التربية .. وسلوكيات الناشئة

الزبير مهداد


يحتاج الطفل فترة حضانة طويلة نسبيًّا، تلزم الوالدين والقائمين عليه بإحاطته بكل ما يساعده على النمو جسميًّا وعقليًّا واجتماعيًّا، ومن خلال التفاعل الذي يتم بين الطفل والمحيطين به، يأخذ نموه الاجتماعي مساره في إطار ثقافة معينة، متميزة بلغتها وقيمها ومعاييرها السلوكية. وهذه المضامين اللغوية والقيمية والسلوكية تكسب الطفل خبرات اجتماعية تساعده على تحقيق تكيفه وإحساسه بالأمان والاطمئنان وسط جماعة يشعر بانتمائه إليها وتماثله معها (1).
في هذا المحيط المنزلي، وفي فترة الطفولة خاصة، تتشكل شخصيات الأفراد وتتحدد سماتها. فالشخصية هي النتاج النهائي لمجموع السمات والعادات التي تميز الفرد، وهي كما تظهر لدى الفرد لا تشكل جانبًا واحدًا من جوانب بنائه النفسي، ولكنها الصورة المتكاملة في البناء. والتنشئة الاجتماعية تجعل جوانب البناء تبدو في صورة متكاملة، وتجعل سمات الشخصية تعبر عن ثقافة معينة، أي إن صفات وخصائص معينة تظهر عند الفرد فتجعلنا ننسبه إلى أمة معينة، فهناك محددات اجتماعية تعطي الشخصية خصائصها المعينة التي لا تطمسها التغيرات التي تطرأ عليها.
شخصية مواطنينا سلبية ومأزومة
إن الشخصية على المستوى الفردي نتاج اجتماعي، والجانب الاجتماعي يشكل النواة التي ينهض على أساسها بناء الطابع الذي يشترك فيه غالبية الأفراد المنتمين إلى ثقافة ما(2).
فما هي الثقافة التي تعبر عنها سمات الشخصية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم؟ إنها شخصية توصف بالوصولية والانتهازية، متذبذبة القيم غير ملتزمة دينًا، تقدس الثروة، ولا تتورع عن الانغماس في الفساد الخلقي والسياسي، بدون طموح علمي ومفتقرة لروح المبادرة الأدبية والثقافية، جاهلة متعصبة، تغيب قيم التسامح والحوار، وقيم التضامن والتكافل والإخاء، مع إحساس بالاغتراب النفسي والثقافي، وغير ذلك من السمات التي يمكن التقاطها بسهولة من الدراسات النفسية والاجتماعية التي تزخر بها الكتب والمجلات الأكاديمية، وتدل بصدق على أن مجتمعنا قد أصبح بلا هوية ولا شخصية حضارية، وأنه يعيش أزمة حضارية أفقدته بوصلته، وأصبح الناس تائهين تابعين مقودين، والواقع الذي دعي المواطن العربي المسلم إلى الاستغراق فيها بعيد عن قيم الثقافة العربية الإسلامية وخصائصها ومبادئها.
يصف أحد الباحثين هوية المواطن العربي بأنها متذبذبة متصدعة متأزمة التركيب، والمواطنون غير مؤهلين للإسهام في تنمية مجتمعاتهم وغير قادرين على رفع التحديات التي تواجههم على المستوى الحضاري(3) ويضيف هذا الباحث بأن التركيبة النفسية والاجتماعية للمواطنين تحمل كثيرًا من الصفات أغلبها سيئ سلبي، ويرجع الباحث أسباب هذه الوضعية إلى نظام التنشئة الاجتماعية التي تكتسي صفة خاصة بحكم انتمائنا لمجتمع خضع منذ عقود من الزمن لمجموعة من التحولات في أنماط قواعده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، مما حدا به إلى التعامل مع المعطيات الحضارية بنوع من التشتت والقلق وصعوبة بناء نسق تربوي جديد يمكنه من السير قدما نحو الأهداف المبتغاة(4).
لقد أهدرت المعاني الدينية وابتعد الإنسان عن القيم النبيلة والتعامل الاجتماعي القويم، فدبت المصلحة الشخصية الفردية والأنانية والابتعاد عن روح الجماعة، وانتشرت آليات التعاملات التجارية والمادية إزاء انحسار القيم الاجتماعية والسلوك السوي الذي يتفق مع التوجهات القيمية للدين في بناء المجتمعات الإنسانية. بالرغم من المكانة البارزة التي احتلتها الأديان في تاريخ البشرية، والدور المهم الذي لعبته في بناء الحضارات وتعبئة البشر في سبيل إنجاز المهام الكبرى التي لا يمكن أن يتأتى للبشرية إنجازها بمعزل عن التدين(5).
طرق تنشئة خاطئة
إن طرق التنشئة الاجتماعية للأفراد تمثل دورًا سلبيًّا في تعيين نوعية الشخصية وفي تركيب الهوية من حيث ارتباطها بالبنية الاجتماعية للعائلة وبأنماط التفاعل المتأزم مع المحيط، أزمة الهوية التي اعترتنا نتجت بلا ريب عن آثار التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي عاشها العالم منذ الحرب الكونية الأولى والتي أخضعت دولنا قسرًا لهيمنة الثقافة الغربية وأجهزتها العسكرية وأنظمتها الاقتصادية والتي تختلف اختلافًا كليًّا عن قيمنا وثقافتنا، فأزيح الدين من حياتنا واستبدلت قيمنا الأصيلة بقيم غير ثابتة وغير واضحة، وكانت النتيجة هذه الهوية المتذبذبة والمتأزمة وهذه الشخصية السلبية الانعزالية.
إن عيوبا تعانيها مجتمعاتنا تشكل أسباب أزمة عميقة ومنبعًا لأخطاء فادحة، والخروج من الأزمة يتطلب عملًا واضح المعالم لإعادة تثبيت الهوية الإسلامية في الأفراد ولإعادة تشكيل الشخصية المسلمة وبناء الأفراد والمجتمعات على أساس إسلامي.
لاشك أن السرعة في التغير الاجتماعي وتواتر الأحداث وقوتها كان لها أثر في خلخلة البناء الاجتماعي وزحزحة مكانة الدين في هذا البناء، وأحدثت انقلابات جذرية في المجتمعات مست القواعد الدينية والقيم المجتمعية وكل ما يتصل بالتنظيم الاجتماعي؛ بالرغم من أن الدين ظل يشكل أحد أهم الركائز لدى الإنسان منذ قيام البشرية إلى الآن. مما يستدعي بإلحاح النظر في مكانة الدين لتنظيم حياة الناس وإضفاء حال الطمأنينة والسكينة التي افتقدوها.
تذبذب قيمي
في المجتمع، في كل مؤسساته الفرعية، يجب أن تسود القيم المستمدة من الإسلام ومعانيه السامية وتقاليده الراسخة العريقة والعادات التي تستلهم التراث الأصيل، وداخل الأسرة، وهي أهم المؤسسات الاجتماعية الفرعية، يجب أن تسود المعايير الثقافية المتماثلة مع معايير المجتمع، لأن الوسط العائلي يعتبر أحد أهم محددات سمات شخصيات الأفراد وملامح هويتهم، لأن تنشئتهم تتأثر بعناصره ومكوناته وظروف أهله وقيمهم واتجاهاتهم، فحين توجد معايير ثقافية متماثلة داخل ثقافة معينة تتصل بأساليب تنشئة الفرد، فإنه من الممكن القول بأن تلك المعايير سوف تخلق أساليب مشتركة للاستجابة، تعد مسؤولة عن القدر المشترك من السمات الأساسية بين أفراد المجتمع الواحد أو أفراد الثقافة الواحدة(6) وسيوجد إذ ذاك فهم مشترك بين فئات المجتمع وإطار عام للقيم التي ينبغي التزامها بما يحقق غايات المجتمع في بلوغ النهوض الحضاري وفق أسس واضحة(7).
إننا نضبط سلوكنا على ضوء القيم، فكلما كانت هذه القيمُ واضحةً، كان ممكنا توقُّعُ نوع السلوك والتنبؤ به، فالفرد قادر دومًا على تعزيز مكانة القيم، وجعلِ دوافعِه الداخليةِ ووعيِهِ وإدراكِه الأخلاقيِّ، أساسَ استجابته السلوكيةِ وضابطَ تفاعلِه الاجتماعيِّ.. فالحكمُ الخلقي واتخاذ القرار متأصلان في قدرة الإنسان على التقييم.
هذا لا يعني أن جميعَ القيم التي قد يحملها الناشئة داعمةٌ للحياة، إذ يمكن التمييز بين نوعين من القيم، فهناك قيم تُدمِّر الإنسانَ من الداخل وتمزقُ النسيجَ الاجتماعي الروحي في المجتمعاتِ وتلوّث الطبيعة، وهناك قيم تبني العالم الداخلي للإنسان، وفي الوقت نفسه تجْدَلُ النسيجَ الاجتماعيَّ الروحي في المجتمع، قيم تتمحور حول علاقات جميلة بين الناس وحول احترام الطبيعة.
يمكننا أن نتحدثَ عن قيم الحياة، ولكن لا معنى للحديث أو الكتابة عن القيم بمعزلٍ عن الممارسة والسياق المجتمعي بمختلف أبعادِه، كما أنه من الخطأ الحديثُ عن قيم في السياسة، وثانية في التعليم، وثالثة في الدين وأخرى في الاقتصاد أو الأسرة أو في الفنون؛ وكأن هناك مجموعاتٍ مختلفةً من القيم في المجالات المختلفة، فذلك يؤدي إلى اضطراب ثقافي اجتماعي وتذبذب أخلاقي.. إن تجزئةَ القيم حسب المجالات المختلفة في الحياة هو مظهر آخر من مظاهر الانفصام الثقافي الذي نعانيه.
التربية ترسخ القيم
إن للفرد إمكانات ذاتية متنوعة غير مستغلة، وقدرة فطرية على الاستجابة السلوكية السليمة، وهناك دومًا معايير وقيم سليمة يجب إشاعتها وإحلالها محل القيم والمعايير السلبية السائدة، وضمان تحقيق تفاعل الفرد معها، هذه القيم لازمة لبناء حضارة تستمد خصائصها من ديننا، حضارة أصيلة وشاملة وقوية.
إن الثقافة تشكل الشخصية الأساسية لدى الأفراد(8)، ويستدل على وجودها من الانتظام الملاحظ في سلوك الأفراد والعناصر المكونة لها يجب أن تكون منسقة تنسيقا طبيعيًّا أو متطابقة في المعنى الواحد إلى حد معقول، فالسلوك الاجتماعي للفرد يحدده التراث الثقافي الذي يقيم معايير داخل الأفراد، وهذه المعايير يجب أن يكون متفقًا عليها بشكل عام بين الأفراد الذين يرتبطون معا بعلاقات حياة مشتركة أو تعاون(9).
وهذا الاتفاق هو الذي ينشأ عنه التقارب والتشابه في الخلفية الاجتماعية، مما ينعكس بشكل قوي على تفاعلهم ويجعلهم يتقاربون فيما بينهم ويلتحمون «كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا»، ويزدادون إعجابًا ببعضهم وتمييزًا لاختياراتهم الثقافية الجمعية وقيمهم واتجاهاتهم المتشابهة، حيث تغدو هذه الأمور ذات أهمية فردية وجماعية.
لهذا فمعرفة التربية وأصولها الثقافية والاجتماعية أمر ضروري لكل من يريد أن يربي الناشئة على الوجه السليم؛ إذ على ضوء مفهومنا للتربية وأهدافها وتدبير الطفولة ونموها وقضاياها وتنشئتها، يتوقف نجاحنا في تعاملنا مع الصغار؛ وبوضوح الهدف من التربية في ذهن الراشد، معلمًا كان أو أبًا، وشخوصه أمام نظره على الدوام يستطيع أن يتخذ منه مقياسًا يقيس به عمله ونتائجه من آن لآخر.
وجهل الأسرة بالتربية وأصولها والطفولة ونموها وحاجاتها، وطرق التعلم الاجتماعي وقواعده، يحول دون قدرتها على رصد ملامح التطور النفسي والبدني للطفل، ويؤدي إلى توظيف المعلومات الناقصة والخاطئة في تربية وتوجيه الناشئة دون وعي بخطورتها، وتنقل الأسرة ما هو سائد في وسطها من أساليب واتجاهات التنشئة وهي في أغلب الأحيان اتجاهات غير سوية، وتتم عملية النقل بمحاكاة المحيطين بها من آباء وأمهات وغيرهم، أو تقليد ما تتم مشاهدته عبر وسائل الإعلام، ويدعمه الإيحاء الذي يمارسه الآخرون بواسطة التعيير والمقارنة والمأثورات الشعبية، مما يؤدي إلى تبني وترويج قيم وعادات سيئة وتبريرها والدفاع عنها.
إننا مسلمون، فيجب أن يكون فهمنا للتربية مرتبطا بالمنظور الإسلامي الشامل للكون والإنسان والحياة، ويكون نظامنا التربوي خاضعا للضوابط الدينية والثقافة الأصيلة والقيم الإنسانية الإيجابية، وفي الوقت نفسه متفاعلًا مع المتغيرات الحادثة على المسرح الاجتماعي، وهذا الأمر يتطلب تحقيقه إشاعة معرفة بالإسلام وحقيقة دعوته ومراميها ومقاصدها بين عموم المربين وكل الآباء والأمهات، وتثقيفهم ثقافة إسلامية عامة وتربوية متخصصة، حتى يتمكنوا من أداء وظيفتهم التربوية وإنشاء أجيال تتحلى بسمات شخصية إيجابية، تُحكم القيم النبيلة في سلوكها واستجاباتها ولا تُحكم الأهواء الشخصية التي تتعارض مع مصالح الآخرين وتهدد الاستقرار والتماسك الاجتماعيين.
الهوامش
1- إبراهيم خليفة: المربيات الأجنبيات في البيت العربي الخليجي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، 1405، ص 65.
2- إسماعيل الملحم: وحدة الشخصية القومية للأمة العربية، مجلة الوحدة، الرباط، عدد 22-23 (يوليو 1986) ص 91.
3- نورالدين قربال: إشكالية هوية الإنسان المغربي، جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 28 مايو 1995 ص 3.
4- قربال، المرجع نفسه.
5- للتوسع انظر: علي ليلة: رأس المال الديني والقيمة المضافة للفعل الإنساني، مجلة الديموقراطية (الأهرام) السنة السابعة العدد 26 أبريل 2007 ص 41-50.
6- محمود رجاء حنفي: الثقافة وأثرها في تشكيل شخصيات الأفراد، «الوعي الإسلامي»، عدد 367 سنة 1417 ص 18.
7- زيد بن عبدالمحسن الحسين: إطلالة، مجلة الفيصل عدد 255- ص 7.
8- محمود السيد أبوالنيل: علم النفس الاجتماعي، بيروت، دار النهضة العربية 1985، جزء2- ص33.
9- حنفي، مرجع سابق ص 19.