العلوم الشرعية
الإعجاز البلاغي عند أبي السعود في تفسيره
"دراسة تطبيقية على سورة البقرة"
رأفت محمد رائف المصري*
تقديم:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
فإن الوجوه التي أعجز بها القرآن من تحداهم بالإتيان بمثله من إنسٍ وجنٍّ كثيرة ومتعددة، ولا أعدو الصواب إذا قلت: إن ما بذل ويبذل في هذا الباب -على كثرته-لا يعدو شاطئ البحر إلى لجته، إذ إن بحر القرآن الكريم ما زال زاخراً بلآلئ الإعجاز الزاهية، وما يزال العلماء على مر العصور يقفون أمام هذه المعجزة الربانية، واللطيفة الرحمانية، موقف التلميذ النهم، يغترف من معلمه العظيم ما يشرح الصدور، ويبدد الظلمات بالنور ..ويقطف من بساتين علمه من كل ما يسلب اللب جماله، ويذهب بالعقول بهاؤه .
ثم إن المفسرين قد تنوعت مشاربهم العلمية، وتفاوتت قدراتهم الذهنية ؛ ومن ثم فقد تنوعت وجهاتهم في تفسير النص القرآني ما بين مائلٍ إلى استنباط الفقه، وآخرَ متكلمٍ حاذقٍ، وثالثٍ أديبٍ لغويٍّ رائق، ورابعٍ أثري حافظ .
أما القاضي أبو السعود رحمه الله تعالى، فقد تناول القرآن تناولاً مميزاً، وعرف تفسيره بين التفاسير واشتهر، ومع أن هذا التفسير ملئ بالكنوز الثمينة، والجواهر النفيسة، إلا أنها بعيدة الغور، محجوبة بأستار من الفذلكات اللغوية، جعلت منه تفسيراً مقصوراً على خاصة الخاصة .
وقد عني أبو السعود في تفسيره الموسوم بإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم بالجانب البلاغي للقرآن الكريم، وجلّاه بما يفرح القارئ الفطن .
والمختصون بهذا العلم الشريف يجدون أن هذا المرجع من أعمق المراجع في إعجاز القرآن البياني نظراً، ومن أدقها فيه ملحظاً .
ووقوعاً على الفائدة الأصيلة، رأيت أن أتخير أمثلة تطبيقية على وجوه الإعجاز البياني للقرآن من خلال النظر في تفسير أبي السعود لسورة البقرة، أبين فيها طرفا من اهتمام صاحب هذا السفر وعنايته بهذا الجانب الأخطر من جوانب الإعجاز، وإنما كان الاختيار لسورة البقرة كحقلٍ لهذا الاستقراء لما علم من عادة المفسرين من استفراغهم جهدهم الأعظم في التفسير في البدايات .
هذا وقد أتبعت هذه المقدمة بترجمة مختصرة لأبي السعود، أتبعتها بالمادة العلمية لهذه الدراسة مقسمةً إلى ثمانية مباحث على حسب الأبواب البلاغية، لم أعمد في تقسيمها ولا في التمثيل لها إلى الحصر، وإنما هو الاختيار فحسب .
والله أسأل أن يجزي علماءنا عنا خير الجزاء، وأن ينفعنا بعلمهم، وأن يفتح علينا من أسرار كتابه الكريم . أنه أكرم مسؤول .
ترجمة أبي السعود*
هو القاضي أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي، ولد سنة ثمان وتسعين وثمانمائة بقرية قريبة من قسطنطينية، طلب العلم وقُلّد القضاء وتولّى الفتيا، وحصل له من المجد والإقبال شيء كثير، وعاقه الدرس والفتوى عن التفرغ للتصنيف، سوى أنه اختلس فرصا وصرفها إلى التصنيف في التفسير، فأتى بهذا التفسير العظيم، وسماه: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، وحصل لهذا الكتاب من الشهرة بين المختصين بعلم التفسير ما لم يحصل لأكثر التفاسير، فكان بحق من أمهات الكتب وعيونها، ولقب بـ "خطيب المفسرين".
وله مصنفات عديدة ذكرها من ترجموا له، جلها في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة.
توفي في قسطنطينية سنة ثنتان وثمانين وتسعمائة، ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
المبحث الأول: التقديم والتأخير
التقديم والتأخير من مظاهر النظم بل هو لُبّه، إذ قد عُرّف النظم بأنه: "ترتيب الألفاظ في النطق تبعاً لترتيب المعاني في النفس"(1)، ومن هنا فقد يكون الكلام واحداً في مادته وألفاظه، لكن ترتيبها هو الذي يختلف إذا اختلف المعنى المراد في نفس المتكلم .
ولأهمية هذا الباب، يقول شيخ البلاغة عبد القاهر رحمه الله تعالى: "هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفتَرّ-أي يكشف- لك عن بديعه، ويفضي بك إلى لطيفه.."(1). ولما كان التقديم والتأخير بهذه الأهمية، وجدنا أبا السعود رحمه الله يعنى به عناية خاصة، بحيث لا يكاد القارئ يتصفح ورقتين متتاليتين تخلوان من لطيفة في التقديم والتأخير، تهتز لها النفوس طربا .
فنجده عند تفسيره لقول الله تعالى:”ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمتقين“ (البقرة: ٢(يعلق على سبب تأخير ذكر الجار والمجرور "فيه" على أن حقهما التقدم على متعلقهما ،خلافاً لذلك في قوله سبحانه:” وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ“ (البقرة: ٢3). فيقول مبيناً سبب اختلاف النظم في الآيتين: "إلا أنه خولف في الأسلوب – أي في الآية الثانية – حيث فرض كونهم في الريب لا كون الريب فيه لزيادة تنزيه ساحة التنزيل عنه، مع نوع إشعار بأن ذلك من جهتهم لا من جهته العلية، ولم يقصد هنا – أي في الآية الأولى – ذلك الإشعار، كما لم يقصد الإشعار بثبوت الريب فيسائر الكتب ليقتضي تقدير الظرف، كما في قوله: ” وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ“ (الصافات: 47)"(1).
وكذلك يتكلم في أسرار تقديم بعض مذكورات النص وتأخير أخرى، وأمثلة هذا وفيرة، منها ما ذكره في تفسير قول الحق سبحانه: ”إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ“ ” (البقرة: ٢٦).
حيث يعلق على تقديم ذكر الإضلال على الهداية، مع كون الأخيرة أشرف حالاً وأرقى رتبةً، فيقول:
"وقدم الإضلال على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ؛ ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم، ويفتّ في أعضادهم"(1)، إذ إن المقام مقام الكلام عن الكافرين: ”إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ “ (البقرة: ٢٦).
ولما تكلم في تفسير قول الله: ” هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ“ (البقرة: ٢٩)، نجده لم يغفل سر تقديم الأرض على السماء، بل علل ذلك بأن تأخير ذكر السماء على أنها أقوى دلالة على كمال القدرة الباهرة ؛ إلا أن الأرض قد نيط بها من المنافع ما لم ينط بالسماء بالنسبة إلى بني البشر، وقد تعلقت بها مصالحهم بأظهر مما تعلقت بأختها، فكان من الأنسب و الأليق أن يقدم ذكر الأرض على السماء.(2)
ومثله – أيضا – ما ذكره في تفسير قوله سبحانه: ” أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ“ (البقرة: ٧٧)، إذ نراه يقف مع تقديم الإسرار على الإعلان فيعلله، بقوله: "وإنما قدم الإسرار على الإعلان للإيذان بافتضاحهم، ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في بيان علمه المحيط لجميع المعلومات، كأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه؛ مع كونهما في الحقيقة على السوية، فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها، بل وجود كل شيءشئ في نفسه علم لله تعالى .."(3)، ثم بعد هذا الجواب الدقيق نرى أبا السعود يردف بجواب آخر، ينبئ عن شدة دقة ملاحظته، وعمق نظراته، فيقول: "ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن "(4)، إذ ما من شيءشئ إلا ويمر بحالين: الأول: الإضمار في النفس وانعقاد القلب عليه، وهذا يتعلق به الإسرار غالباً، والثاني: البروز إلى العلن، والأولى متقدمة زماناً على الثانية، فقدمت في النص .
والحقيقة أن الإحاطة بكل ما يتعلق بباب التقديم والتأخير – وإن كان في تفسير سورة البقرة فحسب إلا أن الأمثلة التطبيقية غزيرة، وفي المذكور كفاية تمثل ما أولاه هذا المفسر العظيم في كتابه من عناية بهذا الباب، تدلك على مقدار عمق فهمه، وغزارة فكره وعلمه .
المبحث الثاني: الفصل والوصل
احتل هذا الموضوع مكانة رفيعة بين المباحث البلاغية، وكان له شأن عند الضالعين من أهل اللغة، ولكونه دقيق المسلك، لطيف المأخذ ؛ جعله بعضهم حداً للبلاغة وقصرها عليه، حينما سئل: ما البلاغة ؟ فقال معرفة الفصل والوصل .(1) هذا وقد ذكر السكاكي حينما تعرض لهذا الموضوع في كتابه "مفتاح العلوم" كلاماً يفصح عن أهمية هذا الفن من فنون البلاغة، إذ يقول: ”وإنها لمحك البلاغة، ومنتقد البصيرة، ومضمار النظار، ومتفاضل الأنظار، ومعيار قدر الفهم، ومسبار غور الخاطر، ومنجم صوابه وخطائه، ومعجم جلائه وصدائه، وهي التي إذا طبقت فيها المفصل شهدوا لك من البلاغة بالقدح المعلى، وأن لك في إبداع وشيها اليد الطولى، وهذا فصل له احتياج إلى تقرير وافٍ، وتحرير شافٍ..“(2).
والتنبيه إلى لطائف الفصل والوصل، ومعاقد البلاغة فيهما ؛ امتلأ به تفسير أبي السعود، وقد ورد منه في تفسيره سورة البقرة شئ كثير. من ذلك، ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ”الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ () وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ“ (البقرة: ٣ – ٤)، يتكلم عن العطف الذي يصل الجملتين في الآيتين الكريمتين، إذ إن الأصل أن العطف يقتضي التغاير، فهل الأمر كذلك في هذا النص ؟
يجيب أبو السعود مبينا السر في وجود حرف العطف بقوله: "ويجوز أن يجعل كلا الموصولين عبارة عن الكل مندرجاً تحت المتقين، ولا يكون توسيط العاطف بينهما لاختلاف الذوات ؛ بل لاختلاف الصفات.. للإيذان بأن كل واحد من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبة، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعت جليل على حياله له شأن خطير، مستتبع لأحكام جمة، حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل أحدهما تتمة للآخر"(1). ثم إذا انتهى من تقرير هذا؛ استطرد إلى بيان اللطائف والفوائد في اقتران كل من الصفات في سياق واحد مع أخواتها، فقال: "وقد شفع الأول – وهو الإيمان بالغيب - بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائع المندرجة تحت تلك الأمور المؤمن بها تكملة له، فإن كمال العلم بالعمل. وقرن الثاني – وهو الإيمان بالكتب - بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صحته، وتعريضاً بما في اعتقاد أهل الكتابين من الخلل"(2) .
على هذه الطريقة الدقيقة من التحليل سار أبو السعود في استكناه أسرار الإعجاز القرآني من خلال قضية "الفصل والوصل" .
المبحث الثالث: التعريف والتنكير
التعريف والتنكير من الظواهر السياقية التي تقتضيها أحوال المخاطبين، ويقصدها المتكلم تبعا لمعنى أراده في نفسه اقتضى أيّاً من التعريف أو التنكير، ولكل منهما أغراض بلاغية متعددة، وإن مجئ لفظ ما من ألفاظ القرآن معرفاً تارة، ومنكّراً تارة أخرى لم يكن قط مصادفة عبثية –تعالى الله وكلامه عن ذلك-، إنما جئ به مرة على حالة، وأخرى على أخرى لنكتة ما متعلقة بالسياق الذي ورد فيه هذا اللفظ أو ذاك، ولا شك أن هذا النوع من المباحث البلاغية ملحوظ في تفسير أبي السعود، ومنه ما جاء في تفسير قول الله تعالى: ”أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمفلحون“ (البقرة: ٥)، حيث طفق القاضي أبو السعود يكشف عن السر الذي لأجله نكرت كلمة "هدى" في النص المذكور، فيقول: "وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمه، كأنه قيل: على أيّ هدىً لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره"(1).
هذا مثال في أسرار التنكير، ولا نتعدى تفسير ذات الآية حتى يتحفنا أبو السعود بمثال يبين فيه ما في التعريف من فوائد ومعان بلاغية خاصة به، ففي فاصلة الآية جاء لفظ "المفلحون" معرفا كما هو واضح، فما السر في ذلك ؟ يقول رحمه الله :
"وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم"(1). وفي قول الله سبحانه: ”مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ“ (البقرة: ١٧.(
يتكلم عن اشتقاق كلمة النار، ومعنى استيقادها ثم يبين سبب تنكيرها، ويقرر أن التنكير للتفخيم(2)، وهذا بالطبع معنى يناسب السياق، إذ المقصود بالنار التي استوقدها المنافقون ما أظهروه من إيمان على قول، أو ما أضاء لهم في بعض اللحظات من إشراقات إيمانية على قول آخر(3)، وعلى أيهما فإن المقصود من تفخيم النار بتنكير لفظها، هو الإشارة إلى أنها نار ضخمة، عظيمة القدر، كانت كفيلة بأن تضئ لهم طريقهم، وتنقذهم من ظلمات الضلال ؛ إلا أنها ما لبثت أن انطفأت، فانكفئوا خاسرين.
وعندما فسر قوله سبحانه: ”وَلَتجدنهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ“ (البقرة: ٩٦(، أخذ أبو السعود في الكشف عن السر المترتب على تنكير لفظ "حياة" الوارد في الآية الكريمة، فقال: "والتنكير في قوله تعالى: (على حياة) للإيذان بأن مرادهم نوع خاص منها ؛ وهي الحياة المتطاولة.."(4).
وعبارة أبي السعود السالفة هي ذاتها عبارة الزمخشري في كشافه، أما ابن عاشور فقد قال في سر التنكير في لفظ "حياة" ما نصه: "ونكر الحياة قصدا للتنويع، أي كيفما كانت تلك الحياة.."(1).
ولا تعارض في ما ذكروه، فكون اليهود –الذين تصفهم الآية- حريصون على حياة طويلة يقتضي كون تلك الحياة التي لا يهم فيها إلا أنها طويلة ؛ حياة رخيصة ذليلة .
هذا، وفي ما ذكر من الأمثلة ما يصور اهتمام أبي السعود البالغ بإظهار إعجاز الأسلوب القرآني، مبينا أن اللفظ القرآني متى جاء معرفاً أو منكراً كل قد جاء بليغاً معجزاً في موضعه.
المبحث الرابع: الإظهار والإضمار
أكثر أبو السعود من التنبيه إلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز البلاغي، ولعل تنبيهه على الإظهار والإضمار من أكثر ما يجده القارئ من النكات. أذكر من ذلك: في تفسيره لقول الله سبحانه: ”قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ“ (البقرة: ٣٣)، يقول مبيناً سبب إظهار كلمة "بأسمائهم" الثانية، إذ الأصل أن يقال: أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بها . لكننا نرى أن النص عدل عن الإضمار، وهو التعبير بالضمير إلى التصريح بالكلمة، وهو مخالف للأصل من تركيب الكلام، فما السر في ذلك ؟ يقول أبو السعود:
"وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها، والإيذان بأنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيل دون الإجمال، والمعنى: فأنبأهم بأسمائهم مفصلة، وبين لهم أحوال كل منها وخواصه وأحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد، فعلموا ذلك لما رأوا أنه عليه السلام لم يتلعثم في شئ من التفاصيل التي ذكرها.."(2).
وكذا عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى: ”وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِعَلَى الْكَافِرِينَ“ (البقرة: ٨٩)، يبين سبب إظهار لفظ "الكافرين"، مع أن الأصل إضماره بأن يقال: فلعنة الله عليهم . فلماذا عدل عن ذلك إلى ما ذكر من الإظهار ؟ يقول:
"ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن حلول اللعنة بسبب كفرهم"(1)، ومقصوده:
أن الإظهار هنا قام مقام التعليل لحلول اللعنة بهم، ولبيان أن ما التصق بهم منها إنما هو بكفرهم. ومثل هذا ذكره في مواضع عديدة في السورة، من مثل قوله: ”وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ “ (البقرة: ٩٥).
وانظر -غير مأمور- إلى كلامه عند قول الله سبحانه: ”قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ “ (البقرة: ٩٧)، حيث يبين سر الإضمار في قوله: "نزله"، والعدول عن التصريح باسم جبريل ؟ فيقول: "أضمر من غير ذكر إيذاناً بفخامة شأنه واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته، لا سيما عند ذكر شئ من صفاته"(1)
فالإشارة إلى فيض شهرته وأنه صاحب وظيفة التنزيل، واعتبار ذلك من البدهيات، اقتضى إضماره وعدم التصريح باسمه .
المبحث الخامس: الدقة في اختيار الألفاظ
يلحظ البليغ أثناء تلاوته كتاب الله تعالى حسن انتقاء ألفاظه ودقة اختيارها، بما هو خارج عن القدرة البشرية على ذلك، فهي ألفاظ تختال جمالاً وتألقاً، وتنساب عذبة في الفم، خفيفة على اللسان، تستلذ بها الأسماع، وتستطيبها الأنفس. ولعل من أسس البلاغة وأركانها: وضع اللفظ المناسب في المكان الذي هو به أخص، مع مراعاة التناسب مع جو السياق العام. وقد جاء في تفسير أبي السعود من هذا الباب مادة غزيرة، وللترتيب والتبويب وجدت من المناسب أن أقسم المبحث إلى مطالب قصيرة، يمثل كل مطلب منها مجموعة من الأمثلة على ما أورده فيها، إلا أنه يجدر بي أن أشير إلى أن التقسيم لم يقم على الحصر، وإنما هو ضرب من التمثيل.
المطلب الأول: سر اختيار صيغة بنائية للكلمة دون صيغة أخرى
بين أبو السعود فيما بينه من أسرار في التعبير القرآني أسراراً بلاغية تختص باختيار صيغة بنائية للكلمة دون غيرها . من ذلك: قول الله تبارك وتعالى: ”وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ“ (البقرة: ٤(، يبين لنا أبو السعود سبب التعبير بالماضي في "أنزل" الأولى، مع أن الكتاب لم يتم نزوله إلى ساعة نزول الآية الكريمة، فيقول: "والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقبا حينئذ، لتغليب المحقق على المقدر، أو لتنزيل ما في شرف الوقوع -لتحققه- منزلة الواقع، كما في قوله تعالى: ”قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ“ (الأحقاف: ٣٠(، مع أن الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا، ولا كان الجميع إذ ذاك نازلاً.."(1). مثال آخر من تفسيره لنفس الآية، حيث يأخذ في بيان السر في بناء الفعل "أنزل" لما لم يسم فاعله، فيقول :"وبناء الفعلين للمفعول للإيذان بتعين الفاعل، وأجري على سنن الكبرياء"(2)
وكأنه يقول: إن منزل هذا الكتاب لا يحتاج إلى تعيين، إذ إن الذي يحتاج إلى تعيين هو من قد يلتبس بغيره، لكن مثل هذا الكتاب في إحكامه وإعجازه لا يمكن أن ينزله إلا الله سبحانه. وهذا ما يسمى بسنن الكبرياء، أي الطريقة التي تقتضيها الكبرياء والعظمة في التعبير والكلام، فإن للكبراء سنة معينة يتكلمون على وفقها .
ولنقف مع أبي السعود عند قول الله سبحانه: ”يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ“ (البقرة: ٩(، نجده يبين سبب إيثار التعبير بالمفاعلة في قوله: "يخادعون"، فيقول: "وإيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً، أو في الكمية، كما في الممارسة والمزاولة، فإنهم كانوا مداومين على الخدع"(1). وحاصله أن التعبير عن مخادعة المنافقين بهذه الصيغة البنائية، لعله يشير إلى أمرين يخدمان المقام:
الأول: أن صيغة المفاعلة في لغة العرب تفيد إجادة كيفية الفعل المصاغ منه، والثاني: أنها تفيد دوامه ومزاولته، فالمنافقون –على هذا- هم أساتذة كبراء في النفاق والمخادعة.
يتبع