الجوارح[1] المعطلة


لقد منَّ الله على الإنسان إذ خلقه في أحسن تقويم، وجعل له السمع والبصر، وسخر له كل شيء؛ من أجل أن يشكر اللهَ ولا يكفره؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
ومن شُكْرِ الجوارح تسخيرُها لطاعة الله تعالى، والاستعانة بها على عبادته ومساعدة عباده، وتجنب المعاصي والمحرمات؛ من أجل أن يتحمل مسؤوليته، ويُحاسَب على ما اجترحه من السيئات؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
كما أن الله تعالى ذكَّر الإنسان بنِعَمٍ كثيرة؛ علَّه يخاف ويتعظ؛ قائلًا سبحانه: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 8 - 10].
إن المؤمن التقيَّ النقيَّ هو الحريص على استعمال جوارحه وأركانه في المهمة التي خُلق من أجلها، ويغتنم أوقات الصحة والعافية قبل أن تحلَّ الأمراض والأسقام والجوائح التي تضرب الأفنان والبناء، فلا تراه إلا كما قال البوصيري رحمه الله:
وإذا حلَّتِ الهداية قلبًا *** نشطت للعبادة الأعضاءُ
قال ابن القيم رحمه الله: "إذا استنار القلب بنور الطاعة، أقبلت وفود الخيرات من كل ناحية، فينتقل صاحبه من طاعة إلى طاعة..."[2].
لكن الشقيَّ كل الشقاء مَن كفر بأنْعُمِ الله، واتخذ الشيطان قرينًا ودليلًا، وعطَّل جوارحه عن عبادة ربه، "فأقبلت عليه سحائب البلاء من كل ناحية، فينتقل من معصية إلى معصية... ويصبح كالأعمى الذي يتخبط في حنادس الظلام..."[3].
وقد نعى الله تعالى على هذه الفئة الفارَّةِ من الله تعالى، وعطلت الجوارح والأركان عن عبادة الدَّيَّان في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]... فئةٌ ضلَّت وأضلت، وغوت وأغوت، وزاغت وأزاغت، لهم قلوب لا يفقهون بها إلا الباطل، ولهم أعين لا يبصرون بها إلا المنكر، ولهم آذان لا يسمعون بها إلا اللغو والسماع الشيطاني؛ كما وصفهم الله في آية أخرى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]، وفي أمثالهم قال الشاعر:
صمٌّ إذا سمعوا خيرًا ذُكرتُ به *** وإن ذكرتُ بسوء عندهم أذنوا
فتجد أحدهم أبكمَ عن قول الحق والجهر به، فهم على ضد ما خلق الله المؤمن الذي لا يزال لسانه رطبًا بذكر الله، لكن هؤلاء كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142]، وقد قيل: اللسان الذي لا يذكر الله كالعين العمياء واليد الشَّلَّاء والأذن الصماء.
أيديهم مغلولة معطَّلة عن الإنفاق في سبيل الله؛ لا يُطعِمون ولا يحضُّون على الإطعام، لكنهم: ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 36]، غُلَّت أيديهم، إمامهم وقدوتهم هو قارون حينما اغترَّ وفرَّ وطغى؛ فقال كما قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78].
أرجلهم تجري وتركض إلى الباطل؛ كما وصفهم الحق تعالى: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 62].
غايتهم بطونهم المعطلة عن أكل الحلال والقناعة بالقليل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
حاسة الذوق عندهم معطلة، أنوفهم مزكومة بروائح المعاصي والموبقات، شأنهم شأن مَن قال فيهم الشاعر:
قد تنكر العين ضوءَ الشمس من رمدٍ *** وينكر الفم طعم الماء من سقمِ


في حين أن المؤمن قد ذاق حلاوة الإيمان، وسارع إلى الخيرات آناء الليل وأطراف النهار، مهاجرًا مسلمًا وجَهه لله رب العالمين، راضيًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا... هذا من أولياء الرحمن، مسدَّد، مؤيَّد، محفوظ، مكلوء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة:((إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعِيذَنَّه))[4].


ميَّزهم الله تعالى بالعقل الذي هو من أعظم النعم، وهو مناط التكليف، إلا أنهم مالوا عن الصراط المستقيم، فعطَّلوا عقولهم عن قراءة وتدبر الكتاب المسطور من أجل فَهْمِ الخطاب والتفقه في الدين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وعن التفكر في ملكوت السماوات والأرض في الكتاب المنظور؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 10 - 12]، لكن طبع وختم على قلوبهم وعلى أسماعهم كأنهم: ﴿ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
سلِمَتْ أبصارهم، لكن بصائرهم معطلة عمياء؛ كما جاء في التنزيل: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
إنهم فئة المترفين الذين استغنَوا بأنديتهم وأزلامهم، وفرِحوا بالدنيا، وأنسوا بأتباعهم؛ فتعطلت جباههم عن السجود: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ﴾ [الانشقاق: 21].
تثاقلت أشباحهم وأرواحهم عن الطاعات، وخفَّت وانفضَّت إلى المعاصي والموبقات: ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]؛ كما قال فريد الأنصاري رحمه الله: "ألا شتَّان شتَّان بين سجود الأحباب وسجود الأخشاب"[5]، قد بالَ الشيطان في آذانهم، وخبثت نفوسهم، إنهم ذئاب في ثياب بشر: ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 87]، عُبَّاد الدرهم والدينار، قلوبهم منكوسة، انطفأت أنوار الصلاة في حياتهم، وأبت ظهورهم أن تركع؛ كما وصفهم الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ﴾ [المرسلات: 48]، في أمثالهم قال ابن عباس: "وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووَهَنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق..."[6]؛ اقرأ وتدبر كيف وصفهم الله تعالى في قوله: ﴿ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، عجز، وكسل، وخمول، وتعطيل لكل الحواسِّ والجوارح عن أداء الواجبات واجتناب المهلكات؛ قال ابن القيم رحمه الله[7]: "فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبِّه ومعرفته وذكره ودعائه؛ فتصيبه حرارة النفس، ونار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، والانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعد هي والشجرة إلا للنار..."؛ ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22].


[1] الجوارح: جمع جارحة وهي أعضاء الإنسان كاليدين والرجلين؛ كما قال ابن منظور: "والمعطلة اسم مفعول من عطل: فيه عطب، لا يؤدي وظيفته"؛ [انظر: ابن منظور، لسان العرب].
[2] ابن القيم، الجواب الكافي، ص: 35، ط: الأولى، سنة: 2006.
[3] ابن القيم، نفس المرجع والصفحة.
[4] البخاري برقم: 6502.
[5] قناديل الصلاة، ط: 2014، ص: 75.
[6] الجواب الكافي (ص: 125).
[7] روح الصلاة لابن القيم (ص: 28)، ط: الأولى، سنة: 2007.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141749/#ixzz6WvsnZlTM