطيته السدس ، ولو كان ولد الابن اثنين ، أو أكثر أعطيته أقل ما يصيب واحدا منهم ، ولو قال : له مثل نصيب أحد ورثتي ، فكان في ورثته امرأة ترثه ثمنا ، ولا وارث له يرث أقل من ثمن أعطيته إياه ، ولو كان له أربع نسوة يرثنه ثمنا أعطيته ربع الثمن ، وهكذا لو كانت له عصبة فورثوه أعطيته مثل نصيب أحدهم ، وإن كان سهما من ألف سهم ، وهكذا لو كانوا موالي ، وإن قل عددهم وكان معهم وارث غيرهم زوجة أو غيرها أعطيته أبدا الأقل مما يصيب أحد ورثته ، ولو كان ورثته إخوة لأب وأم وإخوة لأب وإخوة لأم ، فقال : أعطوه مثل نصيب أحد إخوتي ، أو له مثل نصيب أحد إخوتي فذلك كله سواء ، ولا تبطل وصيته بأن الإخوة للأب لا يرثون ويعطي مثل نصيب أقل إخوته الذين يرثونه نصيبا ، إن كان أحد إخوته لأم أقل نصيبا ، أو بني الأم والأب أعطى مثل نصيبه .

    ( قال ) ولو قال : أعطوه مثل أكثر نصيب وارث لي نظر من يرثه فأيهم كان أكثر له ميراثا أعطي مثل نصيبه حتى يستكمل الثلث ، فإن جاوز نصيبه الثلث لم يكن له إلا الثلث ، إلا أن يشاء ذلك الورثة ، وهكذا لو قال : أعطوه أكثر مما يصيب أحدا من ميراثي ، أو أكثر نصيب أحد ولدي أعطى ذلك حتى يستكمل الثلث ، ولو قال : أعطوه ضعف ما يصيب أكثر ولدي نصيبا أعطى مثلي ما يصيب أكثر ولده نصيبا ، ولو قال : ضعفي ما يصيب ابني نظرت ما يصيب ابنه فإن كان مائة أعطيته ثلثمائة فأكون أضعفت المائة التي تصيبه بميراثه مرة ثم مرة فذاك ضعفان وهكذا إن قال : ثلاثة أضعاف وأربعة لم أزد على أن أنظر أصل الميراث فأضعفه له مرة بعد مرة حتى يستكمل ما أوصى له به ، ولو قال : أعطوه مثل نصيب أحد من أوصيت له أعطي أقل ما يصيب أحدا ممن أوصى له لأني إذا أعطيته أقل ، فقد أعطيته ما أعلم أنه أوصى له به فأعطيته باليقين ، ولا أجاوز ذلك ; لأنه شك والله تعالى أعلم .
    باب الوصية بجزء من ماله .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ولو قال : لفلان نصيب من مالي ، أو جزء من مالي ، أو حظ من مالي كان هذا كله سواء ويقال للورثة أعطوه منه ما شئتم ; لأن كل شيء جزء ونصيب وحظ ، فإن قال : الموصى له قد علم الورثة أنه أراد أكثر من هذا أحلف الورثة ما تعلمه أراد أكثر مما أعطاه ونعطيه وهكذا لو قال : أعطوه جزءا قليلا من مالي ، أو حظا ، أو نصيبا ، ولو قال : مكان قليل كثيرا ما عرفت للكثير حدا وذلك أني لو ذهبت إلى أن أقول الكثير كل ما كان له حكم وجدت قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا [ ص: 94 ] يره ومن يعمل مثقال : ذرة شرا يره } فكان مثقال ذرة قليلا ، وقد جعل الله تعالى لها حكما يرى في الخير والشر ورأيت قليل مال الآدميين وكثيره سواء يقضي بأدائه على من أخذه غصبا ، أو تعديا أو استهلكه .

    ( قال الشافعي ) ووجدت ربع دينار قليلا ، وقد يقطع فيه .

    ( قال الشافعي ) ووجدت مائتي درهم قليلا ، وفيها زكاة وذلك قد يكون قليلا فكل ما وقع عليه اسم قليل وقع عليه اسم كثير فلما لم يكن للكثير حد يعرف وكان اسم الكثير يقع على القليل كان ذلك إلى الورثة ، وكذلك لو كان حيا فأقر لرجل بقليل ماله أو كثيره كان ذلك إليه فمتى لم يسم شيئا ، ولم يحدده فذلك إلى الورثة ; لأني لا أعطيه بالشك ، ولا أعطيه إلا باليقين .
    باب الوصية بشيء مسمى بغير عينه .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ولو أوصى لرجل فقال : أعطوه عبدا من رقيقي أعطوه أي عبد شاءوا ، وكذلك لو قال : أعطوه شاة من غنمي أو بعيرا من إبلي ، أو حمارا من حميري ، أو بغلا من بغالي أعطاه الورثة أي ذلك شاءوا مما سماه ، ولو قال أعطوه أحد رقيقي ، أو بعض رقيقي ، أو رأسا من رقيقي أعطوه أي رأس شاءوا من رقيقه ذكرا أو أنثى صغيرا ، أو كبيرا معيبا أو غير معيب ، وكذلك إذا قال : دابة من دوابي أعطوه أي دابة شاءوا أنثى ، أو ذكرا صغيرة كانت أو كبيرة ، وكذلك يعطونه صغيرا من الرقيق إن شاءوا ، أو كبيرا ، ولو أوصى فقال : أعطوه رأسا من رقيقي ، أو دابة من دوابي فمات من رقيقه رأس ، أو من دابة فقال الورثة هذا الذي أوصى لك به وأنكر الموصى له ذلك ، فقد ثبت للموصي له عبدا ، أو رأسا من رقيقه فيعطيه الورثة أي ذلك شاءوا وليس عليه ما مات ما حمل الثلث ذلك كما لو أوصى له بمائة دينار فهلك من ماله مائة دينار لم يكن عليه أن يحسب عليه ما حمل ذلك الثلث وذلك أنه جعل المشيئة فيما يقطع به إليهم فلا يبرءون حتى يعطوه إلا أن يهلك ذلك كله فيكون كهلاك عبد أوصى له به بعينه ، وإن لم يبق إلا واحد مما أوصى له به من دواب ، أو رقيق فهو له ، وإن هلك الرقيق ، أو الدواب أو ما أوصى له به كله بطلت الوصية .
    باب الوصية بشيء مسمى لا يملكه .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ولو قال : الموصي أعطوا فلانا شاة من غنمي ، أو بعيرا من إبلي أو عبدا من رقيقي ، أو دابة من دوابي فلم يوجد له دابة ، ولا شيء من الصنف الذي أوصى له به بطلت الوصية ; لأنه أوصى له بشيء مسمى إضافة إلى ملكه لا يملكه ، وكذلك لو أوصى له وله هذا الصنف فهلك ، أو باعه قبل موته بطلت الوصية له ، ولو مات وله من صنف ما أوصى فيه شيء فمات ذلك الصنف إلا واحدا كان ذلك الواحد للموصى له إذا حمله الثلث ، ولو مات فلم يبق منه شيء بطلت وصية الرجل له بذهابه ، ولو تصادقوا على أنه بقي منه شيء فقال الموصى له استهلكه الورثة وقال : الورثة بل هلك من السماء كان القول قول الورثة على الموصى له البينة فإن جاء بها قيل للورثة أعطوه ما شئتم مما يكون مثله ثمنا لأقل الصنف الذي أوصى له به والقول في ثمنه قولكم إذا جئتم بشيء يحتمل واحلفوا له إلا أن يأتي ببينة على أن أقله ثمنا كان مبلغ ثمنه كذا ، ولو استهلك ذلك كله وارث ، أو أجنبي كان للموصى له أن [ ص: 95 ] يرجع على مستهلكه من كان بثمن أي شيء سلمه له الوارث منه فإن أخذ الوارث منه ثمن بعض ذلك الصنف وأفلس ببعضه رجع الموصى له على الوارث بما أصاب ما سلم له الوارث من ذلك الصنف بقدر ما أخذ كأنه أخذ نصف ثمن غنم فقال : الوارث أسلم له أدنى شاة منها وقيمتها درهمان فيرجع على الوارث بدرهم وهكذا هذا في كل صنف ، والله تعالى أعلم .
    باب الوصية بشاة من ماله .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ولو أن رجلا أوصى لرجل بشاة من ماله قيل : للورثة أعطوه أي شاة شئتم كانت عندكم ، أو اشتريتموها له صغيرة ، أو كبيرة ضائنة ، أو ماعزة فإن قالوا نعطيه ظبيا ، أو أروية لم يكن ذلك لهم ، وإن وقع على ذلك اسم شاة ; لأن المعروف إذا قيل : شاة ضائنة ، أو ماعزة وهكذا لو قالوا نعطيك تيسا ، أو كبشا لم يكن ذلك لهم ; لأن المعروف إذا قيل شاة أنها أنثى ، وكذلك لو قال أعطوه بعيرا ، أو ثورا من مالي لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ، ولا بقرة ; لأنه لا يقع على هذين اسم البعير ، ولا الثور على الانفراد وهكذا لو قال : أعطوه عشر أينق من مالي لم يكن لهم أن يعطوه فيها ذكرا وهكذا لو قال : أعطوه عشرة أجمال ، أو عشرة أثوار ، أو عشرة أتياس لم يكن لهم أن يعطوه أنثى من واحد من هذه الأصناف ، ولو قال : أعطوه عشرا من غنمي ، أو عشرا من إبلي ، أو عشرا من أولاد غنمي ، أو إبلي ، أو بقري ، أو قال : أعطوه عشرا من الغنم ، أو عشرا من البقر أو عشرا من الإبل كان لهم أن يعطوه عشرا إن شاءوا إناثا كلها ، وإن شاءوا ذكورا كلها ، وإن شاءوا ذكورا وإناثا ; لأن الغنم والبقر والإبل جماع يقع على الذكور والإناث ، ولا شيء أولى من شيء .

    ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس فيما دون خمس ذود صدقة } فلم يختلف الناس أن ذلك في الذكور دون الإناث والإناث دون الذكور والذكور والإناث لو كانت لرجل ، ولو قال : أعطوا فلانا من مالي دابة قيل : لهم أعطوه إن شئتم من الخيل ، أو البغال أو الحمير أنثى ، أو ذكرا ; لأنه ليس الذكر منها بأولى باسم الدابة من الأنثى ، ولكنه لو قال : أنثى من الدواب ، أو ذكرا من الدواب لم يكن له إلا ما أوصى به ذكرا كان ، أو أنثى صغيرا كان ، أو كبيرا أعجف كان ، أو سمينا معيبا كان أو سليما . والله تعالى الموفق .
    باب الوصية بشيء مسمى فيهلك بعينه ، أو غير عينه .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ، ولو أوصى الرجل لرجل بثلث شيء واحد بعينه مثل عبد وسيف ودار وأرض وغير ذلك فاستحق ثلثا ذلك الشيء ، أو هلك وبقي ثلثه مثل دار ذهب السيل بثلثيها ، أو أرض كذلك فالثلث كالباقي للموصى له به إذا خرج من الثلث من قبل أن الوصية موجودة وخارجة من الثلث .
    باب ما يجوز من الوصية في حال ، ولا يجوز في أخرى .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ، ولو قال : أعطوا فلانا كلبا من كلابي وكانت له كلاب كانت الوصية [ ص: 96 ] جائزة ; لأن الموصى له يملكه بغير ثمن ، وإن استهلكه الورثة ، ولم يعطوه إياه ، أو غيرهم لم يكن له ثمن يأخذه ; لأنه لا ثمن للكلب ، ولو لم يكن له كلب فقال : أعطوا فلانا كلبا من مالي كانت الوصية باطلة ; لأنه ليس على الورثة ، ولا لهم أن يشتروا من ثلثه كلبا فيعطوه إياه ، ولو استوهبوه فوهب لهم لم يكن داخلا في ماله وكان ملكا لهم ، ولم يكن عليهم أن يعطوا ملكهم للموصى له والموصي لم يملكه .

    ولو قال : أعطوه طبلا من طبولي وله الطبل الذي يضرب به للحرب والطبل الذي يضرب به للهو فإن كان الطبل الذي يضرب به للهو يصلح لشيء غير اللهو قيل : للورثة أعطوه أي الطبلين شئتم ; لأن كلا يقع عليه اسم طبل ، ولو لم يكن له إلا أحد الصنفين ، لم يكن لهم أن يعطوه من الآخر وهكذا لو قال : أعطوه طبلا من مالي ، ولا طبل له ابتاع له الورثة أي الطبلين شاءوا بما يجوز له فيه ، وإن ابتاعوا له الطبل الذي يضرب به للحرب فمن أي عود ، أو صفر شاءوا ابتاعوه ويبتاعونه وعليه أي جلد شاءوا مما يصلح على الطبول فإن أخذه بجلدة لا تعمل على الطبول لم يجز ذلك حتى يأخذوه بجلدة يتخذ مثلها على الطبول ، وإن كانت أدنى من ذلك فإن اشترى له الطبل الذي يضرب به فكان يصلح لغير الضرب واشترى له طبلا فإن كان الجلدان اللذان يجعلان عليهما يصلحان لغير الضرب أخذ بجلدته ، وإن كانا لا يصلحان لغير الضرب أخذ الطبلين بغير جلدين ، وإن كان يقع على طبل الحرب اسم طبل بغير جلدة أخذته الورثة إن شاءوا بلا جلد ، وإن كان الطبل الذي يضرب به لا يصلح إلا للضرب لم يكن للورثة أن يعطوه طبلا إلا طبلا للحرب كما لو كان أوصى له بأي دواب الأرض شاء الورثة لم يكن لهم أن يعطوه خنزيرا .

    ولو قال : أعطوه كبرا كان الكبر الذي يضرب به دون ما سواه من الطبول ودون الكبر الذي يتخذه النساء في رءوسهن ; لأنهن إنما سمين ذلك كبرا تشبيها بهذا وكان القول فيه كما وصفت إن صلح لغير الضرب جازت الوصية ، وإن لم يصلح إلا للضرب لم تجز عندي ، ولو قال : أعطوه عودا من عيداني وله عيدان يضرب بها وعيدان قسي وعصي وغيرها فالعود إذا وجه به المتكلم للعود الذي يضرب به دون ما سواه مما يقع عليه اسم عود فإن كان العود يصلح لغير الضرب جازت الوصية ، ولم يكن عليه إلا أقل ما يقع عليه اسم عود وأصغره بلا وتر ، وإن كان لا يصلح إلا للضرب بطلت عندي الوصية وهكذا القول في المزامير كلها .

    وإن قال : مزمار من مزاميري ، أو من مالي فإن كانت له مزامير شتى فأيها شاءوا أعطوه ، وإن لم يكن له إلا صنف منها أعطوه من ذلك الصنف ، وإن قال : مزمار من مالي أعطوه أي مزمار شاءوا - ناي ، أو قصبة أو غيرها - إن صلحت لغير الزمر ، وإن لم تصلح إلا للزمر لم يعط منها شيئا ، ولو أوصى رجل لرجل بجرة خمر بعينها بما فيها أهريق الخمر وأعطي ظرف الجرة .

    ولو قال : أعطوه قوسا من قسيي وله قسي معمولة وقسي غير معمولة ، أو ليس له منها شيء فقال : أعطوه عودا من القسي كان عليهم أن يعطوه قوسا معمولة أي قوس شاءوا - صغيرة أو كبيرة عربية ، أو أي عمل شاءوا - إذا وقع عليها اسم قوس ترمى بالنبل ، أو النشاب ، أو الحسبان ومن أي عود شاءوا ، ولو أرادوا أن يعطوه قوس جلاهق ، أو قوس نداف أو قوس كرسف لم يكن لهم ذلك ; لأن من وجه بقوس فإنما يذهب إلى قوس رمى بما وصفت ، وكذلك لو قال أي قوس شئتم ، أو أي قوس الدنيا شئتم ، ولكنه لو قال : أعطوه أي قوس شئتم مما يقع عليه اسم قوس أعطوه إن شاءوا قوس نداف ، أو قوس قطن ، أو ما شاءوا مما وقع عليه اسم قوس ، ولو كان له صنف من القسي فقال : أعطوه [ ص: 97 ] من قسيي لم يكن لهم أن يعطوه من غير ذلك الصنف ، ولا عليهم وكان لهم أن يعطوه أيها شاءوا أكانت عربية ، أو فارسية ، أو دودانية أو قوس حسبان ، أو قوس قطن .
    باب الوصية في المساكين والفقراء .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أوصى الرجل فقال : ثلث مالي في المساكين فكل من لا مال له ، ولا كسب يغنيه داخل في هذا المعنى ، وهو للأحرار دون المماليك ممن لم يتم عتقه .

    ( قال ) وينظر أين كان ماله فيخرج ثلثه فيقسم في مساكين أهل ذلك البلد الذي به ماله دون غيرهم فإن كثر حتى يغنيهم نقل إلى أقرب البلدان له ثم كان هكذا حيث كان له مال صنع به هذا وهكذا لو قال : ثلث مالي في الفقراء كان مثل المساكين يدخل فيه الفقير والمسكين ; لأن المسكين فقير والفقير مسكين إذا أفرد الموصي القول هكذا ، ولو قال : ثلث مالي في الفقراء والمساكين ، علمنا أنه أراد التمييز بين الفقير والمسكنة ، فالفقير الذي لا مال له ، ولا كسب يقع منه موقعا ، والمسكين من له مال ، أو كسب يقع منه موقعا ، ولا يغنيه ، فيجعل الثلث بينهم نصفين ونعني به مساكين أهل البلد الذي بين أظهرهم مال ، وفقراءهم ، وإن قل ، ومن أعطى في فقراء ، أو مساكين ، فإنما أعطى لمعنى فقر أو مسكنة ، فينظر في المساكين فإن كان فيهم من يخرجه من المسكنة مائة وآخر يخرجه من المسكنة خمسون أعطى الذي يخرجه من المسكنة مائة سهمين والذي يخرجه خمسون سهما ، وهكذا يصنع في الفقراء على هذا الحساب ، ولا يدخل فيهم ، ولا يفضل ذو قرابة على غيره إلا بما وصفت في غيره من قدر مسكنته ، أو فقره .

    ( قال ) فإذا نقلت من بلد إلى بلد أو خص بها بعض المساكين والفقراء دون بعض كرهته ، ولم يبن لي أن يكون على من فعل ذلك ضمان ، ولكنه لو أوصى لفقراء ومساكين فأعطى أحد الصنفين دون الآخر ضمن نصف الثلث ، وهو السدس ; لأنا قد علمنا أنه أراد صنفين فحرم أحدهما ، ولو أعطى من كل صنف أقل من ثلاثة ضمن ، ولو أعطى واحدا ضمن ثلثي السدس ; لأن أقل ما يقسم عليه السدس ثلاثة ، وكذلك لو كان الثلث لصنف كان أقل ما يقسم عليه ثلاثة ، ولو أعطاها اثنين ضمن حصة واحد إن كان الذي أوصى به السدس فثلث السدس ، وإن كان الثلث فثلث الثلث ; لأنه حصة واحدة ، وكذلك لو قال : ثلث مالي في المساكين يضعه حيث رأى منهم كان له أقل ما يضعه فيه ثلاثة يضمن إن وضعه في أقل حصة ما بقي من الثلاثة وكان الاختيار له أن يعمهم ، ولا يضيق عليه أن يجتهد فيضعه في أحوجهم ، ولا يضعه كما وصفت في أقل من ثلاثة ، وكان له الاختيار إذا خص أن يخص قرابة الميت ; لأن إعطاء قرابته يجمع أنهم من الصنف الذي أوصى لهم وأنهم ذو رحم على صلتها ثواب .
    باب الوصية في الرقاب .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أوصى بثلث ماله في الرقاب أعطى منها في المكاتبين ، ولا يبتدئ منها عتق رقبة ، وأعطى من وجد من المكاتبين بقدر ما بقي عليهم وعموا كما وصفت في الفقراء والمساكين لا يختلف ذلك ، وأعطى ثلث كل مال له في بلد في مكاتبي أهله .

    ( قال ) : وإن قال : يضعه منهم حيث رأى فكما قلت : في الفقراء والمساكين لا يختلف ، فإن قال : يعتق به عني رقابا لم يكن له أن [ ص: 98 ] يعطي مكاتبا منه درهما ، وإن فعل ضمن ، وإن بلغ أقل من ثلاث رقاب لم يجزه أقل من عتق ثلاث رقاب ، فإن فعل ضمن حصة من تركه من الثلث ، وإن لم يبلغ ثلاث رقاب وبلغ أقل من رقبتين يجدهما ثمنا وفضل فضل جعل الرقبتين أكثر ثمنا حتى يذهب في رقبتين ، ولا يحبس شيئا لا يبلغ رقبة ، وهكذا لو لم يبلغ رقبتين وزاد على رقبة ، ويجزيه أي رقبة اشترى صغيرة ، أو كبيرة ، أو ذكرا ، أو أنثى ، وأحب إلي أزكى الرقاب وخيرها وأحراها أن يفك من سيده ملكه ، وإن كان في الثلث سعة تحتمل أكثر من ثلاث رقاب فقيل : أيهما أحب إليك إقلال الرقاب واستغلاؤها ، أو إكثارها واسترخاصها ؟ قال : إكثارها واسترخاصها أحب إلي ، فإن قال ولم ؟ ; لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار } ويزيد بعضهم في الحديث { حتى الفرج بالفرج } .
    باب الوصية في الغارمين .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أوصى بثلث ماله في الغارمين فالقول أنه يقسم في غارمي البلد الذي به ماله ، وفي أقل ما يعطاه ثلاثة فصاعدا كالقول في الفقراء والرقاب ، وفي أنه يعطى الغارمون بقدر غرمهم كالقول في الفقراء لا يختلف ، ويعطى من له الدين عليهم أحب إلي ، ولو أعطوه في دينهم رجوت أن يسع .
    باب الوصية في سبيل الله .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أوصى الرجل بثلث ماله في سبيل الله أعطيه من أراد الغزو لا يجزي عندي غيره ; لأن من وجه بأن أعطى في سبيل الله لا يذهب إلى غير الغزو ، وإن كان كل ما أريد الله به من سبيل الله . والقول في أن يعطاه من غزا من غير البلد الذي به مال الموصي ويجمع عمومهم ، وإن يعطوا بقدر مغازيهم إذا بعدت وقربت مثل القول في أن تعطى المساكين بقدر مسكنتهم لا يختلف ، وفي أقل من يعطاه ، وفي مجاوزته إلى بلد غيره مثل القول في المساكين لا يختلف ، ولو قال : أعطوه في سبيل الله ، أو في سبيل الخير ، أو في سبيل البر ، أو في سبيل الثواب جزئ أجزاء فأعطيه ذو قرابته فقراء كانوا أو أغنياء ، والفقراء والمساكين ، وفي الرقاب والغارمين ، والغزاة ، وابن السبيل ، والحاج ، ودخل الضيف وابن السبيل والسائل والمعتر فيهم ، أو في الفقراء والمساكين لا يجزئ عندي غيره أن يقسم بين هؤلاء لكل صنف منهم سهم فإن لم يفعل الوصي ضمن سهم من منعه إذا كان موجودا ومن لم يجده حبس له سهمه حتى يجده بذلك البلد ، أو ينقل إلى أقرب البلدان به ممن فيه ذلك الصنف فيعطونه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #158
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (158)
    صــــــــــ 99 الى صـــــــــــ105





    باب الوصية في الحج

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا مات الرجل وكان قد حج حجة الإسلام فأوصى أن يحج عنه فإن بلغ ثلثه حجة من بلده أحج عنه رجلا من بلده ، وإن لم يبلغ أحج عنه رجلا من حيث بلغ ثلثه .

    ( قال الربيع ) الذي يذهب إليه الشافعي أنه من لم يكن حج حجة الإسلام أن عليه أن يحج عنه من رأس المال وأقل ذلك من الميقات .

    ( قال الشافعي ) : ولو قال : أحجوا عني فلانا بمائة درهم وكانت المائة أكثر من إجارته أعطيها ; لأنها وصية له كان بعينه ، أو بغير عينه ما لم يكن وارثا ، فإن كان وارثا فأوصى له أن يحج عنه بمائة درهم وهي أكثر من أجر مثله قيل : له إن شئت فأحجج عنه بأجر مثلك ويبطل الفضل عن أجر مثلك ; لأنها وصية والوصية لوارث لا تجوز ، وإن لم تشأ أحججنا عنه غيرك بأقل ما يقدر عليه أن يحج عنه من بلده ، والإجارة بيع من البيوع ، فإذا لم يكن فيها محاباة فليست بوصية ، ألا ترى أنه لو أوصى أن يشترى عبد لوارث فيعتق فاشتري بقيمته جاز ؟ وهكذا لو أوصى أن يحج عنه فقال : وارثه أنا أحج عنه بأجر مثلي جاز له أن يحج عنه بأجر مثله .

    ( قال ) ولو قال : أحجوا عني بثلثي حجة وثلثه يبلغ أكثر من حجج جاز ذلك لغير وارث ، ولو قال : أحجوا عني بثلثي وثلثه يبلغ حججا فمن أجاز أن يحج عنه متطوعا أحج عنه بثلثه بقدر ما بلغ لا يزيد أحدا ويحج عنه على أجر مثله فإن فضل من ثلثه ما لا يبلغ أن يحج عنه أحد من بلده أحج عنه من أقرب البلدان إلى مكة حتى ينفد ثلثه . فإن فضل درهم ، أو أقل مما لا يحج عنه به أحد رد ميراثا وكان كمن أوصى لمن لم يقبل الوصية .

    ( قال ) فإن أوصى أن يحج عنه حجة أو حججا في قول من أجاز أن يحج عنه فأحج عنه ضرورة لم يحج ، فالحج عن الحاج لا عن الميت ويرد الحاج جميع الأجرة .

    ( قال ) : ولو استؤجر عنه من حج فأفسد الحج رد جميع الإجارة ; لأنه أفسد العمل الذي استؤجر عليه ، ولو أحجوا عنه امرأة أجزأ عنه وكان الرجل أحب إلي ، ولو أحجوا رجلا عن امرأة أجزأ عنها .

    ( قال ) وإحصار الرجل عن الحج مكتوب في كتاب الحج ، وإذا أوصى الرجل أن يحجوا عنه رجلا فمات الرجل قبل أن يحج عنه أحج عنه غيره كما لو أوصى أن يعتق عنه رقبة فابتيعت فلم تعتق حتى ماتت أعتق عنه أخرى ، ولو أوصى رجل قد حج حجة الإسلام فقال : أحجوا عني فلانا بمائة درهم وأعطوا ما بقي من ثلثي فلانا وأوصى بثلث ماله لرجل بعينه فللموصى له بالثلث نصف الثلث ; لأنه قد أوصى له بالثلث وللحاج وللموصى له بما بقي من الثلث نصف الثلث ويحج عنه رجل بمائة .
    باب العتق والوصية في المرض

    أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ليس له مال غيرهم ، وذكر الحديث .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فعتق البتات في المرض إذا مات المعتق من الثلث ، وهكذا الهبات والصدقات في المرض ; لأن كله شيء أخرجه المالك من ملكه بلا عوض مال أخذه ، فإذا أعتق المريض عتق بتات وعتق تدبير لوصية بدئ بعتق البتات قبل عتق التدبير والوصية وجميع الوصايا فإن فضل من الثلث فضل [ ص: 100 ] عتق منه التدبير والوصايا وأنفذت الوصايا لأهلها ، وإن لم يفضل منه فضل لم تكن وصية وكان كمن مات لا مال له ، وهكذا كل ما وهب فقبضه الموهوب له أو تصدق به فقبضه ; لأن مخرج ذلك في حياته وأنه مملوك عليه إن عاش بكل حال لا يرجع فيه فهي كما لزمه بكل حال في ثلث ماله بعد الموت ، وفي جميع ماله إن كانت له صحة والوصايا بعد الموت لم تلزمه إلا بعد موته فكان له أن يرجع فيها في حياته ، فإذا أعتق رقيقا له لا مال له غيرهم في مرضه ثم مات قبل أن تحدث له صحة فإن كان عتقه في كلمة واحدة مثل أن يقول : إنهم أحرار ، أو يقول رقيقي أو كل مملوك لي حر أقرع بينهم فأعتق ثلثه وأرق الثلثان ، وإن أعتق واحدا ، أو اثنين ثم أعتق من بقي بدئ بالأول ممن أعتق فإن خرج من الثلث فهو حر ، وإن لم يخرج عتق ما خرج من الثلث ورق ما بقي ، وإن فضل من الثلث شيء عتق الذي يليه . ثم هكذا أبدا لا يعتق واحد حتى يعتق الذي بدأ بعتقه ، فإن فضل فضل عتق الذي يليه ; لأنه لزمه عتق الأول قبل الثاني ، وأحدث عتق الثاني ، والأول خارج من ملكه بكل حال إن صح وكل حال بعد الموت إن خرج من الثلث ، فإن لم يفضل من الثلث شيء بعد عتقه فإنما أعتق ، ولا ثلث له .

    ( قال ) وهكذا لو قال : لثلاثة أعبد له : أنتم أحرار . ثم قال : ما بقي من رقيقي حر بدئ بالثلاثة . فإن خرجوا من الثلث أعتقوا معا ، وإن عجز الثلث عنهم أقرع بينهم ، وإن عتقوا معا وفضل من الثلث شيء أقرع بين من بقي من رقيقه إن لم يحملهم الثلث ، ولو كان مع هؤلاء مدبرون وعبيد . وقال : إن مت من مرضي فهم أحرار بدئ بالذين أعتق عتق البتات فإن خرجوا من الثلث ، ولم يفضل شيء لم يعتق مدبر ، ولا موصى بعتقه بعينه ، ولا صفته ، وإن فضل من الثلث عتق المدبر والموصي بعتقه بعينه وصفته ، وإن عجز عن أن يعتقوا منه كانوا في العتق سواء لا يبدأ المدبر على عتق الوصية ; لأن كلا وصية ، ولا يعتق بحال إلا بعد الموت وله أن يرجع في كل في حياته ، ولو كان في المعتقين في المرض عتق بتات إماء فولدن بعد العتق وقبل موت المعتق فخرجوا من الثلث ، ولم يخرج الولد عتقوا ، والإماء من الثلث والأولاد أحرار من غير الثلث ; لأنهم أولاد حرائر .

    ولو كانت المسألة بحالها وكان الثلث ضيقا عن أن يخرج جميع من أعتق من الرقيق عتق بتات قومنا ، والإماء كل أمة منهن معها ولدها لا يفرق بينها وبينه . ثم أقرعنا بينهم فأي أمة خرجت في سهم العتق عتقت من الثلث وتبعها ولدها من غير الثلث ; لأنا قد علمنا أنه ولد حرة لا يرق ، وإذا ألغينا قيم الأولاد الذين عتقوا بعتق أمهم فزاد الثلث أعدنا القرعة بين من بقي . فإن خرجت أمة معها ولدها أعتقت من الثلث وعتق ولدها ; لأنه ابن حرة من غير الثلث ، فإن بقي من الثلث شيء أعدناه هكذا أبدا حتى نستوظفه كله .

    ( قال ) وإن ضاق ما يبقى من الثلث فعتق ثلث أم ولد منهن عتق ثلث ولدها معها ورق ثلثاه كما رق ثلثاها . ويكون حكم ولدها حكمها فما عتق منها قبل ولاده عتق منه ، وإذا وقعت عليها قرعة العتق فإنما أعتقناها قبل الولادة . وهكذا لو ولدتهم بعد العتق البتات وموت المعتق لأقل من ستة أشهر ، أو أكثر .

    ( قال الشافعي ) وإذا أوصى الرجل بعتق أمة بعد موته فإن مات من مرضه ، أو سفره فولدت قبل أن يموت الموصي فولدها مماليك ; لأنهم ولدوا قبل أن يعتق في الحين الذي لو شاء أرقها وباعها ، وفي الحين الذي لو صح بطلت وصيتها ، ولو كان عتقها تدبيرا كان فيه قولان : أحدهما هذا ; لأنه يرجع في التدبير ، والآخر أن ولدها بمنزلتها ; لأنه عتق واقع بكل حال ما لم يرجع فيه ، وقد اختلف في الرجل يوصي بالعتق ووصايا غيره فقال : غير واحد من المفتين يبدأ بالعتق ثم يجعل ما بقي من الثلث في الوصايا فإن لم يكن في الثلث فضل عن العتق فهو رجل أوصى فيما ليس له .

    ( قال ) ولست أعرف في هذا أمرا يلزم من أثر ثابت ، ولا إجماع لا اختلاف فيه ثم اختلف قول من [ ص: 101 ] قال : هذا في العتق مع الوصايا فقال : مرة بهذا وفارقه أخرى فزعم أن من قال : لعبده إذا مت فأنت حر وقال : إن مت من مرضي هذا فأنت حر فأوقع له عتقا بموته بلا وقت بدئ بهذا على الوصايا فلم يصل إلى أهل الوصايا وصية إلا فضلا عن هذا وقال : إذا قال : اعتقوا عبدي هذا بعد موتي ، أو قال : عبدي هذا حر بعد موتي بيوم ، أو بشهر ، أو وقت من الأوقات لم يبدأ بهذا على الوصايا وحاص هذا أهل الوصايا واحتج بأنه قيل : يبدأ بالعتق قبل الوصية وما أعلمه قال يبدأ بالعتق قبل الوصية مطلقا ، ولا يحاص العتق الوصية مطلقا بل فرق القول فيه بغير حجة فيما أرى والله المستعان .

    ( قال ) ولا يجوز في العتق في الوصية إلا واحد من قولين إما أن يكون العتق إذا وقع بأي حال ما كان بدئ على جميع الوصايا فلم يخرج منها شيء حتى يكمل العتق وإما أن يكون العتق وصية من الوصايا يحاص بها المعتق أهل الوصايا فيصيبه من العتق ما أصاب أهل الوصايا من وصاياهم ويكون كل عتق كان وصية بعد الموت بوقت ، أو بغير وقت سواء ، أو يفرق بين ذلك خبر لازم ، أو إجماع ، ولا أعلم فيه واحدا منهما فمن قال : عبدي مدبر ، أو عبدي هذا حر بعد موتي ، أو متى مت ، أو إن مت من مرضي هذا ، أو أعتقوه بعد موتي ، أو هو مدبر في حياتي ، فإذا مت فهو حر فهو كله سواء ومن جعل المعتق يحاص أهل الوصايا فأوصى معه بوصية حاص العبد في نفسه أهل الوصايا في وصاياهم فأصابه من العتق ما أصابهم ورق منه لم يخرج من الثلث وذلك أن يكون ثمن العبد خمسين دينارا وقيمة ما يبقى من ثلثه بعد العتق خمسين دينارا فيوصى بعتق العبد ويوصي لرجل بخمسين دينارا ولآخر بمائة دينار فيكون ثلثه مائة ووصيته مائتين فلكل واحد من الموصى لهم نصف وصيته فيعتق نصف العبد ويرق نصفه ويكون لصاحب الخمسين خمسة وعشرون وللموصى له بالمائة خمسون .
    باب التكملات .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ، ولو أوصى رجل لرجل بمائة دينار من ماله ، أو بدار موصوفة بعين ، أو بصفة ، أو بعبد كذلك ، أو متاع ، أو غيره وقال : ثم ما فضل من ثلثي فلفلان كان ذلك كما قال : يعطى الموصى له بالشيء بعينه ، أو صفته ما أوصى له به فإن فضل من الثلث شيء كان للموصى له بما فضل من الثلث ، وإن لم يفضل شيء فلا شيء له .

    ( قال الشافعي ) ولو كان الموصى له به عبدا ، أو شيئا يعرف بعين ، أو صفة مثل عبد ، أو دار ، أو عرض من العروض فهلك ذلك الشيء هلك من مال الموصى له وقوم من الثلث ثم أعطى الذي أوصى له بتكملة الثلث ما فضل عن قيمة الهالك كما يعطاه لو سلم الهالك فدفع إلى الموصى له به ( قال ) ولو كان الموصى به عبدا فمات الموصي ، وهو صحيح ثم اعور قوم صحيحا بحاله يوم مات الموصي وبقيمة مثله يومئذ فأخرج من الثلث ودفع إلى الموصى له به كهيئته ناقصا ، أو تاما وأعطى الموصى له بما فضل عنه ما فضل عن الثلث : وإنما القيمة في جميع ما أوصى به بعينه يوم يموت الميت ، وذلك يوم تجب الوصية .

    ( قال الشافعي ) وإذا قال : الرجل ثلث مالي إلى فلان يضعه حيث أراه الله فليس له أن يأخذ لنفسه شيئا كما لا يكون له لو أمره أن يبيع له شيئا أن يبيعه من نفسه ; لأن معنى يبيعه أن يكون مبايعا به ، وهو لا يكون مبايعا إلا لغيره ، وكذلك معنى يضعه يعطيه غيره ، وكذلك ليس له أن يعطيه وارثا للميت ; لأنه إنما يجوز له ما كان يجوز للميت ، فلما لم يكن للميت أن يعطيه لم يجز لمن صيره إليه أن يعطي منه من لم يكن له أن يعطيه .

    ( قال ) وليس له أن يضعه فيما ليس للميت فيه نظر كما ليس له [ ص: 102 ] لو وكله بشيء أن يفعل فيه ما ليس له فيه نظر ، ولا يكون له أن يحبسه عند نفسه ، ولا يودعه غيره ; لأنه لا أجر للميت في هذا ، وإنما الأجر للميت في أن يسلك في سبيل الخير التي يرجى أن تقربه إلى الله عز وجل ( قال الشافعي ) فأختار للموصى إليه أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يعطي كل رجل منهم دون غيرهم ، فإن إعطاءهموه أفضل من إعطاء غيرهم لما ينفردون به من صلة قرابتهم للميت ويشركون به أهل الحاجة في حاجاتهم .

    ( قال ) وقرابته ما وصفت من القرابة من قبل الأب والأم معا وليس الرضاع قرابة .

    ( قال ) وأحب له إن كان له رضعاء أن يعطيهم دون جيرانه ; لأن حرمة الرضاع تقابل حرمة النسب ثم أحب له أن يعطي جيرانه الأقرب منهم فالأقرب . وأقصى الجوار فيها أربعون دارا من كل ناحية ثم أحب له أن يعطيه أفقر من يجده وأشده تعففا واستتارا ، ولا يبقي منه في يده شيئا يمكنه أن يخرجه ساعة من نهار .
    باب الوصية للرجل وقبوله ورده .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أوصى الرجل المريض لرجل بوصية ما كانت ثم مات فللموصى له قبول الوصية وردها لا يجبر أن يملك شيئا لا يريد ملكه بوجه أبدا إلا بأن يرث شيئا فإنه إذا ورث لم يكن له دفع الميراث وذلك أن حكما من الله عز وجل أنه نقل ملك الموتى إلى ورثتهم من الأحياء فأما الوصية والهبة والصدقة وجميع وجوه الملك غير الميراث فالمملك لها بالخيار إن شاء قبلها ، وإن شاء ردها ، ولو أنا أجبرنا رجلا على قبول الوصية أجبرناه إن أوصى له بعبيد زمنى أن ينفق عليهم فأدخلنا الضرر عليه ، وهو لم يحبه ، ولم يدخله على نفسه .

    ( قال الشافعي ) ولا يكون قبول ، ولا رد في وصية حياة الموصي ، فلو قبل الموصى له قبل موت الموصي كان له الرد إذا مات ، ولو رد في حياة الموصي كان له أن يقبل إذا مات ويجبر الورثة على ذلك ; لأن تلك الوصية لم تجب إلا بعد موت الموصي . فأما في حياته فقبوله ورده وصمته سواء ; لأن ذلك فيما لم يملك .

    ( قال ) وهكذا لو أوصى له بأبيه وأمه وولده كانوا كسائر الوصية إن قبلهم بعد موت الموصي عتقوا ، وإن ردهم فهم مماليك تركهم الميت لا وصية فيهم فهم لورثته .

    ( قال الربيع ) فإن قبل بعضهم ورد بعضا كان ذلك له وعتق عليه من قبل ، وكان من لم يقبل مملوكا لورثة الميت ، ولو مات الموصي ثم مات الموصى له قبل أن يقبل ، أو يرد كان لورثته أن يقبلوا ، أو يردوا فمن قبل منهم فله نصيبه بميراثه مما قبل ومن رد كان ما رد لورثة الميت .

    ولو أن رجلا تزوج جارية رجل فولدت له ثم أوصى له بها ومات فلم يعلم الموصى له بالوصية حتى ولدت له بعد موت سيدها أولادا كثيرا . فإن قبل الوصية فمن ولدت له بعد موت السيد له تملكهم بما ملك به أمهم ، وإذا ملك ولده عتقوا عليه ، ولم تكن أمهم أم ولد له حتى تلد بعد قبولها منه لستة أشهر فأكثر فتكون بذلك أم ولد وذلك أن الوطء الذي كان قبل القبول إنما كان وطء نكاح والوطء بعد القبول وطء ملك والنكاح منفسخ ، ولو مات قبل أن يرد أو يقبل قام ورثته مقامه ، فإن قبلوا الوصية فإنما ملكوا لأبيهم فأولاد أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها الموصي أحرار وأمهم مملوكة ، وإن ردوها كانوا مماليك كلهم وأكره لهم ردها ، وإذا قبل الموصى له الوصية بعد أن تجب له بموت الموصي ثم ردها فهي مال من مال الميت موروثة عنه كسائر ماله ، ولو أراد بعد ردها أخذها بأن يقول إنما أعطيتكم ما لم تقبضوا جاز أن يقولوا له لم تملكها بالوصية دون القبول . فلما كنت إذا قبلت ملكتها ، وإن لم تقبضها ; لأنها لا تشبه هبات الأحياء التي [ ص: 103 ] لا يتم ملكها إلا بقبض الموهوبة له لها جاز عليك ما تركت من ذلك كما جاز لك ما أعطيت بلا قبض في واحد منهما وجاز لهم أن يقولوا : ردكها إبطال لحقك فيما أوصى لك به الميت ورد إلى ملك الميت فيكون موروثا عنه .

    ( قال ) ولو قبلها ثم قال : قد تركتها لفلان من بين الورثة ، أو كان له على الميت دين فقال : فقد تركته لفلان من بين الورثة قيل : قولك تركته لفلان يحتمل معنيين أظهرهما تركته تشفيعا لفلان ، أو تقربا إلى فلان فإن كنت هذا أردت فهذا متروك للميت فهو بين ورثته كلهم وأهل وصاياه ودينه كما ترك ، وإن مت قبل أن تسأل فهو هكذا ; لأن هذا أظهر معانيه كما تقول عفوت عن ديني على فلان لفلان ووضعت عن فلان حقي لفلان أي بشفاعة فلان ، أو حفظ فلان أو التقرب إلى فلان ، وإن لم تمت فسألناك فقلت : تركت وصيتي أو تركت ديني لفلان وهبته لفلان من بين الورثة فذلك لفلان من بين الورثة ; لأنه وهب له شيئا يملكه ، وإذا أوصى رجل لرجلين بعبد أن غيره فقبل أحدهما ورد الآخر فللقابل نصف الوصية ونصف الوصية مردود في مال الميت ، ولو أوصى رجل لرجل بجارية فمات الموصي ، ولم يقبل الموصى له ، ولم يرد حتى وهب إنسان للجارية مائة دينار والجارية ثلث مال الميت ، ثم قبل الوصية فالجارية له لا يجوز فيما وهب لها ، وفي ولد ولدته بعد موت السيد وقبل قبول الوصية وردها إلا واحد من قولين أن يكون ما وهب للجارية ، أو ولدها ملكا للموصى له بها ; لأنها كانت خارجة من مال الميت إلى ماله إلا أن له إن شاء أن يردها .

    ومن قال : هذا قال : هو وإن كان له ردها فإنما ردها إخراج لها من ماله كما له أن يخرج من ماله ما شاء ، فإذا كانت هي وملك ما وهب للأمة وولدها لمن يملكها فالموصى له بها المالك لها .

    ومن قال : هذا قال فإن استهلك رجل من الورثة شيئا مما وهب لها ، أو ولدها فهو ضامن له للموصى له بها ، وكذلك إن جنى أجنبي على مالها أو نفسها ، أو ولدها فالموصى له بها إن قبل الوصية الخصم في ذلك ; لأنه له ، وإن مات الموصى له بها قبل القبول والرد فورثته يقومون مقامه في ذلك كله .

    والقول الثاني أن ذلك كله لورثة الموصي ، وإن الموصى له إنما يملك إذا اختار قبول الوصية ، وهذا قول منكر لا نقول به ; لأن القبول إنما هو على شيء ملك متقدما ليس بملك حادث ، وقد قال : بعض الناس تكون له الجارية وثلث أولادها وثلث ما وهب لها ، وإن كانت الجارية لا تخرج من الثلث فولدت أولادا بعد موت الموصي ووهب لها مالا . لم يكن في كتاب الشافعي من هذه المسألة غير هذا . بقي في المسألة الجواب .
    باب ما نسخ من الوصايا .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال : الله تبارك وتعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعدما سمعه } الآية .

    ( قال الشافعي ) وكان فرضا في كتاب الله تعالى على من ترك خيرا والخير المال أن يوصي لوالديه وأقربيه ثم زعم بعض أهل العلم بالقرآن أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة واختلفوا في الأقربين غير الوارثين فأكثر من لقيت من أهل العلم ممن حفظت عنه قال الوصايا منسوخة ; لأنه إنما أمر بها إذا كانت إنما يورث بها فلما قسم الله - تعالى ذكره - المواريث كانت تطوعا .

    ( قال الشافعي ) وهذا إن شاء الله تعالى كله كما قالوا ، فإن قال قائل : ما دل على ما وصفت ؟ قيل : له قال : الله تبارك وتعالى { ولأبويه لكل واحد منهما [ ص: 104 ] السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أخبرنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا وصية لوارث } وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث وأن لا وصية لوارث مما لا أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافا .

    ( قال الشافعي ) : وإذا كانت الوصايا لمن أمر الله تعالى ذكره بالوصية منسوخة بآي المواريث وكانت السنة تدل على أنها لا تجوز لوارث وتدل على أنها تجوز لغير قرابة دل ذلك على نسخ الوصايا للورثة وأشبه أن يدل على نسخ الوصايا لغيرهم .

    ( قال ) ودل على أن الوصايا للوالدين وغيرهما ممن يرث بكل حال إذا كان في معنى غير وارث فالوصية له جائزة ، ومن قبل أنها إنما بطلت وصيته إذا كان وارثا ، فإذا لم يكن وارثا فليس بمبطل للوصية ، وإذا كان الموصي يتناول من شاء بوصيته كان والده دون قرابته إذا كانوا غير ورثة في معنى من لا يرث ولهم حق القرابة وصلة الرحم .

    فإن قال قائل : فأين الدلالة على أن الوصية لغير ذي الرحم جائزة ؟ قيل : له إن شاء الله تعالى حديث عمران بن حصين { أن رجلا أعتق مملوكين له ليس له مال فيهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة } ، والمعتق عربي ، وإنما كانت العرب تملك من لا قرابة بينها وبينه ، فلو لم تجز الوصية إلا لذي قرابة لم تجز للملوكين ، وقد أجازها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
    باب الخلاف في الوصايا .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : أخبرنا سفيان بن عيينة عن طاوس عن أبيه .

    ( قال الشافعي ) والحجة في ذلك ما وصفنا من الاستدلال بالسنة وقول الأكثر ممن لقينا فحفظنا عنه والله تعالى أعلم .
    باب الوصية للزوجة .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال الله تبارك وتعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } الآية . وكان فرض الزوجة أن يوصي لها الزوج بمتاع إلى الحول ، ولم أحفظ عن أحد خلافا أن المتاع النفقة والسكنى والكسوة إلى الحول وثبت لها السكنى فقال : { غير إخراج } ثم قال : { فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف } فدل القرآن على أنهن إن خرجن فلا جناح على الأزواج ; لأنهن تركن ما فرض لهن ودل الكتاب العزيز إذا كان السكنى لها فرضا فتركت حقها فيه ، ولم يجعل الله تعالى على الزوج حرجا أن من ترك حقه غير ممنوع له لم يخرج من الحق عليه . ثم حفظت عمن أرضى من أهل العلم أن نفقة المتوفى عنها زوجها وكسوتها حولا منسوخ بآية المواريث . قال الله عز وجل { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها ، أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها ، أو دين } .

    ( قال الشافعي ) : ولم أعلم مخالفا فيما وصفت من نسخ نفقة المتوفى عنها وكسوتها سنة وأقل من سنة . ثم احتمل سكناها إذ كان مذكورا مع نفقتها بأنه يقع عليه اسم المتاع أن يكون منسوخا في السنة وأقل منها كما كانت النفقة والكسوة منسوختين في السنة وأقل منها واحتمل أن تكون نسخت في السنة وأثبتت في عدة المتوفى عنها حتى تنقضي عدتها بأصل هذه الآية [ ص: 105 ] وأن تكون داخلة في جملة المعتدات ، فإن الله تبارك وتعالى يقول في المطلقات { لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فلما فرض الله في المعتدة من الطلاق السكنى وكانت المعتدة من الوفاة في معناها احتملت أن يجعل لها السكنى ; لأنها في معنى المعتدات . فإن كان هذا هكذا فالسكنى لها في كتاب الله عز وجل منصوص ، أو في معنى من نص لها السكنى في فرض الكتاب ، وإن لم يكن هكذا فالفرض في السكنى لها في السنة ثم فما أحفظ عمن حفظت عنه من أهل العلم أن للمتوفى عنها السكنى ، ولا نفقة ، فإن قال : قائل فأين السنة في سكنى المتوفى عنها زوجها ؟ قيل : أخبرنا مالك عن سعد بن إسحاق عن كعب بن عجرة .

    ( قال الشافعي ) وما وصفت في متاع المتوفى عنها هو الأمر الذي تقوم به الحجة والله تعالى أعلم ، وقد قال : بعض أهل العلم بالقرآن إن آية المواريث للوالدين والأقربين ، وهذا ثابت للمرأة ، وإنما نزل فرض ميراث المرأة والزوج بعد ، وإن كان كما قال فقد أثبت لها الميراث كما أثبته لأهل الفرائض وليس في أن يكون ذلك بآخر ما أبطل حقها .

    وقال : بعض أهل العلم إن عدتها في الوفاة كانت ثلاثة قروء كعدة الطلاق ثم نسخت بقول الله عز وجل { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } فإن كان هذا هكذا ، فقد بطلت عنها الأقراء وثبتت عليها العدة بأربعة أشهر وعشر منصوصة في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قال قائل : فأين هي في السنة ؟ قيل : أخبرنا . حديث المغيرة عن حميد بن نافع قال الله عز وجل في عدة الطلاق { واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } فاحتملت الآية أن تكون في المطلقة لا تحيض خاصة ; لأنها سياقها واحتملت أن تكون في المطلقة كل معتدة مطلقة تحيض ومتوفى عنها ; لأنها جامعة ويحتمل أن يكون استئناف كلام على المعتدات . فإن قال : قائل فأي معانيها أولى بها ؟ قيل والله تعالى أعلم . فأنا الذي يشبه فإنها تكون في كل معتدة ومستبرأة . فإن قال : ما دل على ما وصفت ؟ قيل : قال الشافعي لما كانت العدة استبراء وتعبدا وكان وضع الحمل براءة من عدة الوفاة هادما للأربعة الأشهر والعشر كان هكذا في جميع العدد والاستبراء . والله أعلم مع أن المعقول أن وضع الحمل غاية براءة الرحم حتى لا يكون في النفس منه شيء ، فقد يكون في النفس شيء في جميع العدد والاستبراء ، وإن كان ذلك براءة في الظاهر ، والله سبحانه وتعالى الموفق .
    باب استحداث الوصايا .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال الله تبارك وتعالى في غير آية في قسم الميراث { من بعد وصية توصون بها أو دين } و { من بعد وصية يوصين بها أو دين } .

    ( قال الشافعي ) فنقل الله تبارك وتعالى ملك من مات من الأحياء إلى من بقي من ورثة الميت فجعلهم يقومون مقامه فيما ملكهم من ملكه وقال الله عز وجل { من بعد وصية توصون بها ، أو دين } قال : فكان ظاهر الآية المعقول فيها { من بعد وصية توصون بها ، أو دين } إن كان عليهم دين .

    ( قال الشافعي ) وبهذا نقول ، ولا أعلم من أهل العلم فيه مخالفا ، وقد تحتمل الآية معنى غير هذا أظهر منه وأولى بأن العامة لا تختلف فيه فيما علمت وإجماعهم لا يكون عن جهالة بحكم الله إن شاء الله .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #159
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (159)
    صــــــــــ 106 الى صـــــــــــ112





    ( قال الشافعي ) وفي قول الله عز وجل { من بعد وصية توصون بها أو دين } معان سأذكرها إن شاء الله تعالى فلما لم يكن بين أهل العلم خلاف علمته في أن ذا الدين أحق بمال الرجل في حياته منه حتى يستوفي دينه وكان أهل الميراث إنما يملكون عن الميت ما كان الميت أملك به كان بينا [ ص: 106 ] والله أعلم - في حكم الله عز وجل ثم ما لم أعلم أهل العلم فاختلفوا فيه أن الدين مبدأ على الوصايا والميراث فكان حكم الدين كما وصفت منفردا مقدما ، وفي قول الله عز وجل " أو دين " ثم إجماع المسلمين أن لا وصية ولا ميراث إلا بعد الدين دليل على أن كل دين في صحة كان أو في مرض بإقرار ، أو بينة ، أو أي وجه ما كان سواء ; لأن الله عز وجل لم يخص دينا دون دين .

    ( قال الشافعي ) وقد روي في تبدئة الدين قبل الوصية حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت أهل الحديث مثله أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية } وأخبرنا سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس أنه قيل : له كيف تأمرنا بالعمرة قبل الحج والله تعالى يقول { وأتموا الحج والعمرة لله ؟ } فقال : كيف تقرءون الدين قبل الوصية ، أو الوصية قبل الدين ؟ فقالوا الوصية قبل الدين قال : فبأيهما تبدءون ؟ قالوا بالدين قال : فهو ذاك .

    ( قال الشافعي ) يعني أن التقديم جائز ، وإذا قضي الدين كان للميت أن يوصي بثلث ماله فإن فعل كان للورثة الثلثان ، وإن لم يوص ، أو أوصى بأقل من ثلث ماله كان ذلك مالا من مال تركه قال : فكان للورثة ما فضل عن الوصية من المال إن أوصى .

    ( قال الشافعي ) ولما جعل الله عز ذكره للورثة الفضل عن الوصايا والدين فكان الدين كما وصفت وكانت الوصايا محتملة أن تكون مبدأة على الورثة ، ويحتمل أن تكون كما وصفت لك من الفضل عن الوصية وأن يكون للوصية غاية ينتهي بها إليها كالميراث بكل وارث غاية كانت الوصايا مما أحكم الله عز وجل فرضه بكتابه وبين كيف فرضه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا مالك عن ابن شهاب .

    ( قال الشافعي ) فكان غاية منتهى الوصايا التي لو جاوزها الموصي كان للورثة رد ما جاوز ثلث مال الموصي قال : وحديث عمران بن حصين يدل على أن من جاوز الثلث من الموصين ردت وصيته إلى الثلث ويدل على أن الوصايا تجوز لغير قرابة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رد عتق المملوكين إلى الثلث دل على أنه حكم به حكم الوصايا والمعتق عربي ، وإنما كانت العرب تملك من لا قرابة بينها وبينه والله تعالى أعلم .
    باب الوصية بالثلث وأقل من الثلث وترك الوصية .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أوصى الرجل فواسع له أن يبلغ الثلث وقال : في { قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد الثلث والثلث كثير ، أو كبير ، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس } .

    ( قال الشافعي ) غيا كما قال : من بعده في الوصايا وذلك بين في كلامه ; لأنه إنما قصد قصد اختيار أن يترك الموصي ورثته أغنياء ، فإذا تركهم أغنياء اخترت له أن يستوعب الثلث ، وإذا لم يدعهم أغنياء كرهت له أن يستوعب الثلث وأن يوصي بالشيء حتى يكون يأخذ بالحظ من الوصية ، ولا وقت في ذلك إلا ما وقع عليه اسم الوصية لمن لم يدع كثير مال ومن ترك أقل مما يغني ورثته وأكثر من التافه زاد شيئا في وصيته ، ولا أحب بلوغ الثلث إلا لمن ترك ورثته أغنياء .

    ( قال الشافعي ) في قول النبي صلى الله عليه وسلم { الثلث والثلث كثير ، أو كبير } يحتمل الثلث غير قليل ، وهو أولى معانيه ; لأنه لو كرهه لسعد لقال له : غض منه ، وقد كان يحتمل أن له بلوغه ويجب له الغض منه وقل كلام إلا ، وهو محتمل وأولى معاني الكلام به ما دل عليه الخبر والدلالة ما وصفت من أنه لو كرهه لسعد أمره أن يغض منه قيل : للشافعي فهل اختلف الناس في هذا ؟ قال : لم أعلمهم اختلفوا في أن جائزا لكل موص أن يستكمل [ ص: 107 ] الثلث قل ما ترك ، أو كثر وليس بجائز له أن يجاوزه فقيل للشافعي وهل اختلفوا في اختيار النقص عن الثلث أو بلوغه ؟ قال : نعم ، وفيما وصفت لك من الدلالة عن رسول صلى الله عليه وسلم ما أغنى عما سواه . فقلت : فاذكر اختلافهم . فقال : أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر
    باب عطايا المريض أخبرنا الربيع قال قال الشافعي رحمه الله تعالى لما أعتق الرجل ستة مملوكين له لا مال له غيرهم في مرضه ، ثم مات فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين وأرق أربعة دل ذلك على أن كل ما أتلف المرء من ماله في مرضه بلا عوض يأخذه مما يتعوض الناس ملكا في الدنيا فمات من مرضه ذلك فحكمه حكم الوصية ، ولما كان إنما يحكم بأنه كالوصية بعد الموت فما أتلف المرء من ماله في مرضه ذلك فحكمه حكم الوصايا فإن صح تم عليه ما يتم به عطية الصحيح ، وإن مات من مرضه ذلك كان حكمه حكم وصيته ومتى حدثت له صحة بعد ما أتلف منه ، ثم عاوده مرض فمات تمت عطيته إذا كانت الصحة بعد العطية فحكم العطية حكم عطية الصحيح .

    ( قال الشافعي ) وجماع ذلك ما وصفت من أن يخرج من ملكه شيئا بلا عوض يأخذه الناس من أموالهم في الدنيا فالهبات كلها والصدقات والعتاق ومعاني هذه كلها هكذا فما كان من هبة ، أو صدقة ، أو ما في معناها لغير وارث ، ثم مات فهي من الثلث فإن كان معها وصايا فهي مبدأة عليها ; لأنها عطية بتات قد ملكت عليه ملكا يتم بصحته من جميع ماله ويتم بموته من ثلثه إن حمله والوصايا مخالفة لهذا .

    الوصايا لم تملك عليه وله الرجوع فيها ، ولا تملك إلا بموته وبعد انتقال الملك إلى غيره ( قال الشافعي ) وما كان من عطية بتات في مرضه لم يأخذ بها عوضا أعطاه إياها ، وهو يوم أعطاه ممن يرثه لو مات أولا يرثه فهي موقوفة ، فإذا مات فإن كان المعطى وارثا له حين مات أبطلت العطية ; لأني إذا جعلتها من الثلث لم أجعل لوارث في الثلث شيئا من جهة الوصية ، وإن كان المعطى حين مات المعطي غير وارث أجزتها له ; لأنها وصية لغير وارث
    ( قال الشافعي ) وما كان من عطايا المريض على عوض أخذه مما يأخذ الناس من الأموال في الدنيا فأخذ به عوضا يتغابن الناس بمثله ، ثم مات فهو جائز من رأس المال ، وإن أخذ به عوضا لا يتغابن الناس بمثله فالزيادة عطية بلا عوض فهي من الثلث فمن جازت له وصية جازت له ومن لم تجز له وصية لم تجز له الزيادة وذلك ، الرجل يشتري العبد ، أو يبيعه ، أو الأمة ، أو الدار ، أو غير ذلك مما يملك الآدميون ، فإذا باع المريض ودفع إليه ثمنه ، أو لم يدفع حتى مات فقال ورثته حاباك فيه ، أو غبنته فيه نظر إلى قيمة المشترى يوم وقع البيع والثمن الذي اشتراه به فإن كان اشتراه بما يتغابن أهل المصر بمثله كان الشراء جائزا من رأس المال ، وإن كان اشتراه بما لا يتغابن الناس بمثله كان ما يتغابن أهل المصر بمثله جائزا من رأس المال وما جاوزه جائزا من الثلث فإن حمله الثلث جاز له البيع ، وإن لم يحمله الثلث قيل للمشتري لك الخيار في رد البيع إن كان قائما وتأخذ ثمنه الذي أخذ منك ، أو تعطي الورثة الفضل عما يتغابن الناس بمثله مما لم يحمله الثلث فإن كان البيع فائتا رد ما بين قيمة ما لا يتغابن الناس بمثله مما لم يحمله الثلث ، وكذلك إن كان البيع قائما قد دخله عيب رد قيمته .

    ( قال الشافعي ) فإن كان المريض المشتري فهو في هذا المعنى ويقال للبائع البيع جائز فيما يتغابن الناس بمثله من رأس المال وبما جاوز ما يتغابن الناس بمثله من الثلث فإن لم يكن له ثلث ، أو كان [ ص: 108 ] فلم يحمله الثلث قيل له إن شئت سلمته بما سلم لك من رأس المال والثلث وتركت الفضل والبيع جائز ، وإن شئت رددت ما أخذت ونقضت البيع إن كان البيع قائما بعينه .

    ( قال الشافعي ) : وإن كان مستهلكا ، ولم تطب نفس البائع عن الفضل فللبائع من مال الميت ما يتغابن الناس بمثله في سلعته وما حمل الثلث مما لا يتغابن الناس بمثله ويرد الفضل عن ذلك على الورثة ، وإن كان السلعة قائمة قد دخلها عيب
    ( قال الشافعي ) : وإن كان المبيع عبدا ، أو غيره فاشتراه المريض فظهر منه على عيب فأبرأ البائع من العيب فكان في ذلك غبن كان القول فيه كالقول فيما انعقد عليه البيع ، وفيه غبن ، وكذلك لو اشتراه صحيحا ، ثم ظهر منه على عيب ، وهو مريض فأبرأه منه أو اشتراه وله فيه خيار رؤية أو خيار شرط ، أو خيار صفقة فلم يسقط خيار الصفقة بالتفرق ، ولا خيار الرؤية بالرؤية ، ولا خيار الشرط بانقضاء الشرط حتى مرض ففارق البائع ، أو رأى السلعة فلم يردها ، أو مضت أيام الخيار ، وهو مريض فلم يرده ; لأن البيع تم في هذا كله ، وهو مريض .

    ( قال الشافعي ) وسواء في هذا كله كان البائع الصحيح والمشتري المريض ، أو المشتري الصحيح والبائع المريض على أصل ما ذهبنا إليه من أن الغبن يكون في الثلث وهكذا لو باع مريض من مريض ، أو صحيح من صحيح ، ولو اختلف ورثة المريض البائع والمشتري الصحيح في قيمة ما باع المريض فقال المشتري اشتريتها منه وقيمتها مائة وقال الورثة بل باعكها وقيمتها مائتان ، ولو كان المشتري في هذا كله وارثا ، أو غير وارث فلم يمت الميت حتى صار وارثا كان بمنزلة من لم يزل وارثا له إذا مات الميت ، فإذا باعه الميت وقبض الثمن منه ، ثم مات فهو مثل الأجنبي في جميع حاله إلا فيما زاد على ما يتغابن الناس به فإن باعه بما يتغابن الناس بمثله جاز ، وإن باعه بما لا يتغابن الناس بمثله قيل : للوارث حكم الزيادة على ما يتغابن الناس بمثله حكم الوصية وأنت فلا وصية لك فإن شئت فاردد البيع إذا لم يسلم لك ما باعك ، وإن شئت فأعط الورثة من ثمن السلعة ما زاد على ما يتغابن الناس بمثله ، ثم هو في فوت السلعة وغبنها مثل الأجنبي ، وكذلك إن باع مريض وارث من مريض وارث .
    باب نكاح المريض

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ويجوز للمريض أن ينكح جميع ما أحل الله تعالى أربعا وما دونهن كما يجوز له أن يشتري ، فإذا أصدق كل واحدة منهن صداق مثلها جاز لها من جميع المال وأيتهن زاد على صداق مثلها فالزيادة محاباة فإن صح قبل أن يموت جاز لها من جميع المال ، وإن مات قبل أن يصح بطلت عنها الزيادة على صداق مثلها وثبت النكاح وكان لها الميراث .

    ( قال الشافعي ) أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر أنه قال : كانت ابنة حفص بن المغيرة عند عبد الله بن أبي ربيعة فطلقها تطليقة ، ثم إن عمر بن الخطاب تزوجها بعده فحدث أنها عاقر لا تلد فطلقها قبل أن يجامعها فمكثت حياة عمر وبعض خلافة عثمان بن عفان ثم تزوجها عبد الله بن أبي ربيعة ، وهو مريض لتشرك نساءه في الميراث وكان بينها وبينه قرابة .

    أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج [ ص: 109 ] عن عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة بن خالد يقول أراد عبد الرحمن بن أم الحكم في شكواه أن يخرج امرأته من ميراثها منه فأبت فنكح عليها ثلاث نسوة وأصدقهن ألف دينار كل امرأة منهن فأجاز ذلك عبد الملك بن مروان وشرك بينهن في الثمن .

    ( قال الشافعي ) أرى ذلك صداق مثلهن ، ولو كان أكثر من صداق مثلهن لجاز النكاح وبطل ما زادهن على صداق مثلهن إذا مات من مرضه ذلك ; لأنه في حكم الوصية والوصية لا تجوز لوارث .

    ( قال الشافعي ) وبلغنا أن معاذ بن جبل قال في مرضه الذي مات فيه زوجوني لا ألقى الله تبارك وتعالى وأنا عزب .

    ( قال ) وأخبرني سعيد بن سالم أن شريحا قضى في نكاح رجل نكح عند موته فجعل الوارث والصداق في ماله .

    ( قال الشافعي ) ولو نكح المريض فزاد المنكوحة على صداق مثلها ، ثم صح ، ثم مات جازت لها الزيادة ; لأنه قد صح قبل أن يموت ، فكان كمن ابتدأ نكاحا ، وهو صحيح ، ولو كانت المسألة بحالها ، ثم لم يصح حتى ماتت المنكوحة فصارت غير وارث كان لها جميع ما أصدقها صداق مثلها من رأس المال والزياد من الثلث كما يكون ما وهب لأجنبية فقبضته من الثلث فما زاد من صداق المرأة على الثلث إذا ماتت مثل الموهوب المقبوض .

    ( قال الشافعي ) ولو كانت المسألة بحالها والمتزوجة ممن لا ترث بأن تكون ذمية ، ثم مات وهي عنده جاز لها جميع الصداق صداق مثلها من جميع المال والزيادة على صداق مثلها من الثلث ; لأنها غير وارث ، ولو أسلمت فصارت وارثا بطل عنها ما زاد على صداق مثلها
    ( قال الشافعي ) ولو نكح المريض امرأة نكاحا فاسدا ثم مات لم ترثه ، ولم يكن لها مهر إن لم يكن أصابها فإن كان أصابها فلها مهر مثلها كان أقل مما سمي لها ، أو أكثر .

    ( قال الشافعي ) ولو كانت لرجل أمة فأعتقها في مرضه ، ثم نكحها وأصدقها صداقا وأصابها - بقي الجواب قال الربيع أنا أجيب فيها وأقول ينظر فإن خرجت من الثلث كان العتق جائزا وكان النكاح جائزا بصداق مثلها إلا أن يكون الذي سمي لها من الصداق أقل من صداق مثلها فليس لها إلا ما سماه لها فإن كان أكثر من صداق مثلها ردت إلى صداق مثلها وكانت وارثة ، وإن لم تخرج من الثلث عتق منها ما احتمل الثلث وكان لها صداق مثلها بحساب ما عتق منها ، ولم تكن وارثة ; لأن بعضها رقيق .
    هبات المريض

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وما ابتدأ المريض هبة في مرضه لوارث ، أو غير وارث فدفع إليه ما وهب له فإن كان وارثا ، ولم يصح المريض حتى مات من مرضه الذي وهب فيه فالهبة مردودة كلها ، وكذلك إن وهبه له ، وهو غير وارث ، ثم صار وارثا فإن استغل ما وهب له ، ثم مات الواهب قبل أن يصح رد الغلة ; لأنه إذا مات استدللنا على أن ملك ما وهب له كان في ملك الواهب ، ولو وهب لوارث ، وهو مريض ، ثم صح ، ثم مرض فدفع إليه الهبة في مرضه الذي مات فيه كانت الهبة مردودة ; لأن الهبة إنما تتم بالقبض وقبضه إياها كان ، وهو مريض ، ولو كانت الهبة ، وهو مريض ، ثم كان الدفع ، وهو صحيح ، ثم مرض فمات كانت الهبة تامة من قبل أنها تمت بالقبض ، وقد كان للواهب حبسها وكان دفعه إياها كهبته إياها ودفعه ، وهو صحيح .

    ( قال الشافعي ) ولو كانت الهبة لمن يراه يرثه فحدث دونه وارث فحجبه فمات ، وهو غير وارث أو لأجنبي كانت سواء ; لأن كليهما غير وارث ، فإذا كانت هبته لهما صحيحا ، أو مريضا وقبضهما الهبة ، وهو صحيح فالهبة لهما جائزة من رأس ماله خارجة من ملكه ، وكذلك لو كانت هبته ، وهو مريض ، ثم صح ، ثم مات كان ذلك كقبضهما ، وهو صحيح ، ولو كان قبضهما الهبة ، وهو مريض فلم يصح كانت الهبة [ ص: 110 ] وهو صحيح ، أو مريض فذلك سواء والهبة من الثلث مبدأة على الوصايا ; لأنها عطية بتات وما حمل الثلث منها جاز وما لم يحمل رد وكان الموهوب له شريكا للورثة بما حمل الثلث مما وهب له
    ( قال الشافعي ) وما نحل ، أو ما تصدق به على رجل بعينه فهو مثل الهبات لا يختلف ; لأنه لا يملك من هذا شيء إلا بالقبض وكل ما لا يملك إلا بالقبض فحكمه حكم واحد لا يختلف ، ألا ترى أن الواهب والناحل والمتصدق لو مات قبل أن يقبض الموهوب له والمنحول والمتصدق عليه ما صير لكل واحد منهم بطل ما صنع وكان مالا من مال الواهب الناحل المتصدق لورثته ؟ أولا ترى أن جائزا لمن أعطى هذا أن يرده على معطيه فيحل لمعطيه ملكه ويحل لمعطيه شراؤه منه وارتهانه منه ويرثه إياه فيملكه كما كان يملكه قبل خروجه من يده ؟

    ( قال الشافعي ) ولو كانت دار رجل أو عبده في يدي رجل بسكنى أو إجارة ، أو عارية فقال : قد وهبت لك الدار التي في يديك وكنت قد أذنت لك في قبضه لنفسك كانت هذه هبة مقبوضة للدار والعبد الذي في يديه ، ثم لم يحدث له منعا لما وهب له حتى مات علم أنه لها قابض

    ( قال الشافعي ) وما كان يجوز بالكلام دون القبض مخالف لهذا وذلك الصدقات المحرمات ، فإذا تكلم بها المتصدق وشهد بها عليه فهي خارجة من ملكه تامة لمن تصدق بها عليه لا يزيدها القبض تماما ، ولا ينقص منها ترك ذلك وذلك أن المخرج لها من ملكه أخرجها بأمر منعها به أن يكون ملكه منها متصرفا فيما يصرف فيه المال من بيع وميراث وهبة ورهن وأخرجها من ملكه خروجا لا يحل له أن يعود إليه بحال فأشبهت العتق في كثير من أحكامها ، ولم تخالفه إلا في المعتق يملك منفعة نفسه وكسبها وأن منفعة هذه مملوكة لمن جعلت له وذلك أنها لا تكون مالكة ، وإنما منعنا من كتاب الآثار في هذا أنه موضوع في غيره ، فإذا تكلم بالصدقة المحرمة صحيحا ، ثم مرض ، أو مريضا ، ثم صح فهي جائزة خارجة من ماله ، وإذا كان تكلم بها مريضا فلم يصح فهي من ثلثه جائزة بما تصدق به لمن جازت له الوصية بالثلث ومردودة عمن ترد عنه الوصية بالثلث .
    " باب الوصية بالثلث " وفيه الوصية بالزائد على الثلث وشيء يتعلق بالإجارة ، ولم يذكر الربيع ترجمة تدل على الزائد على الثلث " .

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا يجوز لأحد وصية إذا جاوز الثلث مما ترك فمن أوصى فجاوز الثلث ردت وصاياه كلها إلى الثلث إلا أن يتطوع الورثة فيجيزون له ذلك فيجوز بإعطائهم ، وإذا تطوع له الورثة فأجازوا ذلك له فإنما أعطوه من أموالهم فلا يجوز في القياس إلا أن يكون يتم للمعطى بما يتم به له ما ابتدءوا به عطيته من أموالهم من قبضة ذلك ويرد بما رد به ما ابتدءوا من أموالهم إن مات الورثة قبل أن يقبضه الموصى له ( قال الشافعي ) فلو أوصى [ ص: 111 ] لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه ولآخر بربعه ، ولم تجز ذلك الورثة اقتسم أهل الوصايا الثلث على قدر ما أوصي لهم به يجزأ الثلث ثلاثة عشر جزءا فيأخذ منه صاحب النصف ستة وصاحب الثلث أربعة وصاحب الربع ثلاثة ، ولو أجاز الورثة اقتسموا جميع المال على أنه دخل عليهم عول نصف السدس فأصاب كل واحد منهم من العول نصف سدس وصيته واقتسموا المال كله كما اقتسموا الثلث حتى يكونوا سواء في العول .

    ( قال الشافعي ) ولو قال لفلان غلامي فلان ولفلان داري ووصفها ولفلان خمسمائة دينار فلم يبلغ هذا الثلث ، ولم تجزه لهم الورثة وكان الثلث ألفا والوصية ألفين وكانت قيمة الغلام خمسمائة وقيمة داره ألفا والوصية خمسمائة دخل على كل واحد منهم في وصيته عول النصف وأخذ نصف وصيته فكان للموصى له بالغلام نصف الغلام وللموصى له بالدار نصف الدار وللموصى له بالخمسمائة مائتان وخمسون دينارا لا تجعل وصية أحد منهم أوصي له في شيء بعينه إلا فيما أوصي له به ، ولا يخرج إلى غيره إلا ما سلمها الورثة فإن قال الورثة : لا نسلم له من الدار إلا ما لزمنا قيل له ثلث الدار شريك لكم بها إن شاء وشئتم اقتسمتم ويضرب بقيمة سدس الدار الذي جاز له من وصيته في مال الميت يكون شريكا لكم به وهكذا العبد وكل ما أوصي له به بعينه فلم تسلمه له الورثة والله تعالى الموفق .
    باب الوصية في الدار والشيء بعينه

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ولو أوصى رجل لرجل بدار فقال داري التي كذا - ووصفها وصية - لفلان فالدار له بجميع بنائها وما ثبت فيها من باب وخشب وليس له متاع فيها ، ولا خشب ، ولا أبواب ليست بثابتة في البناء ، ولا لبن ، ولا حجارة ، ولا آجر لم يبن به ; لأن هذا لا يكون من الدار حتى يبنى به فيكون عمارة للدار ثابتة فيها ، ولو أوصى له بالدار فانهدمت في حياة الموصي لم يكن له ما انهدم من الدار وكان له ما بقي لم ينهدم من الدار وما ثبت فيها لم ينهدم منها من خشب وأبواب وغيره ، ولو جاء عليها سيل فذهب بها أو ببعضها بطلت وصيته ، أو بطل منها ما ذهب من الدار وهكذا لو أوصى له بعبد فمات ، أو اعور ، أو نقص منه شيء بعينه فذهب لم يكن له فيما بقي من الثلث سوى ما أوصى له به شيء ; لأن ما أوصى له به قد ذهب وهكذا كل ما أوصى له به بعينه فهلك ، أو نقص وهكذا لو أوصى له بشيء فاستحق على الموصي بشيء بشراء ، أو هبة ، أو غصب بطلت الوصية ; لأنه أوصى له بما لا يملك
    [ ص: 112 ] باب الوصية بشيء بصفته

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإذا أوصى رجل لرجل بعبد فقال له غلامي البربري ، أو غلامي الحبشي أو نسبه إلى جنس من الأجناس وسماه باسمه ، ولم يكن له عبد من ذلك الجنس يسمى بذلك الاسم كان غير جائز ، ولو زاد فوصفه وكان له عبد من ذلك الجنس يسمى باسمه وتخالف صفته صفته كان جائزا له .

    ( قال الربيع ) أخاف أن يكون هذا غلطا من الكاتب ; لأنه لم يقرأ على الشافعي ، ولم يسمع منه والجواب فيها عندي أنه إن وافق اسمه أنه إن أوصى له بغلام وسماه باسمه وجنسه ووصفه فوجدنا له غلاما بذلك الاسم والجنس غير أنه مخالف لصفته كأنه قال في صفته : أبيض طوال حسن الوجه فأصبنا ذلك الاسم والجنس أسود قصيرا أسمج الوجه لم نجعله له .

    ( قال الشافعي ) ولو كان سماه باسمه ونسبه إلى جنسه فكان له عبدان أو أكثر من ذلك الجنس فاتفق اسماهما وأجناسهما لا تفرق بينهما صفة ، ولم تثبت الشهود أيهما أراد .

    ( قال الربيع ) ففيها قولان أحدهما أن الشهادة باطلة إذا لم يثبتوا العبد بعينه كما لو شهدوا لرجل على رجل أن له هذا العبد ، أو هذه الجارية أن الشهادة باطلة ; لأنهم لم يثبتوا العبد بعينه .

    والقول الثاني أن الوصية جائزة في أحد العبدين وهما موقوفان بين الورثة والموصى له حتى يصطلحوا ; لأنا قد عرفنا أن له أحدهما ، وإن كان بغير عينه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #160
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله



    كتاب الأم للشافعي - الفقه الكامل
    محمد ابن إدريس بن العباس الشافعي
    المجلد الرابع

    الحلقة (160)
    صــــــــــ 113 الى صـــــــــــ119







    باب المرض الذي تكون عطية المريض فيه جائزة ، أو غير جائزة

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى المرض مرضان فكل مرض كان الأغلب منه أن الموت مخوف منه فعطية المريض فيه إن مات في حكم الوصايا وكل مرض كان الأغلب منه أنه غير مخوف فعطية المريض فيه كعطية الصحيح ، وإن مات منه ، فأما المرض الذي الأغلب منه أن الموت مخوف منه فكل حمى بدأت بصاحبها حتى جهدته أي حمى كانت ، ثم إذا تطاولت فكلها مخوف إلا الربع فإنها إذا استمرت بصاحبها ربعا كان الأغلب فيها أنها غير مخوفة فما أعطى الذي استمرت به حمى الربع ، وهو في حماه فهو كعطية الصحيح وما أعطى من به حمى غير ربع فعطية مريض ، فإن كان مع الربع غيرها من الأوجاع وكان ذلك الوجع مخوفا فعطيته كعطية المريض ما لم يبرأ من ذلك الوجع وذلك مثل البرسام والرعاف الدائم وذات الجنب والخاصرة والقولنج وما أشبه هذا وكل واحد من هذا انفرد فهو مرض مخوف ، وإذا ابتدأ البطن بالرجل فأصابه يوما أو يومين لا يأتي فيه دم ، ولا شيء غير ما يخرج من الخلاء لم يكن مخوفا ، فإن استمر به بعد يومين حتى يعجله ، أو يمنعه نوما ، أو يكون منخرقا فهو مخوف [ ص: 113 ] وإن لم يكن البطن منخرقا وكان معه زحير ، أو تقطيع فهو مخوف ( قال ) وما أشكل من هذا أن يخلص بين مخوفه وغير مخوفه سئل عنه أهل العلم به ، فإن قالوا : هو مخوف لم تجز عطيته إذا مات إلا من ثلثه ، وإن قالوا : لا يكون مخوفا جازت عطيته جواز عطية الصحيح ، ومن ساوره الدم حتى تغير عقله أو تغلبه ، وإن لم يتغير عقله ، أو المزار فهو في حاله تلك مخوف عليه ، وإن تطاول به كان كذلك ، ومن ساوره البلغم كان مخوفا عليه في حال مساورته ، فإن استمر به فالج فالأغلب أن الفالج يتطاول به وأنه غير مخوف المعاجلة ، وكذلك إن أصابه سل فالأغلب أن السل يتطاول ، وهو غير مخوف المعاجلة ، ولو أصابه طاعون فهذا مخوف عليه حتى يذهب عنه الطاعون ، ومن أنفذته الجراح حتى تصل منه إلى جوف فهو مخوف عليه ومن أصابه من الجراح ما لا يصل منه إلى مقتل فإن كان لا يحم عليها ، ولا يجلس لها ، ولا يغلبه لها وجع ، ولا يصيبه فيها ضربان ولا أذى ، ولم يأكل ويرم فهذا غير مخوف ، وإن أصابه بعض هذا فهو مخوف .

    ( قال الشافعي ) : ثم جميع الأوجاع التي لم تسم على ما وصفت يسأل عنها أهل العلم بها فإن قالوا مخوفة فعطية المعطي عطية مريض ، وإن قالوا : غير مخوفة فعطيته عطية صحيح ، وأقل ما يكون في المسألة عن ذلك والشهادة به شاهدان ذوا عدل .
    باب عطية الحامل وغيرها ممن يخاف

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وتجوز عطية الحامل حتى يضربها الطلق لولاد ، أو إسقاط فتكون تلك حال خوف عليها إلا أن يكون بها مرض غير الحمل مما لو أصاب غير الحامل كانت عطيتها عطية مريض ، وإذا ولدت الحامل فإن كان بها وجع من جرح ، أو ورم ، أو بقية طلق ، أو أمر مخوف فعطيتها عطية مريض ، وإن لم يكن بها من ذلك شيء فعطيتها عطية صحيح .

    ( قال الشافعي ) فإن ضربت المرأة ، أو الرجل بسياط ، أو خشب ، أو حجارة فثقب الضرب جوفا أو ورم بدنا ، أو حمل قيحا فهذا كله مخوف ، وهو قبل أن يبلغ هذا في أول ما يكون الضرب إن كان مما يصنع مثله مثل هذا مخوف ، فإن أتت عليه أيام يؤمن فيها أن يبقى بعدها وكان مقتلا فليس بمخوف .
    باب عطية الرجل في الحرب والبحر

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وتجوز عطية الرجل في الحرب حتى يلتحم فيها ، فإذا التحم كانت عطيته كعطية المريض كان محاربا مسلمين ، أو عدوا .

    ( قال الربيع ) وله فيما أعلم قول آخر : أن عطيته عطية الصحيح حتى يجرح .

    ( قال ) وقد قال : لو قدم في قصاص ; لضرب عنقه إن عطيته عطية الصحيح ; لأنه قد يعفى عنه ، فإذا أسر فإن كان في أيدي المسلمين جازت عطيته في ماله ، وإن كان في أيدي مشركين لا يقتلون أسيرا فكذلك ، وإن كان في أيدي مشركين يقتلون الأسرى ويدعونهم فعطيته عطية المريض ; لأن الأغلب منهم أن يقتلوا وليس يخلو المرء في حال أبدا من رجاء الحياة وخوف الموت لكن إذا كان الأغلب عنده ، وعند غيره الخوف عليه فعطيته عطية مريض ، وإذا كان الأغلب عنده ، وعند غيره الأمان عليه مما نزل به من وجع أو إسار ، أو حال كانت عطيته عطية الصحيح ( قال الشافعي ) وإن [ ص: 114 ] كان في مشركين يفون بالعهد فأعطوه أمانا على شيء يعطيهموه ، أو على غير شيء فعطيته عطية الصحيح .
    باب الوصية للوارث

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى أخبرنا سفيان عن سليمان الأحول عن مجاهد يعني في حديث { لا وصية لوارث } .

    ( قال الشافعي ) ورأيت متظاهرا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عام الفتح { لا وصية لوارث } ، ولم أر بين الناس في ذلك اختلافا ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا وصية لوارث } فحكم الوصية لوارث حكم ما لم يكن فمتى أوصى رجل لوارث وقفنا الوصية فإن مات الموصي والموصى له وارث فلا وصية له ، وإن حدث للموصي وارث يحجبه ، أو خرج الموصى له من أن يكون يوم يموت وارثا له ، بأن يكون أوصى صحيحا لامرأته ، ثم طلقها ثلاثا ، ثم مات مكانه فلم ترثه فالوصية لها جائزة لأنها غير وارثة ، وإنما ترد الوصية وتجوز إذا كان لها حكم ، ولا يكون لها حكم إلا بعد موت الموصي حتى تجب ، أو تبطل .

    ولو أوصى لرجل وله دونه وارث يحجبه فمات الوارث قبل الموصي فصار الموصى له وارثا أو لامرأة ، ثم نكحها ومات وهي زوجته بطلت الوصية لهما معا ; لأنها صارت وصية لوارث ، ولو أوصى لوارث وأجنبي بعبد ، أو أعبد ، أو دار ، أو ثوب ، أو مال مسمى ما كان بطل نصيب الوارث وجاز للأجنبي ما يصيبه ، وهو النصف من جميع ما أوصى به للوارث والأجنبي ، ولكن لو قال أوصيت بكذا لفلان وفلان فإن كان سمى للوارث ثلثا وللأجنبي ثلثي ما أوصى به جاز للأجنبي ما سمي له ورد عن الوارث ما سمي له ، ولو كان له ابن يرثه ولابنه أم ولدته أو حضنته ، أو أرضعته ، أو أب أرضعه ، أو زوجة ، أو ولد لا يرثه أو خادم ، أو غيره فأوصى لهؤلاء كلهم ، أو لبعضهم جازت لهم الوصية ; لأن كل هؤلاء غير وارث ، وكل هؤلاء مالك لما أوصى له به ; لملكه ماله إن شاء منعه ابنه ، وإن شاء أعطاه إياه ، وما أحد أولى بوصيته من ذوي قرابته ومن عطف على ولده ولقد ذكر الله تبارك وتعالى الوصية فقال { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } وأن الأغلب من الأقربين ; لأنهم يبتلون أولاد الموصي بالقرابة ، ثم الأغلب أن يزيدوا وأن يبتلوهم بصلة أبيهم لهم بالوصية وينبغي لمن منع أحدا مخافة أن يرد على وارث أو ينفعه أن يمنع ذوي القرابة وأن لا يعتق العبيد الذين قد عرفوا بالعطف على الورثة ، ولكن لا يمنع أحد وصية غير الوارث بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لا يختلف فيه من أحفظ عنه ممن لقيت .
    باب ما يجوز من إجازة الوصية للوارث وغيره وما لا يجوز

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإذا أراد الرجل أن يوصي لوارث فقال للورثة إني أريد أن أوصي بثلثي لفلان وارثي فإن أجزتم ذلك فعلت ، وإن لم تجيزوا أوصيت بثلثي لمن تجوز الوصية له فأشهدوا له على أنفسهم بأن قد أجازوا له جميع ما أوصى له وعلموه ، ثم مات فخير لهم فيما بينهم وبين الله عز وجل أن يجيزوه ; لأن في ذلك صدقا ووفاء بوعد وبعدا من غدر وطاعة للميت وبرا للحي فإن لم يفعلوا لم يجبرهم الحاكم على إجازته ، ولم يخرج ثلث مال الميت في شيء إذا لم يخرجه هو فيه ، وذلك أن [ ص: 115 ] إجازتهموه قبل أن يموت الميت لا يلزمهم بها حكم من قبل أنهم أجازوا ما ليس لهم ، ألا ترى أنهم قد يكونون ثلاثة واثنين وواحدا فتحدث له أولاد أكثر منهم فيكونون أجازوا كل الثلث إنما لهم بعضه ويحدث له وارث غيرهم يحجبهم ويموتون قبله فلا يكونون أجازوا في واحدة من الحالين في شيء يملكونه بحال ، وإن أكثر أحوالهم فيه أنهم لا يملكونه أبدا إلا بعدما يموت أولا ترى أنهم لو أجازوها لوارث كان الذي أجيزت له الوصية قد يموت قبل الموصي ، فلو كان ملك الوصية بوصية الميت وإجازتهم ملكها كان لم يملكها ، ولا شيء من مال الميت إلا بموته وبقائه بعده فكذلك الذين أجازوا له الوصية أجازوها فيما لا يملكون ، وفيما قد لا يملكونه أبدا .

    ( قال ) وهكذا لو استأذنهم فيما يجاوز الثلث من وصيته فأذنوا له به وهكذا لو قال رجل منهم ميراثي منك لأخي فلان ، أو لبني فلان لم يكن له ; لأنه أعطاه ما لم يملك وهكذا لو استأذنهم في عتق عبيد له أعتقهم بعد موته فلم يخرجوا من الثلث كان لهم رد من لا يخرج من الثلث منهم وخير في هذا كله أن يجيزوه ، ولكنه لو أوصى لوارث بوصية فقال : فإن أجازها الورثة وإلا فهي لفلان رجل أجنبي ، أو في سبيل الله ، أو في شيء مما تجوز له الوصية به مضى ذلك على ما قال إن أجازها الورثة جازت ، وإن ردوها فذلك لهم وعليهم أن ينفذوها لمن أوصى له بها إن لم تجزها الورثة ; لأنها وصية لغير وارث ، وكذلك لو أوصى بوصية لرجل فقال : فإن مات قبلي فما أوصيت له به لفلان ، فمات قبله كانت الوصية لفلان ، وكذلك لو قال لفلان ثلثي إلا أن يقدم فلان فقدم فلان هذا البلد فهو له جاز ذلك على ما قال .
    باب ما يجوز من إجازة الورثة للوصية وما لا يجوز

    أخبرنا الربيع قال ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ، وإذا أوصى الميت لمن لا تجوز له وصيته من وارث أو غيره ، أو بما لا تجوز به مما جاوز الثلث فمات ، وقد علموا ما أوصى به وترك ، فقالوا : قد أجزنا ما صنع ففيها قولان : أحدهما : أن قولهم بعد علمهم وقصهم ميراثه لهم قد أجزنا ما صنع جائز لمن أجازوه له كهبته لو دفعوه إليه من أيديهم ، ولا سبيل لهم في الرجوع فيه ومن قال هذا القول قال إن الوصاية بعد الموت مخالفة عطايا الأحياء التي لا تجوز إلا بقبض من قبل أن معطيها قد مات ، ولا يكون مالكا قابضا لشيء يخرجه من يديه ، وإنما هي إدخال منه لأهل الوصية على الورثة فقوله في وصيته يثبت لأهل الوصية فيما يجوز لهم يثبت لهم ما يثبت لأهل الميراث ، وإذا كان هكذا فأجاز الورثة بعد علمهم وملكهم فإنما قطعوا حقوقهم من مواريثهم عما أوصى به الميت مضى على ما فعل منه جائز له جواز ما فعل مما لم يردوه وليس ما أجازوا لأهل الوصايا بشيء في أيديهم فيخرجونه إليهم إنما هو شيء لم يصر إليهم إلا بسبب الميت ، وإذا سلموا حقوقهم سلم ذلك لمن سلموه له كما يبرءون من الدين والدعوى فيبرأ منها من أبرءوه ويبرءون من حقوقهم من الشفعة فتنقطع حقوقهم فيها ، ولهذا وجه محتمل ، والقول الثاني : أن يقول ما ترك الميت مما لا تجوز له الوصية به فهو ملك نقله الله تعالى إليهم فكينونته في أيديهم وغير كينونته سواء .

    وإجازتهم ما صنع الميت هبة منهم لمن وهبوه له فمن دفعوه إليه جاز له ولهم الرجوع ما لم يدفعوه كما [ ص: 116 ] تكون لهم أموال ودائع في أيدي غيرهم فيهبون منها الشيء لغيرهم فلا تتم له الهبة إلا بالقبض ، ولهذا وجه محتمل والله تعالى أعلم ، وإن قالوا أجزنا ما صنع ، ولا نعلمه وكنا نراه يسيرا انبغى في الوجهين جميعا أن يقال أجيزوا يسيرا واحلفوا ما أجزتموه إلا وأنتم ترونه هكذا ، ثم لهم الرجوع فيما بقي ، وكذلك إن كانوا غيبا ، وإن أقيمت عليهم البينة بأنهم علموه جازت عليهم في قول من أجاز إجازتهم بغير قبض ، وإنما تجوز عليهم إذا أوصى بثلثي ماله ، أو بماله كله أو بجزء معلوم منه إن علموا كم ترك كأن أوصى بشيء يسميه فقال لفلان كذا وكذا دينارا ولفلان عبدي فلان ولفلان من إبلي كذا وكذا فقالوا قد أجزنا له ذلك ، ثم قالوا إنما أجزنا ذلك ونحن نراه يجاوز الثلث بيسير لأنا قد عهدنا له مالا فلم نجده أو عهدناه غير ذي دين فوجدنا عليه دينا ففيه قولان أحدهما أن يقال هذا يلزمهم في قول من أجاز إجازتهم ; لأنهم أجازوا ما يعرفون وما لا يعذرون بجهالتهم والآخر أن لهم أن يحلفوا ويردوا الآن هذا إنما يجوز من مال الميت ويقال لهم - إذا احلفوا - : أجيزوا منه ما كنتم ترونه يجاوز الثلث سدسا كان أو ربعا ، أو أقل ، أو أكثر .
    باب اختلاف الورثة

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وإن أجاز بعض الورثة فيما تلزم الإجازة فيه ، ولم يجز بعضهم جاز في حصة من أجاز ما أجاز كأن الورثة كانوا اثنين فيجب للموصى له نصف ما أوصى له به مما جاوز الثلث .

    ( قال الشافعي ) ولو كان في الورثة صغير ، أو بالغ محجور عليه ، أو معتوه لم يجز على واحد من هؤلاء أن يجيز في نصيبه بشيء جاوز الثلث من الوصية ، ولم يكن لولي واحد من هؤلاء أن يجيز ذلك في نصيبه ، ولو أجاز ذلك في ماله كان ضامنا له في ماله ، وإن وجد في يدي من أجيز له أخذ من يديه وكان للولي أن يتبع من أعطاه إياه بما أعطى منه ; لأنه أعطاه ما لا يملك .
    . الوصية للقرابة

    ( قال الشافعي ) رحمه الله وإذا أوصى الرجل فقال : ثلث مالي لقرابتي أو لذوي قرابتي ، أو لرحمي ، أو لذوي رحمي ، أو لأرحامي ، أو لأقربائي ، أو قراباتي فذلك كله سواء والقرابة من قبل الأم والأب في الوصية سواء وأقرب قرابته وأبعدهم منه في الوصية سواء الذكر والأنثى والغني والفقير والصغير والكبير ; لأنهم أعطوا باسم القرابة فاسم القرابة يلزمهم معا كما أعطي من شهد القتال باسم الحضور .

    وإذا كان الرجل من قبيلة من قريش فأوصى في قرابته فلا يجوز إذا كان كل من يعرف نسبه إلا أن يكون بينه وبين من يلقاه إلى أب ، وإن بعد قرابة ، فإذا كان المعروف عند العامة أن من قال من قريش لقرابتي لا يريد جميع قريش ، ولا من هو أبعد منهم ومن قال : لقرابتي لا يريد أقرب الناس ، أو ذوي قرابة أبعد منه بأب ، وإن كان قريبا صير إلى المعروف من قول العامة ذوي قرابتي فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها ؟ فيقال : من بني عبد مناف ، ثم يقال : قد يتفرق بنو عبد مناف فمن أيهم ؟ فيقال من بني المطلب فيقال أيتميز بنو المطلب ؟ قيل : نعم هم قبائل فمن أيهم ؟ قيل : من بني عبد يزيد بن هاشم بن المطلب فيقال أفيتميز هؤلاء ؟ قيل : نعم هم قبائل قيل فمن أيهم ؟ قيل : من بني عبيد بن عبد يزيد قيل أفيتميز هؤلاء ؟ [ ص: 117 ] قيل نعم هم بنو السائب بن عبيد بن عبد يزيد قيل : وبنو شافع وبنو علي وبنو عباس وكل هؤلاء من بني السائب ، فإن قيل : أفيتميز هؤلاء ؟ قيل : نعم كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه ، فإذا كان من آل شافع فقال لقرابته فهو لآل شافع دون آل علي وآل عباس ، وذلك أن كل هؤلاء يتميزون ظاهر التمييز من البطن الآخر يعرف ذلك منهم إذا قصدوا آباءهم دون الشعوب والقبائل في آبائهم ، وفي تناصرهم وتناكحهم ويحول بعضهم لبعض على هؤلاء الذين معهم .
    ولو قال : ثلث مالي لأقرب قرابتي ، أو لأدنى قرابتي ، أو لألصق قرابتي كان هذا كله سواء ونظرنا إلى أقرب الناس منه رحما من قبل أبيه وأمه فأعطيناه إياه ، ولم نعطه غيره ممن هو أبعد منه كأنا وجدنا له عمين وخالين وبني عم وبني خال وأعطينا المال عميه وخاليه سواء بينهم دون بني العم والخال ; لأنهم يلقونه عند أبيه وأمه قبل بني عمه وخاله وهكذا لو وجدنا له إخوة لأب وإخوة لأم وعمين وخالين أعطينا المال إخوته لأبيه وإخوته لأمه دون عميه وخاليه ; لأنهم يلقونه عند أبيه وأمه الأدنيين قبل عميه وخاليه ، ولو كان مع الإخوة للأب والإخوة للأم إخوة لأب وأم كان المال لهم دون الإخوة للأب والإخوة للأم ; لأنا إذا عددنا القرابة من قبل الأب والأم سواء فجمع الإخوة للأب والأم قرابة الأب والأم كانوا أقرب بالميت ، ولو كان مع الإخوة للأب والأم ولد ولد متسفل لا يرث كان المال له دون الإخوة ; لأنه ابن نفسه ، وابن نفسه أقرب إليه من ابن أبيه ، ولو كان مع ولد الولد المستفل جد كان الولد أولى منه ، وإن كان جدا أدنى .

    ( قال ) : ولو كان مع الإخوة للأب أو الأم جد كان الإخوة أولى من الجد في قول من قال الإخوة أولى بولاء الموالي من الجد ; لأنهم أقرب منه وأنهم يلقون الميت قبل أن يصير الميت إلى الجد ، ولو قال في هذا كله ثلث مالي لجماعة من قرابتي فإن كان أقرب الناس به ثلاثة فصاعدا فهو لهم وسواء كانوا رجالا أو نساء ، وإن كانوا اثنين ، ثم الذين يلونهم واحد ، أو أكثر كان للاثنين الثلثان من الثلث وللواحد فأكثر ما بقي من الثلث ، وإن كانوا واحدا فله ثلث الثلث ولمن يليه من قرابته إن كانوا اثنين فصاعدا ثلثا الثلث ، ولو كان أقرب الناس واحدا والذي يليه في القرابة واحد أخذ كل واحد منهما ثلث الثلث وأخذ الذين يلونهما في القرابة واحد أو أكثر الثلث الباقي سواء بينهم .
    باب الوصية لما في البطن والوصية بما في البطن

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى وتجوز الوصية بما في البطن ولما في البطن إذا كان مخلوقا يوم وقعت الوصية ، ثم يخرج حيا ، فلو قال رجل : ما في بطن جاريتي فلانة لفلان ، ثم توفي فولدت جاريته لأقل من ستة أشهر من يوم تكلم بالوصية كان لمن أوصى له به ، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر لم يكن له ; لأنه قد يحدث الحمل فيكون الحمل الحادث غير الذي أوصي به ، ولو قال : ولد جاريتي ، أو جاريتي أو عبد بعينه وصية لما في بطن فلانة امرأة يسميها بعينها فإن ولدت تلك المرأة لأقل من ستة أشهر من يوم تكلم بالوصية فالوصية جائزة ، وإن ولدت لستة أشهر من يوم تكلم بالوصية فأكثر فالوصية مردودة ; لأنه قد يحدث حمل بعد الوصية فيكون غير ما أوصى له ، وإن كان الحمل الذي أوصى به غلاما ، أو جارية ، أو غلاما وجارية ، أو أكثر كانت الوصية بهم كلهم جائزة لمن أوصى له بهم ، وإن كان الحمل الذي أوصى له غلاما وجارية ، أو أكثر كانت الوصية بينهم سواء على العدد ، وإن مات الموصي قبل أن تلد التي أوصى لحملها وقفت الوصية حتى تلد ، فإذا ولدت لأقل من ستة أشهر كانت الوصية له .
    [ ص: 118 ] باب الوصية المطلقة والوصية على الشيء

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ومن أوصى فقال : إن مت من مرضي هذا ففلان - لعبد له - حر ولفلان كذا وصية ويتصدق عني بكذا ، ثم صح من مرضه الذي أوصى فيه ، ثم مات بعده فجأة ، أو من مرض غير ذلك المرض بطلت تلك الوصية ; لأنه أوصى إلى أجل ومن أوصى له وأعتق على شرط لم يكن ، وكذلك إذا حد في وصيته حدا فقال : إن مت في عامي هذا ، أو في مرضي هذا فمات من مرض سواه بطل فإن أبهم هذا كله وقال : هذه وصيتي ما لم أغيرها فهو كما قال وهي وصيته ما لم يغيرها ولكنه لو قال : هذا وأشهد أن وصيته هذه ثابتة ما لم يغيرها كانت وصيته نافذة .

    ( قال الشافعي ) وإن أوصى فقال : إن حدث بي حدث الموت وصية مرسلة ، ولم يحدد لها حدا ، أو قال : متى حدث بي حدث الموت ، أو متى مت فوصيته ثابتة ينفذ جميع ما فيها مما جاز له متى مات ما لم يغيرها .
    باب الوصية للوارث

    ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى قال : الله عز وجل { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين } الآية إلى " المتقين " وقال عز وجل في آي المواريث { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وذكر من ورث جل ثناؤه في آي من كتابه .

    ( قال الشافعي ) واحتمل إجماع أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين معنيين : أحدهما : أن يكون للوالدين والأقربين الأمران معا فيكون على الموصي أن يوصي لهم فيأخذون بالوصية ويكون لهم الميراث فيأخذون به واحتمل أن يكون الأمر بالوصية نزل ناسخا لأن تكون الوصية لهم ثابتة فوجدنا الدلالة على أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة بآي المواريث من وجهين : أحدهما : أخبار ليست بمتصلة عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الحجازيين منها أن سفيان بن عيينة أخبرنا عن سليمان الأحول عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا وصيه لوارث } وغيره يثبته بهذا الوجه ووجدنا غيره قد يصل فيه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا المعنى ، ثم لم نعلم أهل العلم في البلدان اختلفوا في أن الوصية للوالدين منسوخة بآي المواريث واحتمل إذا كانت منسوخة أن تكون الوصية للوالدين ساقطة حتى لو أوصى لهما لم تجز الوصية وبهذا نقول ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما لم نعلم أهل العلم اختلفوا فيه يدل على هذا ، وإن كان يحتمل أن يكون وجوبها منسوخا .

    وإذا أوصى لهم جاز ، وإذا أوصى للوالدين فأجاز الورثة فليس بالوصية أخذوا ، وإنما أخذوا بإعطاء الورثة لهم ما لهم ; لأنا قد أبطلنا حكم الوصية لهم فكان نص المنسوخ في وصية الوالدين وسمى معهم الأقربين جملة فلما كان الوالدان وارثين قسنا عليهم كل وارث ، وكذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان الأقربون ورثة وغير ورثة أبطلنا الوصية للورثة من الأقربين بالنص والقياس والخبر { ألا لا وصية لوارث } وأجزنا الوصية للأقربين ولغير الورثة من كان فالأصل في الوصايا لمن أوصى في كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم أعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه في أن [ ص: 119 ] ينظر إلى الوصايا ، فإذا كانت لمن يرث الميت أبطلتها ، وإن كانت لمن لا يرثه أجزتها على الوجه الذي تجوز به وموجود عندي - والله تعالى أعلم - فيما وصفت من الكتاب وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيث إن ما لم نعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه أنه إنما يمنع الورثة الوصايا لئلا يأخذوا مال الميت من وجهين ، وذلك أن ما ترك المتوفى يؤخذ بميراث ، أو وصية فلما كان حكمهما مختلفين لم يجز أن يجمع لواحد الحكمان المختلفان في حكم واحد وحال واحدة كما لا يجوز أن يعطى بالشيء وضد الشيء ، ولم يحتمل معنى غيره فإن ذهب ذاهب إلى أن يقول إنما لم تجز الوصية للوارث من قبل تهمة الموصي لأن يكون يحابي وارثه ببعض ماله .

    فلولا أن العناء مستعل على بعض من يتعاطى الفقه ما كان فيمن ذهب إلى هذا المذهب عندي - والله أعلم - للجواب موضع ; لأن من خفي عليه هذا حتى لا يتبين له الخطأ فيه كان شبيها أن لا يفرق بين الشيء وضد الشيء فإن قال : قائل فأين هذا ؟ قيل له إن شاء الله تعالى أرأيت امرأ من العرب عصبته يلقونه بعد ثلاثين أبا قد قتل آباء عصبته آباءه وقتلهم آباؤه وبلغوا غاية العداوة بينهم بتسافك الدماء وانتهاك المحارم والقطيعة والنفي من الأنساب في الأشعار وغيرها وما كان هو يصطفي ما صنع بآبائه ويعادي عصبته عليه غاية العداوة ويبذل ماله في أن يسفك دماءهم وكان من عصبته الذين يرثونه من قتل أبويه فأوصى من مرضه لهؤلاء القتلة وهم ورثته مع غيرهم من عصبته كان الوارث معهم في حال عداوتهم ، أو كان له سلما به برا وله واصلا ، وكذلك كان آباؤهما أتجوز الوصية لأعدائه ، وهو لا يتهم فيهم ؟ .

    فإن قال : لا قيل ، وكذلك لو كان من الموالي فكان مواليه قد بلغوا بآبائه ما بلغ بهم وبأبيهم ما وصفت من حال القربى فأوصى لورثته من مواليه ومعهم ابنته أتجوز الوصية لهم ، وهو لا يتهم فيهم ؟ فإن قال : لا . قيل : وهكذا زوجته لو كانت ناشزة منه عاصية له عظيمة البهتان وترميه بالقذف قد سقته سما لتقتله وضربته بالحديد لتقتله فأفلت من ذلك وبقيت ممتنعة منه وامتنع من فراقها إضرارا لها ، ثم مات فأوصى لها لم تجز وصيته ; لأنها وارث .

    فإن قال : نعم : قيل .

    ولو أن أجنبيا مات ليس له وارث أعظم النعمة عليه صغيرا وكبيرا وتتابع إحسانه عليه ، وكان معروفا بمودته فأوصى له بثلث ماله أيجوز ؟ فإن قال : نعم ، قيل : وهكذا تجوز الوصية له .

    وإن كان ورثته أعداء له . فإن قال : نعم تجوز وصيته في ثلثه كان ورثته أعداء له ، أو غير أعداء . قيل له : أرأيت لو لم يكن في أن الوصية تبطل للوارث وأنه إذا خص بإبطال وصيته الوارث لم يكن فيها معنى إلا ما قلنا .

    ، ثم كان الأصل الذي وصفت لم يسبقك إليه أحد يعقل من أهل العلم شيئا علمناه أما كنت تركته ؟ أو ما كان يلزمك أن تزعم أنك تنظر إلى وصيته أبدا فإن كانت وصيته لرجل عدو له أو بغيض إليه ، أو غير صديق أجزتها ، وإن كان وارثا ، وإن كانت لصديق له ، أو لذي يد عنده أو غير عدو فأبطلتها ، وإذا فعلت هذا خرجت مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ومما يدخل فيما لم يختلف فيه أهل العلم علمناه ، أورأيت لو كان له عبد يعلم أنه أحب الناس إليه وأوثقه في نفسه وأنه يعرف بتوليج ماله إليه في الحياة ولد ولد دون ولده ، ثم مات ولده فصار وارثه عدوا له فأعتق عبده في وصيته أليس يلزمك أن لا تجيز العتق لشأن تهمته فيه حيا إذ كان يؤثره بماله على ولد نفسه وميتا إذ كان عنده بتلك الحال وكان الوارث له عدوا ؟ أو رأيت لو كان وارثه له عدوا فقال : والله ما يمنعني أن أدع الوصية فيكون الميراث وافرا عليك إلا حب أن يفقرك الله ، ولا يغنيك .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •