إن من أعظم ما افترضه الله على الآباء والأمهات تجاه الأبناء - بنين وبناتٍ - أن يقوما على أمر تربيتهم وتعاهدهم بما يصلح لهم أمور دنياهم وآخرتهم، وجعلت الشريعة هذه المسؤولية مشتركة بين الأب والأم معًا، وليست مقتصرة على أحدهما دون الآخر، إلا أنه قد خصَّت الأم بالعبء الأكبر في ذلك؛ لأنها أكثر ملازمة للأولاد من الأب الذي في الغالب يكون خارج البيت لطلب الرزق؛ وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم: ((والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)).
وليست وظيفة الأم محصورة في مأكل ومشرب وتنظيف وتزيين لأرجاء البيت فقط، بل وظيفتها الأساسية أن تكون مربية الأجيال، وصانعة الرجال، والمدرسة الأولى في تنمية أخلاق الأطفال؛ كما قال حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددتَ شعبًا طيب الأعراقِ
الأم روض إن تعهَّده الحيا
بالرِّيِّ أوْرَقَ أيما إيراقِ
الأم أستاذ الأساتذة الأُلى
شغلت مآثرهم مدى الآفاقِ
فهي مَن ينقش في لبِّ الأولاد المعانيَ والمفاهيم، ويرسخ فيهم الآداب والقيم، وصدقت خولة بنت ثعلبة تلك الصحابية التي جاءت تشتكي زوجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ظَاهَرَها بقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي، وقد عدَّهُ الرسول صلى الله عليه وسلم طلاقًا، وقد علَّلت الصحابية شكواها ومجادلتها في أمرها بالأولاد، ومصيرهم بعد الطلاق لو حصل، فهي إن تركت الأولاد للزوج ضاعوا - تعبيرًا عن فقد الأم التي تحتضن الأولاد وترعاهم وتنشئهم التنشئة الحسنة - وإن تركهم الأب جاعوا - تعبيرًا عن التأثير المادي الحياتي على الأولاد عند فقد الأب - وهذا يبين الدور المهم للأم في التربية.
ولقد سطر التاريخ الإسلامي في أنصع صفحاته أروع الأمثلة في قيام أمهات أميات، لم يمتلكن أي شهادة علمية، بل لم يتعلمن، لكنهن أبدعْنَ في التربية، فأخرجن لهذه الأمة قادة عظماء، وعلماء أجلاء، وعبادًا أتقياء.
من هذه النماذج:
1) أم الزبير صفية بنت عبدالمطلب: فقد ربَّت الزبير بن العوام رضي الله عنه وأحسنت تربيته، وأدبته فأحسنت تأديبه، حتى إنها في بعض الأحيان كانت تضربه ضربًا شديدًا، فيقال لها: قتلته، أهلكته، فتقول:
إنما أضربه لكي يدب *** ويجر الجيش ذا الجَلَب
وصدقت في حسها وحسن تربيتها، فقد صار الزبير بعد ذلك قائدًا من القادة الكبار الذين يُشار إليهم بالبنان، بل هو أول من سلَّ سيفه في سبيل الله، حتى قال حسان بن ثابت مادحًا الزبير بقوله:
أقام على عهد النبي وهديِهِ
حواريُّهُ والقول بالفعل يعدلُ
أقام على منهاجه وطريقه
يوالي وليَّ الحق والحق أعدلُ
هو الفارس المشهور والبطل الذي
يصول إذا ما كان يومٌ مُحَجَّلُ
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشَّها
بأبيضَ سبَّاقٍ إلى الموت يرفُلُ
وإن امرأً كانت صفية أمه
ومن أَسَدٍ في بيتها لمرفَّلُ
له من رسول الله قربى قريبةٌ
ومن نصرة الإسلام مجدٌ مُؤَثَّلُ
فكم كربة ذبَّ الزبير بسيفه
عنِ المصطفى والله يعطي فيجزلُ
ثناؤك خير من فَعالِ معاشِرٍ
وفعلُك يا ابن الهاشمية أفضلُ
2) أم ربيعة الرأي: فقد جاء أن والده فروخ التيمي خرج في البعوث إلى خراسان، أيام بني أمية غازيًا، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلَّف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرس، في يده رمح، فنزل عن فرسه، ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، فقال: يا عدوَّ الله، أتهجم على منزلي؟ وقال فروخ: يا عدو الله، أنت رجل دخلت على حرمتي، فتواثبا، وتلبث كل واحد منهما بصاحبه، حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة، فأتَوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول كذلك، وكثر الضجيج، فلما أبصروا بمالك، سكت الناس كلهم، فقال مالك: أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمِعت امرأته كلامه، فخرجت، فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به، فاعتنقا جميعًا وبكيا، فدخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟ قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي عندكِ، وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: المال قد دفنته، وأنا أُخرجه بعد أيام، فخرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن زيد، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به، فقالت امرأته: اخرج صلِّ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فخرج، فصلى، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاه، فوقف عليه، ففرجوا له قليلًا، ونكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يَرَهُ، وعليه طويلة، فشك فيه أبو عبدالرحمن، فقال: من هذا الرجل؟ قالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فقال: لقد رفع الله ابني، فرجع إلى منزله، فقال لوالدته: لقد رأيت ولدكِ في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ قال: لا والله، إلا هذا، قالت: فإني قد أنفقت المال كله عليه، قال: فوالله ما ضيَّعْتِهِ.
3) أم الإمام مالك بن أنس العالية بنت شريك بن عبدالرحمن الأسدية: دفعت ابنها لحفظ القرآن الكريم فحفظه، وأرسلته إلى مجالس العلماء، فألبسته أحسن الثياب، وعمَّمته، ثم قالت له: "اذهب فاكتب الآن"، ولم تكتفِ أمه بالعناية بمظهره، بل كانت تختار له ما يأخذه عن العلماء، فقد كانت تقول له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، فأصبح الإمام مالك جبلًا من جبال العلم، وإمام دار الهجرة بلا منازعة.
4) أم الإمام أحمد بن حنبل صفية بنت ميمونة بنت عبدالملك: مات زوجها محمد بن حنبل شابًّا في الثلاثين، وهي كانت دون الثلاثين... حزنت على فراق زوجها، لكنها تصبرت واستعانت بالله، وامتنعت عن الزواج مع وجود الدواعي لذلك وكثرة الخُطَّاب، إلا أنها فضلت الاشتغال بتربية ابنها الوحيد وتنشئته النشأة الحسنة.
ويبين الإمام أحمد كيف تفرغت أمه لرعايته وتنشئته علي حب العلم بعد وفاة والده محمد بن حنبل فيقول: "حفظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، وكانت توقظني لصلاة الفجر، وتُحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة، وتلبسني ملابسي، ثم تتخمر وتتغطى بحجابها، وتذهب معي إلى المسجد، وتنتظر عند باب المسجد حتى أنتهيَ من الصلاة ثم أعود معها، فلما بلغت السادسة عشرة من عمري قالت لي: اذهب في طلب الحديث؛ فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد، وودعته عند السفر قائلة: يا بني، إن الله إذا استودع شيئًا لا يضيعه، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه".
وما هي إلا سنوات، ويصبح الابن الصغير عَلَمًا من أعلام الأمة الإسلامية، بل إمام أهل السنة والجماعة، ولم ينسَ الإمام أحمد ما فعلته له أمه، فكان يجلس يحدث الناس بفضل أمه عليه، وما قامت به لتربيته وإعداده، ليكون عالمًا من علماء المسلمين.
5) أم سفيان الثوري رحمه الله: فقد كان لها عظيم الأثر في تنشئة سفيانَ تنشئة صالحة، وتربيته تربية حسنة، فقد ربَّتْهُ على حب طلب العلم، والاشتغال به؛ فعن وكيع، قال: "قالت أم سفيان لسفيان: اذهب فاطلب العلم، حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث، فانظر هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه، وإلا فلا تتعنَّ"، وما هي إلا سنوات حتى أصبح إمامًا من أئمة الحديث النبوي، وواحدًا من تابعي التابعين، وصاحب واحد من المذاهب الإسلامية المندثرة؛ قال عنه الذهبي: "هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه".
وهو القائل: "ينبغي للرجل أن يُكرِهَ ولده على طلب الحديث؛ فإنه مسؤول عنه".
6) أم محمد الفاتح هُما خاتون: محمد الفاتح سابع سلاطين الدولة العثمانية، ابن السلطان مراد الثاني، قضى على الإمبراطورية البيزنطية، وفتح القسطنطينية ليكون البشارة التي بشر بها رسولنا الكريم بقوله: ((لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)).
فما السر الذي أهَّله لينال هذا الشرف؟ إن السر يكمن في أمه؛ فقد وهبه الله أمًّا فاضلة ربَّتْه على مكارم الأخلاق، وأعدته للمهمة الصعبة التي كانت تراود أحلام المسلمين من أمراء وقادة، بدأت البناء والتأسيس في طفولته المبكرة، تأخذه لصلاة الفجر، وتقول له في ثقة: "يا محمد، أنت القائد الذي ستفتح أسوار القسطنطينية"، وكان الطفل الصغير ينظر في عيني أمه ويرد مستغربًا: "كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟"، فترد عليه الأم: "بالقرآن والقوة والسلاح وحب الناس"، وتُمسِك يديه وترفعهما إلى السماء داعية: "يا رب، يا عظيم، يا مجيب الدعوات، يا قادر على كل شيء، اجعل ابني هذا الأمير الذي يفتح القسطنطينية، اجعل البركة في هاتين اليدين، واجعل نصر المسلمين يأتي من خلالهما".
يقول القائد محمد الفاتح: "لقد كانت أمي تأخذني مرارًا إلى الشاطئ، وتشير بإصبعها إلى أسوار القسطنطينية، وتقول لي: أنت فاتح تلك المدينة، ولمثل هذا اليوم أربيك، ثم يضيف: فكنت وأنا صغير أركب الفرس وأقتحم به الموج ناحية القسطنطينية، متخيلًا يومًا أقود فيه الجيوش لفتحها... إلى أن كان".
7) أم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز هيا بنت عثمان: نشأ سماحة الشيخ يتيمًا في حجر أمه بنت عبدالله بن خزيم؛ إذ توفي والده وابنه عبدالعزيز في الثالثة من عمره، فقامت الأم برعايته وتربيته على الأخلاق الفاضلة والآداب الحميدة، وكانت توقظه لصلاة الفجر وتنتظره حتى يعود من المسجد، وتحثه على حضور دروس العلماء والصبر على ذلك، حتى إنه حضر درسًا في يوم شديد المطر لم يحضره غيره، وفي الخامسة عشرة من عمره بدأ بصره يضعف حتى فقده في سن العشرين، فتأثرت أمه لذلك تأثرًا كبيرًا وكانت تبكي، ثم صلت ركعتين، ودعت الله أن يرزقه البصيرة كما سلب منه البصر، ويجعله عالمًا لهذه الأمة، وقد استجاب الله دعاءها فأصبح عالم الأمة.
هذه نماذج قليلة من نماذج كثيرة مرت منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، نماذج لأمهات أدركن بقوة إيمانهن وحسن إسلامهن ما لم يدركه كثيرون من الباحثين التربويين والمربين المتحضرين؛ وهذا لأن الأم المسلمة ليست كأي نساء العالم، فهي امرأة تلد أمة، وتربي أمة، وتبني أمة، وتصنع أمة، إنها امرأة تعد قادة، وتربي سادة، إنها امرأة خُلِقَتْ كي يخرج مِن رحمها مَن يقود هذا العالم إلى رحاب الإسلام، وضياء الإيمان، ونور القرآن، فهي بحق صانعة الرجال.
وتاريخنا الإسلامي مليء بالنماذج والأمثلة والشواهد على دور الأمهات في صناعة الأجيال، وصدق من قال: "وراء كل رجل عظيم امرأة".
وأخيرًا مع حسن التربية، فلنكثر من الدعاء لأبنائنا: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74]؛ قال جمال الدين القاسمي: "أي: أولادًا وحَفَدَة، تقر بهم العيون، وتسر بمكانهم الأنفس؛ لحيازتهم الفضائل، واتصافهم بأحسن الشمائل".


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/141594/#ixzz6Vx1B6UFG